رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل السادس وعشرون 26بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل السادس وعشرون 26بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات
ـ ٢٦ ـ
~ ميثاق أبدي ! ~
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في المساء..
جلس عمر متأمّلًا، ممسكًا بهاتفه في يدٍ، وفي الأخرى ورقة صغيرة تحمل رقم ميرال. راح يتأمل الأرقام وكأنها سرّ غامض، يفكّر: هل يتصل بها مباشرة، أم يرسل رسالة أولًا؟ وإن فعل، ماذا سيقول؟ وكيف سيجيب إن سألته عن الطريقة التي حصل بها على رقمها؟
لم يعتد يومًا على مثل هذا التردّد، فهو الذي اعتاد أن تأتيه الفتيات في أيام الدراسة والجامعة، يعرضن عليه أرقامهن طوعًا، ويتسابقن على لفت انتباهه. حتى أن اثنتين منهن كادتا تفقدان صداقتهما، وانتهى بهما الأمر إلى الفصل من الكلية بسبب خلاف حول رقم هاتفه.
لطالما نادوه بالفتى الثري، والدنجوان، لا لوسامته وحسب، بل لثرائه وصيت عائلته العريض؛ فهو ابن رجل وسيدة من علية القوم، وأخٌ لرجل أعمال يجمع بين الوسامة والمال والنفوذ.
لكنّه الآن أمام ميرال، يشعر أنه مجرّد شابٍ صغير، ضئيل أمام وهجها، بعيد تمامًا عن متناول يديه. كأنها نجمٌ في سماء بعيدة، يحتاج إلى جهدٍ عظيم ليقترب منها، بل ليحظى فقط بسماع صوتها.
وبعد لحظاتٍ طويلة من الصراع مع نفسه، اتخذ قراره أخيرًا: سيتصل. أما ما سيحدث بعد ذلك، فسيدعه للقدر، وهو يردّد في داخله: القدر لا يستجيب للمترقّب… والإناء المراقب لا يغلي.
كتب عمر رقم ميرال وضغط زر الاتصال، وألصق الهاتف بأذنه، يستمع إلى الرنين المتكرر.. مرة، مرتين، ثلاثًا، حتى جاءه صوتها أخيرًا، ناعسًا، متثاقلاً:
ـ ألو ..
ارتبك قلبه بشدة، يكاد ينتفض بين ضلوعه، وقال بتحفّز:
ـ ألو.. ميرال.. ؟؟
لم يعرف ما سر كل ذلك التوتر الذي اجتاحه فجأة. صمتت ميرال للحظات، وكأنها تعرفت على صوته، ثم سألت بحذر متحفز:
ـ مين حضرتك ؟!
أجاب بسرعة، بنبرة يختلط فيها الارتباك بثقة يحاول اصطناعها، وابتسامة قصيرة ارتسمت على شفتيه:
ـ أنا عمر !
حلّ صمت جديد من طرفها، وكأنه كان يتخيل وجهها الآن، عابسًا غاضبًا، يكاد يخرج من الهاتف ليخنقه. ثم جاء صوتها حادًا:
ـ عمر مين ؟!!
تجمدت ملامحه، وسقطت ثقته فجأة، هل يعقل؟! كأنها لا تعرفه على الإطلاق، كأن مروره اليوم لم يترك أي أثر! زفر بيأس وقال بنبرة أقل ثقة:
ـ عمر مرسال ..
لكن صوتها جاء كالصاعقة:
ـ وجبت رقمي منين يا أستاذ عمر ؟!!!
ولم تترك له مجالاً ليجيب، بل تابعت بحدة أشد:
ـ و ليه أصلا ؟! بتكلمني ليه ؟! هو أنا مش قلت لك قبل كده معاك رقم الدار لو في أي مشكلة تتصل عليه ؟! هو حضرتك مبتفهمش ؟!!
ارتفع حاجباه اندهاشًا وقال منزعجًا:
ـ حضرتي مبفهمش ؟!!! ولزمتها إيه حضرتي بقا ؟!
فقاطعته بلا رحمة، بصوت ممتلئ بالانفعال:
ـ اسمع يا أستاذ عمر .. إنت سببت لي مشكلة النهارده في الدار وكنت هتفصل بسبب كذبك ، أنا فاهمة ألاعيبك كويس أوي !! بتعمل كده علشان تنتقم مني لأني مش عطيالك وش ! طبعا.. ماهو حضرتك فاكر إن كل البنات اللي في الكون شبه بعض ومخك العاطل رافض يستوعب إزاي بنت تصدك بالشكل ده !
ـ ميرال انتي فاهمة غلط..
لكنها لم تمهله، وقاطعته بصرامة أشد، مسترسلة بغضب متوهج:
ـ اسمع يا أستاذ عمر .. أقسم بالله لو حاولت تعترض طريقي مرة تانية وتسبب لي أي مشكلة لأي غرض دنيء في دماغك أنا هلجأ لفريد بيه وهو اللي هيقف لك .. يا رب تكون الرسالة وصلت !
وأغلقت الخط.
ظل عمر في مكانه مشدوهًا، حاجباه مرفوعان، عيناه متسعتان، ولسانه قد عُقد من هول الصدمة. خفض الهاتف عن أذنه، يحدّق به بذهول، متمتمًا باستنكار:
ـ يا بنت المجانين ؟!!!
أخذ يفكر في تهديدها الجاد، فهي بلا شك ستتصل بفريد وتخبره بما حدث من وجهة نظرها. لذا، لم يجد بُدًا من أن يبادر هو بالاتصال بأخيه وشرح الأمر قبل أن يصله مشوهًا.
