القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل الرابع عشر 14بقلم سيلا وليد    

رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل الرابع عشر  14بقلم سيلا وليد     





رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل الرابع عشر  14بقلم سيلا وليد     

 الفصل الرابع عشر 

"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك"


ها أنا أكتبُ لك رثائي

وأنا أُدرك أنّ الكلمات مهما انسابت على الورق

لن تُحيي دفءَ حضنك، ولن تعيد رائحة يديكِ التي كانت تسبقكِ بالحنان.


كيف للقلب أن يطمئن وقد غاب صدره الآمن؟

كيف للروح أن تهدأ وقد رحلت سكينتها الأولى؟

كنتِ وطنًا يا أمي، لم يكن له حدود، ولم يعرف خيانة ولا جفاء.


رحلتِ… فصار الليل أطول، والنهار أبكم،

صارت ضحكتي يتيمة، وفرحتي مبتورة.

كنتِ الأمان حين يخذلني العالم، واليقين حين يشتدّ التيه.


أمي…

إن كان للرحمة أبواب، فأنتِ سيدة أبوابها،

وإن كان للجنة معنى، فهو ابتسامتكِ التي سكنت قلبي للأبد.


سلامٌ عليكِ في الغياب، وسلامٌ على روحكِ النقية،

سلامٌ على كل دعوةٍ تركتِها تحرس طريقي،

سلامٌ حتى يجمعنا الله حيث لا فراق ولا وجع

وحيدك الذي ماتت روحه بعد فراقكِ

#ارسلان_الشافعي


بعد أسبوعٍ كاملٍ في تركيا، انتهت الرحلة التي أقرَّها إلياس علَّها تُخفِّف عن آلامها النفسية..عاد برفقتها ورفقة أطفاله إلى القاهرة، وكذلك أرسلان.


باليوم التالي جلس الجميع في حديقة منزل إلياس، نسيم المساء يداعب ملامحهم وضحكات الأطفال تبعث شيئًا من السكينة..يلهون بالأحاديث، وضحكات أرسلان ضجَّت بالمكان..فجأة دام صمتٌ للحظات.. 


لتتوقَّف ميرال عن الشرود الذي كانت غارقةً به، ونظرات فريدة تحاصرها بحنو، نهضت وقالت بصوتٍ هادئ:

-هعمل قهوة..الكلِّ هيشرب؟.


رفع مصطفى عينيه إليها، وطالعها بنظراتٍ متردِّدة، ثمَّ تمتم:

-ممكن فنجان ياعمُّو.


أومأت ميرال برأسها دون أن تنظر إليه، كأنَّها تقطع الحديث بينهم عمدًا، وردَّت باقتضاب وهي تتحرَّك مبتعدة:

-حاضر.


ثمَّ التفتت إلى فريدة التي كانت تتابعها بعينينِ حانيتين:

-ماما..أعملِّك قهوتك؟


ابتسمت فريدة بخفَّة:

-أنا هقوم أساعدك...قالتها بوصول يزن..

الذي ألقى تحيَّة المساء، فبادلته العيون ابتساماتٍ متفاوتة..لم يمهل أحدًا ليرد، اتَّجه إلى وقوف ميرال يسحبها لأحضانه طابعًا قبلةً على جبينها:

-عاملة إيه حبيبتي؟. 

تبسَّمت وتمتمت:

-الحمد لله. 

-دايمًا يارب قالها وهو يوجِّه بصره نحو إلياس:

-إلياس..عايز أتكلِّم معاك شوية.


نهض إلياس من مكانه بتثاقل، ملامحه توحي بأنَّه كان يتوقَّع تلك المواجهة، ثمَّ أشار بيده نحو الداخل قائلًا بنبرةٍ ثابتة:

-تعال ندخل جوَّا..قالها ورفع عينيه إلى ميرال: 

-القهوة سادة..

تجمَّدت ميرال لحظة، كأنَّها تحاول استجماع أنفاسها، ثم أومأت صامتة وتحرَّكت خلف فريدة نحو المطبخ.


دلفت للداخل وجدت فريدة  تُصدر تعليماتها للخدم بترتيب بعض الأطباق وتجهيز الحلويات..

اقتربت ميرال بخطواتٍ مثقلة، وأردفت بصوتٍ متهدِّج:

-ماما...


استدارت فريدة إليها بابتسامةٍ دافئة:

-فيه حاجة ياحبيبتي؟


قالتها وهي تتحرَّك بخفَّة نحو موقد الغاز لتبدأ في إعداد القهوة، تحرَّكت ميرال خلفها، راقبتها بنظراتٍ مشوَّشة وحركاتٍ مضَّطربة.


تردَّدت لحظة، ثم تساءلت:

-رؤى فين؟


توقَّفت فريدة، وتجمَّدت يدها عمَّا تفعله لحظة، وكأنَّها لا تدرك مغزى السؤال، ثم هزَّت كتفيها بلا مبالاة مصطنعة:

-معرفش..مش المفروض تكون مع طارق؟


ارتعشت شفتا ميرال، وعلمت من ردَّة فعلها أنَّ فريدة لا تعرف شيئًا..تنهَّدت بعمق، تراجعت خطوةً إلى الوراء وأسندت جسدها المرهق على حافَّة الطاولة الخشبية، ثم همست بصوتٍ مثقل:

-معرفش..بس أكيد إلياس عمل فيها حاجة، لأنَّها كانت عارفة إنِّي موجودة.. من يوم ماولدت شمس.


دوت كلماتها كصفعةٍ على أذن فريدة، فاتَّسعت عينيها بذهول، وارتفع صوتها غاضبًا وممتعضًا:

-إنتي بتقصدي إيه، وإزاي عرفتي الكلام ده؟!.


انحنت ميرال عليها، تقبض على كفِّها كأنَّها تستنجد بها، وروت لها ماجرى.. كلَّ ماحدث.. 


كانت فريدة تستمع إليها بإنصات،  ووجهها يعلو بمزيجٍ من الغضب والذهول..انتهت ميرال، لينفجر صوت فريدة بعدم تصديق:

-إنتي بتقولي إيه ياميرال، إزاي تعمل كده؟!.


اقتربت ميرال أكثر، عيناها دامعتان، تمسك كفَّ أمَّها برجاء:

-ماما..أنا رؤى متهمِّنيش..عشان هيَّ غدرت بيَّا من الأوَّل، اللي مخلِّيني مش مرتاحة إنِّ إلياس ممكن يعمل فيها حاجة، ويضيَّع نفسه معاها.


أخذت فريدة نفسًا حادًّا، كأنَّها تحاول السيطرة على زلزالٍ يجتاح صدرها..عادت إلى القهوة، سكبتها في الفناجين بيدٍ مرتعشة، لكن عقلها لم يكن مع القهوة..بل يصفعها بصورٍ متلاحقة، مشاهد عابرة من الماضي مع كلماتٍ لرؤى، خيوطًا غامضة تتشابك أمامها، حتى كادت أن تطيح بتوازنها.


حملت ميرال القهوة وقالت:


أنا هودِّي دي، وحضرتك خرَّجي دي برة..أو خلِّي أي واحدة من البنات تطلَّعها.


رفضت فريدة، حملت الأكواب التي جاءت بها على صينية، وغادرت بخطواتٍ متثاقلة، بينما تحرَّكت ميرال إلى مكتب إلياس..


داخل المكتب قبل قليل..

جلس إلياس صامتًا ينصت لكلمات يزن حتى أنهى حديثه، ثم ألقى بجملةٍ كالخنجر:


آخد حقِّي منها، وبعد كده يارب تموِّتها.


ارتفع حاجبا يزن بصدمة:


إلياس، أنا عايز أحجزها في مستشفى.. البنت مش طبيعية.


نهض إلياس وسحب مقعدًا، جلس في مواجهة يزن بنظراتٍ نارية:


اسمعني كويس علشان أنا مابحبِّش أعيد كلامي..البتِّ دي لازم أربِّيها، وبعد كده ولَّع فيها لو عايز..أمَّا حكاية مستشفى المجانين دي..أنا مابصدَّقهاش، حتى مع ميرال، في الأوَّل مكنتش مقتنع، بس ميرال ماأذتش حد، ماحاولتش تكذب ولا تحوَّر..إنَّما أختك الحيوانة دي..أنا اللي المفروض أحاسبها الأوَّل، لأنِّي اتساهلت معاها زمان.


وقف يزن غاضبًا، بملامح مشدودة:


إنتَ عندك مراتك تحكم عليها زي 

ماتحب، لكن رؤى فعلاً لازم تتعالج.


قهقه إلياس بصوتٍ صاخب يزلزل الجدران:


إيه العيلة اللي كلَّها مجانين دي..والله يايزن البتِّ دي هشرب من دمَّها..صدَّقني مش هرحمها، وانسى حكاية الجنون والمرض النفسي اللي بتحاول تقنعني بيه..البتِّ دي هموِّتها حتى لو اتحبست بسببها، كفاية اللي ميرال عملته..هفضل أدفع تمن الأغلاط وأسامح بس علشان تقولولي مريضة.


كانت ميرال تقف عند الباب، تستمع إلى كلماته التي اخترقت قلبها كالسهم المسموم، اهتزت ركبتيها وتجمَّد الدم في عروقها، كأنَّ القدر يعيد لها ذات الكأس لتتجرَّعه مرَّةً أخرى.

سحبت نفسًا بهدوء، رغم أنفاسها المرتجفة، وصدرها الذي ينغزها كالسكاكين، ومدَّت يدها لتفتح الباب، دلفت بخطواتٍ متَّزنة إلى حدٍّ ما، إلى أن وصلت إلى المكتب ووضعت القهوة دون أن تنظر إلى إلياس وأردفت:

-عملت قهوتك، ثم اتَّجهت إلى يزن،  

وعملت قهوتك على الريحة زي مابتحبَّها، ولَّا إنتَ كمان غيَّرتها؟..

ابتسم ونهض من مكانه مقتربًا منها: 

-حتى لو غيَّرتها لازم أشرب بتاعة ميرو حبيبة أخوها. 

رسمت ابتسامة وأومأت له:

-حبيبي ربِّنا يسعدك..قالتها واستدارت للمغادرة دون أن تضيف شيئًا آخر، حاولت أن تهرب من نظرات إلياس التي تحاوطها، فتحرَّكت بسيقانٍ مرتجفة، تحاول كبح دموعها حتى لا تسقط أمام أحد، بينما كان يراقب تحرُّكها وداخله يُطعن بقوَّة من فكرة أنَّها استمعت إلى حديثه..

تنهَّد بتثاقل، وتراجع على المقعد يغمض عينيه من صراعه الذي يدقُّ كجرس حرب.. 

جلس يزن مرَّةً أخرى: 

-مالك..في حاجة؟. 

هزَّ رأسه بالنفي وأمال يسحب قهوته وقال:

-عايز تساعدها ساعدها بس مش هنا، ولا ألمحها، لحدِّ ماأشوف هعمل فيها إيه..

-لسة مصر ياإلياس؟.

-يزن إنتَ حقيقي هتعدِّي اللي عملته؟!. 

نهض يزن واستدار للمغادرة دون الإجابة.. 


بعد فترة..

– في منزل أرسلان..


جلس وسط أطفاله، يشاركهم بعض الألعاب الإلكترونية، ضحكاتهم تتعالى كأنَّها موسيقى تُزيِّن المكان..في تلك اللحظة، دلفت غرام تحمل صينية صغيرة عليها أكواب اللبن الدافئ، وقالت بابتسامةٍ هادئة:


يلَّا ياحبايبي..بقالنا أسبوع أجازة من المدرسة، لازم ننام بدري علشان نرجع لنظامنا تاني.

رفعت "ضي" رأسها بعيونٍ متوسلة:


مامي، بكرة السبت وأجازة..لو سمحتي خلِّينا نلعب شوية كمان مع بابي.


ألقى أرسلان نظرةً جانبية نحو غرام، لتتركهم، وضعت الأكواب بهدوء وجلست بجوارهم:


طيب..النهارده بس، بعد كده مش عايزة أسمع كلمة "لا".


قفزت ضي لتحتضنها وتطبع قبلةً على وجنتها:


أحسن مامي في الدنيا..وعد، الليلة بس، وبكرة هنَّام بدري.


ابتسمت غرام ومسَّدت خصلات طفلتها، ثم انحنت لتقبِّلها:


حبيبة مامي اللي بتسمع الكلام..مش زي أخوكي.


كان بلال منشغلًا بالجهاز، تمتم دون أن يرفع عينيه:


هصالحك بعدين يامامي..بس دلوقتي لازم أفوز على بابي.


ضحك أرسلان وأشاح برأسه متصنِّعًا الغضب:


تفوز على مين يلا؟.


قطع حديثهم رنين هاتفه..التقطه، نظر للشاشة، وقطب حاجبيه:


- ملك بتتِّصل دلوقتي ليه خير؟!.


فتح الخط:


ألو..

جاءه صوتها بتقطُّع، وأنينٍ مكتوم يختبئ خلف دموعها:


عايزة أشوفك..دلوقتي.


قالتها بصوت باكي واهن، فهبَّ واقفًا:


مسافة السكة..هكون عندك.


أغلق الهاتف سريعًا وهو يشير إلى غرام:


كمِّلي مع الولاد..هشوف ملك وراجع.


تحرَّك مسرعًا نحو الباب، نهضت غرام  خلفه، أمسكت ذراعه بقوَّة وهي تحدِّق فيه بقلق:

أرسلان، خير..فيه حاجة؟!


هزَّ كتفه بارتباك:


ماعرفش..يمكن بس محتاجة تتكلِّم.


حرَّر نفسه بخفَّة، وسحب معطفه، وبعد دقائق كان يقود سيارته، يبتلع الطريق إليهــا..

وصل إليها خلال دقائق معدودة، فُتحت بوَّابة السيوفي أمامه كأنَّهم على علمٍ بذهابه، ترجَّل من سيارته سريعًا، وتحرَّك نحو الداخل ولكنَّه توقَّف بعدما وجدها تنتظره بالحديقة..استدار متَّجهًا إليها بعد ندائها..ركضت إليه كالطفلة التي وجدت والدها بعد سنينٍ من الغياب، 

حاوطها بذراعيه مع بكائها بأحضانه: 

-وحشتني أوي، كدا تسافر من غير ماتقولِّي..

ربت على ظهرها بحنانٍ أخوي:

-خلاص اهدي أنا هنا أهو..أخرجها من أحضانه، واحتوى وجهها بين راحتيه  يمسح دموعها ويتعمَّق بالنظر إليها: 

-الدموع دي علشان سافرت ووحشتك، ولَّا فيه سبب تاني؟.. 

تجوَّل بعينيه بالحديقة حتى وقع نظره على جلوس إسلام بالشرفة وكأنَّه لا يهمُّه شيئًا ممَّا يدور حوله..

سحب كفَّيها واتَّجه إلى المقاعد:

-مالك حبيبتي، إيه اللي حصل؟. 

-ممكن تاخدني في حضنك؟. 

حاوط أكتافها وسحبها تحت حنان ذراعيه وقال بمرح:

-خايف إسلام يشوفني ينزل يموِّتني، ويقول مراتي إزاي تحضنها كدا. 

اعتدلت تنظر إلى عينيه وهمست بنبرةٍ حزينة:

-ليه مش إحنا إخوات، أنا قولت لك قبل كدا، أنا ماليش دعوة بشويِّة ورق واعترافات، كلِّ اللي أعرفه وعيشت عليه إنَّك أخويا وسندي في الدنيا دي؛ 

مش عايزة أحسِّ إنِّي وحيدة وضعيفة ومكسورة ياأرسلان..أنا مش معترفة بحاجة من الهبل اللي حصل..إنتَ أخويا وهتفضل أخويا اللي بتحامى فيه وقت مالدنيا توجعني. 


كان يستمع إليها بأنينٍ صامت وأنفاسٍ مرتفعة..صمت للحظات ثم سحب نفسًا وطرده وطاف بعينيه يتجوَّل بالحديقة:

-هتصدَّقيني لو قولت لك أنا كمان مش لاقي نفسي غير أرسلان الجارحي، رغم السنين اللي عدِّت دي، بس حاسس إنِّي لابس هدوم مش بتاعتي..بحاول أضغط وأعدِّي، بس كلِّ خطوة بحسِّ إنِّي بدوس على جمر.. 

صمت بعدما ارتفعت دقَّات قلبه بجنون وتابع حديثه:

-حاولت أتأقلم وبدَّعي إنِّي تقبَّلت بس كلَّها أوهام، أه ممكن قبلت فكرة إلياس أخويا وفريدة مامتي، بس مش قادر أتقبَّل إنِّ ماما صفية مش أمِّي، وإنتي مش أختي..

رفع عينيه التي تجرَّعت دموعًا صامتة: 

-إنتي عرفتي اللي ميرال مرات إلياس مرِّت بيه..تعرفي البنت دي من وجهة نظري بطلة.

اختنق صوته وتابع حديثه: 

-إذا أنا الراجل مش قادر أتحمِّل فكرة حياة غير حياتي رغم حياتي سوية، هيَّ قدرت تتحمِّل حياة مفروضة عليها..حياة كلَّها مآسي وذنوب.. 

زفرات مختنقة ثم حاول أن يغيِّر الحديث فقال بنبرةٍ مازحة:

-بت، أنا بقيت شاعري وبعيَّط كدا ليه، إنتي جيباني من حضن مراتي علشان تقوليلي كلامك العبيط دا…

صمتت تطالعه بدموع عينيها، إلى أن احتضن وجهها:

-إيه اللي حصل معاكي؟. 


قصَّت له ماجرى وهي ترتجف، الكلمات تخرج من فمها مقطَّعة بالدموع..وماإن أنهت كلامها حتى هبَّ أرسلان واقفًا، يدور حولها كالمختل، كمن يبحث عن هواءٍ يتنفَّسه وسط دخانٍ كثيفٍ خانق..


صرخ بعينينِ داميتين:


نزِّلتي الجنين، قتلتــي روح إزاي، إزاي قدرتي تعملي كده ياملك؟!..


انكمشت بين ذراعيها تبكي بنشيجٍ متقطِّع، جسدها كلُّه يهتزُّ من ثقل الذنب:


أنا حكيت لتيتا ظروفي..هيَّ اللي طلبت منِّي ماقولش لإسلام..هيَّ اللي خوِّفتني..


ضرب الهواء بكفِّه وصوته يجلجل بالحديقة:


واللهِ لو من جوزك، كنت طلَّقتك ورميتك من غير ماأبصِّ ورايا، دي حياتك إنتي وجوزك، محدش ليه حق ياخد قرار فيها غيركم!!.إزاي..إزاي توافقـي تموِّتي روح بريئة؟! إنتي مجنونة يابت!.وبعدين..ليه، ليه تسألي أحلام هانم، ليه ماجريتيش على ماما؟!.


أرسلان..ماهي جدِّتي برضو!.


التفت إليها بعينينِ مشتعلة:


طيب اشربي بقى قرارات جدِّتك، إنتي جيباني هنا دلوقتي عايزة إيه، مطلوب منِّي إيه بالظبط؟


نهضت ملك، تتشبَّث بذراعه كالغريق الذي يتشبَّث بخشبة نجاة:


كلِّمه..كلِّم إسلام، خلِّيه يسامحني..من يوم اللي حصل وهو مش عايز يسمع صوتي..


انتزع ذراعه بعنف:


احمدي ربِّنا إنُّه وقف على كده! إسلام لو كان خد بخاطره، كان ممكن يرميكي في الشارع، أنا مش فاهم..عقلك كان فين؟!


انفجرت دموعها بغزارة، واردفت بصوت يتقطَّع:


ندمت، والله ندمت ياأرسلان..بس أنا كنت خايفة، وتيتا خوِّفتني أكتر..قالت لسة صغيرة ومينفعش أشيل همِّ ولاد دلوقتي.


أطبق على أسنانه كأنَّه يمنع نفسه من أن يصفعها:


يبقى ماكنتيش تتجوِّزي ياأستاذة..

الجواز مسؤولية..مش لعبة.


شهقت وهي تتوسَّل:


دا اللي ربِّنا قدَّرك عليه..أنا في مشكلة ومن حقِّي ألاقيك جنبي وقت ماأحتاجك.


اقترب منها خطوة، وهمس بصوت خافت لكنَّه يقطر مرارة:


تلاقيني؟! طيب ليه..ليه يوم مااحتجتي مشورتي، ماجتيش ليَّ؟! ليه تروحي لغيري وتخبِّي عنِّي؟.


ثم أشاح بوجهه، يزفر بغضب، وصوته ينفجر مرَّةً أخرى:


آسف..مقدرش، مقدرش أروح لإسلام وأقولُّه سامح مراتك اللي قتلت ابنك..حتى قبل مايفرح إنُّه جاله ابن.


انهارت ملك جاثيةً على ركبتيها، وانسابت دموعها، بينما أشاح أرسلان  بوجهه عنها عاجزًا عن أن يخفِّف، وعاجزًا عن أن يزيد.


صباح اليوم التالي نهضت ميرال من فراشها على وقع صوت تحرُّكاته، كان يقف أمام المرآة يُنهي ارتداء ثيابه..اقتربت بخطواتٍ  متردِّدة ووقفت خلفه، تهمس بخفوت:

-صباح الخير..


استدار نحوها، رسم ابتسامةً دافئة ثم جذبها إلى صدره وقبَّل جبينها:

-صباح الخير حبيبتي..عاملة إيه دلوقتي، لسه في صداع؟


هزَّت رأسها نافية، رفعت عينيها إليه بتردُّدٍ..أومأ مشجِّعًا لها على الحديث، همست وكأنَّ الكلمات تُثقل لسانها:

-عايزة أتكلِّم معاك في موضوع مهم..


رفع ساعته ليلبسها، وتعلَّقت عينيه بها:

-أنا سامعك..


-عملت إيه مع رؤى؟


تجمَّد لحظة، ثم ردَّ وهو يسحب زجاجة عطره ويرشُّ منها قليلًا، ونظر إليها عبر انعكاس المرآة:

-سؤالك مش مفهوم ياميرال..عايزة تطمِّني عليها، ولَّا تعرفي أنا عملت فيها إيه؟


اقتربت أكثر حتى وقفت أمامه مباشرة، حدَّقت به طويلًا دون أن تنطق، ثم بحركةٍ متردِّدة دفنت رأسها في عنقه، تستنشق عبيره بوله:

-لا..مش عايزة أطَّمن عليها..عايزة أعرف ليه حرمتني منَّك الوقت دا كلُّه؟


ضمَّ جسدها إليه، ورغم أنَّ حديثها لم يُقنعه تمامًا، إلَّا أنَّه قال بصوتٍ حاسم وهادئ في آن:

-كلِّ واحد فرَّقنا هياخد جزاته..


رفع ذقنها برفقٍ بإبهامه، ابتسم ببرود وهو يضيف:

-وإنتي أوِّلهم ياحبيبتي..متفكَّريش إنِّ عقابك هيفوت، أنا بس مستنِّيكي تخفِّي..


ابتسمت رغماً عنها، حتى انفلتت منها ضحكةً صغيرة حاولت بها أن تُخفي ارتجافها..ورغم ذلك ارتفعت ضحكاتها  واختلطت بدموعٍ غلبتها:

-دا قانون..ولازم منُّه ياإلياس..

صمت للحظات، وطافت عينيه على ملامحها التي بدأت تستعيد بريقها من جديد، قلبه يُمزَّق بين نقيضين..هل يعود كما كان، حبيبًا غامرًا بحنانه، أم يظلُّ ذاك القاسي الذي خطَّ بينهم جدارًا من الألم..حرب شعواء تضجُّ بداخله، تغلبه حينًا ويغلبها حينًا، ومع ذلك..كان هناك مايخنقه كلَّما تذكَّر حجم الأذى الذي عانته بسببه.


تراجعت ميرال خطوةً للخلف بعدما قرأت صراعه في صمته، وملامح وجهه التي أظهرت ذلك الصراع، رفعت عينيها نحوه وهمست بثبات:

-منتظرة..وأنا مش معترضة على فكرة، خلِّي كلِّ اللي جوَّاك يطلع..


طالعها بعدما شعر بأنَّ كلمتها أشعلت ناره، فحاوط خصرها بقوَّةٍ مفاجئة، وسحبها إليه، يطبق ذراعيه عليها..يخرج ألمه بالضغط على خصرها بقوَّة:

-أنا بحبِّك..وإنتي عارفة حبِّي قدِّ إيه.. مش عايزك تزعلي منِّي، أكيد عارفة أنا بمرّ بإيه..


أومأت برأسها في صمت، رفعت عينيها التي تلألأت عبراتها بالألم: 

- وأنا كمان بحبَّك، يمكن أضعاف حبَّك..ثم ببطء فكَّت حصاره، واستدارت متَّجهةً إلى الحمَّام..توقَّفت فجأةً وعيناه تراقب تحرِّكها، ثم التفتت إليه بنصفِ جسدها، وهمست بصوتٍ مشوبًا بجرحٍ غائر:

-اعمل اللي إنتَ عايزه..مش هتوجع أكتر من اللي عدَّى عليَّا..


ارتجف بوقفته بعدما صدمته كلماتها كصفعة، لم تتوقَّف على ذلك ولكنَّها تابعت حديثها المميت لقلبه:


-بس وإنتَ بتفكَّر في عقابك..يبقى عاقب نفسك الأوَّل، لأنَّك إنتَ السبب في كلِّ اللي حصلِّي..آه أنا غلطت، ومعترفة، بس ماغلطتش من الهوا.. إنتوا اللي وصَّلتوني لكدا..


توسَّعت عيناه مندهشًا، واقترب منها خطوةً وهو يحدِّق بها:

-إيه..إيه اللي بتقوليه دا ياميرال؟ إنتي.. إنتي بتتهمِّيني أنا، يعني أنا السبب في إنِّك تهربي من جوزك، وتكسريه قدَّام الناس؟!..أنا بحاول ألملم اللي عملتيه، مش معنى كنتي كبش فدى، لكن بإيدك إنتي، إنتي اللي عملتي كدا، وأنا لو بحاول أساعدك، فعلشان إنتي بنت عمِّي للأسف ومراتي وأمِّ ولادي..أمال ينظر بعينيها التي انسابت دموعها:

-أنا بعاني أكتر منِّك، واتألِّمت أكتر منِّك، متحاوليش ترمي غلطك عليَّا، فكَّري بس في صحِّتك علشان ترجعي تليقي بنفسك..ولو قبلت بيكي تاني فدا علشان لسة باقي عليكي، وعلشان ولادنا، لكن أقسم بالله لو مافوقتيش وخرجتي من دور الضحية ماهرحمك وهدوس على نفسي قبلك؛ 

مفيش ستِّ محترمة تهرب من جوزها وترجع تعلَّقها على الظروف وإنكار غلطها!!.


تدفَّقت كلماته كطوفانٍ لا يرحم، صرخةُ روحٍ مشتعلة بالألم..كلَّ جملة تلقَّتها كانت كحجرٍ يهدم جدارًا في داخلها، حدَّقت فيه بعينينِ دامعتين، تضرب صدره بقبضتيها الضعيفتين وكأنَّها تنتقم من سنوات الألم التي دفعتها كضحية:


-أنا مهربتش منَّك!.ليه مش عايز تقتنع؟! أنا كنت عايزة أموت، أموت وأختفي من الدنيا دي كلَّها، أنا اللي اتولدت عشان أتحاسب بذنوب مالهاش علاقة بيَّا..اللي بقت عار على جوزها وابنها!..


اقتربت حتى التصقت به، عيناها تُغرز في أعماقه كسكين:

-لو كنت عايزة أهرب منَّك، كنت هربت من زمان..من يوم ماكنت بتستمتع بوقتك معايا كأنِّي مش إنسانة، كنت هربت لمَّا جبت واحدة وقلتلي هتتجوِّزها علشان تمسح آثاري..كنت هربت لمَّا اكتشفت إنِّ حياتي كلَّها كذبة!..


لكزت صدره مرَّةً أخرى بعنف، وصرخت بجنونٍ يكاد يفتك بحنجرتها:

-بس رغم كلِّ دا..فضلت ميرال واقفة متماسكة علشان تعيش جنب الراجل اللي حَبِّته، وتحمي ابنها من غدر الزمن..بس التماسك كان وهم..وهم، وقوفي ومصابرتي فوق رمال واهية قدَّام بشر مابيرحمش، والكل بيبص على ميرال أنها مذنبة علشان شايلة دم الراجل الفاسد


شهقت تتقطَّع أنفاسها، أشارت لنفسها بأصابع مرتجفة:

-منكرش إنَّك وقفت معايا، بس كنت عارفة إنَّك مش بتساعدني علشاني..لأ، كنت بتساعدني علشان صورة "إلياس السيوفي" المثالية تفضل قدَّام الكل..


ارتعشت شفتيها، وأصبح صوتها  مخنوقًا، تشعر بوجعٍ يفتك بها:

-أنا وقعت..وقعت ومقدرتش أقوم.. حتى الموت رفضني، أعمل أكتر من كدا إيه؟..ماليش نصيب أرتاح..


هزَّت رأسها بيأس، لوَّحت بيدها وكأنَّها تدفعه بعيدًا:

-خد عقابك زي ماإنتَ عايز..بس ولادي..ولادي لأ، عايز تعاملني جارية.. موافقة..لكن تبعد ولادي عنِّي، لأ يابنِ السيوفي ..


رفعت عينيها له بتحدٍّ جريح:

-عارفة إنِّ إلياس السيوفي لازم ياخد حقُّه..بس خلِّيك فاكر، "إلياس الشافعي" عمره مايركب عليك، لو ركِب..هتبقى نسخة من راجح المجرم.. انسى الشافعي دا قبل ماتوصل لنفسِ مصيره..


توسَّعت عينيه من وقع كلماتها، كأنَّها أطلقت سهمًا اخترق كبرياءه قبل قلبه..انعقدت أنفاسه في صدره، يتأرجح مابين الصدمة والبركان الذي يتأهَّب للانفجار..كيف تجرؤ على إلقاء اللوم عليه و هو الذي مزَّق نفسه ليعيد لها أنفاسها، لتقوم الآن وتضع سكين الاتِّهام في خاصرته!..


ارتجف فكِّه وهو يضغط أسنانه حتى برزت عروقه، قبضته انغلقت بجانبه حدَّ الألم، جسده اشتعل بنيران الغضب، لا يجد لها مخرجًا..كان يشعر أنَّ الأرض تهتزُّ تحت قدميه، أنَّ كلَّ مابناه بكفاحٍ وقسوة يتهاوى بجملةٍ منها، لم يكن مجرَّد غضب..بل جرحًا في كبريائه، في رجولته، في صورته التي أراد أن يظلَّ قائمًا بها أمامها.


ورغم عاصفته الداخلية، لم ينطق.. فقط طافت عينيه عليها بجمودٍ قاتل، كأنَّ النظرات وحدها تحمل لهيبًا يفوق الكلام.


تحرَّكت نحو الحمَّام بخطواتٍ مرتبكة، لكن دوى صوته خلفها كالرعد، حتى شعرت باهتزاز جدران المكان، فتصلَّبت في مكانها ترتجف، أطبقت جفنيها بقوَّة، تدرك أنَّها أشعلت غضبه، لكنَّها كانت بحاجة أن تبوح بما يثقلُ صدرها.


وصل إليها في لحظة، قبض على ذراعيها بقسوةٍ جعلت أنفاسها تتقطَّع:

-إيه اللي قولتيه؟


ارتعشت وهي تهمس برجاءٍ منكسر:

-ماقولتش حاجة..اعتبرني مجنونة.. ماتخدش على كلامها..سيبني..إيدي بتوجعني.


تحجَّرت دموعها خلف جفونها من شدَّة ضغطه، بينما هو يختنق بألمٍ داخليٍّ يفتك بفؤاده وهو يراها هكذا.. لحظات من الصمت، حرب عيونٍ دامية، لا صوت سوى صرخاتِ القلوب المحترقة..تركها فجأة حين انسابت دموعها كسكاكين تمزِّق صدره، فتراجعت مبتعدةً عنه بخطواتٍ متعثِّرة، وهرعت إلى الحمَّام تغلق الباب خلفها بقوَّة، تكتم شهقاتها بين يديها.


تجمَّد مكانه، كأنَّ الأرض سُلبت من تحت قدميه، حديثها مازال يجلجل في أذنه كطعنةٍ غادرة..نزع جاكيته بعنف، وانطلق نحو الباب، طرقه بجنون،  ارتجف صوته بفزعٍ مروِّع:

-افتحي ياميرال


أمَّا هي، فانهارت أرضًا، احتضنت ركبتيها بكلِّ ماتبقَّى من قوَّة، دفنت رأسها كي لا يسمع بكاءها…لكن، كيف يخفى البكاء على قلبٍ أحبَّ حتى الفناء؟

ميرال، افتحي الباب.

نهضت متعثِّرة، تمسح دموعها بيدينِ مرتجفتين، وردَّت بصوتٍ باكٍ متقطِّع:


- هاخد شاور...


هكسر الباب لو مافتحتيش.


إلياس..عايزة بس شاور، بقولَّك.


دفع الباب بقدمه بقوَّة، حتى ارتجفت وهي ترى الزجاج يكاد يتحطَّم..هرعت لتفتحه قبل أن ينهار عليها، وماإن أدارت المفتاح حتى اجتذبها إلى صدره.. 


عانقها بقوَّةٍ كادت أن تذيب أضلاعها، بينما ارتفع بكاءها ندماً وحيرة..لا تدري لأيَّ سببٍ تبكي؟ ألكلماتها الجارحة أم لأنَّها أدركت أنَّ قلبها مازال متعلِّقاً به رغم كلِّ شيء؟


لم تريد تفسير الأمر، كلَّ ماتريده هو أن تبقى بين ذراعيه..منذ عودتها وهذا الشعور القاسي يخنقها، رغم أنَّ الإجازة كان يفترض أن تعيد لها الحياة.


أبعدها قليلاً، مسح دموعها بإبهامه، تطلَّع في وجهها كأنَّه يقرأ تفاصيله واحدةً واحدة، ثمَّ انحنى مستسلماً لرغبته لتذوُّق كرزيَّتها كمن يروي عطشه الطويل.


أغمضت عينيها مستسلمة، لم تعد تريد شيئاً سوى يقين أنَّه مازال يريدها..دقائق قليلة استسلم فيها للصمتِ والشفاه، ثمَّ ابتعد قليلاً بينما يداه ماتزال تطوِّقُ وجهها..


آسف..همس بها وعيناه تخترقها.

-احنا مش اتعاتبنا ليه راجعة تاني تفتحي الجروج، دا امبارح بس اللي عدى علينا 


رفعت كفَّيها لوجههِ أخيراً، وأردفت بصوتٍ مشبعٍ بالدموع:


أنا اللي آسفة..ماعرفش قلت كده ليه، ما تزعلش منِّي..إلياس والله ماعارفة ايه اللي بيحصلي، دماغي هتتفجر مني


سحبها إلى صدره مرَّةً أخرى يذيبها بأحضانه:


أنا مش زعلان منِّك…أنا زعلان من الدنيا واللي بيحصل حوالينا..

ميرال عايزك تواظبي على صلاتك، واذكارك، صدقيني هترتاحي، ابعدي عن وساوس الشيطان، الحمدلله انتي بقيتي احسن، وجسمك بقى كويس عايز بس شوية صبر علشان ترجعي توقفي تاني، ميرال علشان خاطري استعيني بالله، كل ما تحسي انك مخنوقة ودماغك بتوجعك ارجعي لكتاب الله 

خرجت من أحضانه تطالعه بدموع منهارة:

-مش قادرة اعمل حاجة صدقني ..انا بحاول بس بقع

دمغ جبينها بقبلة مطولة حنونة، ثم احتوى وجهها 

-طيب ايه رأيك نجرب حاجة، وصدقيني هتفرق معاكي اوي 

انصتت إليه بقلب ينبض بعنف من نظراته الخائفة عليها ..تعلقت عيناه بها وادرك من نظراتها بما تشعر، قبلها قبلة سريعة وهمس بانفاسه المرتجعة

-كل يوم اقرأي سورة البقرة، مش عايز منك غير انك تقرأي سورة البقرة وبس، يوميًا بعد الفجر اقعدي شوية اذكري ربنا..رددي بينك وبين نفسك دعاء سيدنا يونس، كل ما تحسي بخنقة أو أي حاجة بتذكرك بالي مريتي بيه قول دعاء سيدنا يونس، هو هيكون فيه اكتر من ابتلاء سيدنا يونس ياميرو 

ارتجف جسدها بقوة 

-تفتكر هقدر ارجع تاني ياالياس بعد مااتحطمت من جوا

ضغط على وجهها بغضب ونسي ماتشعر به 

-إنتي ماتحطمتيش، انتي لسة زي ماانتي كل الحكاية، ربنا أختبرنا، ولازم ننجى بأيمانا ..ايه رأيك ياحبيبي كل ما تحسي بكدا رددي بس

"لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"

رددتها خلفه مرة بعد مرة ..رفع كفيه على خصلاتها بحنان:

-آسف ..اسف على كل وجع سببته، عارف انك اتأذيتي كتير سواء بسببي أو بسبب تهورك، بس متأكد كله هيتظبط ..بس زي ماقولت لك اهم حاجة واظبي لفترة على سورة البقرة 

-ليه سورة البقرة بالذات، دي طويلة اوي، معقول اقدر اقرأها كل يوم 

سحبها للخارج واتجه إلى الفراش، جلس وحاوطها بذراعيه 

-فاكرة وأنا صغير كنت بروح مع بابا مصطفى المسجد في صلاة الجمعة، قبل ما اعمل عملية نقل الكلية، بابا كان زعلان عليا اوي، راح لشيخ المسجد وحكى له أنه مش قادر يتحمل فكرة الفشل الكلوي، وحاسس أنه هيموت من الزعل، وقتها الشيخ قاله حاجتين 

طلع صدقة ..عن قول الرسول داوو مرضاكم بالصدقة، وقاله التزم بسورة البقرة يوميًا، هتحس انك مرتاح ..انا وقتها سألته ليه سورة البقرة ياعمو الشيخ ..كنت عارف القراءن كبير ليه السورة دي بالذات رد عليا 


سورة البقرة ليست مجرد كلمات تُتلى، بل هي حصن منيع لمن عرف قيمتها. أتدري ياصبي ما قال عنها نبينا ﷺ؟ قال: اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة."


سألته بفضول: "يعني إيه يا شيخنا بركة؟"


ابتسم الشيخ ورد عليا : "البركة يا بني، هي الخير الواسع اللي ربنا يزرعه في حياتك.. في بيتك، في صحتك، في رزقك. لما تقرأ سورة البقرة، كأنك بتفتح أبواب الرحمة والخير لنفسك ولبيتك."


بابا وقتها قال كمان بتطرد الشياطين،


أومأ الشيخ برأسه مؤكدًا: "أيوه، النبي ﷺ قال إن الشيطان يفر من البيت اللي تُقرأ فيه سورة البقرة، يعني بيتك يبقى أمان، مفيش مكان للشرور والوساوس فيه."


: "ولما توصل لآية الكرسي، دي بقى حصن لوحدها. اللي يقراها قبل ما ينام، ربنا يبعث له مَلَك يحرسه، والشيطان ما يقدرش يقربه لحد الصبح."


انا وقتها كنت مبهور ايه دا كله، ايه دا دي حماية عظيمة، يعني ممكن لما اقرأها يابابا الألم يروح 

-اه ياحبيبي..بابا قالي كدا وعيونه كلها وجع عليا 


ابتسم الشيخ ليا وملس على شعري وقال "وكمان، في آخر السورة آيتين عظيمتين، لو قريتهم بالليل كفاك الله كل هم وشر، كأنك سلمت نفسك بين إيديه سبحانه، وهو ما يردش عبده خايب أبدًا."


وكمان هتيجي يوم القيامة تشفع لقارئها، تحاجّ عنك عند ربك، تقول: يا رب هذا عبدك ما تركني، فلا تتركه في هذا اليوم العصيب."

قالها وهو ينظر بعينها 

-ايه رأيك تجربي حبيبتي مش هتخسري حاجة بالعكس حاسس ربنا هيخرجك من اللي انتي فيه


ساد الصمت، بينهما والقلوب امتلأت شوقًا لتلاوتها والعمل بها.


-ايه ياميرو ..هتقرأيها

-إن شاءالله حبيبي 

-لازم ياميرو علشان نخرج من اللي بيحصل 


تمسَّحت به كقطَّةٍ أليفة تبحث عن الدفء:


مش مهم اللي يحصل…طول ماإنتَ جنبي، الباقي مايهمِّنيش.


ابتسم بخفوت، وحاول اخراجها من حالتها بعدما شعر بارتجاف جسدها بين ذراعيه، طاف نحو الحمَّام، ثمَّ رفع أصابعه نحو قميصها الحريري يمرِّر أنامله على ذراعها:


طيب..يلَّا، عايز آخذ شاور..شكل القميص فيه حاجة بتقرص.


طالعته بدهشة نطقتها عينيها:


- يعني إيه؟!.القميص نضيف..أنا اللي مرتِّبة الدولاب، ومافيش حد دخل الأوضة.


ضحك بخبث وسحبها إلى الحمام وهو يفكُّ أزرار قميصه:


- والله أبدًا..حتى شوفي بنفسك.


نزع قميصه بخفَّة، ثمَّ مدَّ أصابعه نحو قميصها بتمثيلٍ ماكر:


- وبرضه شكل قميصك فيه حاجة بتقرصك..تعالي أساعدك.


هنا فقط التقطت لمعة عينيه، وفهمت نيَّته الخبيثة..فضحكت بخفَّة، تراجعت خطوة، لكنَّه جذبها سريعاً لتصطدم بصدره:


-لازم أشوف النمل اللي بيقرصك بنفسي.


انفجرت ضحكتها العالية، كأنَّها لم تكن قبل دقائق تغرق في بكائها..

كانت دقَّاته تهدأ رويدًا رويدًا بعدما أخرجها من حالة تيهها، ملَّس على خصلاتها بحنان:

-عارف زعَّلتك كتير، وكمان بضغط عليكي..وضعت أناملها على شفتيه:

-خلاص انسى، هعمل زي ماقولت وواثقة في ربنا أنا لازم امسح الماضي كلُّه وأبدأ من جديد، لازم أبدأ من جديد.

ابتسم وهو يحاوط وجهها: 

-أيوة وأنا عايز كدا، مش علشاني علشانك إنتي. 

-وعلشان ولادي ياإلياس، المهمِّ بقى اطلع وخد قميصك عايزة آخد شاور.


-هوَّ مين دا يابت اللي يطلع، هيَّ خلعة القميص دي ببلاش ولَّا إيه، إنتي عارفة دا تمنه إيه؟.. 

حاولت دفعه إلَّا أنَّه كان المسيطر الاقوى..


بمنزل أرسلان.. 

تململ بنومه على رنين هاتفه المتواصل، فتحت غرام عينيها واعتدلت تنظر في الساعة، تستغفر ربَّها..سحبت هاتف زوجها، وجدت اسم ملك ينير الشاشة.. 

همست لنفسها: 

-هوَّ فيه إيه، امبارح اتَّصلت ونزل زي المجنون ومن وقت ماجه مش عايز يكلِّم حد، ياترى ياملك عملتي إيه أو قولتي إيه؟.. 

تأفَّفت تلكز أرسلان مع انفصال الرنين،  

فتح عينيه بتململ: 

-صباح الخير حبيبتي. 

-قوم كدا وفوق ياروح حبيبتك، هوَّ فيه إيه بالظبط؟. 

شدَّها بقوَّة حتى سقطت فوقه متأوِّهةً 

تلكزة صارخة: 

-إيه حديد في صدرك.. 

جحظت عينيه يشير إلى نفسه:

-بتقرِّي على جوزك يابت..دفعها لينقلب الحال وتصبح بين ذراعيه:

-مش عجبك الحديد..دي لايقة يامتخلفة. 

وضعت كفَّيها على عينيها: 

-أرسلان عيب كدا، روح البس هدومك…

أزاح كفَّيها يضحك بصوتٍ مرتفع:

-ليه ياختي، بنت أختي، وبعدين دلوقتي عيب..أومال مين نايم طول الليل في حضني. 

دفعته بقدميها، ليتراجع يمسك صدره:

-ياغبية، مركِّبة مسامير..قاطعهم رنين الهاتف مرَّةً أخرى..

اعتدلت تجمع خصلاتها وصاحت به:

-إيه موضوع الستِّ ملك بقى، إمبارح تلات ساعات عندها ودلوقتي من الفجر بترن عليك. 

أشار بكفِّه اليها بالصمت وعقله ذهب إلى خناقها مع إسلام: 

-استني..معقول يكون إسلام عمل فيها حاجة؟. 

سحب الهاتف مع نظرات غرام وتكرارها لحديثه متسائلة:

-ليه هو فيه مشكلة؟. 

ردَّ على ملك: 

-صباح الخير حبيبتي..استمع الى بكائها وشهقاتها وكلُّ هذا يظنُّ أنَّها تبكي بسبب إسلام، ولكن توقَّف على همساتها المتقطِّعة:

-ماما صفية ماتت ياأرسلان.

لم يستغرق صوت ملك وبكاءها أكثر من دقيقة، لكنَّها كانت كفيلة بتهشيم كلَّ مابناه في سنوات عمره، وإسقاطه في هاويةٍ لا قرار لها..جحظت عيناه، وانتصب جالسًا دفعةً واحدة، وقلبه يخبط في صدره بعنف، والدموع تفرُّ من عينيه دون استئذان، بينما يكرِّر في صمتٍ الكلمات التي وقعت على أذنه… كلمات لن تُمحى أبدًا.

-ملك إنتي بتقولي إيه، إنتي حلمتي بكابوس ولَّا إيه؟..أيوة كابوس ياروحي، قومي استغفري وصلِّي وإن شاء الله..

صرخت وصرخت حتى انهارت ليسحب إسلام الهاتف: 

-أرسلان، البقاء لله..شدِّ حيلك..طنط صفية تعيش إنتَ. 


كلمات ماهي سوى كلمات ولكنَّها كانت كفيلة لارتقاء روحه.


كأنَّ الوقت توقَّف..كأنَّ الأرض انشقَّت وابتلعته دفعةً واحدة.


ارتجف قلبه، ثمَّ تجمَّد..

ارتفع صدره كمن يبتلع آخر جرعة هواءٍ في حياته..وعيناه اتَّسعت وكأنَّها تبحث عن أيِّ شيءٍ ينقذ ماتبقَّى من روحه...


سقط الهاتف من يده، وانطفأت معه كلُّ الأصوات من حوله، كأنَّ العالم توقَّف عن التنفُّس..لم يبقَ سوى دويِّ قلبه يركض كفرسٍ جامح، وأنفاسه المتقطِّعة تختنق في صدره..دموعه انهمرت بغزارة، صامتة، لكنَّها كانت أبلغ من كلِّ صراخٍ ممكن.


زحفت غرام بركبتيها إليه، قلبها يختنق وهي ترى ارتعاش جسده، ووجهه الذي تحوَّل إلى قناعٍ من الألم:


حبيبي، في إيه؟


حاول النهوض، لكنَّ الأرض بدت أثقل من أن تحمله..سقط على الفراش مرَّةً أخرى، كأنَّه سقط من عمرٍ كامل، من رجلٍ لم يعرف للدموع طريقًا إلى طفلٍ ضائعٍ في لحظة.


رفع يده المرتجفة يشير إلى الباب، وأردف بصوتٍ ممزَّق، يتكسَّر مع كلِّ حرف:


كلِّميهم، يجهِّزوا العربية.


استند إلى الجدار، ساقاه تجرُّ جسده بخطواتٍ واهنة، كأنَّه يمشي فوق رمادٍ ساخن، لا يرى أمامه سوى ضبابٍ كثيف يلتهم الرؤية والعقل معًا.


ركضت غرام  خلفه:


- أرسلان..استنى، في إيه؟


لكنَّه يشعر بأنه بعيد، أبعد ممَّا يتخيَّل..كان في مكانٍ آخر تمامًا، حيث سقطت روحه في هوَّةٍ بلا قرار..وهو يتخيل جسد صفية بلا روح


أمسكت بذراعه، شدَّته كالغريق الذي يحاول التمسُّك بخشبة نجاة، التفت إليها أخيرًا، عيناه أصبحت زجاجيَّتين كأنَّها لا تحمل سوى الموت والذهول، ثمَّ خرج صوته خافتًا، مهزومًا، محطَّمًا:


أمِّي ماتت!..


كلمةٌ واحدة..لكنَّها كفيلة بأن تخلع قلبه من مكانه، أن تحرق رجولته، أن تجرِّده من كلِّ صلابته في لحظةٍ واحدة.


قالها بشهقةٍ مريرة شقَّت صدره نصفين، شهقةُ رجلٍ لم يشعر بنيران دموعٍ تسقط يومًا بتلك الحرقة، حتى جاء الفقد فهزمه بلا رحمة.


شهقت بعيونٍ جاحظة تهزُّ رأسها برفض الخبر.. 


تحرَّك أرسلان إلى الخارج بلاروح، 

بينما أمسكت غرام هاتفها تزيل دموعها.. 


بمنزل إلياس.. 

خرجت من الحمَّام تجفِّف خصلاتها مع ارتفاع رنين هاتفه، اتَّجهت إلى الهاتف وهي تهتف:

-إلياس تليفونك بيرن..لكنَّها توقَّفت بعدما وجدت اسم غرام..رفعته سريعًا: 

-غرام فيه إيه على الصبح؟.

-ماما صفية ماتت ياميرال..تمتمت بها بصوتٍ باكٍ، لتشهق ميرال مردِّدة:

-لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العليِّ العظيم.. 

ثم تذكَّرت أرسلان لأنَّها تعلم مدى تعلِّقه بها:

-أرسلان فين؟. 

-مشي، خلِّي إلياس يلحقه لمَّا أجهِّز نفسي، أنا خايفة عليه، حالته صعبة، رجاءً عرَّفي إلياس.. 

-حاضر..حاضر، هعرَّفه، وأنا كمان هجهز وأنزل معاكي..قالتها وأغلقت الهاتف وهي مازالت بحالة صدمةٍ مؤلمة وحال لسانها: 

-لا حول ولاقوَّة إلَّا بالله، قالتها مع خروج إلياس يحاوط جسده بمنشفة: 

-اجهزي علشان هاخدك مشوار..لكنَّها كانت غارقةً بكلمات غرام، اقترب منها: 

-ميرال..التفتت إليه: 

-أه..طالعها بتساؤل: 

-مالك واقفة كدا ليه؟..البسي هدومك واجهزي ورانا مشوار، وأنا هكلِّم مالك هتأخَّر شوية.. 

-لا..أجِّل كلِّ حاجة، طنط صفية تعيش إنتَ.. 

-طنط صفية مين؟..قالها وصمت للحظات ثمَّ قال:

-أوعي تكون صفية الجارحي؟!. 

-للأسف هيَّ، وحالة أرسلان صعبة، غرام كلِّمتني دلوقتي. 

-تمام..تمام..هوَّ مشي ولَّا لسة؟. 

-مشي، الحقه ياإلياس، أنا خايفة عليه، إنتَ متعرفش متعلَّق بيها إزاي.. 

-خلاص ، هلبس وألحقه، وإنتي اجهزي بسرعة.. 


وصل أرسلان إلى قصر الجارحي، توقّف أمامه لحظاتٍ قليلة، عينيه معلّقتانِ بذلك البناء الضخم، الذي شعر بأنَّه سجنه من الآن، و داخله عاصفةٌ من نيرانٍ متأجِّجة،  يريد أن يحرق العالم بأسره فقط ليُطفئ مايشتعل في صدره.


ترجَّل من السيارة بخطواتٍ مبعثرة، ساقاه بالكاد تحمله، يشعر بثقل العالم فوقه، ولكنَّه ليس جسديًا، بل ثِقلُ قلبٍ مثقوبٍ من الداخل..دفع باب القصر بكلتي ذراعيه بعنفٍ أفزع الخدم، الذين ظهروا بملابسهم السوداء..هنا شعر بأنَّ الظلام  استوطن المكان دونها..


تجوَّلت عيناه بجنونٍ بين الجدران والوجوه، يبحث عن ظلِّها، عن دفء وجودها..ثمَّ خرج صوته فجأة، بصرخةٌ زلزلت جدران القصر وقلوبِ من فيه:

ماماااا!!.


ركضت ملك على صوته، بوجهٍ شاحبٍ كالأكفان، ألقت بنفسها في حضنه، لكنَّه كان واقفًا كجبلٍ لا يريد سوى أن يراها:


- أرسلان…


توقّف جسده للحظة، يده ترتجف على كتفيها، ثم قال بصوتٍ محطَّم، متكسِّر:


أمِّي..فين؟ ودِّتوها  فييييين؟


خرج اسحاق من إحدى الغرف، وجهه متماسكٌ ظاهريًّا لكنَّ عينيه كانت بئرًا من الأسى..رفع أرسلان رأسه إليه ونطق بعينينِ تفضحُ ألمه، وسأل بصوتٍ لا يشبهه:


-أمِّي فين؟


اقترب منه، أبعد ملك عن حضنه، حدَّق في عينيه، هنا شعر بمدنٍ من الخراب تسكن داخله..مدَّ يده يتحسَّس وجهه، همس بصوتٍ مرتعشٍ رغم محاولته الصمود:


حبيبي، إنتَ مؤمن..أوعى تنهار، أوعى ياأرسلان.


لكنَّه لم يسمع، أو ربَّما لم يفهم..كان كالتائه في صحراءٍ قاحلة، يلفُّ بعينيه المكان، يبحث عن أمٍّ لم يبقَ منها سوى رائحتها بصدره..


-أمِّي فين؟!.


خرجت الكلمات كأنَّها نزيفٌ من صدره، كأنَّ قلبه نفسه يصيح يطلب أمِّه…

أشار إسحاق إلى الغرفة التي تُوضعُ بها صفية قبل أن تلقى ربَّها..تحرَّك 

بخطواتٍ مهزوزة وجسدٍ منتفض، إلى أن توقَّف ينظر لذاك النعش، يهزُّ رأسه بهوسٍ مجنون، رفع عينيه سريعًا إلى أحلام التي خرجت من غرفةٍ أخرى تطالعه بشماتة؛ هنا تسارعت الأحداث داخل عقله وماكان عليه إلَّا أن يجنَّ من نظراتها ليصل إليها بخطوةٍ واحدة..ويقبض على عنقها كالذي فقد عقله تمامًا يدفعها بقوَّةٍ لتصطدم بالجدار..مع صرخاتها، لم يعي مايفعله، لينهال عليها بالصفعاتِ والصرخات..ورغم محاولة إسحاق جذبه من فوقها إلَّا أنَّه تحوَّل إلى مجنونٍ فاقدٍ لعقله ولم يقوَ عليه، لطمات مع ارتفاع أنفاسه وخروج فاروق وإسلام على الهرج والمرج بالمكان.. 

-أرسلان..قالها فاروق وهو يدفعه بغضب، اعتدل بعدما بصق عليها واتَّجه إلى فاروق يصرخ بوجهه لأوَّل مرَّة:

-وديني لو ليها يد في موتها لأولَّعلك في القصر وفي عيلة الجارحي كلَّها.. 


قالها ودفع فاروق بغضبٍ جحيميٍّ

أشار إليه اسحاق

-فاروق، هو مش حاسس بنفسه، اياك تقرب منه، دي أمه غصب عن اي حد في الدنيا، واللي يقرب منه حتى لو انت مش هرحمه، وهو الوحيد اللي له الحق بيها دلوقتي، انت كنت رميها عنده، وصدقني اعدي العزا، وبعد كدا نتحاسب يابن ابويا ..قالها وهو يرمق احلام باتهام علني، بينما عند ارسلان دفع باب غرفتها.. هنا تجمَّدت كلَّ خلاياه، يفقد الشعور بما يدور حوله، وهو يرى جسدها المغطَّى، كلَّ شيءٍ بها لم يعد موجود، سحب أقدامه بصعوبة وارتفعت شهقاته وهو يهمس: 

-ماما..ابنك جالك، يالَّه قومي..سحب غطاءها وليته لم يسحبه، ليته ظلَّ يراها من بعيد..ارتجف جسده بالكامل وانحنى يدفن رأسه بصدرها الذي غمره سنواتٍ بالحنان..ولكن اليوم لم يشعر سوى بالبرودة، برودة بكلِّ شيء..وآااااااه خرجت من قلبه قبل فمه، حتى استمع إليه الجميع بالخارج مع دموعهم التي انسابت بصمت.. 

رفع نصف جسدها يضمُّها إلى أحضانه، مع بكائه الذي لم ينقطع كشلَّال ٍتدفَّق مياهه بسرعة.. 


في تلك اللحظة، لم يبقَ من أرسلان سوى بقايا رجلٍ مكسور، يقف على أطلال قلبه، يتعلَّم للمرَّة الأولى أنَّ هناك أوجاعًا لا يُشفى منها أبدًا.


مرَّر أنامله على وجهها الذي أصبح باردًا، بل شاحبًا، ياالله أمِّي بين أحضاني جثَّة!..

-جثَّة ردَّدها بينه وبين نفسه، وكم من آهااااتٍ تحرق قلبه وصدره قبل جوفه.. 

يااااارب..يااااارب..قالها بدخول إلياس يطرق على باب الغرفة..وقف مذهولًا وهو يراه لأوَّل مرَّة بتلك الحالة..

رفع عينيهِ لأخيه: 

-أمِّي ماتت ياإلياس..تمتم بها بظهور فريدة خلف إلياس.. 

شعورٌ لعين، كأنَّ أحدًا مزَّق صدرها بيديه، نزع قلبها وقذفها في الظلام..

الدموع لم تنتظر إذنها، انهمرت حارقة، كأنَّها تنتقم لروحها التي لم تنجِ ابنها من كمِّ الألم..رفعت عينيها إليه وهو يضمُّ صفية كالطفلِ الرضيع، تحرَّكت إليه وركبتاها ترتعش، جلست على حافَّة السرير، تنظر إلى ابنها الذي لا يشعر بشيءٍ كمن فقد البصر، كمن ضلَّّ طريقه للحياة.


أرسلان..حبيبي مينفعش، الموت علينا حق، يالَّه حبيبي مينفعش اللي بتعمله أكرمها، هيَّ دلوقتي عند ربَّها، أكرم مثواها. 

-أكرم مثواها!..جملة تتردَّد في رأسه بلا توقُّف.

كأنَّها تُسقِط كلَّ الذكريات دفعةً واحدة..ضحكاتها، دعواتها، حضنها وقت ضعفه، يدها اللي كانت تداوي جروحه قبل الوصول  لروحه.


رفع رأسه للسماء، شهقةٌ مفترسةٌ خرجت منه، كأنَّها آخر ماتبقَّى من روحه قبل أن تنهار.


لم يعد أرسلان القويّ..تلاشت الضحكة التي ملأت قلبه، ولا الرجل الذي تحدَّى الدنيا سنين..

في لحظةٍ واحدة، صار طفلًا ضائعًا، فقد حضنه الأوَّل، وأمانه الوحيد.

تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا




تعليقات

التنقل السريع
    close