القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية فراشة في سك العقرب الجزء الثاني (حب أعمى)الفصل الثالث وعشرون 23بقلم ناهد خالد حصريه

 رواية فراشة في سك العقرب الجزء الثاني (حب أعمى)الفصل الثالث وعشرون 23بقلم ناهد خالد حصريه


 



 رواية فراشة في سك العقرب الجزء الثاني (حب أعمى)الفصل الثالث وعشرون 23بقلم ناهد خالد حصريه



 


الفصل الثالث والعشرين


الفصل الثالث والعشرين من الجزء الثاني

فراشة في سُكّ العقرب

ناهد خالد

حب أعمى


"هناك مواقف يُصعب على العقل استيعابها، كفقد عزيز! لا يستوعب العقل رحيله، تشعر كأنك في كابوس بشع سيقتلك ألمًا إن لم تفق منه، تشعر بدوران كل شيء من حولك وحتى الأصوات التي تسمعها باتت وكأنها تأتي من أحلامك! وإن خلدت للنوم تستيقظ ناسيًا ما حدث لبعض الوقت حتى تستطيع أن تجمع أفكارك وتنتبه، الحقيقة أن أصعب ما في الفقد هو الاستيعاب أولاً.. أن تستوعب أنك فقدت ذاك الشخص.. وبعدها تأتيك كل مصاعبه دفعة واحدة"


ناهد خالد...


يا وَيحَ هَذا الفِراقِ ما صَنَعا

بَدَّدَ شَملي وَكانَ مُجتَمِعا

مَن لَم يَذُق لَوعَةَ الفِراقِ فَلَم يُلفَ حَزيناً

وَما رَأى جَزَعا

وَكلُّ شَيءٍ سِوى مُفارَقِة ال أَحبابِ مُستَصَغَرٌ وَإِنفَجَعا..


العباس بن الأحنف..


" هُوَ المَوتُ عَضبٌ لا تَخونُ مَضارِبُه وَحَوضٌ زُعاقٌ كُلُّ مَن عاشَ شارِبُه وَما الناسُ إِلّا وارِدوهُ فَسابِقٌ إِلَيهِ وَمَسبوقٌ تَخِبُّ نَجائِبُه يُحِبُّ الفَتى إِدراكَ ما هُوَ راغِبٌ وَيُدرِكُهُ لابُدَّ ما هُوَ راهِبُه فَكَم لابِسٍ ثَوبَ الحَياةِ فَجاءَهُ عَلى فَجأَةٍ عادٍ مِنَ المَوتِ سالِبُه "


ابن رازكه..


اللهمّ املأ قبرها بالرّضا، والنّور، والفسحة، والسّرور، اللهمّ إنّها في ذمّتك وحبل جوارك، فقِهِا فتنة القبر، وعذاب النّار، وأنت أهل الوفاء والحقّ، فاغفر لها وارحمها، إنّك أنت الغفور الرّحيم".


كلمات رددها الشيخ أثناء دفنها وشقيقيها يحملان جسدها الملفوف بعناية في قماش أبيض ناصع، ينزلان بها لمثواها الأخير، أحدهما يحملها من كتفيها ورأسها والآخر يحملها من قدميها المضمومان معًا ليصبحا قطعة واحدة، وينزلان بعض درجات تنتهي بهم أسفل الأرض حيثُ مستقرها الأخير.

ولو كان الموقف غير الموقف، وتبدل الحال لاستطاع أحدهما حملها، ولكن الحقيقة أن ليس فيهما من يملك أعصاب كافية لحملها بمفرده، ليس فيهما من يجمع شتات نفسه لهذا القدر، وظاهريًا "شاهين" متماسك، و"مازن" في انهيار تام يبكي ودموعه تغرق وجهه، يشهق بين بكائه غير عابئًا بوجود أحد، أما "شاهين" فلم تظهر له دمعة واحدة!


وصلا للأسفل فأشار لهم الرجل المسؤول عن المدافن بكيفية الوضع الصحيح لها، فوضعاها أرضًا وما أقساها لحظة!