اتصل بفريد، فأجابه الأخير فورًا:
ـ أيوة يا عمر.. عامل إيه ؟
ـ زي الزفت..
ساد صمت قصير من طرف فريد، ثم سأله بتركيز:
ـ ليه ؟؟ في إيه ؟؟
زفر عمر وقال متردداً:
ـ تعرف ميرال ؟!
فأجابه فريد بثقة:
ـ أكيد أعرفها ، مالها ميرال !
أطلق عمر تنهيدة طويلة وقال:
ـ أنا بقا حاسس إني بحب ميرال !
ساد الصمت بينهما لحظةً، ثم قال فريد بفتورٍ متحفّظ:
ـ مممم.. حاسس إنك بتحب ميرال إزاي بقا ؟!
ـ يعني مشغول بيها وبفكر فيها، ولما شفتها في الدار النهارده قلبي اتكلبش كده ومبقتش على بعضي، وطول ما انا في الدار عيني منزلتش من عليها..
ظلّ فريد واجمًا، يصغي لأخيه بصبرٍ يختلط بالريبة، حتى نطق أخيرًا:
ـ وبعدين ؟!
ـ وبعدين بقا حسيت اني عاوز أكلمها ..
ـ بردو حسيت؟! إنت كل حاجه عندك بالاحساس !
ـ لو سمحت يا فريد متقاطعنيش أنا اللي فيا مكفيني..
ـ مم.. كمل يا مُرهف .. وبعدين؟
ـ بعد ما حسيت بقا اني عاوز أكلمها حسيت إني لازم أجيب رقمها ..
ـ طبعا.. و دي تفوتك !
كان عمر يدرك تمامًا أن ردود أخيه ساخرة، تحمل وراءها امتعاضًا شديدًا، لكنه واصل حديثه مترددًا، يحكّ جانب عنقه في قلقٍ ظاهر، وكأنّه يتهيّب العاصفة التي قد يثيرها فريد:
ـ فعملت حوار عبيط كده ..
ـ عملت إيه ؟!! سأله فريد بعينين متقدتين، ونبرته مشحونة بالتهديد، كأنه يتهيّأ للانقضاض.
أجاب عمر بصوتٍ مرتجف:
ـ قلت لمديرة الدار إني شفتها بتعامل الأطفال بطريقة مش لطيفة واني عاوز ألفت انتباهها بنفسي.
انغمس المكان في صمتٍ ثقيل، ذلك الصمت الذي كان أشدّ على عمر من أي عتاب. وأخيرًا سأل فريد ببرودٍ مخيف:
ـ وده حصل منها فعلا ؟!
ـ لأ .. أنا عملت كده علشان أخد رقمها بالطريقة يعني .
لم يتفوّه فريد بكلمة، فتدافع عمر ليكمل اعترافه، وكأنّه يفرغ ما يثقل صدره دفعةً واحدة:
ـ وبعدها مس رئيفة كانت مصممة تفصلها بس الحمدلله ربنا ستر ، وأنا دلوقتي جربت أكلم ميرال شلّفتني وكيّلت لي وادتني من المنقي خيار !! وقالتلي إني عملت كده عشان انتقم منها علشان هي مش مدياني وش !! وأنا اصلا مفكرتش في كده نهائي، أنا كان كل همي أجيب رقمها وخلاص ..
وارتخى جسده في انكسارٍ ظاهر، حتى تدلّت كتفاه كمن يحمل ثِقلاً عظيمًا، وقال مستسلمًا للهزيمة:
ـ بصراحة حاسس اني مهزأ أوي !
كانت الدماء تغلي في عروق فريد، كأن رأسه على وشك الانفجار، ومع ذلك نطق بنبرةٍ متماسكة ظاهرًا، يخبئ تحتها جمرة غضبٍ ملتهبة:
ـ حاسس مش متأكد ؟
ـ قصدك إيه ؟!
أجابه فريد وقد نفد صبره تمامًا:
ـ هو انت بتحكيلي ليه يا عمر ؟! جاي بعد خراب مالطا وبعد ما نيلت الدنيا تكلمني علشان أصلح العبط اللي عملته ؟
أجابه عمر ببساطةٍ قاتلة، كادت أن تستنزف أعصاب فريد حتى آخرها:
ـ لأ انا بحكيلك قبل ما هي تحكيلك، ما هي بعد ما رصتهم لي قالتلي إنها هتلجأ لك لو حاولت أعترض طريقها تاني، فقلت أكلمك وأوضح لك علشان تكون فاهم ٱيه اللي حصل بالظبط.
تنهد فريد وهو يصارع لجم جماح غضبه، ثم تمتم مستعينًا بالصبر:
ـ يا الله يا ولي الصابرين!!
وبصوتٍ متماسك قدر استطاعته قال:
ـ اسمعني يا عمر.. ميرال مش سكتك أبدا .. البنت في حالها ومش بتاعة حركات من دي !!
فسأله عمر بضيقٍ لا يخلو من التذمر:
ـ يعني إيه مش سكتي يا فريد ؟! هو أنا مالي؟!
ـ يا حبيبي انت زي الفل وعلى راسي من فوق، بس ميرال مش مناسبة ليك يا عمر ! هو بالعافية ولا إيه ؟!
ثم أردف بلهجةٍ غاضبةٍ كالرعد:
ـ وبعدين انت علشان تجيب رقم البنت تقوم تورطها بالشكل ده ؟! انت كده كويس يعني؟! راضي عن اللي عملته ده ؟! لما كنت تتسبب في فصلها من المكان الوحيد اللي آويها وبتصرف على نفسها منه كنت هتبقى سعيد ومبسوط ؟!
أطرق عمر برأسه إلى الأرض، والحرج يكسوه كوشاح ثقيل، وقال بخفوت:
ـ أنا آسف !
ـ أنت بتتأسف لي أنا ؟! انت مغلطتش فيا، انت غلط فيها هي لما افتريت عليها وقلت حاجة محصلتش !
لكن عمر ـ وكعادته ـ أجاب ببرودٍ واستهانةٍ تُذيب صبر أخيه:
ـ افتريت إيه يا فريد متكبرش الموضوع!!
ـ لأ يا عمر الموضوع كبير.. وانت مبقتش صغير علشان تتصرف بالطيش ده! عمر انت راجل مش عيل صغير !! انت عندك ٢٥ سنة ولازم تكون مسؤول عن تصرفاتك وقبل ما تاخد الخطوة تكون عارف عواقبها إيه !!
تنهد عمر بمللٍ وضجر، ثم قال:
ـ حاضر ، أوعدك مش هفكر بالطريقة دي تاني !
ـ تمام.. اتصل بيها اعتذر لها حالا، وقول لها إنك مش هتكرر اللي عملته ده وعرفها إنك هتمسح رقمها ومش هتضايقها تاني.
ـ بس أنا مش عاوز امسح الرقم يا فريد ! أنا ما صدقت جبته !
كاد فريد أن يُصرع من فرط رعونة أخيه، فرفع بصره إلى السماء وهو يلهث بعجزٍ موجوع:
ـ ياا رب ، كده كتير عليا والله مش عارف هلاقيها منين ولا منين.. !!
ثم أردف بصوتٍ حازمٍ لا يقبل التردد:
ـ امسح الرقم يا عمر ومتضايقش البنت تاني وخليك راجل ! مفيش راجل بيفرض نفسه على بنت مهما كان بيحبها … أه معلش … مهما كان " حاسس " إنه بيحبها !!
شدد على الكلمة الأخيرة وكأنه يغرسها في قلب أخيه تذكيرًا بما ابتدأ به، فتنهد عمر طويلًا ثم قال بإذعان :
ـ حاضر يا فريد .. هعمل كده .
ـ برافو يا عمر .. كلنا بنغلط، ومهما كان حجم الغلط ومهما كنا كبار مش عيب نعتذر , الاعتذار من شيم الرجال يا مهزأ .
ثم أطلق زفرةً ثقيلة، وهو ينهي الاتصال مثقلًا بالغضب والخذلان، كمن خرج من معركةٍ لم يكسب منها سوى الإنهاك.
~~~~~~~
المكان : فندق ناسيونال ـ هافانا ـ كوبا
الزمان : الساعة 4:00 مساءًا
استيقظ عاصم وهو ما يزال مغمض العينين، مدّ يده بجواره ظانًا أنه سيجد نسيم هناك، لكن المفاجأة كانت في الفراغ الذي صادف يده. فتح عينيه على الفور، ليقع بصره عليها واقفة في الشرفة، مسنِدة كفيها إلى السور، وهي تبدو من هيئتها وكأنها غارقة في لحظة صفاء عميقة مع نفسها.
ابتسم برضا وسعادة لأجلها، وهو يدرك كم عانت من قسوة وظلم وحرمان، أمور لم يكن بوسع بشر عادي أن يحتملها. ومنذ أن دخلت حياته، جعل من إسعادها وتدليلها مهمة كبرى على عاتقه، لن يدّخر في سبيلها جهدًا حتى يتمّها على أكمل وجه.
نهض من الفراش وسار نحوها بخطوات هادئة، ثم وقف خلفها، أزاح برفق خصلات شعرها وقبّل خدها بقوة قائلاً مبتسمًا:
ـ صباح الخير يا نسومه…
استقبلت قبلته بسعادة، وأجابته بهدوء وهي ما تزال تنظر إلى الأفق:
ـ صباح الخير بتوقيت هافانا ..
أومأ مبتسمًا وهو يقول:
ـ صحيح.. الساعة دلوقتي في مصر تقريبا ١١ بالليل ..
أومأت بحماس، فتمدد هو على مقعد في الشرفة، وجذبها لتجلس فوق قدميه محيطًا خصرها بذراعيه كمن يملك كنزًا لا يفرط فيه:
ـ صاحيه بدري ليه ؟! ملحقتيش تنامي !.
ابتسمت، ثم أعادت نظرها إلى المحيط الممتد أمامها قائلة:
ـ أنا ما نمتش أصلا !
نظر إليها متعجبًا، فأومأت مؤكدة وأضافت:
ـ مش عاوزة اضيع الوقت في النوم، ما أنا طول عمري نايمة .. !
ارتسمت ابتسامة حزينة على شفتيها، فابتسم هو بدوره بحزن مماثل، وأخذ يمسد ذراعيها بحنان وهو يقول:
ـ ماشي ي حبيبي بس لازم ترتاحي بردو علشان يكون عندك طاقة وتقدري تستمتعي باليوم، وبعدين متفكريش في حاجة، إن شاء الله العمر قدامنا وهنعمل كل اللي نفسنا فيه وهنلف الدنيا كمان ..
تنهدت بخفوت وسألته بعينين قلقتين:
ـ تفتكر ؟! تفتكر السعادة دي هتدوم ؟!
اهتزت حدقتاه قليلًا، فقد وضعت إصبعها على السؤال الذي يراوده منذ البداية. ومع ذلك، رسم ابتسامة بطيئة على شفتيه وهو يجيب بما يتمناه:
ـ طول ما احنا مع بعض أكيد هتدوم .
عادت تتنهد وهي تستسلم لشرودها وتنظر إلى الأمام قائلة بتمني:
ـ يا رب .
جذب رأسها ليتكئ على صدره، وهمس مطمئنًا:
ـ إن شاء الله يا حبيبتي، مش عاوزك تفكري في حاجه خالص وعيشي اللحظة وبس.. مش مطلوب منك أكثر من كده .
شعرت نسيم براحة واضحة، فأضاف مبتسمًا:
ـ المفروض دلوقتي نفطر وننزل نشوف عربية تودينا على إسكامبراي .. عاوزين نخلص من حلم التخييم خلينا نشوف غيره .
ضحكت بخفة، فتألقت ابتسامتها بوميض الحماس، فقال وهو يمرر إبهامه على ملامحها بحب:
ـ فرحانة ؟!
هزّت رأسها بقوة، فابتسم بدوره وأضاف:
ـ وأنا فرحان علشانك فرحانة .. بحبك أوي .
اقتربت منه وعانقته بقوة وهي تقول بصدق يغمر كلماتها:
ـ وأنا كمان بحبك أوي يا عاصم .. بحبك أكتر من أي حد ومن أي حاجه.. مش بحب غيرك أصلا !
قفز قلب عاصم بسعادة غامرة، لم يصدق ما تسمعه أذناه، ولم يستوعب قلبه المسكين أنها تعشقه إلى هذا الحد. عانقها بقوة أكبر وهو يردد بصدقٍ لا يتزعزع:
ـ وأنا عمري ما حبيت ولا هحب غيرك !
تنفست بعمق، ثم انتزعت نفسها من بين ذراعيه ونهضت بخفة وهي تقول:
ـ أنا بقول نجهز علشان منضيعش وقت !
أومأ موافقًا وقال:
ـ طيب يلا جهزي نفسك على ما أطلب الفطار.
وبالفعل، اتصل بإدارة الفندق وطلب إرسال الإفطار، ثم شرعا كلاهما في الاستعداد ليوم جديد من المغامرة.
أول ما قاما بفعله هو تجهيز الحقيبة، ومن ثم بدلّا ثيابهما ثم جلسا يتناولان الفطور على الطاولة الصغيرة في الشرفة؛ قطع من الخبز الكوبي الطازج، بعض الفاكهة الاستوائية، وقهوة داكنة ذات رائحة قوية.
كانت نسيم تضحك وهي تجرّب البابايا لأول مرة، تقطع قطعة صغيرة وتتذوقها بفضول، بينما عاصم يراقبها وكأنه يختزن تفاصيل اللحظة في ذاكرته. اقترب منها مبتسمًا وقال:
ـ على فكرة.. هنا في كوبا ما بيقولوش على الفاكهة دي "بابايا" .
نظرت إليه بدهشة:
ـ طب ليه !
ضحك بخفّة وغمز لها:
ـ أصل الكلمة دي عندهم عامية.. ومعناها مش لطيف أبدا ..
اتسعت عيناها ووضعت يدها على فمها ضاحكة بخجل:
ـ يا خبر!
قهقه عاصم وهو ينظر إليها ويقول :
ـ عشان كده الكوبيين بيسموها فروتا بومبا.. أحسن وأأمن.
ابتسمت وهي تهز رأسها بخفة:
ـ كويس انك قلت لي.. خلاص من النهارده اسمها فروتا بومبا .
ابتسم وهو يربت على يدها وقال مازحًا:
ـ لحد ما نرجع اسمها فروتا بومبا، بدل ما يرحلونا على مصر بتهمة خدش الحياء العام..
وأكمل وهو ينظر في طبقه ويكمل متهكمًا:
ـ وأنا مش ناقص تهم !! مش معقول يعني كل ما أسافر بلد أعمل مصيبة !
ضحكت بهدوء وتابعت فطورها بصمت.
بعد الإفطار، أنهيا تجهيزاتهما سريعًا، ارتدى عاصم قميصًا قطنيًا خفيفًا وسروال جينز، وانتعل حذاءه الرياضي، فيما ارتدت نسيم قميصًا أبيض فضفاضًا وبنطالًا عمليًا، وربطت شعرها في ذيل حصان مريح.
نزل الاثنان إلى بهو الفندق، حيث كانت الأجواء هادئة، ورائحة الزهور الاستوائية تعبق المكان.
عند البوابة الخارجية، لم يطل بهما الوقت حتى وجدا مكتبًا صغيرًا لتأجير السيارات. فوقف عاصم يتحدث مع الموظف بالإسبانية، ثم التفت لنسيم قائلا بابتسامة:
ـ كده تمام ، لقيت عربية جيب مناسبة تودينا لحد هناك.
لمحت نسيم السيارة من بعيد، جيب قديمة الطراز بلون أخضر زيتوني، ملامحها كأنها خرجت من فيلم كلاسيكي، فضحكت قائلة:
ـ أنا حاسة إني داخلة مغامرة حقيقية!
رد عاصم مبتسما، وهو يضع يده على كتفها برفق:
ـ وهي دي الفكرة بالظبط، نعيش المغامرة على أصولها.
اقتربا من السيارة، ساعدها على الصعود، ثم جلس خلف المقود، أدار المحرك الذي أصدر صوتًا أجشًّا مميّزًا، فانطلقت السيارة بهما في شوارع هافانا المتعرجة، متجهة نحو جبال إسكامبراي، حيث ينتظرهما حلم التخييم بين الطبيعة البكر.
بدأ الجيب يتوغل شيئًا فشيئًا داخل الطرق الجبلية الوعرة، حيث ضاق الطريق وتعرّج بين المنحدرات الخضراء. الأشجار الكثيفة من كل جانب صارت تحيط بهما كجدار طبيعي، وأصوات الطيور الاستوائية تصدح من بين الأغصان.
كانت نسيم تلتفت يمينًا ويسارًا بعينين مبهورتين، بينما عاصم يركز في القيادة، يتنقل بين المنعطفات بحذر وابتسامة لا تفارق وجهه.
وبعد ساعة تقريبًا، وصلا إلى نقطة مرتفعة تطل على وادٍ أخضر واسع يتخلله شلال يتدفق من قمة جبلية بعيدة. توقّف عاصم بجانب مساحة مستوية تصلح للتخييم، ثم قال بحماس وهو يشير إلى الأفق:
ـ إيه رأيك يا نسوم ؟! أنا شايف إن المكان ده مثالي نبدأ منه.
ترجلت نسيم من السيارة، فتلقاها الهواء الجبلي البارد، فانكمشت قليلًا ثم أخذت نفسًا عميقًا وكأنها تتذوق نقاءً لم تختبره من قبل.. وقالت:
ـ حلو أوي… يا ريت نفضل هنا دايما .
ابتسم ومال نحوها، طبع قبلة سريعة على شفتيها وهو يقول :
ـ إن شاء الله هنيجي دايما ، مش هتكون آخر مرة .
استدارت تنظر حولها بحماس وعلى شفتيها تستقر ابتسامه حيوية ، فيما كان عاصم قد أخرج خيمته الصغيرة وبدأ بنصبها بمهارة، بينما كانت نسيم تساعده وهي تضحك:
ـ إيه الشطارة دي بس!
رد ضاحكًا وهو يغمز إليها بمكر وهو يثبت الأوتاد:
ـ عيب عليكي.. جوزك شاطر في أي حاجه.
ابتسمت وأومأت بموافقة وهي تنظر إليه بعينيها الآسرتين، بينما هو يطرق على الوتد بحماس، لكن في لحظة شرود وهو غارق في عينيها، أخطأ الهدف وطرق على إصبعه. فقفز متألمًا وهو يلقي المطرقة من يده فجأة.
انفجرت نسيم ضاحكة ضحكًا متواصلًا، تحاول كتمه فلا تقوى، فيما كان عاصم ينفخ في إصبعه المتألم متصنّعًا الجديّة وهو يقول:
ـ بتضحكي؟! تعرفي لو شفتك بتبصي لي بعينيكي الحلوة دي تاني من هنا لحد ما أخلص هعمل فيكي إيه ؟
أطالَت النظر في عينيه بنبرة تحدٍّ يفيض منها الغواية، ثم سألت:
ـ هتعمل إيه ؟!
رفع حاجبه متهكمًا وقال:
ـ مش عارفة هعمل إيه ؟!
هزّت رأسها نافية بخفة، وهي تتراجع خطوة إثر أخرى إلى الوراء، بينما كان هو يتقدّم نحوها بخطى ثابتة. وفجأة، أسرع بخفة والتقطها بين ذراعيه، يحيطها بقيدٍ من عزم وقوة، ثم يحدّق في عينيها قائلاً:
ـ هبوس كل عين من عينيكي الاتنين قد عشره خمستاشر مرة كده..
ابتسمت نسيم بسعادة خاطفة, فيما كانت وجنتاها تتورّد إثر نظراته التي تشرح لها باستفاضة عن عشقه لها وولهه بها، فزاد قبضته عليها قليلًا وقال بهمس حالم فاجئها :
ـ تعرفي أكتر حاجة نفسي فيها إيه ؟
هزت رأسها باستفهام، فأجابها وهو يمعن النظر داخل عينيها:
ـ نفسي في طفل منك يا نسيم !
التمعت عيناها بدموع لم تتمكن من كبحها، فقال :
ـ دي أمنية حياتي الحالية .. عاوز أكون أب، عاوز ولاد منك.. نفسي يكون عندي ولاد أوي بس شرط أساسي يكونوا منك .. انتي وبس! نفسي فيهم مش علشان أكون أب وبس !! لأ .. نفسي فيهم لأنهم هيربطونا ببعض وهيفضلوا شاهدين على حُبنا، على كل لحظة بنعيشها سوا .
تخيّلي يا نسيم.. ولد يضحك بنفس ضحكتك، أو بنت صغيرة عيونها شبه عيونك.. هبص في وشّهم كل يوم وأشوفك إنتي.
أنا مش عاوز بس أكون أسرة، أنا عاوز حياة مليانة بيكي، أنتِ الأساس، وأي حاجة بعدك تبقى امتداد ليكي.
اقترب أكثر وهمس بحرارة يفيض بها قلبه:
ـ لو اتحققت الأمنية دي، هابقى أسعد راجل في الدنيا. ومهما الدنيا دارت بينا.. وجود ولاد منك هيخليني مطمّن إنك عمرك ما هتروحي مني.
عانقته نسيم وقد انسابت دموعها في صمت، وابتسمت وسط عبراتها وهمست:
ـ عاصم أنا بحبك أوي، إنت حياتي كلها.. مقدرش أبعد عنك مهما حصل .
ـ اوعديني .
قالها بصوت خال من الحياة، يعج بالخوف والأمل في آن.
ـ أوعدك .
قالتها بصوتٍ مفعم بالحب واليقين، كأنها تُقسم بروحها لا بكلماتها.
شدّ عاصم ذراعيه حولها أكثر، حتى كاد يذيبها في حضنه، وهمس قرب أذنها:
ـ الكلمة دي أغلى عندي من الدنيا كلها.. أوعدك يا نسيم، طول ما فيا نفس، عمري ما هسيبك.
رفعت وجهها تنظر إليه من خلال دموعها، وابتسمت ابتسامة واهنة لكنها مليئة بالشغف، ورددت:
ـ إنتَ قدري اللي اخترته بإرادتي.. وإنتَ أماني اللي عمري ما هتخلى عنه.
تبادل الاثنان نظرة طويلة، اختلط فيها الحُب بالعهد، وكأنهما قد كتبا لتوّهما ميثاقًا أبديًا لا يُكسر.
༺═────────────────═༻
كان فريد ممسكًا بحاسوبه، يعيد مشاهدة تسجيلات كاميرات الدار بعد أن لفت عمر انتباهه بما قاله. ففريد، وإن كان مشغولًا بأموره، لم ينقطع يومًا عن متابعة ما يجري هناك، غير أنّه منذ سفره انصرف قليلًا عن المراقبة. والآن، أيقظت كلمات عمر في نفسه دافعًا للعودة ومراجعة ما فات من أيام.
ولكن المفاجأة التي صدمته لم تكن في شيء مما توقّع، فقد رأى نغم رفقة عمر!
لم يكن يتوقع وجودها، ولم يخبره عمر بذلك، وهذا ما أثار ضيقه وأشعل بداخله عاصفة من الشكوك والتساؤلات.
ظلّ يتأمل كل لحظة ظهرت فيها، منذ دخولها مع عمر إلى الدار، مرورًا باستقبال الأطفال لها، وانغماسها بينهم بالفرح، وجلوسها إلى بدر.
كان يراقبها بشغف لم يخفت لحظة، يلتقط بعينيه كل حركة وسكون، يستشعر دفء ضحكتها وهي تشارك الأطفال فتح الهدايا واللعب ببراءة طفلة بينهم.
رآها كأنها وجدت ذاتها وسطهم، فخطر بباله ما لم يكن ليخطر على ذهنه من قبل لولا ما شاهده.
مدّ يده إلى الهاتف، واتصل على الفور بالسيدة رئيفة مديرة الدار والتي أجابته بصوت متوجس:
ـ مساء الخير فريد بيه.
ـ مساء الخير يا مس رئيفة، آسف إني بتكلم في وقت متأخر، لكن الموضوع بالنسبة لي مهم جدًا.
ـ تحت أمرك يا فريد بيه في أي وقت.. اتفضل؟
سحب فريد نفسًا عميقًا ثم قال:
ـ اسمعيني يا مس رئيفة، طبعًا إنتِ عارفة نغم..
ـ أكيد حضرتك، آنسة نغم خطيبتك!
أغمض عينيه بتعب ولم يعلّق على قولها سواء بالنفي أو الاثبات، بل تابع بجدية:
ـ نغم محتاجة الشغل جدا، وخصوصًا في الدار. هي هتفرح جدًا وهتلاقي نفسها وسط الأطفال، ولو عرضتوا عليها إنها تشتغل مشرفة، أنا واثق إنها هتوافق من غير ما تفكر.
كانت لديها تساؤلات كثيرة، لكنها آثرت كتمانها وقالت بترحيب:
ـ طبعًا يا فريد بيه، المكان مكانك، واللي تؤمر بيه يتنفذ.. بس حضرتك شايف إنها مهيأة تشرف على ما يقارب من خمسين طفل وطفلة؟
تنهد فريد وأجاب بثقة:
ـ نغم حالها من حال كل الموجودين في الدار يا مس رئيفة، هي كمان يتيمة من صغرها. وعشان هي عارفة يعني إيه حرمان من الأب والأم، فهي أكتر واحدة تقدر تطبطب عليهم وتدعمهم. أنا واثق من كده!
ـ تمام، اللي تشوفه حضرتك. لو جت هنا تاني هعرض عليها الفكرة.. وربنا يقدم اللي فيه الخير.
ـ إن شاء الله خير. على العموم، مش محتاج أوصيكي ولا كأني كلمتك.. لازم تفضل فاكرة إن العرض ده لأنكم محتاجين مشرفة وشايفينها مناسبة.
ـ متقلقش أبدًا يا فريد بيه، أنا هظبط كل شيء.
أومأ فريد بشيء من الراحة، وأنهى الاتصال، ثم عاد يحدّق في شاشة الحاسوب أمامه، يقتنص منها ابتسامة، عبوسًا، أو ضحكة مفعمة بالحياة، ويحفظها جميعًا في قلبه وبين طيات روحه.
وبينما هو غارق في متابعة نغم عبر التسجيلات، رنّ هاتفه برقم مجهول، فأجاب ليأتيه صوت أنثوي ناعم، يقول بنبرة إنجليزية متقنة:
ـ مساء الخير فريد، معك سيلين!
༺═────────────────═༻
بعد أن انتهيا من نصب الخيمة، أشعل عاصم موقدًا صغيرًا، ووضع فوقه إبريق ماء ليُعدّ القهوة. جلست نسيم على صخرة قريبة، تنظر إلى الأفق الذهبي الذي بدأ يتلوّن بلون الغروب، وقالت بصوتٍ ممتزج بالدهشة والسكينة:
ـ عمري ما تخيلت إني هاجي مكان حلو زي ده في حياتي !
ناولها كوب القهوة الساخن وجلس بجوارها، ثم قال وهو يتأمل الأفق:
ـ معاكي حق، المكان هنا رهيب!
أومأت بصمت، وساد بينهما صمت هادئ، فقط صوت الشلال البعيد وعصافير الليل التي بدأت تنادي.. بينما هو بدأ يحكي قائلا :
ـ تعرفي إن المكان اللي احنا قاعدين فيه كان واحد من أهم مراكز العصابات في الخمسينات ؟!
هزت رأسها بتعجب ، فأومأ مؤكدا وهو يلتقط حجر أملس من الأرض بجواره ويقذفه نحو الشلال ويتابع :
ـ تسمعي عن " تشي جيفارا " المناضل الثوري ؟!
ـ مش عارفة حكايته كاملة لكن أه سمعت عنه طبعا ..
ـ أهو " تشي جيفارا " ورجالته كانوا بيستخدموا التضاريس الجبلية ومن ضمنها المكان ده بالتحديد كملجأ استراتيجي علشان يصعبوا على الجيش مطاردتهم.. كان عندهم أمل ثورتهم تنجح ويتحرروا ويساعدوا غيرهم يتحرروا من الظلم والاستغلال ..
ـ وبعدين ؟! انتصر ؟
نظر إليها عاصم بهدوء، وابتسم ابتسامة حزينة وقال :
ـ اتعدم !
انزوى ما بين حاجبيها بصدمة، فتابع :
ـ بعد ما ساب كوبا وقرر يسافر على بوليفيا ويقود حملة جديدة للثوار هناك اتقبض عليه واتعدم بأمر من قائد الجيش البوليفي! .
وتابع وهو ينظر أمامه بشرود :
ـ كان عمره ٣٩ سنه .. قائد الجيش البوليفي الظالم أمر وقتها إنه يتدفن في مكان سري محدش يعرفه، لكن في التسعينات اتعرف مكانه وتم نقل رفاته لكوبا مرة تانية واتعمل له ضريح هنا.. وبقا مزار مهم جدا.. ابقي فكريني نروح نزوره .
سكتت برهة، تتأمل كلماته.. فهي تدرك تمامًا أن ما يرويه عاصم لا يأتي عبثًا ولا يُقال لمجرد التسلية. أترى أراد أن يشاركها القصة في هذا التوقيت تحديدًا لغرضٍ أعمق؟ أم أن وراء حديثه معنى خفيّ لا يزال يخفيه عنها؟
༺═────────────────═༻
ـ مساء الخير فريد ، أنا سيلين ؟
صمت فريد لبرهة، ثم قال بهدوء:
ـ مرحبا سيلين، كيف حالك ؟
صمتت سيلين قليلا، ثم قالت بنبرة باكية :
ـ الحقيقة أنا لست بخير أبدًا ، أعلم أن اتصالي مفاجئ، لكنني لم أجد شخصًا يمكنني أن أثق به سواك.
قطب فريد حاجبيه بتعجب صامت، وقال :
ـ ما الأمر ؟!
تنفست بعمق، ثم قالت مترددة:
ـ كان لدي شريك قديم يدعى " يافوز " كنا نعمل سويًا في تنظيم الحفلات قبل سنوات. ظننت أنني أغلقت صفحته إلى الأبد، لكن… يبدو أنني كنت مخطئة.
ـ ماذا تقصدين؟
صمتت قليلا، ثم أكملت وهي تبكي بانهيار :
ـ لقد ظهر مجددًا، ويطالبني بمبالغ مالية يدّعي أنني مدينة له بها. ليس هذا فحسب، بل يهدد بفضح عقود قديمة، عقود كنت أضطر للتوقيع عليها تحت ضغطه… عقود إن وصلت للصحافة، ستدمّر سمعتي تمامًا.
لم يعقب فورا، وظل ملتزمًا الصمت إلى أن تابعت هي بهدوء :
ـ أعلم أنك لن تصدقني بسهولة، لذا سأرسل لك ما يثبت صحة حديثي، سأرسل لك عبر البريد صور رسائل التهديد التي أرسلها لي، كل شيء حقيقي، ويمكنك التأكد بنفسك إن أردت.
زفر فريد بهدوء وقليل من الريبة، وقال :
ـ ولماذا اخترتني أنا تحديدًا يا سيلين؟ كان يمكنك اللجوء لمحامٍ أو حتى الشرطة.. أو على الأقل آرون ؟!
فأجابت سيلين بصوت منخفض لكنه صادق :
ـ لأنني أعرف أنك رجل لا يترك من يطلب مساعدته، ولأنك حضرت الحفل الذي نظمته ورأيت كيف أبذل كل جهدي في عملي. لن أحتمل أن ينهار كل ما بنيته بسبب هذا الحقير .. ثم أنني أخبرت الشرطة لكن لا شيء تغير، وكأنه يملك نفوذ أكبر من القانون …
وأجهشت بالبكاء فورا وهي تقول :
ـ فريد.. أنا لست آمنة !!
صمت فريد مجددا ومد يده يدلك جسر أنفه بتعب وحيرة، ثم قال بشيء من اللين :
ـ حسنا سيلين، سأحتاج أن أتأكد أكثر من بعض التفاصيل، لكن… لا تقلقي، سأساعدك بقدر ما أستطيع.
تنهدت سيلين بارتياح ثم قالت بنبرة أكثر انفتاحا :
ـ كنت أعلم أنني لم أخطئ حين لجأت إليك.. أشكرك فريد.
أنهت سيلين الاتصال، وعلى الفور أرسلت إلى بريد فريد الإلكتروني كل ما يدعم صدق روايتها؛ رسائل تهديد مطبوعة، صورًا قديمة تجمعها بشريكها السابق، نسخًا من عقود عتيقة، وتقريرًا مصرفيًّا يثبت وجود تحويلات مالية بينهما.
جلس فريد أمام حاسوبه يرمق تلك الملفات واحدًا تلو الآخر، بعين ناقدة وقلب متردد. كان يشكّ في نواياها منذ البداية، لكن ما وصله بدا متماسكًا ومترابطًا إلى حد يصعب معه التكذيب.
ضغط على إحدى الرسائل فظهرت كلمات التهديد الصريحة، ثم فتح صورة قديمة لها مع " يافوز " وهو يصافحها في قاعة فخمة. انتقل إلى تقرير الحساب البنكي، فإذا بالأرقام مطابقة لتواريخ مذكورة في الرسائل.
زفر فريد زفرة طويلة وهو يعتدل في جلسته، يحدّق في الشاشة بصرامة وصوت داخلي يهمس:
ـ كل شيء يبدو مرتبًا بإتقان… ولكن، كيف عساه يساعدها ؟!
وأمام تلك الحيرة، لم يجد بُدًّا من أن يمسك بهاتفه ويهاتف نادر، يطلعه على الأمر بأدق تفاصيله، ثم قال بلهجة مضطربة:
ـ مش عارف يا متر ، كل اللي بعتتهولي بيأكد كلامها، بس قلبي مش مطمئن.. حاسس في حاجة ناقصة.
ساد صمت قصير على الطرف الآخر قبل أن يأتيه صوت نادر الواثق، متمهّلًا:
ـ أول حاجة، ما تندفعش. لازم نتحقق خطوة بخطوة.
ـ طب إزاي؟
ـ بسيطة... أنا هراجع التحويلات اللي في التقرير مع البنك مباشرة.. ولو صحيحة هنكمل و نتتبع مصدرها.. والرسايل هنعرضها على خبير تقني يثبت إذا كانت حقيقية ولا معمولة بالفوتوشوب. أما العقود، فهتأكد من صحتها بنفسي .
ابتلع فريد ريقه ببطء وقال:
ـ يعني شايفني أتعامل معاها إزاي دلوقتي؟
ـ خليك هادي.. اسمعها كويس وأظهر إنك متجاوب معاها... لكن من جواك عامل حسابك إنك ممكن تكون بتتعامل مع لعبة أكبر من اللي ظاهر قدامك.
ثم أضاف بصوت منخفض جاد:
ـ لو هي فعلاً في خطر، إحنا اللي هنتأكد ونساعدها.. لكن لو بتعمل حوار كله هيبان وهيتعرف إيه الهدف منه.
أومأ فريد موافقا، مطمئنًا إلى ما قاله نادر، فهو يثق دومًا برأيه ومشورته وقرارته كمحام مخضرم لا تفوته فائتة .
༺═────────────────═༻
أمسك عمر بهاتفه وهو يتردّد، متسائلًا عن أفضل طريقة لإرسال اعتذاره إليها. هل يتصل مباشرة ويعتذر بصوتٍ واضح؟ لكنه كان يعرف أن احتمال ردها ضعيف جدًا هذه المرة، لذا بدا له أن إرسال رسالة اعتذار مكتوبة وتنفيذ ما أوصى به فريد هو الخيار الأنسب.
ومع ذلك تساءل … هل يمكن أن يفوّت فرصة سماع صوتها للمرة الأخيرة المحتملة؟
جمع شجاعته واتصل بها بحذر، وكانت المفاجأة أن ميرال أجابت من أول محاولة، على عكس المرات السابقة.
ـ ميرال…
ـ أنت تاني!!!
ـ اسمعيني لو سمحتي.. أنا بكلمك علشان أعتذر لك، أنا مكنتش أقصد أضايقك أو اتسبب لك في أي أذى، وآسف لو سمعتي كلام مش كويس بسببي .. أوعدك مش هضايقك تاني أبدا وهمسح رقمك ومش هتسبب لك في أي مضايقة مرة تانية .
كان صوته مليئًا بالصدق، وصمت وانتظرها لترد، وبعد لحظات طويلة قالت:
ـ أنت اللي جايب الهدية مش نغم، مش كده؟
تردد ولم يعرف ماذا يقول، فسألها:
ـ ليه بتسألي؟
لتجيبه بغضب وحزم:
ـ لأن مفيش بنت هتجيب هدية لبنت وتكتب عليها:
"Every time you see that doll, you must remember me. Maybe it's the beginning of something that will never end."
"في كل مرة ترين فيها تلك الدمية، لا بد أنك ستتذكريني. ربما تكون بداية شيء بيننا لن ينتهي أبدًا."
صُعق عمر مما سمع، خاصة بعدما أغلقت ميرال الهاتف في وجهه، وتذكّر وقتها عندما طلب مساعد البائع منه تحديد عبارة للملصق المرفق بالدمية، وقرر حينها أن يكتب هو ما يراه مناسبًا بنفسه .
أسقط رأسه بحرج بين كفيه، وأخذ يفكر، كيف سيصلح ما أفسده ؟! وهل هو حقا يرغب في إصلاحه أم لا …. ؟!
#يتبع
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا
الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق