القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية فراشة في سك العقرب الجزء الثاني (حب أعمى)الفصل الخامس وعشرون 25بقلم ناهد خالد حصريه


رواية فراشة في سك العقرب الجزء الثاني (حب أعمى)الفصل الخامس وعشرون 25بقلم ناهد خالد حصريه





رواية فراشة في سك العقرب الجزء الثاني (حب أعمى)الفصل الخامس وعشرون 25بقلم ناهد خالد حصريه



الفصل الخامس والعشرين والأخير من الجزء الثاني

فراشة في سُك العقرب 

حب أعمى

"الحب غريب, له صفات خاصة عن أي شعور آخر, وأكثر ما يميزه أنه:

يأتي على غفلة...

لا يمكنك ردعه...

أسبابه غير واضحة واختياره لهذا الشخص تحديدًا إنه لعبث, وغالبًا يكون آخر شخص توقعت أن تحمل تجاهه حبًا! 

يسوقك نحو المجهول وبلا إرادة تسير معه...

ليس له سلطان...

يتحكم في أفعالك وردودها وعلى الأغلب يكن عقلك معاكس له ورافضًا لجنون ما تفعله...

الحب... هو الحب بكل اضطراباته وصعوباته, بكل حلاوته ومرارته. هو هكذا كما عُرف دومًا, ومهما كنت قويًا أو غير مباليًا فأمامه لا يسعك سوى الاستسلام" 

ناهد خالد


-بس أنا عاوزك معايا.


جملة غير مفهومة وظلت معلقة بعدما تدخل "مازن" يطلب من "شاهين" الحديث على انفراد, ظلت تنظر له وعقلها يفكر في ألف شيء, ولا يصل لشيء واضح!


اخذ نفسًا يخبره:


-متقلقش على الشركة انا هروح كل يوم لحد ما ترجع.


حرك "شاهين" رأسه يقول بحيرة:


-اختفاء معاذ هو اللي غريب, ماكنتش عاوز اسافر قبل ما اطمن عليه. 


وافقه "مازن" يقول بنفس الحيرة:


-مستحيل يكون مختفي عادي كده, ده اكتر وقت كان هيكون جنبك فيه.


-إلا لو الوقت ده صعب عليه هو اكتر.


رددها "شاهين" بشرود وصوت منخفض لم يصل لأخيه الذي قال:


-بتقول إيه؟ 


انتبه له وهز رأسه يقول:


-مش مهم, انا همشي.


التف ليتجه لسيارته مرة أخرى لكنه توقف على جملة "مازن" التي خرجت منه متوترة يقول:


-أنا أسف. 

لم يلتفت له بل ظل على وقفته وقد اطلق تنهيدة محملة بالكثير, وعيناه جامدة لا يظهر فيها شيء, والأخير يُكمل:


-ماكنتش اقصد اضايقك بكلامي, انا دايمًا مبقصدش اضايقك بكلامي.. بس بضايقك, بس انتَ اكيد عارف إني ماكنتش بتهمك إنك مش زعلان عليها, انا كنت بحاول افتح معاك كلام, بس بطريقة غشيمة شوية... 


صمتت قليلاً ابتلع ريقه وأكمل بابتسامة هازئة:


-انا كنت بضحك على نفسي, انا مش وطني ولا ضميري صاحي لدرجة إني ادور ورا اخويا عشان اسجنه.. انا... 


التف له "شاهين" ليرى أعينه تلمع بالدموع, واحمرارها اوشى بأنه يجاهد كي يبقى صامدًا دون أن يجهش في بكاء مرير:


-عارف لما يكون واحد متجوز ويعرف إن مراته بتخونه, او عينها من حد تاني, بيكون زي المضروب على دماغه, وكسرة خيانتها له بتفضل معلمة فيه, ووقتها بيكون قدامه حلين يا يطلقها ويبعد عنها وينهي الموضوع على كده, يا يبعد عنها برضو بس يقرر ينتقم لكسرته والشعور البشع اللي سببته له, فيعمل كل حاجه عشان يكشف خيانتها او يعرف الناس انها ست مش كويسة ويكشفها, بيحاول يرد اللي عملته معاه بطريقة تانية لكن في نفس الحاجة اللي كسرته بيها. 


أخذ نفس قوي وكأنه كان يركض وتوقف عن الركض فجأة واكمل:


-انتَ كمان عملت كده, خُنتني.. والخيانة اشكال, خُنت ثقتي فيك, كسرت الصورة اللي عملتها ليك, وفجأة خلتني اكره نفسي إني في يوم كنت شايفك حاجة كبيرة وشخص مفيش منه وبحاول أكون زيه, وبقيت حاسس إن كل حبي ليك اتحول لكره, وبسعى بس عشان اثبت للكل إنك مش بالمثالية اللي ظاهره ليهم, عشان كده حكيت لماما على شغلك وقولت لنورهان وبابا, ماكنتش طايق اشوفهم بيتعاملوا معاك على عماهم إنك شخص ناجح وإن كل اللي عملته في شركتك من فلوس حلال وشغل نضيف, كانت عاوزهم يعرفوا الحقيقة, يعرفوا إنك مابقتش شاهين اللي كلنا كنا بنفخر بأفعاله وبنجاحه, حتى بعد ما ماتوا, برضو ماكنتش متحمل اشوف نورهان لسه واثقة فيك, واشوف ليلى بتحبك ومستعدة تكمل حياتها معاك وهي متعرفش حقيقتك, كان كل همي اكشفك قدام الدنيا كلها, عشان  كده كنت بدور وراك عشان اثبت عليك تُهمك. 


نظر في عيني "شاهين" بقوة وهو يقول:


-انا وانتَ عارفين كويس إني عمري ما كنت غلط, وإنك فعلاً شغال في السلاح ويا عالم في إيه تاني.


نظر له "شاهين" صامتًا ولم تتغير ملامحه للحظة, ليهز "مازن" رأسه مبتعدًا بأنظاره عنه وقال:


-بس خلاص, ما علينا.. انا تعبت وقررت أوقف كل ده, وكمان..


ابتلع تلك الغصة القاسية وأكمل:


-هريح نورهان واحققلها اللي كان نفسها فيه, هبعد عن طريقك ومش هدور وراك تاني خلاص. 


-كويس.


هذا كل ما نطق بهِ بعد حديثه وبعد كل ما قاله الآخر, وانسحب يركب سيارته تحت نظرات "مازن" المدركة تمامًا أن هناك أشياء كثيرة كُسرت بينهما رُبما لن ترجع ابدًا, رفع نظره للسماء وقال بصوت مختنق ودموع ملأت عيناه:


-بعمل اللي عليا يا نور... وهعمل اللي عليا عشان تكوني راضية عني وتسامحيني, او على الأقل أنا احس براحة... رغم إن عمري ما هحس بيها وانتِ بعيدة.. بعيدة اوي.

---------------------- 

وصلا للفيلا وترجل "شاهين" دالفًا للداخل دون أي كلمة لها, وطوال الطريق كان صامتًا, لم يتحدث ولم ينظر لها حتى, وكأن عقله كان شاردًا أكثر من اللازم.


الساعة كانت السادسة صباحًا... 

فشاهين قد مكث في المستشفى ما يعادل الخمس ساعات منذُ ذهابه لهناك, وخروجه لم يأتي إلا بعد افاقته الكاملة واطمئنان الطبيب عليهِ ورغم رغبة الطبيب في مكوثة عدة ساعات أخرى ولكنه رفض معللاً أنه قد شعر بالاختناق من وجوده بها ولن يصبح بخير إلا حين يخرج. 

نظرت من نافذة السيارة لتبصر "مستكة" تدلف من بوابة الفيلا, ترجلت فورًا وانتظرت قدومها وما إن رأتها الأخرى حتى اتجهت لها تسألها بقلق:


-رايحة فين الصبح كده؟


ردت "فيروز" ساخرة:


-صباح الخير... اسمها جاية منين الصبح كده, مانتِ معرفتيش اللي حصل امبارح.


-حصل إيه؟ 


تساءلت "مستكة" قلِقة لتجيبها "فيروز" بما حدث, فرفعت حاجبها بصدمة تقول:


-يالهوي هو ده بيقع زي البني آدمين؟ ده انا فكرته ضد التعب. 


قطبت "فيروز" ما بين حاجبيها بضيق تعقب:


-انتِ مجنونة؟ هو فيه انسان ضد التعب! بعدين الضغط كان كبير عليه ومستحملش يا عيني. 


-يا عيني!


رددتها "مستكة" وهي تنظر ل "فيروز" بأعين ضيقة جعلت الأخيرة تنظر بعيدًا وهي تلقي عليها قنبلتها الصادمة والتي استمعت لها بعدها تقول بعدم استيعاب:


-وعليكي من ده بإيه؟ فُلة انتِ بتعملي إيه؟ بتعكي تاني! 


نفت وهي تجيبها بصدق:


-انا مليش أي غرض منه المرادي والله, حتى اخوه قالي ارجع مكان ما جيت, يعني محدش زاققني عليه, كل حاجة انتهت. 


-ولما كل حاجه انتهت, بتعملي إيه معاه؟ 


فركت كفيها تجيبها كطفلة صغيرة:


-هو قالي انه عاوزني اسافر معاه.


رفعت "مستكة" حاجبها باستنكار تسألها:


-بصفتك إيه إن شاء الله؟ 


طالعتها بحيرة ولم ترد, وهل لديها رد من الأساس؟ 


تنهدت "مستكة" وهي تنصحها:


-لما ينزل قوليله إنك مش هتقدري تسافري معاه, وهترجعي لأمك. 


رفعت عيناها لها ونظرتها تحمل شيء لم تفهمه صديقتها, ولكنها نظرت لها بتحذير رافعة حاجبيها:


-إيه؟ كلامي محتاج تفكير اصلاً؟ 


-بس انا عايزة اسافر معاه. 


قالتها بصوت خافت وأعين دامعة, لتهز "مستكة" رأسها بعدم فهم تسألها:


-ليه؟ 


اختنق صوتها تجيب:


-مش عارفة, والله ما عارفه بس مش قادرة ابعد يا مستكة.. 


وصمتت وحول صمتها وحديثها الكثير من علامات الاستفهام, وترجمتها "مستكة" تسألها:


-انتِ حبتيه يا فُلة؟ اوعي.. اوعي تكوني حبتيه! 


ابتلعت ريقها وذمت شفتيها دلالة على الجهل وقالت:


-معرفش, بس اللي عرفاه إني بماطل عشان مابعدش, لو كان قالي من شهر واحد ابعدي كنت جريت.. ماكنتش هستناه يكمل الكلمة وهبعد, لكن... لكن ماعرفش حصلي إيه, هتصدقيني لو قولتلك مبقتش افكر في فلوسه ولا في العيشة اللي عيشتها هنا؟ انا معرفش حتى انا بفكر في إيه, بس كل اللي عرفاه إني مش عاوزه ابعد.

قاطعتها "مستكة" تسألها سؤال مباشر لا يحمل إجابتين:


-لو شاهين طلب منك يتجوزك دلوقتي وهو عارف اصلك, هتوافقي؟  


لمعت عيناها بشدة, وشع الأمل من وجهها وهي تنظر لها صامتة, كأنها في حرب داخلية لا تعرف إلامَ ستنتهي, فابتسمت "مستكة" بحزن وهي تقول:


-ماتجوبيش, عينك جاوبتني, غرقتِ نفسك يا فيروز, ماكانش ينفع توقعي نفسك معاه, وعاوزه أقولك إنه عمره ما هيفكر فيكي تبقى مراته بعد اللي عرفه عنك, وافتكري انه هو بنفسه عمال يقولك امشي وانتِ اللي قاعدة, وهييجي وقت ويمشيكي غصب عنك ووقتها هتهيني كرامتك. 


مسحت دمعتها التي سقطت على غفلة منها وابتسمت بألم وهي تقول:


-عارفة اللي بتقوليه, وانا مش هستنى يمشيني, اول ما نرجع من السفر همشي, بس... خليني اروح معاه اعمل شوية ذكريات تانية تفضل جوايا.


مدت كفيها تمسك ذراعيها وهي تقول بقلة حيلة ومواساة:


-ماقدرش اعارضك وانا اكتر واحدة عارفة يعني إيه حب, وعارفة وجعه, ولو كنت مكانك كان يمكن اعمل زيك, بس انتِ واثقة فيه؟ واثقة إنه مايحاولش يأذيكي هنا؟ 


هزت رأسها نافية وقالت بثقة قد تبدو غريبة:


-مش هيعمل كده, هو اداني كلمته بأنه سامحني وبرر اللي عملته إني كنت قليلة الحيلة, مش هيرجع يأذيني لأ, وبعدين انا كنت في بيته الفترة اللي فاتت كلها لو كان عاوز يأذيني بأي شكل ولا في أي يوم كان عمل كده. 


رفعت "مستكة" كفيها عنها تقول باستسلام:


-انا حذرتك, وبرضو خلي بالك من نفسك, ولو حاول يقربلك بأي شكل غزيه في عينه اللي محدش عارف لونها دي.


رفعت "فيروز" حاجبها بخطر وهي تسألها بحنق واضح:


-وانتِ عرفتي منين إن لون عينه مش مفهوم! إيه جابك لعينه اصلاً!


ضحكت "مستكة" متفاجئة ببلاهة وهي تقول غير مصدقة:


-لا والله! غيرة بقى وكده؟!! 


-امشي يا مستكة, روحي شوفي شغلك.


قالتها "فيروز" رافعة رأسها بتكبر, لتضربها الأخرى على جبهتها بقوة وهي تحذرها:


-ما تعشيش الدور يا بنت مديحة! 


-إيه اللي بيحصل ده؟ 


انتفضا الاثنتان على صوت "شاهين" الغاضب الذي صدح من الجهة الأخرى وهو ينزل آخر درجات السلم مقتربًا منهم من وراء السيارة, لتنزل "فيروز" كفها من فوق جبهتها, وترتبك "مستكة" برهبة في وقفتها حين أصبح قريب منهما وقال يناظرها بعيون حادة:


-مش عاوز اشوف المشهد ده تاني, وده آخر تحذير ليكِ.


نظرت تلقائيًا ل "فيروز" كأنها ترجوها أن تنطق هي رافعة إحراج الموقف عنها, ولكنه قطع هذا يقول بحدة أكبر:


-متبصيش لها انا اللي بكلمك, سمعتي؟ 


هزت رأسها باختناق وهي تغمغم بضيق واضح:


-حاضر يا باشا. 


وانسحبت من أمامهما بسرعة مانعة دموعها من السقوط, لتتحرك "فيروز" قاصدة اللاحق بها, لكنه وقف في وجهها ممسكًا بذراعها يشير للسيارة بعينيهِ:


-اركبي خلينا نمشي. 


قطبت ما بين حاجبيها بضيق وهي تقول:


-هروح اشوفها اكيد زعلت.


رفع حاجبه الأيسر بلا معنى:


-ما تتفلق. 


-انا قولتلك إنها صاحبتي! ما كانش ينفع تحرجها وتكلمها كده. 


رد بملامح جامدة وهو مازال ممسكًا بذراعها:


-صاحبتك دي هناك في الحارة مش هنا, وانا اكلمها زي ما حب لأنها شغالة عندي مش هقف اضربلها تعظيم سلام عشان صاحبتك, ومتخليهاش تتعامل معاكِ من غير حدود كده, ماينفعش باقي الخدم يشفوها بتضربك على وشك بالشكل ده وتقولي صاحبتي. 


احتقن وجهها بدماء الغضب وهي تحاول سحب ذراعها منه وتقول:


-تمام سبني بقى اروح للحارة اللي هي صاحبتي فيها, انا اصلاً مش عاوزه اسافر معاك.


رفع جانب فمه بقسوة ساخرة وهو يجرها من ذراعها لباب السيارة المفتوح:


-الف سلامة. 


لم تفهم معنى جملته أو موضعها الآن لكنها بالطبع سخرية منها ومن حديثها, أغلق الباب خلفها وركب جوارها وانطلقت السيارات في طريقها للبحيرة. 

---------------- 

وفي مطبخ الفيلا... 

دلفت "صفاء" لتبصر "مستكة" من ظهرها فقالت:


-كويس إنك جيتي بدري يا مستكة زي ما قولتلك امبارح, ورانا شغل كتير النهاردة. 


التفت لها بعدما مسحت دموعها لتلاحظ "صفاء" ملامحها الباكية, فسألتها:


-في إيه بتعيطي ليه؟


هزت رأسها بلا معنى وأجابت بنبرة مختنقة:


-ولا حاجة, انا كويسة.


لم تتدخل "صفاء" في أمورها الخاصة وقررت تخطي الأمر وهي تقول:


-طب يلا ابدأي شغل عشان هروحك بدري زي ما وعدتك عشان تلحقي تبيعي الفل بتاعك, وكمان ليكي يومين إجازة بما إن شاهين بيه سافر ومحدش موجود في الفيلا, بس تالت يوم تيجي عشان نظبط الدنيا قبل ما يرجعوا. 


هزت رأسها إيجابًا وهي تبدأ في ترتيب المطبخ من آثار ليلة العزاء أمس, ولا تستطيع تخطي انزعاجها من حديثه, ولكن بعد أن هدأت حدثت نفسها بمعاتبة:


-ما هو معاه حق برضو, محدش هنا يعرف علاقتي بفُلة ولو شافوني بضربها كده هيبقى شكلها وحش, وكمان شكله هو كمان لأنها المفروض خطيبته, انا شكلي اتسرعت في اللي عملته, كان لازم اراعي المكان. 


وبعدها هدأت قليلاً وهي تعترف بتسرعها وخطأها, وغالبًا حين نواجه أنفسنا بخطئنا ولا يأخذنا العِناد والتعنت, تصل لنا الأمور اهدأ. 

---------------- 

 -يا بني حرام عليك كده انتَ من امبارح على قعدتك دي, حرام يا حبيبي القبور ليها حرمتها. 


قالها رجل مسن وهو يضع كفه على كتف الجالس أمام قبر أحدهما منذُ أمس, لم يتركه ولو لحظة والاعياء يظهر عليهِ بوضوح خصوصًا وحرارة الشمس منذُ شروقها وهي تلفح المكان, رفع رأسه يراه بنظرات مشوشة من وراء دموعه واحمرار بياض عينيهِ:


-انا مرتاح كده. 


قالها بصوت محشرج ليهز الرجل رأسه بأسف وسأله:


-كنت بتحبها ولا تقربلك إيه؟ 


عاد ينظر للقبر ودموعه تتساقط مجيبًا بصوت متألم:


-ملحقتش تبقالي حاجة, بس... بس هي كل حاجة جوايا. 


جلس الرجل يجاوره وهو ينظر له ويقول:


-قلبك واجعك عليها وحاسس إن ده اكبر وجع ممكن تحسه في حياتك؟ 


هز رأسه بإيجاب وقال بصوت باكي:


-لو بس كان الزمن ادانا فرصة تكون معايا, احس بقربها واشبع منه شوية قبل ما نفترق, بس انا غبي... انا اللي فضلت ساكت وماقولتش, انا اللي مخدتش خطوة.


ابتسم الرجل يقول:


-عشان ربنا بيحبك, احمد ربنا انك ماقربتش.


قطب حاجبيهِ ناظرًا له برفض لجملته وعدم فهم في الوقت ذاته, فأكمل الرجل:


-ربنا بيكون عارف انسب وقت لينا, وبيكون عارف امتى الانسان مننا يقدر يتحمل الفراق وامتى لأ, لو كنت قربت واتجوزتها مثلاً, كان هيبقى فراقها عنك زي طلوع الروح من الجسم, هتشوفها في كل ركن في بيتك, وهتفتكر مواقف كتير اوي بينكوا هترن في ودنك طول اليوم, ويمكن ماكنتش تقدر تتحمل كل الوجع اللي هتحس بيه ساعتها واللي كان هيكون اضعاف احساسك دلوقتي. 


صمت متنهدًا وأكمل بحزن واضح:


-عارف, انا كمان مراتي ماتت, كنت بحبها, كانت حامل في بنتي, ولدت وماتت بعدها بأسبوع, وقتها طبعًا كنت زي المجنون, وفضلت شهور مش متقبل الحقيقة ومش عارف أعيش, لحد ما بدأت افوق.. قبل ما افوق كنت بقول اشمعنا دلوقتي! ليه ما ماتتش من وقت ما تجوزنا, اصلها كانت مريضة ومرضها كان صعب, ودكاترة كتير قالوا انها مش هتعرف تكمل كتير ومرضها ملوش علاج, كلامي كان من عجزي ووجعي, يعني قولت لو كانت ماتت اول ماتجوزنا ما كنتش لسه حبيتها فماكنتش هزعل اوي كده.. اصل احنا جواز صالونات, لكن حبيتها بعد كده, عيشنا مع بعض 6 سنين من غير عيال, ولما عرفت انها حامل طيرت من الفرحة, المهم بعد ما فوقت بقى عرفت حكمت ربنا انها تخلف الأول وتموت بعدها.


ابتسم ابتسامة حنين وهو يكمل:


-بنتها سميتها على اسمها, وطلعت شبهها, شبهها في كل حاجة لدرجة إني ساعات كنت بنده عليها وناسي إنها بنتي, انا بنده عليها على إنها حبيبتي اللي لسه عايشه, وأول ما تيجي وتقولي نعم يا بابا, اضحك وأقول الله يرحمك يا مُنى, وجود بنتي خفف عني كتير اوي, وبقيت احمد ربنا على ترتيب اقداره, يمكن لولاها ماكنتش فوقت ووقفت على رجلي بعد موت أمها عشانها, يمكن وقتها كنت ضيعت في أي طريق ولا صحتي ادهورت من الحزن وحصلتها, اكيد حياتي كانت هتبقى ملهاش ملامح, لكن ربنا خد مني حب حياتي واداني نور عيني اللي بشوف بيها دلوقتي. 


رفع كفه يضعه على كتف "معاذ" يكمل:


-اوعى تقول لربنا اشمعنا, ولا كنت سبها شوية عشان اعمل واعمل, صدقني هو بيختارلك الأصلح, وكل بني آدم فينا له ميعاده, لا هيقدم ثانية ولا يأخر لحظة,  ربنا سبحانه وتعالى قال: بسم الله الرحمن الرحيم "وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ", وقال بسم الله الرحمن الرحيم  "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ". 


هز رأسه عدة مرات تأكيدًا على حديث الرجل وقال ببكاء:


-انا عارف...بس ... بس مش قادر, مش قادر استوعب اللي حصل, مش قادر اسيبها وامشي. 


-ادعي ربنا يصبرك ويثبتك, ادعيه وعمره ما هيردك ما دام راضي بقضائه, وإن شاء الله يجمعك بيها في الجنة, وهناك مفيش فراق.


نظر له بأعين لمعت بالأمل, ورجفة سرت في جسده وهو يتخيل حلاوة اللقاء, ولذة المكان وعظمته, ولكنه سرعان ما عاد ينظر للقبر بأعين مُنطفِئة يقول:


-انا ابعد من إني اتجمع معاها في الجنة. 


-متقولش كده, استغفر ربنا, مين فينا يعرف مصيره إيه؟ المهم تعمل اللي يرضيه ويقربك منه, وهو هيكافئك.


رفع "معاذ" نظره للسماء, ينظر لها صامتًا, وجملة الرجل تتردد في أذنه مرات عِدة, حتى عاد ينظر لقبرها وهو يقول بتصميم:


-اعمل اللي يرضيه. 


وبدت عيناه عزمت على أمر ما, وعلى الأغلب يتعلق ب "شاهين" فحبه لصديقه ورغبته في البقاء معه على أي حال هو ما دفعه للسير معه في طريقه المظلم, لم يكن لديهِ أي مانع من تتبع خطواته مادام الأمر مجزيًا, وما دام سيكون معه, "شاهين" بالنسبة له ليس فقط صديق, بل أب وأخ وعائلة بأكملها, ليس له أحد سواه, وحبه له جعله يقتنع بما يقتنع بهِ الآخر, والآن فقط شعر أن "مازن" كان مُحق فيما فعله, وأن حبه الأعمى لصديقه جعله يتخلى عن أي شيء وأي شخص لأجله!! 


------------- 

توقفت السيارة في منتصف الطريق فجأة, وترجل منها "مُرسي" الجالس في المقعد الأمامي مجاور للسائق, وظل الصمت كما هو حتى عاد مرة أخرى, ومد كفه بحقيبة صغيرة ل "شاهين":


-اتفضل يا باشا.


التقطها منه والقى بها في حجرها, مما جعلها تنتفض وتنظر لها بغيظ تأجج في صدرها:


-إيه ده؟ 


-شوفيها. 


قالها بنبرة باردة, فقالت بحنق:


-مبسألش عن الشنطة, بسأل عن قلة الذوق إنك ترميها على رجلي بالشكل ده. 


نظر لها بجانب عيناه نظرة حادة اخرستها, وجعلتها تبتلع ريقها بقلق, وشهقت منتفضة للخلف حين مال عليها يهمس وعيناه تقابل عيناها مباشرةً:


-لمي لسانك عشان ماتلاقيش وشك لابس في الازاز جنبك. 


عرفت إنها لا يمكنها التجاوز معه, والحقيقة لن تفعلها ثانيًة بعد مظهره وجملته التي قالها الآن, فبدى وكـأنها سبّته بوالدته رحمة الله عليها! 


ابتعد لتتنفس بقوة منزوية بتلقائية بجوار الباب تعاتب نفسها, هل ظنت بحمقها أنها يمكنها التمادي معه! يبدو أنها نسيت من يكون! 


رأى انزوائها الواضح, فزفر بضيق من مظهرها الذي بدى كطفلة خائفة من خاطفها, وقال محاولاً تخطي الموقف:


-افتحي الشنطة. 


حملتها تضعها جواره ورددت وهي مازالت على وضعها وتنظر للجهة الأخرى:


-مش عاوزه حاجة.


لم يتحكم في أعصابه وهو يهدر بها بنبرة أفزعتها وجعلتها تنتفض من جلستها:


-بقولك افتحي الزفت, إيه قمص العيال ده! 


نظرت له بخوف حقيقي وهي ترى انفعاله الواضح ويبدو أنه لا يطيق كلمة أخرى, ونظرت للأمام لتجد ملامح "مُرسي" قلِقة وقد سمعَ هدره واضحًا, فالتقطت الحقيبة بكف مرتعش محاولة عدم البكاء قدر استطاعتها وفتحتها لتجد علبة هاتف حديث, ففتحتها ووضعت العلبة جوارها ممسكة بالهاتف في كفها دون رد فعل, ولم ترفع عينيها له حتى. 


مسح وجهه بكفه منفعلاً, ونظر من نافذته للطريق لبعض الوقت حتى شعر بنفسه يهدأ, فعاد ينظر لها وقال:


-ده تليفونك, عشان لو عايزه تكلمي امك ولا البت صاحبتك دي. 


ردت وهي على نفس وضعيتها, لم ترفع عينيها كي لا يرى الدموع التي تملأهما:


-مش معايا ارقام حد.


نظر للأمام هادرًا بأمر:


-مُرسي, كلمهم هات رقم البت اللي اسمها مستكة اللي شغالة في المطبخ. 


-أمرك يا باشا.


رد بسرعة علم منها "شاهين" أنه متوتر, وتوتره أتت من سماعه لصراخه عليها, كظم غيظه ناظرًا من نافذته كارهًا أنه رفع صوته عليها بهذه الطريقة أمام العاملين لديهِ, ولكنه حقًا لا يطيق نفسه.


رفعت كفها تمسح دموعها وتركت الهاتف في حجرها وهي تنظر من النافذة وسؤال واحد يتردد في عقلها "هل أخطأت في السفر معه؟" 

وجملة أخرى صدحت في عقلها "أما الحب أعمى بصحيح" وما الذي دفعها للسفر معه ضاربة بكل المبادئ والمخاوف والمنطق عرض الحائط سواه؟ 

---------------- 

 -ليلى! بتعملي إيه هنا؟ 


قالها "مازن" مستغربًا حين خرج من المصعد الكهربائي ورأى "ليلى" تقف أمام شقته في هذا الوقت المبكر جدًا, التفت له تتنهد براحة حين رأته وقالت معاتبة:


-حرام عليك نشفت دمي, من وقت ما كلمتني وقولت إنك اتوقفت عن العمل بسبب مشاكل فيه وانا بحاول اوصلك مش عارفة, رنيت عليك ولا خمسين مرة, وأخر ما زهقت قولت اجيلك قبل الشغل. 


طالعت مظهره جيدًا فقطبت جبينها تسأله باستغراب:


-مالك؟ إيه اللي مبهدلك كده؟ 


-نورهان. 


رددها بصوت خفيض, محشرج, وأعين لمعت بدموعها الحاضرة. 


-مالها؟ 


-ماتت. 


صرخت بصدمة ووضعت كفها فورًا على فمها تنظر له بأعين متسعة غير مصدقة ما تسمعه, ولكنها صرخت محررة صوتها حين رأته يترنح فركضت له تمسك ذراعه بقوة:


-مازن مالك؟ اسند عليا. 


-دايخ. 


رددها بوهن واضح, فقالت وهي تحاول التحرك بهِ لشقته:


-هات المفتاح ادخلك جوه ترتاح.


ساعة مرت يجلس فيها على أحد كراسي صالة شقته, يسند رأسه لظهر الكرسي ودموعه لا تتوقف, وهي تبكي على بكائه وعلى فقدان الصغيرة, مدت كفها تربط على كفه وهي تقول:


-وحد الله, انا والله ما عارفه اقولك إيه, بس انتَ باين عليك تعبان اوي خايفة يجرالك حاجة. 


-ياريت. 


رددها بتمني حقيقي وهو يشعر المصَاب أكبر من تحمله, فردت بلهفة وقد شعرت بقلبها يدق دقة غريبة بعدما سمعت كلمته وقالت:


-بعد الشر عنك ما تقولش كده.


نظر لها بعين مرهقة والاحمرار منتشر بها:


-ابنك فين؟


-سبته مع واحدة جارتي في العمارة على ما ارجع اخده.


ارجع رأسه بعدما شعر بالدوار يعود وقال:


-روحيله يلا, ماينفعش تأمني عليه مع حد غريب. 


-مازن انتَ تعبان, تعالى نروح المستشفى.


قالتها بخوف وهي ترى ملامحه الشاحبة وارهاقه الواضح, لكنه هز رأسه يقول برفض:


-انا كويس, روحي يلا. 


ظلت جالسه لبعض الوقت بعدها وقد اعدت له كوب ماء بسكر ليخفف عنه الهبوط, وفجأة وجدها تسأله بتردد التمسه في صوتها:


-هو.. هو شاهين عامل إيه؟ انا عارفه إنه كانت روحه في نورهان. 


ظنت انه لم يسمعها حين لم يرد, بل ظنت انه قد نام, ولكنه فتح عينيهِ بعد ثواني وقال بعدما نهض واقفًا:


-روحي اطمني عليه بنفسك, خدي الباب في ايدك.


نهضت توازي وقفته وهي تسأله مستغربة:


-في إيه يا مازن؟ 


وكأنها ضغطت على زر انفجاره, فهدر وهو يضرب الطاولة بقدمه بقوة اسقطت كوب الماء الزجاجي متهشمًا ارضًا:


-فيه إني تعبت, فيه إنك مش شايفه غير شاهين في كل وقت وكل لحظة.. انا من يوم ما رجعتي مصر وانا مش مفارقك, معاكي معظم يومي, وعلى طول بكلمك, بنخرج ونتقابل ونتكلم, وفي وسط كل ده لازم ترمي جملة تطمني بيها على حبيب القلب... حتى دلوقتي... انا اللي تعبان.. انا اللي قاعد قدامك مش شايفك من التعب, وبتسألي عليه هو!


اتجه لها يلتقط حقيبتها وامسك بذراعها يتجه بها لباب شقته تحت ذهولها من موقفه, حتى أخرجها وقال قبل أن يغلق الباب في وجهها:


-روحيله... روحي اطمني عليه وقوليله إنك لسه بتحبيه ووفري على نفسك كل العذاب ده. 


ظلت تنظر للباب الذي أُغلق في وجهها بذهول وعقلها يترجم ما حدث, حتى توصل بعد وقت للإجابة, فجحظت عيناها وعقلها يردد "أنه يحبها!" لم يكن سيفعل كل ما فعله معها منذُ عودتها لمصر إن لم يكن يحبها, حتى تعامله الغريب مع طفلها كان يرجع لهذا السبب حتمًا, ونظراته وحديثه الذي حيروها يومًا الآن بات تفسيرهم واضح, ولكنها كانت عمياء... عمياء بحب انتهى ومرَ أوانه, حب أعمى وقفت حياتها عنده ولم تسير بعدها, حتى زوجها "معتز" لم تحبه بالنحو المطلوب, فقط تعلقت بهِ وشعرت بالراحة في وجوده, ولكنها لم تحبه كما يجب, وكأن حب "شاهين" الذي كان حبها الأول أقسم أن تظل عالقة بهِ. 


---------------------- 

دلفت للورشة ولم تجده في بهوها كما المعتاد, ففطنت انه في الغرفة الملحقة بها والتي يضع فيها بعض المعدات الخاصة بالسيارات, فاتجهت لها بابتسامة محبة تود رؤيته ودعوته لتناول الغداء في بيتها اليوم.

اقتربت من الغرفة وقبل أن تمد قدميها وتدخلها سمعت صوت والده يقول:


-ما تظلمش البت معاك يا مجد, لو مش هتعرف تحبها وتديها اللي هي مديهولك سيبها لحالها يابني. 


-هو انتَ جاي مخصوص الورشة عشان تقولي الكلمتين دول؟ إيه طلعهم في دماغك فجأة كده؟ 


سأله "مجد" مستغربًا, ليسود الصمت فجأة لبضع ثواني, وبعدها صدح صوت والده يقول:


-ها عرفت إيه اللي جابني.. وانا برتب هدومك في الدولاب لاقيت صورتها, بتعمل معاك إيه الصورة دي يا مجد؟ مش انتَ خلاص خطبت وهتتجوز؟ شايل صورتها لسه ليه في دولابك؟ 


سمع صوته المتردد يجيبه:


-نسيتها يا حاج, كانت معايا من زمان ونسيتها.


-كداب.


قالها "شاكر" بحدة وأكمل:

  -انا شوفتك امبارح ماسكها وانتَ واقف قدام الدولاب ولما نديت عليك حطيتها بسرعة وقفلته. 


-يبقى انتَ اتعمدت تدور مش لاقيتها وانتَ بترتبه. 


قالها في محاولة سخيفة لقلب الطاولة, لكن والده قال منهيًا الحديث:


-فوق, فوق ولو مش هتقدر البت دي سيبها لغيرك يقدرها, مش احنا اللي بنهدل ولاد الناس معانا يا بن شاكر. 


تحركت خارجة من الورشة وسارت في الطريق عائدة لبيتها ودموعها لا تتوقف, قلبها بهِ غصة مميته تخنقه, وصوت داخلي يردد "كنتي تعلمين أنه يحبها.. و وافقتي, كنتي تعلمين أنه لم يراكِ يومً حبيبه.. وقبلتي, إذًا من ستلومين؟ لا تلومي أحد سواكِ وقلبك الأحمق, فكل اللوم يقع عليهِ, هو من عمى عيناكِ بحب سفيه جعلك تتقبلين ما لا يمكن لفتاة أن تتقبله, حب أعمى جعل قلبك يتراقص بسعادة حين طلب الزواج منكِ وهو يعلم حقيقة مشاعره تجاهك" 


والحقيقة أن الجميع وقع في حب أعمى, عمى عيونهم عن الحقيقة المُعلنة, وابعدهم عن قرارات المنطق. 


فهل ينتهي الحب الأعمى أم للحكاية بقية والاستمرار سيكون أكثر حُمقًا؟ 


               انتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهى


تكملة الرواية الجزء الثالث من هناااااا

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا



تعليقات

التنقل السريع
    close