انهار فيها "مازن" أكثر باكيًا وهو يجلس على ركبتيهِ كشقيقه، يتمتم بكلمات كثيرة لا تُفهم ولا تُسمع من بكائه، وهو يلمس جسدها بحنو بالغ وكأنها ستُكسر، وكانت كلماته لا يفهمها سواه لكنها في الأغلب اعتذارات كثيرة وندم بالغ وحزن كاسر، ورُبما ما مُيزَ من كلماته أخر حديث قاله



" لسه بدري... والله لسه بدري... مالحقناش نعيش مع بعض كويسين.. ملحقتش اعدي وجع موت أمك وابوكِ، سبتيني بدري.. بدري أوي.. أنا غبي... أنا أسف.. أنا غبي"




و "شاهين" لم يكن يسمعه من الأساس، فكان في ملكوت خاص بهِ يتذكر حديثها له، وضحكتها... صوتها المألوف، وجمال طلتها، يتذكر أخر حديث جمع بينهما وهي تعبر له عن حبها ومعزته لديها..


" انا مش عارفة من غيرك كنت عملت إيه، أنا بحبك اوي يا شاهين، انتَ سندي وضهري وأغلى حاجه عندي"


ويتذكر وقفتها في وجه مازن ودفاعها عنه بكل صدق وحب


"مين قرر أن علاقتنا بيه اتقطعت؟ انتَ؟ طب وانتَ تقررلي ليه؟ مازن انا مش مقتنعة بولا حاجة من اللي انتَ مقتنع بيها ومدياك مبرر قوي إنك تعادي اخوك، انا بس كنت بجاريك عشان مش عاوزه اخسرك اوي يكون في مشاكل بينا، لكن واضح اني كنت غلط، ومكانش ينفع اجاريك ضد اخويا.. انتَ اخويا وهو كمان اخويا، مكانش ينفع اقف في صف واحد قصاد التاني"


"استنى يا شاهين هاجي معاك"


وحين رنت جملتها الأخيرة في أذنه مرة أخرى، كأنها قالتها للتو، كان يردد بخفوت:


_للأسف انا مش عارف اقولك استني هاجي معاكِ.. صعبتيها... صعبتيها أوي.


_يلا يا جماعة كفاية كده.. سيبوها ترتاح، وربنا يصبركوا.


قالها الرجل وهو ينظر لهما بشفقة وأكمل:


_بس حد يفك لها ربطة الراس.


وهُنا انتقض "شاهين" واقفًا يخرج من المدفن كمن يركض وراءه أسد جائع، فمدَ "مازن" كفه المرتعش يفك الرباط ويفتح الكفن ليرى وجهها لآخر مرة، طالعها بأعين ينهمر منها الدموع، ومال برأسه جانبًا يعاتبها بصمت، يعاتبها على ماليس لها دخل فيه، لكنه عاجز.. وهل يستطيع فعل شيء آخر؟

خرجت شهقات عنيفة منهُ زُينت بكلماته حين قال:


_هنتقابل... هنتقابل... قريب.. يارب قريب.


ولم يكن وعد باللقاء قريبًا بل كان دعاء بقرب اللقاء.


وخرج بقدمان هلامية فالتقط ذراعه صديقه "مدحت" يعينه على الخروج من القبر، وأسنده ليقف جواره والشيخ يقرأ لها بعض الأدعية والفاتحة.


"شاهين" يقف قاطبًا ما بين حاجبيهِ والوجوم يزين وجهه، ضامًا ذراعيهِ أمامه في وقفة آلية تحترم قدسية المكان الموجود فيه، شامخًا كعادته وكأن لا شيء يكسره!


_هو شاهين ازاي واقف كده؟ ده اخوه هيموت من الزعل؟ ده ولا كأنها أخته!


قالتها "مستكة" التي تسند "فيروز" وكلتاهما متشحتان بالسواد، لتجيبها "فيروز" الباكية بصوت مبحوح ومتألم من وقفتها:


_مش لازم يعيط ويصوت عشان يكون موجوع على أخته! ربنا اللي عالم باللي جوه كل واحد... انا الجرح شادد عليا أوي.



_قولتلك ماتجيش، مكانش ينفع جيتك في البهدلة دي، يعني من المستشفى للجامع للترب، غير امبارح طول الليل وانتِ معاهم في المستشفى.


اجابتها معترضة:


_كانت هتبقى قلة ذوق اوي يعني، وبعدين انا بجد حبيتها، وعاوزه اوصلها لاخر مكان ليها، انتِ متعرفيش قلبي موجوع عليها ازاي.


أيدتها "مستكة" في نبرة حزينة وهي تمسح دموعها المتساقطة:


_ومين سمعك.. ده انا اللي معاشرتهاش غير كام يوم عرفت قد إيه طيبة وبتحب الدنيا والناس، ربنا يرحمها، اعوذو بالله ده وقت ما الخبر وصل الفيلا كأن المكان ولع بينا مكناش مصدقين.


غمغمت "فيروز" وهي تنظر لشاهين بشفقة:


_تعرفي انه رفض خالص يدخل يشوفها في المستشفى، مازن دخل بس هو رفض، حتى رفض ياخد حاجتها اللي طلعوها، وانا اللي خدتهم، زي ما يكون رافض أي حاجة تثبتله إنها ماتت!


_يا عيني.


قالتها "مستكة" بشفقة وهي تنظر له، وبينما كانت تتابعه بعينيها رأت "شدوى" تقف جواره، تربط بكفها على كتفه وتهمس بكلمات بالطبع لم تسمعها أو تخمنها، لكنها بالتأكيد تواسيه، ضغطت على أسنانها بضيق شعرت بهِ، ولولا أنها تحكمت في نفسها لاندفعت تجاوره وتأخذ محلها في مواساته، رأت أن ما تفعله هو حقها هي، ليس عليها أن تكن جواره لهذا الحد، هي تستغل الموقف.. تستغل أنه لن يبعدها، لن يصدها في موقف كهذا فهو في وادٍ آخر.


ودون أن تشعر بنفسها تركت كف "مستكة" وتحركت ناحيتهما مندفعة بمشاعرها التي أحثتها على فعل هذا، ووقفت جواره من الجهة الأخرى، وفي لحظتها أعلن الشيخ الانتهاء وبدأ الجميع في المغادرة، إلا الأخوان وفيروز وشدوى ومدحت وعائلة شاهين المتمثلة في جده وعمه وعمته وسيف وزوجته الذين حضروا لتأدية الواجب..


بدأ الجميع يحث الأخوين على التحرك، وذهب الجد ل "شاهين" يخبره أنه لا داعي من الوقوف، لتتدخل "فيروز" قائلة:


_بس الأفضل نقف شوية.. انا اعرف ان الميت بيكون حاسس بينا ومش عاوزنا نمشي، والمفروض نقف شوية على قبره نونسه لحد ما يتعود على مكانه الجديد.


اعترضت "شدوى" تقول بضيق خفي:


_مفيش حاجة اسمها كده، الميت مبيحسش بينا اصلاً.


ووافقتها العمة تقول:


_يا بنتي الانسان بقى في ملكوت تاني، ووقوفنا ملوش داعي.


_فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شنا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي. 


قالها "مدحت" متدخلاً في الحديث وأكمل:


_سيدنا عمرو بن العاص قال كده، والنبي كان بيفضل الوقوف على قبر الميت بعد دفنه ندعيله ونطلبله الرحمة وإن ربنا يخفف عنه وقت السؤال


وصمت الجميع بعدها، ليخرج صوت "شاهين" يقول دون الالتفات لهم:


_ياريت تخرجوا.. مفيش داعي لوقفتكوا.


_ازاي بس يا حبيبي ماحنا معاك اهو، مين قالك اننا مستتقلين الواقفة؟


قالها الجد وهو يربط على كتف حفيده، لينظر له "شاهين" نظرة فهم معناها وقال:


_كده هيكون أحسن.


اومأ له الجد متفهمًا رغبته في الانفراد بعيدًا عن الجمع، فقال ملتفًا لهم:


_يلا يا جماعة لو سمحتوا.. سبوهم مع اختهم شوية.


وبدأ الجميع في الانسحاب حتى شدوى بعدما أشار لها الجد، ولكنه لم يشاء أن يترك فرصة لانهيار الأخوين، فأشار ل "مدحت" و "فيروز" بالبقاء، فتنهدت الأخيرة براحة وقد كانت تكره الإنصراف.


اتجه "شاهين" للجلوس على رأس الدرج المؤدي لأسفل، وتحرك "مازن" بعده يجاوره في الجلوس، ينظران للقبر بأعين تحكي الكثير، وكلاً منهما بداخله أحاديث لا تنتهي، وحسرة لا يتحملها العالم أجمع، وحزن إن قُسم على قبيلة سيفيض.


بعد ساعة كاملة....


_مكنتش اعرف أنها هتمشي بدري كده، لو كنت اعرف كانت حاجات كتير اوي هتتغير.. مكنتش هعاند، وازعلها، مكانتش...



شهقة قوية خرجت من بين بكائه ثم أكمل:


_مكانتش هسبها تعيش عندك.. ولا هقعد بالأيام والاسابيع مكلمهاش، حاجات كتير كانت هتتغير... كتير.


استمع له "شاهين" وهو لا يعرف هل يحدثها بالعنية أم يحدث نفسه! ولكنه رد بصوت جامد:


_محدش بيعرف... مفيش حد بيستأذن عشان يموت.


أكمل وهو يهز رأسه بعجز وألم:


_بعتتلي رسالة وهي جيالي في الطريق.. وانا رديت عليها، رديت قولتلها انا مش محتاج حد جنبي ومسألة وقت وهرجع شغلي.. الحمد لله أنها مشافتش الرسالة... لو كانت شافتها مكنتش هتحمل اتأكد إنها راحت زعلانة مني... هي... هي قالتلك إنها زعلانة مني؟


سأله وهو ينظر له في أمل ورجاء ألا ينطق بما سيذبح قلبه، فرد "شاهين" دون النظر له:


_مكانش في أطيب من قلبها... قلبها اللي كان بيسامحك بعد كل مرة بتوجعها فيها، وكانت بتجري عليك لو عرفت إنك في مشكلة، أول ما عرفت إنك انفصلت واتحولت للتحقيق قالتلي هروحله، لازم اكون جانبه... بس انتَ دايمًا كده، بتعاند، وبتخلي اللي حواليك يفكروا إنك مش باقي على حد، ولا محتاج حد.


أردف بنبرة مبحوحة:


_ترجع... ترجع وانا والله ما هعمل معاها أي حاجة تزعلها خالص.. وهعملها كل اللي كان نفسها فيها.


_الوقت عدى خلاص، محدش بيرجع.


وصمتا الاثنان بعدها، كلاهما يرثي فقد عزيز له، كلاهما يأكله الحزن أكلاً، واليد عاجزة عن تقديم الخلاص.



نظرت "فيروز" التي استندت على السور خلفها بتعب ل "مدحت" تحثها على التقدم منهما لينهضا، فيكفي الوقت الذي مضى، ففعل وهو يقترب من "مازن" وهي تقترب من "شاهين"، جذب ذراع صديقه برفق يقول:


_يلا يا مازن، يلا يا حبيبي كفاية كده لازم ترتاح شوية.


هز رأسه له برفض يقول:


_مش هسيبها، انا هفضل معاها عشان بليل متكونش لوحدها.


اتسعت أعين "فيروز" بصدمة، هل ينوي البقاء ل الليل؟

             

مدت كفها تنبه بهِ" شاهين" وهي تضعه على ذراعه تهزه برفق وقالت:


_وجودكوا هنا أكتر من كده ملوش داعي، ولازم تروحوا ترتاحوا شوية.


لم يجبها لدرجة أنها كادت تناديه ظنًا منها أنه لم يسمعها..


لكنه نهض عوضًا عن الرد، والتف متجهًا للخارج، سامعًا محاولات "مدحت" البائسة مع "مازن" الذي يرفض التحرك خطوة، وقف ينظر ل "فيروز" التي تتبعه بخطوات بطيئة وبعيدة، فوجدها تسير ببطئ يبدو عليها التألم، فقال وهو ينظر لها بجبين مقطب:


_انتِ تعبانة؟


اندهشت من ملاحظته لها، فوضعه بالطبع لا يسمح للتدقيق في حال من حوله، واهتمامه هذا بعث شيء ما لقلبها، هزت رأسها هزة بسيطة وهي تجيبه:


_وجع بسيط.


رأى كفها الموضوع فوق الجرح، فزفر زفرة قوية بضجر واضح وقال:


_مكانش المفروض تيجي.


_مكانش ينفع.


قالتها بصدق، فقال وهو ينوي استكمال سيره:


_يلا نعدي على المستشفى.


_مش هتقوم اخوك؟


همست له قبل أن يستدير فنظر لها بصمت وجمود، ابتلعت ريقها وهي تُكمل:


_صاحبه مش قادر عليه.. مينفعش يفضل هنا لبليل.


نظر من خلفها لمحاولات "مدحت" الفاشلة لجعله ينهض، وعاد ينظر لها فحثته بنظراتها أن يفعل وعززت هذا تقول بنبرة حزينة:


_أكيد نورهان مش هتكون مرتاحة وهو متذنب طول اليوم جنبها وييجي عليه الليل وهو في وضعه ده.


تقسم أنها فورًا رأت الدموع تلمع في عينيهِ قبل أن تختفي، وكأن بكائه سيدفع عليهِ غرامة! وكأن حزنه مُحرم عليهِ الظهور!


سكنَ لثواني أخرى يحسم قراره، قبل أن يتجه له يقف مجاورًا لجلسته وقال:


_قعدتك ملهاش لازمة، قوم يلا.


_مش...


قاطعه بحدة هذه المرة وهو يجذبه من ذراعه ليقف:


_قولت قوم، قعادك جنبها مش هيفيدها.


نهض يواجهه ونظرا الاثنان لبعض ثواني في صمت حتى قال "مازن" ما فاجئ الجميع وأولهم "شاهين" لكنه ابتلع صدمته في مرارة:


_انتَ اللي جبتلها العربية دي.. محدش كان موافق، لا انا ولا ماما، وبابا كان ماشي وراك.. قولت مش عاوزها يكون نفسها في حاجة وجبتهلها.


ابتسم "شاهين" ابتسامة قاسية، مريرة وقال مكملاً عنه الحديث:


_فأنا السبب في موتها.


نظر له صامتًا لبعض الوقت، النظرات محتدة و حزينة، واللسان صامت، حتى انفجر "مازن" في بكاء جديد وهو يفاجئ "شاهين" لثاني مرة، ويُلقي بنفسه عليهِ، يعانقه بقوة، ويبكي... يبكي محاولاً إخراج القليل من قهرته.


تيبس جسد "شاهين" للوهلة الأولى، ثم احاطه في صمت، وملامحه كما هي...جامدة.


_مكنتش بتحب تكسر بخاطرها في أي حاجه.. كنت دايمًا جنبها وعمرك ما قولتلها كلمة تزعلها، اكيد.. اكيد هي دلوقتي حباك انتَ أكتر مني، ومسمحاك وأنا لأ.


قالها "مازن" وهو مازال يعانقه، ليقول "شاهين" في نبرة هادئة:


_قولتلك نورهان مكانتش تعرف تزعل منا، وكانت بتحبك زي ما بتحبني.


استمر العناق لبعض الوقت، حتى أخرجه "شاهين" في رفق وهو يقول:


_يلا نمشي.


---------------


عاد "مازن" لشقته وذهب "شاهين" مع "فيروز" للمستشفى، على موعد ليلاً لإقامة العزاء بفيلا شاهين كونها بيت العائلة الأصلي.


_واضح إنك عملتِ مجهود زايد.


قالتها الطبيبة وهي تضع الضمادة النظيفة فوق الجرح بعدما قامت بفحصه وتطهيره، وأكملت:


_كان فيه بس غرزتين فكوا وانا عديت خياطتهم بعد ما رشيت المخدر.. اهم حاجه تحاولي ترتاحي لأسبوع لحد الجرح ما يلم.


اومأت لها بطاعة وشكرتها على ما فعلته، ثم تحركت هي وشاهين للخارج.


استقلت السيارة بجواره فقال بنبرة متعبة:


_لو عاوزه تمشي متشغليش بالك بالظروف اللي احنا فيها.. دي ظروف متخصكيش.


نظرت لجانب وجهه بغيظ حقيقي، إنه لم يعد يفكر في شيء إلا في رحيلها!! والتزمت الصمت، لم تجيبه بشيء كأنها لم تسمعه، حتى نظر لها وقال:


_سمعتِ؟


ضغطت على أسنانها اولاً تخرج غيظها ثم قالت:


_اه سمعت...


وأكملت في نبرة خرجت حادة قليلاً:


_تمام، همشي الصبح.


و"الصبح" تعني غدًا، عاد ينظر أمامه قبل أن يريح رأسه على ظهر المقعد مغمضُا عينيهِ لبعض الوقت.


وهي تنظر له بشفقة، هي تعلم ما يعانيه حتى وأن أخفى، تدرك انه مشطور نصفين من الحزن لكنه يكابر، ويتظاهر بالجمود، رُبما شخصيته هي ما تفرض عليهِ هذا، ورُبما هو ما يفرض هذا على شخصيته، ولكن النهاية واحدة... هو حتمًا ليس بخير.




--------------

وكأنه يدلف شقته للمرة الأولى منذُ سنوات، وكأنه للتو يتعرف عليها، يتفقد اجزائها، ينظر يسارًا ويمينًا، يراها في كل مكان، يسمع ضحكاتها وصوتها، ينتظرها تطل عليهِ كعادتها حين يأتي من العمل فيسألها عن الطعام، فتبتسم له ببرائه تخبره أنها لم تحضره، وكالعادة ينتهي الحال بالطلب من أحد المطاعم، يتذكر ثورانه وغضبه بسبب عمله وذهابه وإيابه في الشقة دون هدى، فيسمع صوتها يقول "الشغل ده هيجيب أجلك"، ليته فعل! ليت عمله قضى عليهِ قبل أن ترحل هي.


جلس مرتميًا فوق الأرضية بجوار باب الشقة، ضامًا قدميهِ لصدره دون أن يحيطهما بذراعيهِ المتهدلتيان جواره، وأسند رأسه على الحائط، ودموعه رفيقته، وللحقيقة لم يكن يعلم أن لديهِ كل هذا القدر من الدموع.


بعد وقت كان بدأ في التفوه ببعض الكلمات والصراخ، يترك العنان لمكنونات صدره بالخروج، فلا أحد سيسكته، ولا أحد سيسمعه، خصوصًا وأن الشقة المقابلة لشقته غير مسكونة.


_ليه يا نورهان! ليييه! هونت عليكِ تعذبيني كده... يوم ما تفكري تسيبينا يكون بينا مشاكل.. تسبيلي وجع فراقك وقهرة إنك كنتِ زعلانة مني!... انا استاهل... والله استاهل... بس تقيلة عليا... الشيلة المرادي كسرت ضهري يا ختي والله... كسرتِ ضهري يا نورهان... يارب... يااارب الصبر... الصبر..


-----------------


لم يرتاح "شاهين" رغم حث الجميع له على أخذ القليل من الراحة، لكنه لم يسمع لأحد، بين متابعته بنفسه لصوان العزاء المُقام في فناء الفيلا، لمتابعته لأعماله مع السكرتيرة الخاصة بهِ عبر الهاتف، والتي كان يتحدث معها حين قالت:


_شاهين، انا عاوزه اجي العزا بليل، مينفعش مكونش موجودة جنبك في موقف زي ده.


_وجودك ملوش داعي، متتعبيش نفسك.


اعترضت بإصرار تقول:


_ازاي متعبش نفسي! انا مش هرتاح إلا لما اكون موجودة و...


قاطعها بنبرة تعرفها جيدًا:


_قولت متجيش... خلِصنا؟


اختنق صوتها ببوادر بكاء وهي تجيبه:


_تمام.. اللي تشوفه.


وأغلقت معه الهاتف تبكي بمرارة، تنعي وجودها في حياته، هي تحبه.. ولم تندم للحظة على الزواج منه حين عرضَ عليها، ولكن وضعها يؤلمها، وهو لا يعطيها أي صلاحيات، دومًا يقصيها عن حياته الخاصة، وتبقى هي مجرد زوجة مخفية، لا أحد يعرف عنها ولا ينبغي لأحد بأن يعرفها، لن تنكر أنه ينعمها، ويغدق عليها بكل ما تحتاجه... سواه، سوى حبه واهتمامه، فقط يتذكر أنها زوجته كل فنية وأخرى، او حين تلح هي!


--------------------


مساءً في سرداق العزاء الكبير.


وقفا الأخان متجاوران يأخذان عزاء المفقودة الغالية، ورغم إرهاق مازن الجلي، لكنه أتى، كيف لا يحضر عزاء شقيقته، اقترب "نصر" يصافح "شاهين" يقول:



_البقاء لله، شد حيلك.


_ونعم بالله.


قالها في هدوء، ليكمل الآخر بما وصل لمسامع "مازن" :


_أنا اتحريت عن الموضوع، الحادثة قضاء وقدر، محدش دبرها، والعربية فراملها سليمة مية المية، حتى العربية اللي خبطت فيها سوقها هو اللي طلب لها الاسعاف والنيابة بتحقق معاه في محضر، يعني لو مزقوق من حد كان هرب.. غير أنه كان خارج من تقاطع والإشارة اللي اختك خرجت منها كانت واقفة بس واضح أنها ماخدتش بالها.


ورغم قسوة الأمر عليهِ، لكنه شعر ببعض الراحة أنها ليست مُدبرة، فلم يكن يستطيع التعايش مع الذنب إن كان هو وعداواته سبب موتها.


_تمام، شكرًا يا باشا على وقفتك ومجهودك معايا.


أردف "نصر" بنبرة دافئة:


_قولتلك يا شاهين انتَ زي ابني.


اومأ برأسه ممتنًا له، وانسحب "نصر" يجلس محله، حينها انتبه "شاهين" لوجود "فيروز" من بعيد تشير له، فانسحب يتجه لها حتى وصلها فقالت:


_كنت بس عاوزه اسألك عن حد.


-حد مين؟


فركت كفيها بتوتر، وهي تشعر أنه لا يحق لها السؤال عنه، ولكنها كانت تعلم من "نورهان" بحقيقة الأمر بينهما، واختفائه مريب!


-في إيه يا فيروز ما تنطقي!


قالها بنفاذ صبر وهو يشعر بدوار غريب بدأ يضايقه.


_هو معاذ فين؟ انا مشفتوش من وقت ما خرجنا من المستشفى ولا حتى شوفته في الدفنة!


قطب جبينه بانتباه وهو يتلفت حوله وقال:


_انا مخدتش بالي أنه مش موجود.. هيكون راح فين؟


_يعني بقول لو تخلي حد من رجالتك يشوفه فين وتطمن عليه.


عاد ينظر لها مضيقًا عينيهِ باستغراب يسألها:


_وانتِ مهتمة بيه كده ليه؟


تلعثمت تجيبه:


_انا! لأ... يعني عادي، لاحظت بس وقولت مستحيل يكون مش جنبك إلا لو جراله حاجة.


واستدارت لتعود، فلحق بها يمسك ذراعها فعادت تنظر له بقلق وهي تسمعه يقول:


_انتِ مخبية حاجة عني؟


_لأ.


قالتها بتوتر واضح فنطق اسمها بحدة:


_فيروز!


_شاهين.


ترك ذراعها حين سمع صوت "مازن" من خلفه، فالتف له ليقول له الآخر:


_في حد تبعك عاوز يعزيك.


عاد برأسه لها يخبرها:


_ادخلي جوه.



وكأنها كانت تنتظر جملته، فهرولت لداخل الفيلا تلعن نفسها على تدخلها في الأمر فلربما كان هو قد لاحظ اختفائه من نفسه.


- - - - - - - - - - - - -


انتهى العزاء....

ودقت الساعة الثانية عشر ليلاً...


كاد "مازن" أن يغادر من على باب الفيلا الداخلي لولا عرض "فيروز" عليهِ تقول:


_استنى اتعشى معانا، هم يحضروا العشا جوه.. اكيد مكلتش حاجة طول اليوم.


ودون أن تلح، كان يدخل للفيلا ويجلس على أحد كراسي الصالون مرجعًا رأسه للوراء بتعب، وكأنه كان ينتظر هذا العرض!


عادت بنظرها ل "شاهين" لتجده يحدقها بغضب واضح لا تعرف سببه، لكنه يبدو أنه غير راضيًا عن أفعالها، فقالت وهي تنسحب للأعلى:


_هروح انادي عمتك وجدك عشان العشا.


وهرولت من أمامه للمرة الثانية، ليهز رأسه بقوة هامسًا:


_ماشي... ماشي...


وتحرك يجلس على أحد الكراسي البعيدة للصالون، يشعر بتعب غريب وكأنه كاد ينفصل عن العالم، سمع صوت "مازن" يقول:


_نفسي ابقى في ربع جمودك، نفسي اقدر اكون في تحملك ده...


_معلش بقى مانا قلبي جامد.


ذكره بجملة قالها له منذ سنوات، فرد "مازن" :


_لما قولتها ليك كان في موت امك، كنت زي كده برضو و....


فتح عينيهِ ينظر له بحدة يسأله:


_إيه لازمة اللت ده! انتَ قاعد تتعشى وتمشي، فمتدوشنيش.


_رغم ان دعوة العشا مجتش منك..


سخر منه يقول مداريًا غيظه:


_مهي جت من خطيبتي مش بعيدة يعني.


صمتا لثواني قبل أن يقول "مازن" بجدية:


_نورهان كانت أمنيتها نكون كويسين ونرجع زي الأول مع بعض... حتى لو صعب نرجع زي الأول، بس على الأقل ناوي احقق امنيتها ونكون كويسين... من النهاردة مش هدور وراك يا شاهين.. وهرجع اعتبرك اخويا، وهحاول ارجع اكون معاك زي الأول.


اعتدل "شاهين" متحفزًا في جلسته وقال:


_وانا عمري ما هرجع معاك زي الأول...


قست عيناه يُكمل:


_عمري ما هنسالك إنك حرمتني احضر دفنة أمي.. عمري ما هنسالك إنك منعت أي حد يوصلي خبر موتها ومعرفتوش غير بعدها بيومين.. انا قلبي جامد! اومال انتَ إيه؟ لما تحرمني اكون جنبها وانتَ عارف أنها بتطلع في الروح.. وعارف إني مكنتش شوفتها بقالي سنة كاملة عشان هي رافضة تشوفني، حرمتني اطل في وشها لآخر مرة... عمري ما هنسهالك.. ولا هسامحك..


نظر له "مازن" صامتًا وكأنه لا يجد ردًا، وكأنه الآن فقط شعر بفداحة فعله حينها...


_قولي لو كنت معرفتكش بموت اختك وعرفت بالصدفة بعد يومين كان هيبقى شعورك إيه؟


وأصابت الكرة المرمى، والانقباضة التي شعر بها مازن لمجرد التخيل جعلته يوقن أنه اخطأ...


_العشا جاهز.


قالتها "فيروز" لينهض "مازن" سريعًا فارًا من المواجهة، ونهض "شاهين" يتبعه وهو يشعر بالأرض تدور بهِ، ولم تكن "فيروز" قد أبرحت مكانها حين صرخت بصوتها كله وهي ترى "شاهين" يسقط فجأة وتأتي رأسه على حافة الطاولة الزجاجية والتي تهشمت أسفله...


_شاهيـــــــــــــــــن!!!!


صرخة خرجت من فاه "مازن" حين التفت على صوت الصدام وصرخة الفتاة لتتسع عيناه بقوة مصدومًا من منظر أخيه خاصًة والدماء قد لطخت كف "فيروز" التي ركضت ترفع رأسه...


#ناهد_خالد

#فراشة_في_سكّ_العقرب

#حب_اعمى



تكملة الرواية من هناااااااا


لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا



تعليقات

التنقل السريع
    close