رواية فراشة في سك العقرب الجزء الثاني (حب أعمى)الفصل السابع عشر 17بقلم ناهد خالد حصريه
رواية فراشة في سك العقرب الجزء الثاني (حب أعمى)الفصل السابع عشر 17بقلم ناهد خالد حصريه
الفصل السابع عشر من الجزء الثاني...
"مهما حاول الإنسان لا يمكنه أن يتحكم في ذاته ومشاعره وانفعالاته طوال الوقت, هناك أوقات تسبق فيها انفعالاتك عقلك, وخاصًة تلك التي يكن فيها الخوف أو الغضب هما المسيطران, تنفلت زِمام الأمور, والغلبة لتلقائيتك, وما يصدر عنكَ لا يمكن التراجع عنه"
سقوطها هكذا غارقة في دمائها التي ظهرت واضحة من كنزتها الزرقاء الفاتحة, جعل عقله يُشل للحظات قبل أن يستوعب الواقع, رغم أنه ليست اول مرة يرى فيها قتيل, وليست هي أول شخص يسقط أمامه بروح ذاهبة, ولكنها.. تخصه, تهمه, ليست كمن سبقوها ابدًا..
إن حاول إحصاء عدد من كانوا في مشهد مماثل لها الآن, لن يستطيع إحصائهم, وكان كل ما ينالونه منه نظرة عابرة لا تتعدى ثواني ثم ينطلق في طريقه ويكمل ما يفعله.
ولكن الآن ولأول مرة لا تكن نظرة عابرة, ولم يهتم ابدًا بالنظر لمحل إطلاق الرصاصة ومعرفة من أطلقها, أو حتى الركض ورائهم, بل ركض ناحيتها هي.. يلتقطها من فوق الأرضية الصلبة, لتنظر له بعينيها الناعسة والتي أصبح بياضها يغزوه شعيرات دموية حمراء.
كان يظهر عليهِ الارتباك والقلق, ملامحه كانت مضطربة بشكل لم تراه عليهِ من قبل, ولم يكن هو عليهِ منذُ اليوم الذي عرف فيه خبر وفاة والدته, كان وقتها مضطرب كالآن, لا يعرف ما عليهِ فعله ولا أين يذهب, فقط يمرر كفه على ذراعها دون أن يكتشف مكان الإصابة, وكأنه يواسيها!
هي مجرد حركة حمقاء تدل على صدمته وتوتره, وبعدها كان يسمعها تهمس بما جعله يستفيق من حالته:
-هموت... ماما... عاوزه اشوفها... قولها...
ابتلعت ريقها بصعوبة وهي تشعر بشيء بدأ يملأ حلقها, وأكملت بينما أصبحت كمن أخذ جرعة مخدر قوية تسحبه نحو اللاوعي دون اراده منه:
-كان معاها حق.. انا غبية... كانت صح..
لم يفهم ما تقوله, أليس والدتها متوفية! ولكن أرجع الأمر أنها لا تشعر بنفسها وهي تقريبًا أصحبت في حالة قريبة من اللاوعي.
-قوم يا شاهين نوديها المستشفى, انتَ هتفضل تتفرج عليها؟
رفع رأسه ليرى "نصر" يقف بالقرب منه تمامًا, لا يعلم متى أتى أو ماذا أتى بهِ لهُنا, وقد كان "نصر" الذي ترجل بسرعة البرق ينادي باسمه وقلبه يخفق وجلاً من إصابته بمكروه, قد هدأ قليلاً زافرًا أنفاسه براحة حين وجده سالمًا, والإصابة لم تكن بهِ, ووقف هادئًا, صامتًا, ينتظر أن يطمئن "شاهين" عليها, ولكنه لم يفعل شيء, هو فقط يقوم بأفعال غريبة ستجعل المسكينة تفقد حياتها وهي بمحلها, لذا كان عليهِ التدخل.
عاد "شاهين" ينظر لها وقال بعدما ابتلع ريقة بقوة:
-متخافيش, هتكوني كويسة.
وجاء ليحملها لتصرخ هي بوجع من بين قربها لفقدان الوعي:
-لا...متحركنيش.. ابعد...ابعد..
-هي الرصاصة فين؟
سأله "نصر" ليحرك رأسه باضطراب مرددًا بجهل:
-مش عارف.
ثم استكمل حديثه ل "فيروز" يطالعها بشفقة حقيقية:
-لازم اشيلك عشان تروحي المستشفى, معلش اتحملي بس ثواني لحد ما ارفعك.
وقبل أن تعترض كان يرفعها بين ذراعيه بأقصى رفق يعرفه, ولكن هذا لم يمنع صرخة خافتة متألمة خرجت منها قبل أن يستقيم بها, فتلقي رأسها على صدره بإنهاك وتغمض عيناها في استسلام تام للتخلص من بشاعة الألم... وفي نفس اللحظة تناثرت بعض الدماء من فمها.
-متغمضيش يا فيروز.. متغمضيش.
صرخ بها وهو يركب أحد السيارات التي فُتح بابها أمامه, لكنها لم تستجيب.. فكانت بالفعل قد فقدت وعيها.
لعن من بين أسنانه حين لاحظ أنها قد فقدت الوعي, وحاول أن يتفحص جسدها لمعرفة مكان الإصابة, لكن تلطخ الكنزة بالكامل بلون الدماء جعله يخفق في معرفة موضع إصابتها.
-متقلقش هنلحقها.
قالها "نصر" الجالس في المقعد الأمامي بجوار السائق, لينظر له "شاهين" بملامحه المتجهمة يسأله:
-انتَ عرفت مكاني ازاي؟ وعرفت اللي حصل منين؟
أجاب "نصر" في هدوء:
-للأسف كنت جاي انقذك بس وصلت متأخر, كويس إنك بخير وإلا كنت هحرقه حي.
لم ينتبه لنبرته الغريبة, ولا جملته الأغرب عن مدى مكانته لديه, فقط ردد بشراسة:
-انا كده بخير! مش واخد بالك إن في واحدة بين الحيا والموت؟ بعدين هو مين ده؟ معتقدش إن عقابه دلوقتي هيختلف.
-هيختلف لأنك سليم, فهحاول اديله فرصة تانية ي...
صرخ "شاهين" غاضبًا غضب قد يجعل السيارة تنقلب بهم الآن:
-بردو هيقولي سليم! هي دي واحده كانت معدية في الشارع واتصابت مكاني! دي خطيبتي, ده كان ربنا هيرحمه لو انا اللي اتصابت, قولي هو مين؟
-بطل صرخ...
قالها "نصر" منزعجًا من صوته العالي وأكمل:
-بعدين مش وقته, خلينا نشوف البت الأول بعدين نتكلم, ادخل يا بني على أقرب مستشفى.
وجه جملته الأخيرة للسائق الذي هزَّ رأسه موافقًا ومنفذًا...
كبح غضبه المشتعل بصدره, وحول نظره لها وهي متسطحة فوق مقاعد السيارة ليحاول جعلها أكثر راحة وحشر نفسه في جلسة غير مريحة جوارها, وكانت رأسها تجاهه, لاحظ تعرقها بغزارة فطلب من السائق بتبجح:
-هات المناديل دي.
مد يده له بعلبة المناديل على الفور, ليبدأ في تجفيف عرقها من على وجهها ورقبتها, ويمسح فمها من الدماء, التي أصابته بذعر أكثر, ودون شعور منه وجد نفسه ينحني عليها هامسًا في أذنها بعنفوانه وغضبه المعتادين:
-مش هرحمك لو جرالك حاجة, ومش هعديهالك لو قومتي منها.
هو حقًا لا يدري بحماقة ما يتفوه بهِ!
لكن هذا ما سيفعله بكل تأكيد, ربما لن يملك الفعل إن ذهبت, وحتمًا لن يمررها لها إن نجت.
-------------
ضحكة مجلجلة صدرت منه فور وصوله الخبر, وبدى الابتهاج جليًا على وجهه وهو ينهي المكالمة:
-تمام... تمام اوي, أي اخبار جديدة تبلغني بيها, ويا ريت المكالمة الجاية تبلغني بخبر موتها.
أغلق الهاتف ليقول الذي يجلس أمامه ينهيا بعض الأعمال الخاصة بشحنة جديدة:
-مين دي اللي مستني خبر موتها؟
ضحك "مختار" وهو يقول:
-خطيبة شاهين.
رفع الجالس حاجبه يسأله بحذر:
-انتَ اللي وراها؟
رفع "مختار" كفيهِ مستسلمًا وابتسم يقول:
-لأ يا غسان انا ملوثش ايدي انا بعرف ازاي أوصل للي عاوزه بس من بعيد, انا بس رفعت ايدي عن شاهين ودي كانت النتيجة.
همهم "غسان" يقول:
-بس إيه علاقة خطيبته بمشاكله, معتقدش في حد هيكون مستقصدها!
-لا مهو مكانتش هي المقصودة, هي اتصابت بالغلط.
اتسعت عيني "غسان" بقلق وهو ينتفض من فوق كرسيه:
-يعني شاهين المقصود؟ ومين اللي عمل كده!؟
سخر "مختار" من انتفاضته وقال:
-مالك هبيت ليه كده؟ اوعى تكون لسه بتخاف عليه من باب الصحوبية والهبل ده.
-مين اللي عمل كده؟
رددها بإصرار للمعرفة دون اهتمام بحديث الآخر, ليجيبه "مختار" بلامبالاة:
-انا إيه عرفني, لسه الخبر واصلي واكيد مش هعرف في نفس اللحظة مين وراها, خصوصًا إن أعداء شاهين زي الرز.
جمع أشيائه وهو يسأله مرة أخرى:
-هم راحوا علي فين؟
وقف "مختار" يوازيه مرددًا باستنكار:
-إيه هتروحله؟ بطل جنان يا غسان, وبعدين مانا قولتلك هو زي القرد محصلوش حاجة.
ردد "غسان" بما يعرفه عن "شاهين":
-بس هيودي نفسه في داهية, مش هيسكت على اللي حصل وهيتغابى.
-وانتَ مالك!
-يعني هحاول الحقه.
والحقيقة "مختار" لا يتمنى الشر ل "شاهين" أو بمعنى أدق يتمنى له الشر بحد معين وليس لدرجة الموت أو مصيبة لا يخرج منها, لذا قال وهو يلتقط هاتفه:
-هعرفلك هو فين.
----------------------
انتفضت من نومها بذعر بعد كابوس مزعج شعرت فيه أنها تختنق, والكابوس كان واضحًا, رأت ابنتها تركض في مكان مظلم ومخيف, وخلفها يركض ذئاب ضخمة ذات شكل مخيف, وفجأة وصلت "فيروز" لنهاية الطريق المغلق, والتفت خلفها تصرخ وهي تنظر للذئاب التي لم تتوقف وهي تركض نحوها, وفجأة وصل لها أحدهم ينقض عليها لتختفي صرختها بين أنيابه..
وحينها استيقظت "مديحة" تشهق بهلع وتتلفت حولها لا تعرف علاما تبحث, لكنها تشعر بالعجز, تشعر بغصة قوية تقبض قلبها, وكأنه ينبئها بخطر ما, خطر بالتأكيد يخص ابنتها, واخيرًا بعد فترة من البكاء والهلع اهتدت لهاتفها, ففورًا اتصلت بهِ, حتى أتاها رده فقالت على الفور:
-مازن باشا, بنتي مالها؟ متخبيش عليا بنتي جرالها حاجة صح؟
نهض "مازن" الذي كان يجلس على كرسي مكتبه, وسألها باستغراب:
-في إيه؟ مين قالك إن فيروز جرالها حاجة!
أجابته ببكاء:
-انا حلمت حلم وحش ببنتي, وانا احلامي مبتخبش, قولي بنتي جرالها إيه؟
أنتابه القلق حيال "فيروز" من حديث والدتها, ولكنه أجاب بصدق:
-انا معرفش حاجة والله, وإن شاء الله ميكونش حصل حاجة, اقفلي بس وسبيني أوصل لأخبارها.
-طمني يا باشا الله يخليك, انا قلبي مقبوض ومش هطمن غير لما اسمع صوتها, لو وصلتلها خليها تكلمني.
-حاضر, متقلقيش مفيش حاجة.
وأغلق معها المكاملة وعقله يفكر هل بالفعل قد أصاب الفتاة شيء؟
---------------
وفي المستشفى كان الأمر أشبه بانتظار انفجار قنبلة موقوتة..
الجميع في حالة ترقب, بعد أن أخذها الأطباء لغرفة العمليات منذُ ساعة كاملة, خرج الطبيب يخبرهم باحتياجهم للتبرع بالدم للمصابة, بعد أن استنفذوا ما يلائمها من بنك دم المستشفى, فتوجه "شاهين" ورِجال "نصر" الذي طلبهم لإجراء اللازم إن كان أحدهم يستطيع التبرع لها, ولكن لم يكن سوى "شاهين" هو الخيار الوحيد المتاح, وتم أخذ كمية لا بأس بها منه, في محاولة لإنقاذها بها لحين الحصول على كمية أخرى.
وقبل أن يدلف الطبيب لغرفة العمليات مرة أخرى, سأله "شاهين" وهو ينزل كم قميصه الملوث بدمائها بعد سحب الدماء من ذراعه:
-هي الإصابة خطيرة؟
أجابه الطبيب بعملية موضحًا:
-الرصاصة في نص صدرها, بس الحمد لله مصابتش أي عضو حيوي, لكن النزيف مستمر وبنحاول نسيطر عليه, نحمد ربنا انها مصابتش القصبة الهوائية رغم انها كانت قريبة جدا منها وعشان كده كانت بتنزف من بوقها.
وعاد للداخل تاركًا "شاهين" في أقصى حالات غضبه, اقترب من أحد الرِجال وطلب منه بفظاظة لفافة تبغ, وأخذها منه يخرج غضبه, وقلقه بها.
اقترب منه "نصر" يقول:
-همشي انا يا شاهين, ومتقلقش هتقوم بالسلامة.
و"شاهين" الآن بدى أكثر وعيًا من اللحظة التي تفاجئ فيها ب"نصر" فسأله مستغربًا:
-عرفت منين إني هنا؟
أجابه "نصر" بضجر:
-بردو بتسأل أسئلة مش وقتها؟ لما خطيبتك تطمن عليها لينا قاعدة مع بعض.
انهى حديثه وربط على كتفه مستكملاً:
-هسيب 3 من رجالتي هنا لحد ما تكلم رجالتك تجيلك.
وضع كفيهِ على جيوب بنطاله وردد بنزق:
-تقريبًا التليفون وقع مني..
-اكيد في مكان الحادثة, انا سيبت هناك ناس من رجالتي يلموا الدنيا اكيد هيلاقوه.
سأله "شاهين" مستغربًا:
-يلموا الدنيا ازاي؟
-يمسحوا أثر الجريمة, ويسكتوا اللي شافها, مش عاوزين شوشرة, هبعت حد من الرجالة بيتك يبلغ رجالتك يجولك.
حرك رأسه بلامبالاة لينسحب "نصر" مبتعدًا وخلفه بعض رِجاله, وبالقرب منه "رأفت" ذراعه الأيمن, فقال له "نصر" بملامح تحولت للغضب العاصف:
-اطلبلي يسري الصاوي... النهاردة يكون عندي.
ويبدو أن "نصر" لن يمرر فعلته على خير, فحتى وإن نجا "شاهين" فقد هدد ذلك الأبلة حياته, وهو لن يسمح له بالتفكير في تكرار فعلته, فإن خابت مرة تصيب الثانية.
----------------
-يا باشا انا شغلي بيكون الصبح.
قالتها "مستكة" بضجر وهي تحدث "مازن" وأكملت:
-لو روحت دلوقتي هيبقى فيه الف سين وجيم, بعدين انا قولت لسعادتك انا سيباها كويسة وكانت نازلة معاه مشوار.
أتاها صوت "مازن" القلِق:
-مش يمكن عرف حاجة وخدها عشان يأذيها.
جلست "مستكة" على سريرها وهي تقطب جبينها بقلق انتقل إليها:
-يوه, هتوغوشني ليه, هو يعني لو عاوز يعملها حاجه هياخدها بره البيت! إذا كان بيته مخصصه للتعذيب.
أتاه رده الحائر:
-مش عارف, يعني انتِ مش هتعرفي أي معلومة غير لما تروحي الصبح؟
أجابته بقلة حيلة:
-والله لو في ايدي شيء كنت عملته, بس مقدمناش غير إننا نستنى للصبح.
وأغلق كلاهما والقلق يتلاعب بعقولهما.
------------------------
" يقرص الموت أذني ويقول عش حياتك! فأنا قادم.
(أوليفر وندل)"
على الفراش الأبيض القابض للقلب رغم بهيج لونه, وعلى ضوء الكشافات الموضوع فوق رأسها وجسدها, كان جميع من بالغرفة يسابقون الزمن لإنقاذها, كمية الدم التي خسرتها ليست طبيعية ابدًا, والنزيف الغير قابل للتوقف في حد ذاته مريب, أصوات أشخاص تختلط بأصوات أجهزة يُفزع لها البدن, وبين كل هذا هي.. في عالم آخر, كالنائم في سباط عميق.. لكنها لا تسمع شيء من حولها, فقط تحلم...
تسير في مساحة كبيرة, أراضي صحراوية موصولة لا نهاية لها, يتصبب منها العرق, ويجف ريقها من العطش, تبحث حولها عن أي منقذ أو سبيل للنجاة, والنهار على وشك الذهاب, والليل يبدأ في إسدال ستائره, وهذا في حد ذاته يرعبها.
هدأت دقات قلبها العالية حين أبصرت شخص يجلس على صخرة تراها جيدًا, فأسرعت في خطاها حتى وصلت له, تهتف من خلفه:
-لو سمحت انا تايهه, قولي على طريق يرجعني.
التف لها الشخص لتبتسم بعدم تصديق, مرددة بابتهاج:
-بابا؟؟ حبيبي انتَ وحشتني اوي, لو كنت اعرف إنك هنا كنت جيتلك من زمان.
أجابها بصوته المألوف:
-كل شيء بأوان يا فُلة, انتِ كمان وحشتيني.
-خلاص انا هفضل معاك هنا مش عاوزه ارجع.
قالتها بسعادة كبيرة وهي تحاول التقدم للصعود للصخرة ليوقفها قائلاً:
-وهتسيبي امك؟ ده انا مطمن عليها عشان عارف إن بنتي بميت راجل, هتحمي نفسها وامها.
وقفت بحزن تقول:
-الدنيا وحشة اوي, وانا مش جامدة زي مانتَ فاكر.
-لا انتِ جامدة, طول عمرك ذكية, وتعرفي ازاي تخرجي نفسك من المصيبة قبل ما تقع على راسك, مفهاش حاجة لما تغلطي كام مرة, واهم بردو بيعلموكي.
-بس غلطاتي دي خلتني زي الفار اللي وقع في مصيدة مستحيل يطلع منها سليم.
-مين قالك كده؟ عمرك ما شوفتي فار هرب من مصيدة! الفار الذكي هو اللي يستنى الفرصة اللي الصياد يفتح فيها الباب وقبل ما يقدر يلحقه يهرب, يهرب وميبصش وراه, بس يبص قدامه, ويلاقي مكان آمن يهرب له, اصله مش هيقعد يجري من غير ما يقف.
نظرت له بحيرة وتفكير, لتسمعه يكمل مبتسمًا:
-الدنيا لونين يا ابيض يا اسود, والألوان اللي في النص رغم انها بتكون هادية لكن مُرة, مفيش اوحش من إنك تقفي في النص, تتمرجحي لا منك عارفة إنك مع الأبيض ولا منك اتأقلمتي إنك مع الأسود, بصي وراكي كده.
نظرت خلفها لتجد المكان قد تحول لطريقين, أحدهم يظلله السواد, والآخر يشع منه البياض, وسمعت صوته يخبرها:
-شوفي هتمشي في انهي طريق, بس خدي بالك, دايمًا البداية بتغر.
وفي اللحظة تذكرت جملة والدها التي قالها منذُ لحظات "طول عمرك ذكية" فوزنت الأمر بعقلها واختارت طريقها, لتخطو نحو الطريق المظلل بالسواد وجملته ترن في أذنيها "دايمًا البداية بتغر" دخلته وسارت بهِ مسافة لا بأس بها تحت خوفها وفزعها من شدة ظلمته, ولكن فجأة ضرب نور قوي في وجهها فوضعت كفها تحجبه عنها, وحين أزالت كفها ببطء اتسعت عيناها وهي تراه أمامها, مبتسمًا, وفي أبهى صوره, يخبرها فاتحًا ذراعيهِ لاستقبالها...
"اتأخرتي عليا, بقالي مدة مستنيكي"
وابتسمت هي, تخطو نحوه خطوات واثقة, سعيدة, والأعين تتحدث, لكنها وقفت أمامه بعدما اختفت ابتسامتها تنظر خلفها بحزن حين لم تجد والدها مرددة:
-بابا..
جذب ذراعيها له وهو يخبرها بابتسامة جميلة:
-طريقه غير طريقك.
وفي غرفة العمليات... كان صوت الطبيب يصدح:
-النبض انتظم أخيرًا, بس النزيف مبيقفش, محتاجين نقل دم حالاً لحد ما نسيطر على النزيف.
---------
-ولما انتَ لسه محتاج دم لها مخدتش دم تاني مني ليه؟
حاول الطبيب أن يشرح له الموقف فقال بعد أن عدل عويناته بشكل صحيح:
_ يا استاذ احنا خدنا منك دم كتير، واكتر من كده هيكون خطر على حياتك، وللأسف بنك الدم عندنا مكانش فيه غير كيس واحد ينفع فصيلتها وهي خسرت دم كتير ومحتاجين نعوضه، وكل اللي واقفين دول مينفعوش معاها.
أشار على الرِجال ضخام الجسد الواقفين في أحد الجوانب بعد أن قام بإجراء فحوصات لمعرفة فصيلة دم بعضهم والبعض الآخر كان يعلم فصيلته والجميع غير متطابق لا يمكنهم التبرع لها.
_هكلم ناس تيجي تتبرع..
وقبل أن يبحث عن هاتفه الذي لا يعلم اين تركه تحديدًا في خضم ما حدث، كان الطبيب يخبره:
_لو مش هيكونوا هنا في ظرف نص ساعة يبقى مفيش داعي تتصل.. لأن أي تأخير مش في صالحها.
نظر له نظرة مميتة وكأنه سيحرقه وهو يسأله بحذر خطير:
_وبعدين؟
ابتلع الطبيب ريقه بتوتر من ملامحه التي تحولت لملامح إجرامية مخيفة، وقال:
_مانا قولتلك من شوية الممرضات بيحاولوا يشوفوا متبرعين في المستشفى هنا، وأن شاء الله هيلاقوا يعني.
_ ولو ملاقوش؟
أمال رأسه قليلاً للجانب وهو يلقي سؤاله، وبدى وكأنه متحفزًا لسماع الجواب ليقدم على شيء ما!
ولكن قبل أن يسمع الجواب وجد أحد الممرضين يخرج من غرفة العمليات وهو يخبر الطبيب بتوتر واضح:
_يا دكتور.. دكتور صفوت بيقولك محتاج كيس دم في ظرف عشر دقايق.
فنظر له الطبيب محاولاً فِهم وجه السرعة، فهمس الممرض بما وصل لمسامع "شاهين" المنصت باهتمام:
_الحالة بتتصفى لسه مش قادرين يسيطروا على النزيف، مش حِمل تأخير...
وقبل أن ينبت الطبيب بحرف كان يشهق بخضة حين وجد ياقتي قميصه بين كفي الثور الهائج الذي أمامه وهو يهدر بعنف وملامح صارخة بغضب:
_هتسحب انتَ من دمي ولا اشرب انا من دمك!
جحظت عينا الطبيب بذهول من عنفوان الذي أمامه، وشعر أنه لا يمزح ابدًا، ومن الرِجال الموجودين معه يبدو أنه سيقدر على فعلها، ولكن ضميره المهني لم يسمح له بالخضوع وهو يخبره بإصرار:
_انا مش هموت شخص عشان انقذ التاني احنا لو سحبنا منك ٥ سم كمان هيحصلك هبوط حاد.
ويبدو أن حديثه لم يلقى استحسان "شاهين" ابدًا، الذي بدى وكأنه على شفا حفرة من تنفيذ تهديده، بعدما ضغط على شفته السفلى بأسنانه بقوة غاشمة كادت تدميها وربما فعلت! في مشهد يشبه مشاهد غضب زعماء المافيا في تلك الأفلام.
ولكن ولأنه طبيب أمين، وصادق، انقذه الرب، حين وجد شاب يقل عن الواقف أمامه في الطول وعرض الجسد القليل، يمسك بقبضة الآخر يقول بنبرة مشحونة ومستنكرة:
_متعرفش تكون بني آدم طبيعي ابدًا، البلطجة بقت بتجري جواك؟
نظر له "شاهين" نظرة جانبية ساخطة وهو يهدده:
_ابعد ايدك يالا.
رفع حاجبه بدهشة مصطنعة وردد:
_يالا! طب نزل ايدك انتَ ومطلعش روح البطلجي اللي جوايا.
وأزال يده بعيدًا عن الطبيب وهو يقول:
-انا موجود يا دكتور, اعمل التحاليل اللازمة, لو ينفع اتبرعلها, خد مني دم واكيد هفيدك أكتر من الجحش ده.
-متختبرش صبري.
قالها "شاهين" مزمجرًا, ليبتسم له "غسان" بسماجة معتادة:
-انا مش اجي اختبر حاجة, انا قولت اساعد, مش عشانك بس عشان عارف إنها لو جرالها حاجة هتقلب تور هايج وهتطربقها على دماغ الكل.
انهى حديثه ونظر للطبيب باستغراب:
-ما يلا يا دكتور ولا حابب تكمل معانا الحوار!
تنحنح الطبيب بخجل وهو يشير له للدخول لغرفة مجاورة, وأشار للمرض الواقف معه أن يتبعه, وعاد هو لغرفة العمليات.
وبعد عدة دقائق خرج "غسان" وهو يعدل ملابسه, وقال بمرح سخيف:
-ليكوا الشرف إنكوا خدتوا من دمي, كده اضمن إن عيالك كمان هيبقى فيهم منه.
لم يعقب "شاهين" على سخافته, ولم يكن لديهِ طاقة لأي حديث معه, فاستند على الحائط خلفه والتزم الصمت, مما جعل "غسان" يفعل المثل, ولكنه لم يصمت بل سأله:
-عرفت مين اللي وراها؟
-لسه, تفوق بس وهعرفه.
هز "غسان" رأسه يقول بعدم رضى:
-بس ياريت متلبسش نفسك مصيبة زي زمان.
نظر له بعينيه الغاضبة وردد من بين أسنانه:
-ولو رجع بيا الزمن هعمل نفس المصيبة تاني.
سخر "غسان" وهو يغمغم بألم مخفي:
-المصيبة اللي خسرتنا بعض.
-انتَ اللي غبي, لسه مش قادر تفهم إني عملت الصح وقتها.
-ولا عاوز افهم.
قالها منهيًا الحوار, فالتزما الاثنان الصمت وكلاً منهما شاردًا في أفكاره.
---------------------
"الحمد لله سيطرنا على النزيف والحالة حاليًا كويسة, بس هتفضل 48 ساعة تحت الملاحظة قبل ما نحدد وضعها النهائي"
كانت الجملة التي سمعها "شاهين" من الطبيب قبل أن يتحرك فورًا وهو يبصر رِجاله قد حضروا, وتحرك خلفه "غسان" يسأله باستغراب:
-رايح فين؟
-مرسي خليك هنا انتَ واتنين من الرجالة, مش عاوز دبانة تقرب منها.
اومأ "مرسي" بطاعة, وذهب باقي رِجاله خلفه, ليهدر "غسان" بغضب وهو يجذبه من ذراعه ليوقفه أمامه:
-بقولك سايبها ورايح فين؟
أجابه بشراسة وملامح تدل على الشر المطلق:
-متعودتش يبدأ يوم جديد من غير ما اصفي حساباتي..
نظر لساعته ثم قال بابتسامة قاسية:
-الساعة 2 يعني فاضل 3 ساعات على النهار ما يطلع, يدوب الحق.
وتخطاه مسرعًا في خطواته و "غسان" خلفه يغمغم بغيظ:
-مش قولت تور هايج..
.........يتبع...............
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق