رواية غناء الروح الفصل الثاني والأربعون 42بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)
رواية غناء الروح الفصل الثاني والأربعون 42بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)
رواية غناء الروح الفصل الثاني والأربعون 42بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)
الفصل الثاني والأربعون.
وضعت سيرا يدها فوق صدرها تحديدًا عند موضع قلبها، وكأنها تحاول كبح ذلك الارتجاف العنيف الذي يهددها بالانهيار، لقد كانت كلماتهم تتردد في أذنها كصفعة باردة أيقظتها من وهمها الكبير، هو مغصوب؟! لم يكن يريدها منذ البداية؟!
إذًا...نظراته الحانية، كلماته الدافئة، وقربه الذي كانت تعده طوق نجاة...لم يكن سوى تمثيل أُجبرت عليه روحه امتثالًا لأوامر العائلة؟!
ارتجف جسدها بعنف ولم تقوَ على كتمان دموعها ولا على إخفاء ذلك الانفجار الوشيك في داخلها، شعرت أن الأرض تهتز تحت قدميها، وأن كل ما آمنت به ينهار أمامها قطعةً قطعة، لم تجد حلًا سوى الهروب...الركض حتى لو تاهت في الطرقات الأهم أن تبتعد....أن تخرج من ذلك المنزل، أن تتنفس بعيدًا لتستطيع التفكير بوضوح.
هبطت الدرج بخطوات متسارعة متعثرة من شدة اضطرابها، بينما حجبت دموعها الرؤية حتى كادت تسقط، فكانت تلهث وكأن وحشًا يطاردها في أثرها، وفجأة...اصطدمت بجسدٍ عريض وقف في طريقها، فأمسكها سريعًا قبل أن تقع وهمس بسعادة غامرة:
-سرسورة بتعملي إيه فـ....
لكنه لم يُكمل توقف لوهلة حين لمح دموعها الغزيرة، اتسعت عيناه في قلق ولم يفهم سبب بكائها، رفع بصره إليها ثم تمتم بصوتٍ مبحوح:
-مالك يا حبيبي مين زعلك فوق؟
هو يحبها...أجل يحبها بصدق، بل اقتحمت قلبه دون استئذان، مهما حاول الابتعاد عنها، كان يجد نفسه ينجذب إليها كالمغناطيس، وكأنها تملك قوة سحرية تشده إليها بلا مقاومة، لم ينطق كلمة "حبيبي" عبثًا بل لأنها خرجت من أعمق نقطة في قلبه، فهو لم يُخاطب أنثى بها من قبل بمثل تلك الكلمات ولم يظن يومًا أنه سيفعل.
لكنها بعكسه رمقته بنظرة حارقة تنزف استنكارًا، ارتعش فكها وهي تحدق فيه بوجهٍ غلبه الانكماش والخذلان، أي وجهٍ هذا؟! ماكر...خبيث...صدقت حورية في كل كلمة قالتها عنه، واكتشفت كم كانت ساذجة حين سلمت قلبها له، وسمحت لعشقها أن يستوطنه بلا حذر.
-ابعد عني.
قالتها بحدة جعلت صوته يختنق قبل أن ينطق بشيء، حاولت دفعه عن طريقها لكنه تشبث بكفها، وأمسكها بقوة وهو يسأل بحيرة:
-في إيه؟ بتعيطي ليه؟
دفعت يده بعنف وكأنها تنزع عن قلبها قيدًا، وأكملت هبوط الدرج دون أن تلتفت إلى نداءاته المتكررة، هرعت منال على صوت صراخه محاولةً إيقافها، لكنها رفضت وبقيت تخطو مسرعةً نحو مدخل البناية، غير آبهة بمَن يلحقها أو يحاول استرضاءها، في تلك اللحظة ظهرت شمس ومليكة يركضان خلفهما، توقفا بذهول عند المدخل عندما سمعا شجارهما الحاد.
-قولتلك اقفي في إيه؟ انتي هنا بتعملي إيه؟ وجيتي ازاي من غير ما تقوليلي؟
ضحكت بين دموعها ضحكة كسيرة ممزوجة بسخرية جارحة، ثم أجابت بصوتٍ مُرتعش ولكنه مشحون بالتمرد:
-اه صح بعمل إيه هنا؟! معلش أصل أنا غبية وفكرت إن خطيبي متفق مع اخوه الكبير على أني اجي اشوف الشقة اللي هنتجوز فيها مع مهندس الديكور، بس مكنتش اعرف أن خطيبي طلع مغصوب على الجوازة واهله هما اللي بيحركوه وهو مايعرفش حاجة عشان كان رافضني.
شهقت مليكة بصدمة ووضعت يدها على فمها، بينما أغمضت شمس عينيها بقوة وارتجفت أنفاسها؛ أدركت أن سيرا قد سمعت كل شيء، أما يزن فرمقها بذهول، تفحص ملامحها من أعلى رأسها حتى قدميها ثم تساءل بحدة نافرة:
-انتي بتقولي إيه؟ شقة أيه؟ و....
لكنها لم تتركه يكمل دفعت يده بعيدًا عنها وهي تشهق بقهر:
-ابقى اسأل اخوك الكبير، وبعدين مش عيب يا يزن تبقى في السن ده وأهلك يغصبوك على جوازة، مش عارف تقولهم لا، ده البنات ليهم رأي عنك....
صرخ باسمها بتحذير لكنها لم تتراجع:
-سيـــــــرا.
توقفت فجأة وواجهته مباشرةً بعينين دامعتين وقلبٍ مهزوم ثم نطقت بمرارة:
-إيه غلطت؟ مش ده اللي حصل؟ مش انت مغصوب عليا ومكنتش حابب تخطبني؟ تقدر تنكر وتقول عكس كده.
لم يستطع يزن أن يتفوه بكلمةٍ واحدة أمام هجومها الناري، كان يشعر وكأنه عالقٌ في كابوسٍ لا يريد أن ينتهي، لا يكاد يصدق أنها تقف في منزله وتواجهه بهذا القدر من الألم والخذلان، ظل صمته طويلًا، ثقيلًا، قاتلًا...صمته الذي خذلها أكثر مما خذلها أي شيء آخر، صمته الذي أكد لها دون أن يدري صحة كل كلمة سمعتها من زوجة أخيه.
ارتجفت شفتاها بمرارة ثم اندفعت نحو باب المنزل، تهرب من كل شيء حتى من نفسها، لكنها توقفت فجأة حين وجدت سليم وزيدان يقفان عند المدخل يتابعان الشجار منذ بدايته، لم تعرهما أي اهتمام بل دفعت زيدان جانبًا بكتفها وهي تمر أسفل نظراته المستنكرة ثم اندفعت خارجة...تركض بكل ما أوتيت من قوة تركض لتبتعد عن وجعٍ أثقل صدرها.
صوت سليم لحقها كسيفٍ يشق الصمت:
-مين قالها إن يزن كان مغصوب على خطوبته منها؟
تجمدت مليكة في مكانها، ابتلعت ريقها بخوفٍ ظاهر ثم انساقت غريزيًا نحو زيدان، تتشبث بكفه كمَن يبحث عن طوق نجاة، لم تكن تتوقع أن يخرج خطأها للعلن بهذه السرعة، كل ما حدث كان مجرد ثرثرةً عابرة بينها وبين شمس، لم تظن أبدًا أن سيرا كانت موجودة لتسمع!
لكن تكرار سليم لسؤاله بنبرةٍ أكثر حدة جعل وجهها يشحب وهي تهمس متلعثمة:
-أنا...أنا اللي قولت...
التفتت إليها العيون جميعها دفعة واحدة، نظرات يزن كانت الأشد قسوة؛ عينان سوداوان تضجان بالغضب ووجهه متشنج حتى كاد يفقد ملامحه، أما سليم فقد أرخى حاجبيه باستنكار، فتح فمه ليقذفها بوابلٍ من عبارات اللوم، لكن سبقت دموعها كلماتها وتشبثت بزيدان أكثر وهي تبكي بحرقة:
-كنت بتكلم أنا وشمس فوق وبنحسبها مشيت وباين سمعت كلامي والله ما كنت اقصد اعمل كده...
رفعت بصرها إلى زيدان ترجوه بنظرات دامعة:
-والله يا زيدان مكنتش اقصد، أنا اتكلمت مع شمس بعفوية ومانعرفش إنها كانت لسه موجودة.
التفتت نحو شمس تستنجد بشهادتها، فتقدمت الأخيرة بخطوة وقالت بهدوءٍ نادر وسط هذا الانفجار العاطفي:
-فعلاً يا سليم احنا كنا مانعرفش انها موجودة، مجرد صدفة.
احتواها زيدان بحنو واضح يربت فوق ذراعها محاولًا تهدئتها، ثم قال بعد تفكيرٍ قصير ونبرة حازمة:
-خلاص يا يزن، أنا هاخد مليكة ونروح نكلمها ماتقلقش الموضوع هيتحل.
أومأت مليكة برأسها موافقة متشبثةً بخيط أملٍ رفيع، لكن صوت سليم اخترق الموقف بصرامةٍ حادة:
-محدش يتدخل، هو يحل مشاكله بمعرفته...
استدار يزن نحوه ببطء وعيناه تلمعان بذهولٍ ممزوجٍ بالسخرية قبل أن ينفجر بصوتٍ جهوري:
-دلوقتي حل مشاكلك بنفسك صح؟ بتتدخل ليه من الاول في حياتي؟ بتتعداني ليه يا سليم؟ شايفني عيل صغير قدامك بتتحكم فيه؟ بتاخد قرارت بالنيابة عني ليه أصلاً؟
تقدم زيدان سريعًا تاركًا مليكة خلفه، ووضع كفه على كتف يزن في محاولةٍ لتهدئته:
-اهدى أخوك مش قصده اللي انت بتقوله ده...
لكن يزن أبعده بعنف وصاح بانفعالٍ غاضب:
-محدش يقولى اهدا، أنا مش مجنون قدامك، أنت نفسك يا زيدان مرضتش تسمع كلامه وروحت عملت اللي في دماغك واتجوزت، فمتجيش تعمل دور العاقل عليا.
أدار سليم وجهه نحوه ببرودٍ وشيء من الغرور الذي زاد النار اشتعالًا وقال بنبرةٍ واثقة:
-لو حابب تروح تتجوزها من غير ماتاخد رأيي اعملها مش هزعل ولا همنعك، ليك مطلق الحرية.
حاول يزن أن يتمالك نفسه لكن الغضب كان أقوى منه، فأمسك مزهريةً كبيرة في مدخل البناية، ثم حطمها بعنفٍ تحت أقدامهم جميعًا ليتناثر صدى انكسارها كصرخةٍ من أعماقه، انطلق بعدها بخطواتٍ عنيفة نحو الداخل، لكنه توقف فجأة عند عتبة الباب والتفت إليهم ثم رفع إصبعه في وجوههم جميعًا قائلًا بصوتٍ هادر:
-محدش يتدخل في حياتي تاني فاهمين ولا لا؟! حياتي خط أحمر، ومحدش يروح يكلمها.
ثم اختفى داخل شقة والدته، تاركًا خلفه صمتًا ثقيلًا وأنفاسًا متقطعة ونظراتٍ حائرة تتقاذفها القلوب، تابعته منال بعينين يملؤهما القلق، ثم لحقت به بخطواتٍ حذرة حتى وجدته جالسًا فوق فراشه، يهز ساقيه بعنف كما اعتاد حين يتوتر أو يشعر بالتهديد، جلست إلى جواره بهدوء، ووضعت يدها فوق ساقه علها تهدئ اضطرابه لكنه زجرها بنبرةٍ خشنة:
-لو سمحتي يا ماما سيبيني في حالي.
ابتسمت والدته بهدوءٍ رغم عنفه ثم همست بكلماتٍ جعلته يرفع رأسه باندهاش:
-لسه في أمل طالما مارمتش الدبلة في وشك.
قطب حاجبيه ثم حدق فيها باستنكارٍ حاد:
-انتي بتقولي إيه؟
لم تتراجع، بل ردت بنفس الهدوء بنبرةٍ تحمل ثقل الخبرة:
-ايوه صدقني والله تقدر تصلح كل حاجة وتراضيها.
ابتسم بسخرية حزينة وردد بنبرة عنيفة:
-اراضي مين؟! دي تقريبًا هزقتني، اقسم بالله ولا هعبرها براحتها تخبط دماغها في الحيط، هي مدتنيش فرصة حتى افهمها ونازلة سلخ فيا.
زفرت والدته بعمق ثم قالت برصانةٍ أمومية:
-حقها يا يزن؟ هي دلوقتي حست أنها كرامتها مهدورة اعذرها...
لكنه قاطعها بصوتٍ غاضب غريبٍ حتى عليه:
-لا مفيش عذر، علت صوتها عليا دي كانت ناقص تشتمني، أنا معملتش معاها إلا كل خير، ماستاهلش أبدًا تعاملني بالشكل ده، المفروض تحترمني.
انغلق قلبه على عنادٍ عنيف؛ شعر بأن كرامته قد اندهست تحت قدميها، وأن تدليله لها جعلها تتمادى وتتعدى حدودها معه، لم يكن ليتحمل أن يقف أمام عائلته بهذا الموقف المهين، بينما سليم ينظر إليه دائمًا كطفلٍ صغير يحتاج من يقوده، حتى أنه يمنح أنس مساحةً أكبر ليقرر في حياته أكثر منه!!
ولم يدرك يزن وسط كل هذا الصخب أن معركته مع الحب قد بدأت للتو...لكن عناده أشعل النار في كل شيء.
****
ارتمت سيرا في أحضان فاطمة، تبكي بحرقةٍ وقهر فيما كانت الأخيرة تربت فوق ظهرها بحنو ممزوج بالحزن على حال صديقتها، ومع ذلك لم يطل صمت فاطمة أمام حيرتها وارتباكها فبادرتها قائلة بقلق:
-طيب والعمل يا سيرا؟ هتعملي إيه؟
رفعت سيرا رأسها ببطء تمسح دموعها المتساقطة على وجنتيها بيد مرتجفة، ثم همست بصوت مبحوح يكاد ينكسر:
-لازم الاقي الشبكة بأي شكل يا فاطمة، لازم الاقيها وارميها في وشه.
ارتبكت فاطمة وضربت كفًا بأخرى وهي تردد بحيرة واضحة:
-انتي فعلاً مش قدامك حل غير كده، بس يا سيرا ازاي؟...ازاي يزن يكون مغصوب؟؟....
قاطعتها سيرا بانفعال وقد بدا الغضب يغلي في صوتها وهي ترد من بين أسنانها:
-بقولك سمعت مرات اخوه بوداني وهي بتقول كان قالب البيت حريقة عشان مايخطبنيش.
أطرقت فاطمة برأسها ثم أطلقت تنهيدة ضيقة كأنها تبحث عن خيط لفهم الموقف قبل أن تعود لتسألها بفضول:
-طيب ماشي اخوه السبب، بس هو اخوه كان له علاقة بيكي اصلاً ولا تعرفيه!!، الكلام ده لما يكونوا اتنين قرايب بعض يا سيرا، أو بيحبوا بعض قبل كده!!
زفرت سيرا بقوة تحاول أن تستجمع بقايا طاقتها المرهقة ثم قالت بصوت مكسور كأنما انطفأت بداخلها كل جذوة حياة:
-يمكن عشان اخوه شافني قبل كده، لما اهو اخد سلسلتي واتصلحت عنده يا فاطمة، فأخوه شاف إن مناسبة مثلاً...يا نهار أسود!
سكتت لحظة وكأن الخجل كتم أنفاسها قبل أن تهمس باحتمالٍ مرير:
-ليكون أخوه افتكر أننا بينا حاجة عشان كده ضغط عليه!!
رفعت فاطمة حاجبيها بدهشة ثم تمتمت بحذر:
-طيب انتي ليه مدتيهوش فرصة يتكلم يا سيرا ويوضحلك.
هزت سيرا رأسها بحسم وقد تحولت نبرتها من انكسارٍ إلى إصرارٍ عنيد:
-لا يا فاطمة مفيش كلام ما بينا خلاص، ده مغصوب عليا ومكنش طايق يخطبني، يمكن كان بيعاملني الفترة اللي فاتت دي كده عشان بيجبر بخاطري، أنا لازم الاقي الدهب بأي شكل وافركش كل حاجة، والمرادي لو اخواتي ماتوا قصادي عمري ما هسمع كلامهم أبدًا.
أنهت سيرا حديثها مع فاطمة ثم قررت العودة إلى منزلها وقد أثقل الحزن قلبها، كان عقلها يدور في دوائر مغلقة يبحث عن خيط يقودها إلى شبكتها المفقودة، حيث بدأت الشكوك تتسلل إلى ذهنها، تهمس لها بأن ما حدث لم يكن فقدانًا عابرًا، بل ربما سرقة متعمدة!
ودعت فاطمة بخطواتٍ مترددة ثم تابعت السير نحو بيتها، متجاهلةً تلك العيون التي كانت تتربص بها من بعيد، أو لعلها رأتها لكنها آثرت التجاهل، فمصيبتها أعظم من أن تسمح لنفسها بالانشغال بـ "فايق" وأمراضه النفسية.
وصلت إلى المبنى وصعدت الدرج بخطوات ثقيلة، وكأن كل درجة تسحب ما تبقى في روحها من طاقة، توقفت فجأة حينما وقعت عيناها على دهب، تقف أمام باب شقتها شاردة، تحدق إلى الأعلى كأنها تبحث عن شيء ضائع بين جدران السقف، استوقفها المشهد فبادرت بسؤالٍ مستنكر:
-واقفة ليه كده يا دهب؟
انتفضت دهب بصدمة كأنها أُخذت على حين غرة، وتنفست بسرعة قبل أن ترد بحنق واضح:
-بسم الله الرحمن الرحيم انتي بتطلعي امتى؟
رفعت سيرا حاجبيها بدهشة وعبست وهي ترد بغيظ مكبوت:
-احترمي نفسك يا دهب هو أنا قدك عشان تكلميني كده!!
قهقهت دهب بخفة ساخرة ثم أردفت وهي ترفع حاجبًا باستهزاء:
-اه اسفة يا خالتو..نسيت إنك خالتو بردو.
قالتها بسخرية لاذعة ثم تركت عينيها تتجولان فوق جسد سيرا الصغير، وبالمقارنة بينهما كانت دهب أطول قامةً وأكثر امتلاءً، لكنها لم تستطع أن تغفل جمال خالتها فوجه سيرا رغم شحوبه بقي محتفظًا بسحره الأخاذ، كان وجهها بيضاويًا متناسقًا، وبشرتها صافية متوجهة بلونٍ حنطيً دافئ، عيناها واسعتان براقتان تتلألآن بلمعة تجمع بين الصفاء والعمق، تحيطهما رموش كثيفة طويلة تزيد من فتنة نظرتها، حاجباها مرسومان بانسياب ودقة، يُضفيان على ملامحها جمالًا طبيعيًا مُرهفًا، أما شفاهها فكانت ممتلئة قليلًا مرسومة بانحناءة رقيقة تمنح ابتسامتها دفئًا خاصًا كأنها تبعث الطمأنينة لمَن يراها.
طالت دهب النظر إليها وتمنت في سرها لو امتلكت نصف ذلك الجمال، لكنها سرعان ما لاحظت آثار البكاء العالقة بعينيها وانتفاخ جفنيها الخفيف، فارتفع صوتها مستفسرًا بفضولٍ حذر:
-انتي كنتي بتعيطي يا خالتو؟
رمشت سيرا بأهدابها عدة مرات تمسح بقايا الدموع المتجمعة على رموشها، ثم قالت بهدوءٍ متكلف:
-لا لا مكنتش بعيط...
هزت دهب رأسها إيجابًا وهي تحاول ضبط انفعالاتها ثم ابتسمت ابتسامة مقتضبة وقالت بنبرة حاولت أن تبدو طبيعية:
-اه....اه اعرف طبعًا، يا رب تلاقيها يا خالتو.
كادت سيرا تسألها عن أي أخبار تخص الشبكة، لكن أصوات صراخٍ عالية صدرت من الطابق العلوي، فجذبت انتباهها، عقدت حاجبيها بقلق ثم أسرعت تصعد نحو شقة والدها لتتحقق مما يحدث، بينما دهب كانت تعلم تمامًا سبب الصراخ؛ فالأمر لم يكن سوى قاسم وعبود اللذان كانا يتلقيان عقابًا مؤلمًا من عصا والدتها الثقيلة.
دخلت دهب الشقة ثم أخرجت هاتفها من جيب سروالها الخلفي، وأجرت اتصالًا بصديقتها سمسم، لتسمع صوتها الخامل من الجهة الأخرى:
-يخربيتك قومي من النوم، أنا حاسة أني هتكشف.
ردت سمسم بتثاقل وهي تتنهد:
-تتكشفي ليه يا دهب بس؟ انتي اللي هتكشفي نفسك بتوترك ده!
زمت دهب شفتيها بتوتر وهي تقول بغيظ مكتوم:
-توتر أيه؟ أنا ماعرفتش احط الشبكة في أي مكان فوق كلهم منتشرين في كل حتة ودوروا في كل مكان يا بت حرفيًا وكل ما احط عيني على مكان الاقيهم رايحين يدورا فيه، فمش طبيعي أبدًا اروح أنا واحطها.
تنهدت سمسم محاولة إيجاد حل:
-مش ممكن!! اكيد في مكان مادوروش فيه!!
-لا قالبين الشقة كلها يا سمسم، كلها وحرفيًا محدش نام، كان يوم اسود يوم ما فكرت اخدها واتمنظر بيها في الدروس والمدرسة، اهو لبست في حيطة.
قالت سمسم بعد لحظة تفكير:
-طيب ما تبيعها وشبرقي على نفسك وكأنها اتسرقت وكده كده محدش هيشك فيكي.
شهقت دهب بحدة وهمست بخوف:
-إيه؟؟ يالهووووي لا طبعًا، دي لو أمي عرفت احتمال تعلقني على باب البيت...
ثم أضافت بنبرة مرتجفة:
-أنا كده ولا كده هتعلق بس تعليقة اهون من تعليقة يا ستي، المهم أنا اعمل إيه دلوقتي؟
أجابتها سمسم بلهجة عملية:
-اسكتي خالص لما يبدؤا يزهقوا يا دهب، بعدين حطيها في اوضة خالتك في أي شنطة ولا كده.
تساءلت بخوف وندم على ما فعلته في لحظة تهور:
-طيب افرض قرروا ينزلوا يدوروا تحت عندنا؟
-ما قولتلك هاتيها عندي انتي اللي مارضتيش!
أطلقت دهب زفرة حانقة وهي تقول بشك:
-لا أنا هتصرف واخبيها، يلا سلام عشان اطلعلهم...سلام.
****
أما بالطابق الأعلى...
انتفض عبود وقاسم من شدة الضربات التي انهالت فوق ساقيهما النحيلتين، بينما كانت أبلة عنيفة ترفع العصا وتهوي بها بلا رحمة، تصرخ في وجههما بغضبٍ يزلزل المكان:
-بقى يا كلاب! تسيبوا أختكوا لوحدها في بيت خطيبها وتروحوا تلعبوا كورة؟! هو إنتوا مش عارفين إننا في حالة حرب يا ولاه؟ وفايق متربص بيها ومش سايبها!
صرخ عبود بألمٍ وهو يتلقى ضربة جديدة فوق ذراعه، محاولًا الدفاع عن نفسه بضعف:
-مكناش نعرف يا أبلة والله، كنا زعلانين على ٢٠٠ جنية اللي دافعينها...
وضعت شاهندا اخت سيرا يدها فوق وجهها في يأس وتمتمت بغيظٍ لم تستطع كبته:
-يخربيتك اسكت هتسيب كل حاجة وهتمسك في الـ ٢٠٠ جنية.
لكن حكمت لم تترك لهما فرصة للهرب، إذ اندفعت خلفهما مكملة العاصفة توجه لهما ضربات متتالية وهي تصرخ بعنف:
-٢٠٠ جنية لكل واحد فيكم يا أهبل يا عبيط، ده حجز الملعب كله بـ ٢٠٠ جنية يالا، تعالوا هنا ما هي فلوس سهلة..
وفي تلك الأثناء فتحت سيرا باب الشقة بتوجس، تتلفت حولها بعينيها القلقتين لترى أخواتها الفتيات مجتمعين في الصالة بأطفالهن، يشاهدن المشهد المثير للشفقة بينما الأخوان يتلقيان عقابًا قاسيًا يستحقانه، وقفت سيرا بمنتصف الصالة تسأل باستنكارٍ متوتر:
-هو بابا فين؟
اقتربت فريال وهي تحمل طفلتها الصغيرة بين ذراعيها وقالت بنبرة قلقة:
-بابا ضغطه علي عليه جامد وابيه صافي اخده هو وماما يوديه للدكتور.
لم يمهلها قاسم وعبود وقتًا لالتقاط أنفاسها، إذ اندفعا فجأة نحوها يحتميان خلفها كملاذٍ أخير من غضب حكمت، لكن لسوء حظها جاءت ضربة عصا خاطفة فوق ذراعها، فصرخت بألم حاد وهي تمسك ذراعها بقوة، ارتبكت حكمت للحظة ثم قالت بلهجة آسفة لا تخلو من الغضب:
-معلش يا سيرا جت فيكي...
ثم التفتت من جديد إلى عبود وقاسم وقد عاد الغضب ليتوهج في صوتها:
-خد يالا منك له والله ما أنا سايبكم، هطلع عليكم الـ ٤٠٠ جنية اللي دفعتوها يا كلاب قال ملعب غالي قال...بتلعب في انجلترا يالا...
اندفع الجميع خلف الأخوين في محاولة يائسة لتهدئة ثورة حكمت بينما وقفت سيرا في منتصف الصالة وحيدة، كأنها أصبحت في عالمٍ آخر، نظرت حولها تبحث عن مأمن لكن وجدت نفسها محاصرة بالضوضاء والفوضى، فاجتاحها شعور قاتل بالوحدة كأنها غريبة وسط أهلها.
ضغط الألم على صدرها حتى كاد يخنقها، لكنها تجاهلت وجع ذراعها وانطلقت بخطوات متسارعة نحو غرفتها تنوي البحث مجددًا عن شبكتها المفقودة، دخلت الغرفة وأغلقت الباب خلفها بقوة، ثم بدأت تقلب كل شيء حولها بعنفٍ غير معتاد، وكأنها تُفرغ كل انفعالاتها المكبوتة في حركتها القاسية، كانت الشهقات تتسلل رغماً عنها، عالية ومتقطعة لكنها سرعان ما كانت تكتمها بيدها المرتجفة، وتتمتم بصوت مبحوح يقطر انكسارًا:
-يا رب الاقيها...يا رب لازم اروح واديهاله لو استنيت اكتر من كده هيبقى منظري وحش...الشبكة فين؟
لكن إرهاقها كان قد بلغ أقصاه…فجأة انهارت في منتصف الغرفة تجلس على الأرض الباردة ودموعها تغسل وجنتيها، طال بكاؤها حتى انتفخ جفناها واحمرتا عيناها، ثم غلبها التعب فسقطت فوق الأرضية الصلبة دون وعي، تاركةً روحها التعبة تهرب إلى عالمٍ آخر…
عالم موازٍ مليء بأحلام وردية طالما تمنت أن يكون واقعها شبيهًا بها؛ عالم تتفتح فيه زهور الحب وتتناثر فيه نسمات الوله بينها وبين صاحب أول نبضة إعجابٍ في فؤادها الغض…
****
صباح اليوم التالي...
اجتمع الجميع في صالة شقة منال على مائدة الإفطار، خيم الصمت على المكان فيما تنتظر العيون خروج يزن من غرفته ذلك الذي لم يذق طعم النوم طوال الليل، وأخيرًا انفتح باب الغرفة ببطء وخرج يزن لكن ملامحه لم تكن كما اعتادوها أبدًا؛ وجه متجهم وقسمات مشدودة، وعينان مثقلتان بالإنهاك والغضب معًا.
كان يخطو بخطوات واسعة نحو باب المنزل، يتجاهل وجود الجميع بملامح صارمة لم يألفوها من قبل، فقد كان وجهه دائمًا مرآة للحنان ومرفأً للطمأنينة، توقفت شمس بجانب مقعدها تحدثه بنبرة هادئة بينما كانت عيناه شاردتين:
-مش هتفطر يا يزن؟
لم يلتفت إليها وأجاب بحدة جافة:
-مش عايز زفت...
ثم أغلق الباب خلفه بعنف حتى ارتج الحائط من حوله، فانتفضت مليكة في مكانها من شدة الصدمة بينما هب سليم واقفًا يصرخ بنبرة غاضبة تكاد تتشظى حروفها:
-يزن أنت اتجننت....
لكن شمس أسرعت ووضعت يدها على ذراعه، تجذبه ليجلس وهمست إليه بنبرة راجحة:
-سيبه يا سليم هو شكله متضايق...
تنهدت منال بحزن ثقيل ثم رفعت رأسها نحو سليم، وقالت بنبرة يختلط فيها العتاب بالحزم:
-أنا هروح النهاردة أنا والبنات لسيرا في بيتها، محتاجة اتكلم معاها.
رفع سليم حاجبيه مستنكرًا ورد بغلظةٍ لم تُعجبها:
-وأنا قولت محدش يتدخل، وسيبه يحل مشاكله بنفسه.
تنفس زيدان بعمق محاولًا كبح انفعاله، ثم قال بلهجة ضيقة مشوبة بالتعاطف مع أخيه الأصغر الذي بدا واضحًا أنه قد تعلق بسيرا بل وأحبها:
-سليم أنت أساسًا السبب في اللي بيحصل ده كله، هو مكنش حابب يخطبها ولما خطبها باين إنه اتعلق بيها، والبنت بردو مصدومة من اللي حصل، يعني حقها تزعل وتضايق، سيب ماما تروح تحل ما بينهم، يمكن الدنيا تهدى ما بينهم شوية.
أبعد سليم الخبز بضيق وأسند ظهره إلى المقعد قائلًا بنبرة جامدة لا تحتمل النقاش:
-براحتكم طالما أنا مابيتسمعليش كلمة، كل واحد نفسه في حاجة يعملها...وطالما أنا السبب في الآخر، فهسكت وهسيبكم تتصرفوا على الله بس ماتعكوهاش فوق دماغه أكتر.
رفعت منال حاجبيها بدهشةٍ وجرحٍ مكتوم ثم قالت بنبرة عتاب رقيقة:
-ليه يا سليم هو انت شايفني عيلة صغيرة عشان أعكها؟
لم يكن يقصدها أبدًا لكن كلماتها اخترقت صمته، فأطبق شفتيه عاجزًا عن الرد، وهو يراها تنهض في هدوءٍ مهيب وتتجه إلى غرفتها دون أن تنطق بكلمة أخرى، تابعها بعينيه حتى اختفت خلف الباب شاعرًا بمرارة غريبة تملأ صدره.
عض زيدان على لسانه محاولًا كبح أي جدال قد يفتح بابًا جديدًا للخلاف، ثم قرر مغادرة المنزل متجهًا إلى عمله تاركًا مليكة وحيدة في مواجهة نظرات سليم الجامدة، قبل أن تهرع بدورها نحو غرفة منال لتحتمي بها.
حل صمت ثقيل بالمكان فقطعته شمس وهي تتأمله بنظرة لائمة ثم قالت بصوتٍ منخفض، كأنها تهمس لجدار قلبه:
-مارتحتش انت غير لما تخليهم كلهم يقوموا يمشوا من قدامك.
اقترب منها سليم بجسده حتى أصبح بينهما نفسٌ واحد، ثم همس وهو يلتقط أصابعها بين يديه:
-اممم عشان تفضلي انتي بس اللي معايا.
رفعت شمس يدها تعانق أصابعه في رفق ثم بادلت همسه بهدوءٍ أشد:
-سولي...ماما منال زعلت.
تنهد سليم طويلًا وأسند ظهره إلى المقعد، لكنه لم يترك يدها وكأنه يستمد منها شيئًا من الثبات، ثم قال بنبرة رخيمة خافتة:
-أنا مزعلتهاش في حاجة يا شمس، وعشان خاطرها سيبتها تعمل اللي هي عايزاه وانتي عارفة كويس أنا مبحبش حد يراجعني في كلمة.
أطرقت شمس قليلًا ثم رفعت عينيها نحوه وقالت بصوتٍ عاقل رزين:
-بس هي من حقها بردو يا سليم تتدخل بالطريقة اللي تعجبها وفي الوقت اللي تشوفه مناسب في الآخر دي حياة ابنها.
هز سليم كتفيه بهدوءٍ وبسمة خفيفة ترتسم على شفتيه وهو يعقب بنبرة بريئة:
-وأنا قولت حاجة يا شمس!
ضيقت عينيها بتفكير ثم همست متسائلة وكأنها تفتش عن سره:
-سليم انت مبسوط باللي بيحصل؟!
اكتفى بابتسامة واسعة تبعها ضحكة رجولية عميقة، ضحكة لم تسمعها شمس إلا نادرًا... مثلاً في الأعياد أو حين يداعب ابنتهما قمر، ولو كان الموقف غير هذا، لكانت قبلته دون تردد لكنها اكتفت بالتحديق فيه بدهشة:
-بجد انت مبسوط؟ أنا عمري ما شوفت يزن بالشكل ده؟
أومأ سليم برأسه إيجابًا ثم اعترف بصوتٍ خافتٍ يقطر مرارة:
-اه، مبسوط فيه بشكل واتمنى إنها تربيه على اللي عمله فينا سنين.
رمقته شمس بنظرة عتاب زائف وقالت بنبرة دافئة:
-قلبك جامد يا سولي.
ابتسم وهو يقترب منها أكثر وهمس بصدقٍ لا يحتمل التأويل:
-معاهم بس...معاكي انتي لا.
****
-أنا كنت مترددة أجيلك واقولك اللي حصل، بس بعد اللي سمعته كان لازم اجيلك واقولك إن الشبكة ضاعت فخد خاتم الخطوبة وأول ما الاقيها هجبهالك...
كانت سيرا تقف أمام المرآة تحدق في انعكاسها بعينين متعبتين ووجه شاحب، تتحدث مع نفسها للمرة الألف وكأنها تخاطب يزن وجهًا لوجه، لم تكن تجرؤ على مواجهته بعد، لكن الكلمات تخنق صدرها وتبحث عن مخرج.
توقفت فجأة زافرةً بقوة وكأنها تطرد اختناقها، قبل أن تغمض عينيها محاولة ترتيب كلماتها من جديد، فتحت عينيها وحدقت في ملامحها المنعكسة في المرآة ثم همست بصوت مبحوح متردد:
-ازيك يا يزن.. لا ازيك إيه؟! المفروض ماقولش ازيك...
ضغطت على شفتيها بقهر كأنها تعاقب نفسها على ترددها، ثم اعتدلت في وقفتها حدقت في عينيها الحادتين المنعكستين في الزجاج وكأنها تراه هو، وقالت بنبرة باردة جافة تخفي ما بداخلها من خوفٍ وانكسار:
-اتفضل خاتمك اهو واللي بينا انتهى وبالمناسبة شبكتك ضاعت ولما الاقيها هجبهالك لغاية عندك، وعشان تضمن حقك همضيلك على وصولات أمانة...
توقفت مجددًا تُطرق رأسها بقلق وهي تتمتم لنفسها بتوجسٍ حقيقي:
-هو ممكن لما يعرف أن الشبكة ضاعت وامضيله على الوصولات يسجني...
صمتت قليلًا ثم أغلقت عينيها كمَن يطرد فكرة مرعبة قبل أن تتجذر:
-لا لا يزن مش كده، مستحيل يعملها..
وبينما كانت تغرق في صراعها مع مخاوفها، شعرت بيد صغيرة تجذب طرف سروالها الأسود الفضفاض، نظرت للأسفل فوجدت الصغيرة "توتة" تتعلق بها بعناد، بينما سيرا قد ارتدت سروالًا أسود فضفاضًا، وفوقه سترة سوداء خالية من أي رسومات، مع حجاب أسود قاتم، كأنها تُرسل للعالم رسالة صامتة عن كم السواد القابع في قلبها الآن، همست بضيق وهي ترفع حاجبيها نحو الصغيرة:
-عايزة أيه يا توتة؟
قالت الطفلة بخجلٍ طفولي لا يخلو من الإلحاح:
-خمسة جنية يا خالتو.
رمقتها سيرا بنفاد صبر وقالت بحدةٍ خافتة من بين أسنانها:
-مش وقته، ماتقطعيش حبل أفكاري يا بنتي.
همست الصغيرة من بين أسنانها:
-خالتو يا رخمة.
لم ترضَ توتة بالرفض وبدلًا من أن تبتعد، قررت أن تثأر لكرامتها الصغيرة، زحفت بخفة نحو حقيبة سيرا الموضوعة فوق الفراش، فتحتها بخبثٍ طفولي ثم جذبت محفظتها الصغيرة وركضت مسرعة نحو إحدى الزوايا لتخبئها، ظنًا منها أنها بذلك تعاقب خالتها التي تذمرت عليها قبل قليل.
أما سيرا فلم تنتبه لتصرفات توتة فقد كانت غارقة في أفكارها، أسيرة تلك اللحظة التي تعلم يقينًا أنها آتية لا محالة، حاولت مرارًا صياغة جملة واحدة تليق بمواجهة يزن، لكنها فشلت في كل مرة، فقررت أن تغامر بكل شيء وتواجهه بما حدث مهما كان الثمن.
الأمر بسيط...هكذا همست لنفسها محاولة طمأنة قلبها المرتجف، رغم أنها تعلم أن لا شيء بسيط في ما هي مقدمة عليه.
التقطت حقيبتها من فوق الفراش، علقتها فوق ذراعها وخرجت من الغرفة بخطوات مترددة لكنها حاسمة، متجاهلةً نظرات شقيقاتها المتسائلة عن وجهتها، حمدت الله في سرها أنها لم تصادف أبلة حكمت في طريقها، فطاقتها اليوم لا تحتمل أي حوار جانبي ولا محاضرات في الأخلاق أو الترتيب.
وقفت أمام باب العمارة أوقفت سيارة أجرة صغيرة بدلًا من استقلال الحافلة المعتادة، فهي لا تملك اليوم صبرًا للازدحام ولا لوجوه الغرباء، جلست في المقعد الخلفي تسند حقيبتها إلى صدرها، تحدق عبر النافذة وكأنها ترى شريط حياتها بأيامه السابقة مع يزن يمر أمامها ببطء فيما تتجه السيارة نحو معرض يزن...حيث ستخبره بكلمتها الأخيرة.
****
دخل فاضل الغرفة التي يرقد فيها منير داخل المشفى، أصوات الأجهزة الطبية تتداخل مع وقع خطواته الثقيلة، فقد كان منير جالسًا على السرير، نصف مستند إلى الوسائد وجهه متورم، مغطى بكدمات أرجوانية وذراعه اليمنى في جبيرة بينما يضغط بيده الأخرى على ضلوعه المتكسرة.
اقترب فاضل بخطوات هادئة تخفف من وقع القلق في قلبه، ثم تبسم بخفوت وهو يحاول كسر حدة الموقف:
-عامل إيه يا منير دلوقتي؟
أطلق منير أنينًا قصيرًا وهو يشير إلى جسده المرهق قائلاً بنبرة مختنقة بالألم:
-زي ما أنت شايف مفيش فيا حتة سليمة بسبب جوز بنتك المجنون.
لم يستطع فاضل كتم ضحكة قصيرة خرجت رغمًا عنه ثم جلس على طرف السرير واقترب أكثر هامسًا له كمَن يفضح سرًا صغيرًا:
-بقى يا منير اقولك تروح تخليه يحس بالغيرة وتضايقه، تقوله طلقها وأنا احق بيها منك.
ارتسمت على وجه منير ابتسامة مريرة ممزوجة بالقهر والندم بينما لمعت عينيه بخيبةٍ واضحة:
-حبيت اجود يا عم فاضل، مكنتش اعرف إن جواه بلطجي نفسه يطلع، ده ماسابش حاجة إلا وكسرها فوق دماغي ولما حاولت اهرب عند يسر القادر نزل ورايا وحالف ليموتني.
ضرب فاضل كفه على جبينه بأسف واضح:
-يا بني ما انت مش طبيعي في حد يقول الكلام ده، أنا قولتلك حركه من بعيد وخليه يحس بالغيرة عليها عشان يتحرك وينزل من برجه العالي ويتصالحوا.
حاول منير أن يعتدل في جلسته فبادره فاضل بمساعدته حتى استقام قليلًا وهو يضغط على أضلاعه بحذر ثم تنهد قائلاً بنبرة محملة بالندم:
-يا عم فاضل...نوح مفيش حاجة كانت هتحركه إلا الكلام اللي قولته، وبعدين انت قولتلي خرجه عن شعوره، بس باين إن أنا بالغت شوية.
هز فاضل رأسه ساخرًا وقد شبك ذراعيه على صدره:
-شوية بس...قول شويتين...ده كسرك وجاب للبت انهيار عصبي فوق البيعة.
ارتبكت ملامح منير قليلًا شاعرًا بالذنب لسوء اختيارات حديثه مع نوح الذي تعامل بكل همجية، ثم تساءل بصوت ضعيف وقلق:
-هي يسر عاملة إيه؟ وجوزها المجنون ده فين؟
تنهد فاضل بعمق وألقى نظرة جانبية نحو النافذة وكأنه يسترجع ما حدث:
-الحمد لله بقت كويسة، والتاني قاعد برة المستشفى ماتحركش من وقتها مستني يشوفها بس على مين والله لأربيه، المهم احنا على نفس خطتنا....
اتسعت عينا منير فجأة وارتجف جسده دون وعي وهو يتذكر تفاصيل ما حدث مع نوح، وكأن صدى الضربات لا يزال يسكن عظامه:
-لا لا شوف حد غيري، أنا لا يمكن اتعامل معاه تاني، ده مختل بقولك لو مكنش صاحبه وقفه عني كان موتني.
وضع فاضل كفه على كتف منير بحزمٍ وهدوء وملامحه جادة لكنها مطمئنة:
-اخدنا منه تعهد مايجيش جنبك ماتقلقش ميبقاش قلبك طري كده، جمد قلبك وأنا هقولك تتعامل معاه ازاي من بعيد لبعيد.
ظل منير صامتًا للحظات وكأن داخله صوتان يتصارعان؛ أحدهما يصرخ بالرفض، والآخر يخشى غضب فاضل زوج خالته الذي لم يجرؤ يومًا على مخالفته بسبب أفضاله عليه وعلى والديه، وأخيرًا تنهد بعمق واستسلم دون اقتناع:
-حاضر يا عم فاضل، بس واقسم بالله لو فكر يعمل فيا حاجة أنا هسجنه بجد المرادي.
*****
كانت سيرا شاردةً تمامًا تحدق عبر نافذة السيارة كأنها تهرب بعينيها من كل شيء حولها، منفصلة عن صخب العالم الخارجي حتى بدا الأمر وكأنها خارج الزمن، استوقف السائق السيارة في المكان الذي طلبت منه التوقف عنده، ثم التفت إليها يناديها أكثر من مرة:
-آنسة...يا آنسة.
لكنها لم تجب حتى بدأ يشك في أنها فارقت الحياة لولا أن عينيها كانتا مفتوحتين تحدقان في اللاشيء، ضاق صدره من صمتها المربك فأطلق جملةً ساخرة بنبرة مستفزة:
-يا آنسة...اقسم بالله ما طبيعي أبدًا، انتي شاربة حاجة على الصبح؟!
اخترق صوته شرودها كقذيفةٍ نارية فاتسعت عيناها بصدمة، ثم أشارت إلى نفسها بحدة وهي تقول بانفعال:
-انت بتكلمني أنا كده؟
تجهم السائق وحدثها بنبرة خشنة حادة:
-اه بكلمك انتي!، هو أنا كل ما كلم حد يقولي انت بتكلمني أنا كده؟! انت مش عارف أنا ابن إيه؟؟ في أيه على الصبح؟! إيه اليوم اللي مش باينله ملامح من أوله.
حدجته سيرا بنظرة صارمة وأشارت بإصبعها نحوه محذرة:
-بقولك إيه احترم نفسك عشان....
قاطعها بعنف وهو يلتفت بجسده كاملًا نحوها من المقعد الأمامي صائحًا بصوتٍ مستفز، ونبرة تعج بالاستفزاز:
-عشان إيه يا حلوة؟ هتعمليلي إيه؟! ما تفوقي يا بت على الصبح! أنا خارج من بيتي ومش شايف قدامي ومستعد اطلع عفاريتي عليكي.
اتسعت عيناها من هول وقاحته ثم فتحت حقيبتها بسرعة تبحث عن محفظتها وهي تقول بغيظٍ مكتوم:
-أنا مش هرد على واحد مش محترم زيك، حسابك كام؟....
لكنها توقفت فجأة يدها غاصت في الحقيبة الفارغة...لا محفظة ولا حتى ورقة نقدية واحدة، تجمدت أنفاسها في صدرها وهي تسترجع ما حدث ولكنها لم تعرف أن الصغيرة "توتة" أخذت محفظتها خلسة انتقامًا منها!
رفعت سيرا وجهها إلى السائق وملامحها مذهولة، بينما وجدته هو الآخر يتشنج غضبًا ويكيل لها شتائم لم تسمعها بوضوح من وقع الصدمة.
-انت بتشتمني؟!
سألته بانفعالٍ مكبوت لكنه صرخ يضرب كفه فوق المقعد المجاور له بعنف:
-انزلي يلا يا بت وهاتي حسابي، عشان واقسم بالله أنا ثانية واحدة ومش هحافظ على لساني معاكي اكتر من كده.
ابتلعت سيرا الإهانة وهي تحاول كبح دموعها، ثم لمحت معرض يزن على مقربة منها، لكن كرامتها أبت أن تستعين به، تماسكت بكل قوتها وقالت بنبرة متعالية تحاول فيها تثبيت جذور الخوف في أرضٍ صلبة:
-نسيت الفلوس...ارجع وديني مكان ما جبتني وأنا هحسابك هناك.
كأنها أطلقت تعويذةً ألهبت غضبه فاستدار نحوها يصرخ وعيناه تلمعان بالشر:
-نعم!!! عليا النعمة أنا قولت بتشربي حاجة، انزلي يا بت...انزليلي.
هبط من السيارة بخطوات سريعة يفتح الباب الخلفي بعنف، صائحًا بصوتٍ جهوري جذب انتباه المارة:
-انزلي انتي واحدة مسطولة ولا إيه؟
تجمدت سيرا في مكانها والدموع على وشك الانهمار، فالحرج اشتعل في قلبها كالنار، خاصةً وأن أصحاب المشاريع المجاورة لمعرض يزن بدأوا يتجمعون حول السيارة، يا للفضيحة! لكنها تماسكت وأصرت بعنادٍ متشبث وهي تحاول غلق الباب مجددًا:
-احترم نفسك أنا قولتلك ارجع بيا وأنا هديك حسابك.
لكن محاولتها أوقعتها في فخ الألم؛ إذ أغلق الباب فجأة على كفها الأيمن بقوة فصرخت بألمٍ حاد، وانفرط عقد ثباتها وبكت بانفعالٍ موجع، لم تشعر بنفسها إلا وهي تندفع من السيارة لتنهال على السائق بحقيبتها ضربًا، بينما المارة يحاولون التفريق بينهما في فوضى عارمة.
-أنا هوريك المسطولة دي هتعمل فيك إيه؟
أما داخل معرض يزن...
كان يجلس في مكتبه وحده، وقد أسدل الستائر الثقيلة ليمنع أعين العاملين من رؤية حالته البائسة، عادة يزن حين يختنق يلجأ إلى العزلة، وقد أشعل التلفاز على تلاوة سورة البقرة بصوت الشيخ محمد صديق المنشاوي، تلك العادة التي ورثها عن والده رحمه الله حين قال له ذات يوم:
-القرآن ده دوا لكل هم وكرب ممكن تحس بيه، لو غمضت عينك وركزت مع كلام ربنا يا بني، هتحس إنك سافرت وبعدت عن مشاكل وهموم الدنيا في رحلة لا يمكن تعوضها بكنوز الدنيا.
أغمض يزن عينيه وأسند ظهره إلى مقعده، وغاص في الطمأنينة كغريقٍ يجد شاطئ النجاة بعد طول صراع، لا يريد أن يرى أحدًا لا زبائن ولا موظفين، فقط سكينة خالصة بينه وبين صوته الداخلي.
لم يعرف كم مر من الوقت لكنه كان يردد خواتيم سورة البقرة بخشوع حين قطع الطرق المتواصل على الباب لحظة صفائهه، أذن بالدخول دون اكتراث ليطل صابر أحد عماله وملامحه مرتبكة وصوته متلعثم:
-معلش يا يزن باشا....بس خطيبتك بتتخانق برة والخناقة كبيرة والناس مش عارفة تفضها.
في لحظة واحدة سقط هاتفه من يده والريموت بجانبه، وانطلق يركض خارج المكتب دون تفكير، حتى خرج إلى الشارع، فقد كان المشهد فوضويًا؛ سيرا تبكي بحرقة والسائق يصرخ بشتائم فجة، يحاول رفع يده ليصفعها لكنه اندفع نحوه كالعاصفة صارخًا بصوتٍ غاضب:
-انت بتعمل إيه يا راجل يا مجنون انت...
كل لحظات الصفاء التي عاشها قبل دقائق تبخرت، وشياطينه أفاقت دفعة واحدة، انقض على السائق ينهال عليه بالضرب والسباب حتى انقلب الموقف إلى عراك عنيف، والمارة يحاولون الفصل بينهما بلا جدوى، والسائق في لحظة غضب أخرج سكينًا صغيرة من جيبه يلوح به مهددًا.
لكن صوت صفارات الشرطة التي وصلت فجأة شل حركته، لتقبض العساكر على السائق ويزن معًا وسط دهشة الجميع، وقبل أن تهدأ الفوضى أشار أحد المارة نحو سيرا وهو يلهث:
-البت دي يا بيه سبب المشكلة.
فأمر الضابط بصرامة:
-هاتوها معاهم.
ارتجفت سيرا وعيناها تتسعان من الخوف، بينما الألم يشتعل في كفها المتورم، حاول يزن الاعتراض لكن الضابط قاطعه بنبرة حادة:
-هي مش فسحة يا حبيبي اركبوا وانتوا ساكتين.
تعثرت خطوات سيرا وهي تتجه نحو سيارة الشرطة، أنفاسها تتسارع ولم تعد قادرة على الكلام، ساعدها يزن على الصعود وجلس إلى جوارها، يمسك يدها المتورمة بصدمة صامتة، بينما بدأت هي تشعر بدوارٍ حاد وجفافٍ شديد في حلقها، ولم تسمع تهديده الخافت للسائق وهو يتمتم بأسنان مطبقة:
-وديني ما أنا سايبك.
التفت إليها فجأة حين ألقت رأسها المثقل على كتفه وهمست بصوتٍ متحشرج متقطع:
-يزن...مش.... عارفة....اتنفس.
انطلقت سيارة الشرطة في طريقها بينما وقف صابر وعمال المعرض في صدمة مروعة، قبل أن يمسك صابر هاتفه ويرفعه إلى أذنه بسرعة:
-الو يا زيدان باشا...يزن باشا اتاخد في البوكس دلوقتي هو وخطيبته.
وفي زاوية أخرى كان عامل آخر يتصل بـ سليم، الذي رد بصوتٍ جامد كالصخر:
-سليم باشا...الحق اخوك اتاخد في البوكس وهو خطيبته.
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااا


تعليقات
إرسال تعليق