رواية اميرة البحر القرمزى الفصل العاشر 10 بقلم اسماعيل موسى
رواية اميرة البحر القرمزى الفصل العاشر 10 بقلم اسماعيل موسى
#اميرة_البحر_القرمزى
١٠
ارتجّت ساحة القصر كأنها قلب وحشٍ عملاق ينبض تحت الأرض. الجدران العتيقة ارتفعت حول الساحة مثل حُكمٍ لا يُرد، والهواء مثقل برائحة الدم والحديد والعرق. الأعلام السوداء والخضراء تدلّت من الأبراج، والقرون النحاسية دوّت، مُعلنة بداية النزال.
القرعة تغيّرت. همس بها الجميع في أركان القصر، لكن لم يجرؤ أحد على قولها بصوت عالٍ. لم يعد هناك مجال للصدفة أو الحظ. لم تعد الطفلة البشرية ستواجه فتاة عادية من بنات الساحات، بل الأميرة "ڤيريثا"، ابنة مملكة السهول الحمراء، معروفة بجنونها، بضحكاتها التي تشقّ القلوب، وبدماء منازلاتها التي ما تزال تلطّخ أرضيات ساحات الممالك.
كانت ليانثرا تقف وسط الحلبة، جسدها الصغير ملفوف بدرع صُنع لها على مقاسها، لكنه بدا هزيلًا أمام طول وقوة خصمها. يدها شدّت على مقبض السيف الحجري حتى كادت عروقها تنفجر. ومع ذلك، لم تستطع أن تُبعد عن ذهنها صورة الضحايا الذين مزّقتهم الأميرة بأسنانها، تلك الفم التي يقولون إنها لم تتذوّق يومًا سوى دم المقاتلين.
دخلت ڤيريثا بخطوات بطيئة، جسدها النحيل مشدود كوتر قوس، شعرها الفضي مسدل يلمع تحت الأضواء، وفي عينيها بريق وحشي، كأنها لا ترى ساحة بل مذبحًا. كان فمها يبتسم، ابتسامة مشقوقة، تُظهر أسنانًا حادة كأنها نُحِتت للنهش لا للابتسام.
ضربت القيثارات، ارتجّت الطبول. ارتفعت الأصوات، لكن داخل الساحة، كان الصمت يطبق، ثقيلًا مثل كفن.
هوت الأميرة كالصاعقة، سيفها يلمع كبرقٍ مسموم. رفعت ليانثرا سيفها لتصدّ الضربة، فارتدّ الحديد بالحجر، صوت الشرر تردد في أرجاء القصر. الذراع الصغيرة ارتعشت، لكنها لم تنكسر.
تراجعت ليانثرا خطوتين، صدرها يعلو ويهبط، ثم اندفعت إلى الأمام، ضربة جانبية سريعة نحو خاصرة خصمها. لكن ڤيريثا ضحكت، وانحنت بانسياب مجنون، عضّت ذراع ليانثرا، وغرزت أسنانها في اللحم.
صرخت ليانثرا، دمها سال على الدرع، لكنّها لم تسقط. دفعت الأميرة بمرفقها، ضربتها في وجهها حتى ارتدّت إلى الوراء. الدم ملأ فم ليانثرا، لكنها بصقت على الأرض، وضربت بقدميها كأنها تقول: "أنا لم أسقط بعد."
الجمهور شهق، أحد المستشارين صرخ: "انتهى الأمر!" لكنّهما كانتا لا تزالان واقفتين.
ضربة تلو ضربة، طعنة تلو طعنة. الجسد البشري الصغير غطّته الكدمات والجروح، والدرع لم يعد يلمع بل تلطّخ بالدماء. لكن الأميرة لم تكن أفضل حالًا، خدشات عميقة في وجهها، نزيف من كتفها، ومع ذلك عينيها تزدادان جنونًا، ابتسامتها تتسع، كأن الألم وقودها.
في لحظة تعبت فيها السيوف، سقط كلا السلاحين على الأرض. لم يعد النزال نزال شرف، بل تحوّل إلى اشتباك أيدٍ وأجساد. قبضت ڤيريثا على عنق ليانثرا، دفعتها إلى الأرض، وضغطت حتى اختنق النفس في صدرها.
لكن ليانثرا رفستها بركبتها بقوة، سمعت فرقعة في ضلع خصمها. الأميرة شهقت لكنها ضحكت من جديد، انقضّت عليها بأسنانها، مزّقت جزءًا من كتفها. الدم تناثر، الجمهور صاح: "كفى!" لكن الحكم لم يرفع صولجانه.
ليانثرا، والدم يغمر وجهها، استجمعَت كل ما تعلمته: تكتيك الجرادة، قتال العمياء. أغمضت عينيها، مدّت يدها إلى الأرض، قبضت حفنة تراب رطب ممزوج بالدم، وقذفته في وجه الأميرة.
ڤيريثا صرخت، عيناها احترقتا. في تلك اللحظة، لم يكن أمام ليانثرا إلا أن تنهض وتضرب، بكل ما تبقى لها. قبضت سيفها من جديد، وضربت به كتف الأميرة، شقّت لحمها حتى سال الدم.
لكن الأميرة لم تسقط. بالعكس، ضحكت، ضحكة جعلت القصر كله يرتجف، ثم هوت على ليانثرا بوزنها كله، كلاهما سقطتا في بركة الدماء.
الجمهور لم يعد يصفّق، بل وقف، عيونه شاخصة، أنفاسه محبوسة. الضربات صارت بطيئة، مرهقة، جسدان يتصادمان بلا قوة، لكن برغبة لا تموت. كلما اعتقدوا أن واحدة ستسقط، نهضت، متمايلة كطيف، كأن الموت يرفض أخذهما.
أحد القادة همس: "هذا ليس نزالًا… هذه ملحمة دم."
الطفلة البشرية، بوجهٍ غارق بالدم والعرق والدموع، نظرت نحو خصمها التي ما زالت تبتسم بأسنان دامية، وأدركت أن النزال لن يُحسم إلا إذا بقيت واحدة فقط تتنفس.
رفعت سيفها من جديد، رغم أن ذراعيها ترتعشان كأغصان تحت العاصفة، وهمست في قلبها: لن أُباع. لن أكون الأميرة التي تبكي في القصر الأسود. لن أُنسى.
ثم انطلقت، والساحة كلها شهقت مع الضربة التالية.
منذ أن أشرقت شمس ذلك اليوم، والساحة امتلأت بجنونها الصاخب. لم يكن أحد يتوقع أن يطول القتال، فالقرعة زُوّرت كي تكون نهايته سريعة، دم بشري على رخام الحلبة، ضحكة أميرة معتادة على التهام خصومها. لكن مع مرور الساعات، لم يعد النزال مجرّد مباراة، بل أسطورة تُكتب لحظة بلحظة.
بدأ القتال بضربة، فردّت الأخرى بضربة، وكأنهما انعكاس لبعضهما. سيف ينهال من الأعلى فيُصدّ، وخطوة جانبية تقابلها التفافٌ مماثل. كل جرحٍ تفتحه الأميرة في جسد ليانثرا، تردّه الطفلة بجُرحٍ مماثل في جسد خصمتها.
الدماء لم تعد تلطّخ الأرض فقط، بل كوّنت سواقي صغيرة امتزجت بالغبار. كل شهيق من الجمهور صار نذيرًا بأن واحدة ستسقط، لكنهما تنهضان في كل مرة، متمايلتين، والدم يسيل من الوجوه والأذرع والسواعد.
الطبول صمتت منذ زمن، لم يعد أحد بحاجة لها، إذ أن ضربات السيوف وارتطام الأجساد صارت هي الإيقاع نفسه.
رهانات جديدة ضُربت في الخلفية. أصوات التجار والمستشارين امتزجت بالصراخ: "ستموت الطفلة!" ثم بعد لحظة: "لا، إنها ما تزال واقفة!"
مرّ النهار، والشمس ارتفعت، ثم بدأت تميل، وكلتا المقاتلتين بالكاد تستطيعان رفع السيوف.
عندما تمايلت ليانثرا على قدميها، والعرق والدم يغطيان شعرها ووجهها، كادت تسقط. لكن عينيها وقعتا على الحشد، على وجهٍ واحد وسط الجموع، امرأة عجوز بملامح غريبة، عينيها متقدتان كجمرتين في بحر من الوجوه اللامبالية.
لم يعرفها أحد غيرها، لكن رؤيتها فجّرت شيئًا دفينًا في صدرها. عندها فقط همست، بصوت لم يسمعه أحد:
"لن أموت اليوم."
ثم عضّت على جرحها كي لا تصرخ، رفعت سيفها من جديد، واستعادت وقفة المقاتل.
مع اقتراب الغروب، كان الجسد البشري الصغير والهيكل الجنيّ الشرس قد بلغا ما وراء حدود التحمل. لم يعد الأمر نزالًا بل صراعًا بين إرادتين، بين موتٍ يتأجل كل لحظة.
اشتباكا معًا، الأيدي فوق الأيدي، السيوف تتشابك وتنفصل، ثم تدحرجا على الأرض مثل وحشين متعطشين للدم. الغبار ارتفع، والجمهور صاح كأن الأرض تميد بهم.
عندما توقّف التدحرج، كانتا متعانقتين في حفرة من الطين والدم، السيوف تضغط. صرّت ليانثرا أسنانها، وحشدت آخر ذرة قوة باقية في ذراعيها. صرخت، صرخة قصيرة كشرارة أخيرة، ثم غرزت السيف في صدر خصمتها.
توقّف كل شيء.
ضحكة الأميرة انقطعت فجأة، تحولت إلى شهقة قصيرة، ثم نظرة مدهوشة كأنها لا تصدق أن بشريّةً استطاعت فعلها. الدم اندفع من فمها، سقط رأسها على كتف ليانثرا، وجسدها ارتخى ببطء حتى غاص في الوحل.
سكتت الساحة كلها. لا طبول، لا تصفيق، لا حتى شهقات. فقط أصوات الريح وهي تمرّ فوق الدماء المتبخرة.
ليانثرا، بالكاد واقفة، سيفها ما زال مغروسًا، جسدها يرتجف، لكنها لم تسقط.
ثم، فجأة، تعالت صيحة واحدة من أحد أركان الحشد. تبعتها أخرى، ثم مئات، ثم صار القصر كله يهتزّ بصوت لا يصدق:
الطفلة البشرية لم تمت. الطفلة البشرية انتصرت.
في الليالي التي تلت النزال الأسطوري، كان القصر العتيق يضجّ بأحاديث لا تنتهي عن "الطفلة البشرية". الدماء التي سالت في الساحة لم تجفّ بعد من ذاكرة الجان، والرهانات الخاسرة ما زالت توجع أصحابها. لكن داخل القصر، خلف الأبواب الثقيلة، كان هناك ما هو أبعد من التمجيد أو الاستهجان: عرض لم يُرَ مثله من قبل.
دخل الخدم أولاً، بوجوه شاحبة، يتعثرون تحت ثِقَل الصناديق. ثم جاء رجلٌ قصير بملابس رسمية، لا يكشف هويته، يحمل ختمًا غريبًا يرمز لأحد أمراء الجان المجهولين. لم يذكر اسم سيده، ولم يطلب الجلوس طويلًا. اكتفى بإيماءة، وانفتح غطاء الصندوق الأول.
الذهب انسكب بريقه على طاولة الجنيّة الأم، صفائح ثقيلة منقوشة بشعارات ممالك بعيدة، كُتَل من السبائك تتكدّس بجوار أكوام من الجواهر الملونة. بدا كأن شمسًا ثانية أشرقت في قاعة الاستقبال.
رفع المبعوث رأسه وقال بجفاء:
"سيدي الأمير يقدّم هذا عربونًا فقط. إن قبلتِ، ستصلكِ قوافل أخرى. يريد الفتاة… يريدها حية، ومهما كلّف الثمن."
كان القزم حاضرًا، جالسًا في ظلّ أحد الأعمدة، يراقب بعيون صغيرة متأهبة. وما إن رأى الذهب يتلألأ حتى نهض ببطء، يضرب بعكازه أرض القاعة. صوته، على ضعفه، انشقّ حادًا:
"لن تُباع! أليست بشرية؟! نعم. طفلة؟! نعم. لكن دمها سال بيننا، وعرقها امتزج بعرقنا. أيها العميان، ألا ترون؟! لقد صمدت أمام ما لا تصمد له جنيّة أميرة. إن بعتموها، بعتم أنفسكم!"
كانت الجنيّة الأم تنصت، لكن بوجه بارد، كأن كلماته لا تخترق جدارًا من صخر.
اقتربت الأم، خطواتها رنانة فوق الرخام، وقفت قبالة القزم، نظراتها حادّة كالخناجر.
"كفى،" قالت ببرود. "أنت مجرد مدرّب قبو، نسيت مكانك. منذ متى صار لك رأي في ما أقرره أنا؟"
حاول الاعتراض مرة أخرى، لكن حرّاسها التفوا حوله. يدان خشنان أمسكتا بذراعيه، وسُحب خارج القاعة رغم ركله للأرض وصراخه:
"ستندمين! الذهب لا يساوي دمها! ستندمين!"
الباب الثقيل انغلق من ورائه بصدى عميق، كأنه ختمٌ على مصير مجهول.
في الطابق العلوي، خلف ستائر سميكة تفوح منها رائحة الأعشاب الطبية، كانت ليانثرا ممدّدة على فراشها. يد الطبيب تضع المراهم فوق جروح كتفها، وتثبّت ضمادات مشدودة حول ساقها.
لكن أذنها الصغيرة التقطت كل شيء. صدى الكلمات ارتطم بجدران القصر ثم وصل إليها، واضحًا رغم الفواصل: الذهب… الأمير… البيع…
فتحت عينيها نصف فتحة، تحدّق في السقف المزخرف، وقلبها يضرب كطبل معركة. لم تستطع تحريك جسدها الواهن، لكن الكلمات التي سمعتها كانت كافية لتزرع جمرًا في صدرها.
"يريدون بيعي… بعد كل هذا."
الهواء صار أثقل من الضمادات على جسدها. وفي أعماقها، لأول مرة، ولدت فكرة لم تكن جُزءًا من تدريبات القزم، ولا من وصايا الجنيّة الأم: الهرب.
تحت جنح الليل، حين غرق القصر القديم في سبات ثقيل، فتحت ليانثرا عينيها. الألم ما زال يعتصر جسدها من النزال الأخير، لكن فكرة البيع ظلت كشوكة مسمومة في صدرها، تمنعها من النوم. شدّت الضمادات حول كتفيها، ارتدت ثوبًا داكنًا أعدّته الخادمة العجوز، ثم انزلقت من الفراش كظلّ ينساب بين الجدران.
خطواتها خفيفة، لكنها متوترة، كلما صرّت الأرض تحت قدميها اعتقدت أن القصر كله سمعها. عبرت الممرات الموشّاة بالسجاد الأزرق، تفادت الحراس النائمين قرب الأبواب، وأخفت نفسها بين الأعمدة العملاقة حتى وصلت إلى البوابة الخلفية. هناك، بلمسة صغيرة على القفل الموشوم برموز الجان، انفتح كأنّه يعرفها.
خارج الأسوار، في ظل شجرة ملتوية الجذور، كان القزم متكوّرًا على نفسه، رأسه متدلٍ، وقد غلبه النعاس رغم أنه وعد نفسه أن يظل ساهرًا. صرير البوابة أيقظه، لكنه لم ينتبه سريعًا. وحين فتح عينيه، وجد ليانثرا واقفة فوقه، تنظر إليه من أعلى، شعرها منكوش بفعل الريح وعيناها تلتمعان بصلابة غير مألوفة.
ارتبك وهو يفرك عينيه:
"يا آلهة الجان…! كدتِ تقتلينني رعبًا! كيف خرجتِ؟"
قالت بهمس مشدود:
"لن أباع كقطعة ذهب. إن كنت ستساعدني، فلنهرب الآن… وإلا سأهرب وحدي."
نظر إليها طويلًا، ثم تنهد، وابتسامة حزينة تسللت إلى وجهه المجعّد:
"ها أنتِ تكبرين، يا صغيرة… فلننطلق."
قادها إلى وادٍ قريب حيث كانت أحصنة سحرية تنتظر، خيول ذات جلود شفافة يلمع في داخلها ضوء أزرق كأن نجوماً محبوسة في عروقها. عيونها تشعّ من الداخل كجمرات حية، وحوافرها لا تترك أثرًا على الأرض.
امتطت ليانثرا واحدًا، وساعده القزم على تثبيت ردائها حتى لا يعرقلها. وما إن ضغطت بكعبيها على جنبي الحصان حتى انطلق كوميض، يقطع الحقول ويبتلع المسافات.
ركضوا بعيدًا عن حدود المملكة، الريح تصفع وجوههم، وصوت القصر صار ذكرى بعيدة. لم يلتفتا، كلاهما يعلم أن العودة مستحيلة.
إلى الشرق قادتهم الخيول، حيث السماء أكثر حُمرة والنجوم أكثر قربًا، وكأنها تراقب خطواتهم. وبعد ساعات طويلة، لم يبقَ أمامهم سوى غابة مسحورة، أشجارها متشابكة كأذرع عمالقة، أغصانها تحمل ثمارًا متوهجة تشبه القناديل، وجذوعها تنزّ رحيقًا أخضر يقطر كالدمع.
حين دلفوا إليها، خيّم عليهم سكون غريب. لا طيور، لا نسيم. فقط همس غير مفهوم يتردد بين الأشجار، كأن الغابة نفسها حيّة وتراقب.
قال القزم وهو يشدّ لجام حصانه:
"إياك أن تثقي بما ترينه هنا. الغابة تحب أن تلعب بعقول الغرباء."
لكن ليانثرا، بعينين متقدتين، هل تسمع الهمس ؟
ثم تركا الاحصنة وترجلا ليخترقا أشجار الغابه وييتلعهم الظلام
تكملة الرواية من هناااااا
لمتابعة باقى الرواية زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كاملة من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هناااااا


تعليقات
إرسال تعليق