رواية غناء الروح الفصل السابع والاربعون 47 بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)
رواية غناء الروح الفصل السابع والاربعون 47 بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)
الفصل السابع والاربعون..
وقفت سيرا بعيدًا عن السيارة ترتجف كفرخ صغير يساق إلى الذبح، عيناها شاردتان ويدها قابضة على ذراع حقيبتها بقوة، كأنها تستمد منه طمأنينة لا وجود لها، فقد كان وجهها شاحبًا وأنفاسها متقطعة، وقلبها يخفق باضطراب يكاد يخلع صدرها.
أما يزن فقد ثبت مكانه بجوار السيارة، يحدق داخلها بملامح هادئة ظاهرًا، لكن في داخله كانت النيران تغلي والخواطر تتصارع بعنف، التقط هاتفه وأجرى اتصالًا بزيدان ليُجيب الأخير بعد ثلاث اتصالات بصوتٍ متهدج من أثر النوم:
-الو، إيه يا زيدان ده كله مابتردش عليا ليه؟
رد زيدان ببرود مشوب بالإنهاك:
-مش يمكن أكون متنيل عليا ونايم عشان كنت مطبق يومين في الشغل!
لكن يزن لم يجد في قلبه صبرًا على التبرير، خرج صوته متحشرجًا وهو يعيد بصره إلى الرجل الممدد في المقعد الأمامي للسيارة، لقد كان وجه السائق شاحبًا والدماء تنساب على وجنتيه كخيوط حمراء تشق أخاديدها ببطء مخيف، فهمس وهو يحاول التماسك:
-أنا محتاجك.
سادت لحظة صمت شعر زيدان فيها أن شيئًا جللًا يحدث، فقد بدا صوت أخيه مختلفًا ومرتبكًا على غير عادته، فارتفع صوته بصرامةٍ تنم عن قلق:
-مالك يا يزن؟ انت كويس؟ حد ضايقك؟
ازدرد يزن ريقه بتوتر وأدخل أصابعه بين خصلات شعره يعبث بها بعنف، قبل أن يجيب بصوت متهدج:
-سيرا كانت مع سواق تاكسي....
توقف لبرهة كأنه يجمع شتات كلماته ثم أردف بصوت مثقل بالذنب:
-اتحرش بيها وهي ضربته على دماغه، معرفش
هو لسه عايش ولا مات، كل اللي أنا شايفه إنه تقريبًا مات!
جاء صوت زيدان حادًا وسريعًا:
-هو فين؟
تنفس يزن بقلق وأجاب:
-في عربيته، هي ضربته في عربيته على راسه.
فقال زيدان بلهجة آمرة وكأنه يدرك خطورة الموقف أكثر مما يتخيل يزن:
-اوعى تدخل العربية ولا تلمسه، استنى أنا هجيلك، متتصرفش من دماغك يا يزن، فاهم ولا لا... اوعى تتصرف من دماغك.
-حاضر.
أغلق يزن المكالمة ببطء ثم توجه بخطوات متثاقلة نحو سيرا، بينما هي نظرت إليه بعيون متسعة، تحاول قراءة ملامحه المبهمة، لكن الغموض الذي ارتسم فوق وجهه لم يزدها إلا ارتباكًا، مد يده وأمسك بيديها الباردتين، وأخذ يربت عليهما بلطف، محاولًا بث شيء من السكينة إليها، فقال بصوت هادئ:
-مالك بس يا حبيبتي اهدي مفيش حاجة، زيدان طمني.
ارتجفت بين يديه وشدت قبضتها على كفيه كأنها تخشى أن يفر منها، ثم همست بصوت مرتجف:
-هو مات؟ هيسجنوني؟
مد يده يمسد على وجنتيها بحنو، وارتسمت على شفتيه ابتسامة شاحبة متكلفة، هدفها الوحيد أن يطمئنها، فأجابها بنبرة حاسمة:
-لا طبعًا مفيش حد يقدر يلمسك وأنا موجود، متقلقيش من حاجة.
لكنها لم تتمالك دموعها فانهمرت مجددًا وهي تغمض عينيها بقوة، كأنها تحاول طرد صور ذلك المشهد المقيت من ذهنها، اقترب منها يزن أكثر وجذبها إلى صدره برفق، فالتصقت به التصاق الهاربة من موت محقق، كانت أشبه بقطة صغيرة تلوذ بصاحبها من بردٍ قارس، أو غريقٍ يتمسك بخشبة نجاة أخيرة، فشد يزن على احتضانها وربت على ظهرها بحنان، ثم همس في أذنها بوعد صادق خرج من أعماق قلبه:
-أنا عمري ما هسيبك أبدًا، متقلقيش من أي حاجة وانتي معايا.
تسربت كلماتها بين شهقاتها وكأنها تعترف دون وعي:
-وجودك بيطمني.
رفع وجهها برفق ليلتقي بعينيها الغارقتين بالدموع، نظر إليها بعمق كأنه يريد أن يسكب طمأنينته في روحها، فقال بثبات:
-وأنا عمري ما هخذلك، اهدي وماتعيطيش انتي اتصرفتي صح ودافعتي عن نفسك، وكل ده هيخلص أهم حاجة ماتخافيش أبدًا.
أومأت برأسها إيماءة ضعيفة ثم أعادت رأسها إلى صدره، كأنها تجد فيه حصنًا منيعًا، وأغمضت عينيها عنوة لتقطع الطريق على خيالها من أن يعيد إليها صورة السائق وما أراد أن يفعل.
حركها يزن ببطء نحو سيارته وفتح لها الباب برفق كأنه يتعامل مع زجاج هش، ثم أجلسها في المقعد، وناولها زجاجة ماء، امتثلت لتعليماته وتجرعت بعض الرشفات، لكن حلقها الضيق بالكاد سمح بمرور الماء وكأن الخوف قد سد مجاريه.
***
بعد أن غادرت تلك الأفعى من أمامها، ظلت يسر تتلوى غيظًا وغيرة وكأن غضب العالم بأسره قد تجمع في صدرها وعلى وشك الانفجار، فقد كانت تشعر أن الأرض تضيق بها، وأن كرامتها قد دُنست بخيانة صامتة لم تقع بعد، لكنها تراها بعينيها وتعيشها بروحها، أرادت الانتقام منها ومنه، أرادت أن تحطم كل شيء، غير أنها تماسكت بصعوبة أمام ابنتها الصغيرة التي كانت ترنو ببراءة إلى باب البرج في انتظار والدها، والسعادة تملأ وجهها، لم ترد يسر أن تفسد على ابنتها تلك اللحظة، فهي لا تزال تخطط لرسم البهجة على محياها، لكنها تعلم تمام العلم أنها لن تستطيع مواصلة التمثيل طويلًا، فالنار المستعرة في جوفها كانت أقوى من قدرتها على الاحتمال.
بحثت عن متنفس لغضبها، فمدت يدها إلى هاتفها وأجرت اتصالًا بسيرا، لكن الأخيرة لم تجب، توقفت لحظة تتأمل شاشة الهاتف تبحث بين الأسماء عن شخص آخر يمكن أن يسمعها، فلم تجد سوى رقم "أبلة حكمت"، تلك المرأة التي تبادلت معها الأرقام ليلة عقد قران سيرا، كانت تعرف أن حكمت امرأة فظة وقاسية، لكن في قسوتها سحرًا غريبًا يجعلها قادرة على أسر المستمع إليها وإقناعه بما تريد.
قررت الاتصال بها رغم أنها لم تملك كلمات تمهد بها للحوار، وما إن اخترق صوت أبلة حكمت مسامعها عبر الهاتف حتى انتفض جسدها وانصتت بشيء من التوجس:
-عمرك أطول من عمري، كنت لسه هتصل بيكي اشوفك رجعتي بيتك ولا لسه هبلة زي ما أنتي؟
تنهدت يسر بعمق ونبرتها خرجت مكسورة حزينة:
-ارجع إيه بس؟ شكلي هفضل زي ما أنا!
جاءها صوت حكمت سريعًا فيه شيء من السخرية اللاذعة:
-ليه يا حبيبتي، جرى إيه تاني؟ مش الراجل كتر خيره اتنحرر وقرر يوصلك، مستغلتيش ليه الفرصة؟!
زفرت يسر بغيظ وهي تبتعد عن ابنتها حتى لا تسمع حديثها، ثم أفرغت ما في صدرها لحكمت، روت لها تفاصيل ما حدث منذ أن تركتها في المشفى حتى لحظتها تلك، كلماتها خرجت متقطعة من شدة الانفعال وما إن وصلت للنهاية حتى ارتفع صوتها صارخًا بمرارة:
-شفتي مديها مفتاح شقتنا؟ ازاي يعمل حاجة زي كده ويقهرني!
ضحكت حكمت ضحكة قصيرة ثم قالت بحدة فيها شيء من الاستهزاء:
-وانتي بتاكلي في نفسك ليه؟ ماسألتيهوش ليه؟ سايبة دماغك تسوحك ليه لامؤاخذة وانتي مش ناقصة!
رفعت يسر حاجبيها بدهشة وقالت بحنق طفولي:
-انتي عايزاني اسأله لا طبعًا؟، لا مش هعبره، وبعدين مش محتاجة اسئلة ولا توقعات، كلها كام يوم والاقيه متجوزها.
جاءها صوت حكمت كحد السيف:
-يا حبيبتي طول ما انتي عايشة في برجك العالي ده، حياتك مش هتستقر وجوزك هيخلع منك، قولتلك وهقولهالك الحياة الزوجية عايزة شوية تنازلات، امتى تعرفي تشدي وامتى تعرفي تليني وتاكلي بعقله الحلاوة!
ازدردت لعابها باهتمام وارتفع فضولها فقالت بخجل:
-مش فاهمة اعمل إيه؟
-بسيطة، مش البت دي انتي حسيتي إنها كانت بتضايقك، انتي اقلبي عليها الترابيزة، وشوية مسكنة على شوية يرضيك كده يا نوح، وهوب نوح يحلف ليمشيها من العيادة كلها، شوقي ولا تدوقي.
وضعت يسر يدها على جبينها بتوتر، تضغط عليه كأنها تحاول أن تكبح عاصفة الأفكار المتزاحمة في رأسها، لكنها لم تملك أمام ذلك الصوت الماكر إلا أن تنصت، فجاءها صوت حكمت أقوى، قاطعًا حيرتها:
-اسمعي مني، مش انتي طول الأيام اللي فاتت دي ماشية بدماغك ومكسبتيش حاجة، امشي بدماغي أنا، وجوزك ده هيبقى زي النحلة الطايرة حواليكي.
تمتمت يسر باستسلام غريب لم تعهده في نفسها وكأنها مسحورة:
-ماشي هشوف واقولك.
أغلقت الهاتف وأسرعت نحو ابنتها، لكنها فوجئت بنوح يخرج من بوابة البرج الكبيرة بخطوات واثقة وحماس يشع من وجهه، وكأن شيئًا لم يحدث، وقف أمامهما مبتسمًا بعينين لامعتين:
-يلا جاهزين؟
صاحت لينا بفرحة غامرة وهي تفتح ذراعيها:
-ايوه يا دادي.
مدت يسر يدها تتحسس شعر صغيرتها بحنو،
ثم قالت بهدوء متماسك:
-طيب يلا يا قمر روحي بسرعة لمي حاجتك في شنطتك عشان نقفل الستور ونمشي.
ركضت الصغيرة بمرح بينما التفتت يسر نحو نوح، تتابعه وهو يبتسم لابنته بشغف لم تره منذ زمن، ترددت للحظة وهي تعيد انتقاء ألفاظها كما أوصتها حكمت، ثم تقدمت خطوة منه وسألته بصوت منخفض:
-نوح، أنت ليه اديت حسناء مفتاح شقتنا؟
كان سؤالًا مباشرًا كالسهم جعل نوح يلتفت نحوها متعجبًا
-وانتي عرفتي منين؟
تذكرت يسر نصيحة حكمت...قليل من اللين، قليل من الحزن المصطنع، فتمتمت بانكسار وهي ترسم ملامح مجروحة:
-وهي ماشية وقفت وقالتلي وكنت حاسة منها إنها بتغظني وبتضايقني، أنا اتضايقت اوي يا نوح، حسيت إني هموت من الغيرة، ازاي قدرت تدخل واحدة زي دي بيتنا؟
رأته يشد قبضته داخل جيبه والغضب يطل من عينيه، ثم قال بصوت غامضًا:
-حقك عليا، مش هتكرر تاني، هي رايحة تحط فلوس في الخزنة، وبعدين أنا قولتلك إن أنا خلاص مبقتش عايز الشقة دي، فمش فارقة مين يدخل وميدخلش.
تجاهلت يسر الجزء الأخير وركزت على اعتذاره، وفي داخلها شعرت أن الطريق الذي رسمته لها حكمت قد بدأ يعطي ثماره، ازداد اندهاشها حين مرر نوح يده على ذراعها برفق، ثم ابتسم ابتسامة دافئة وقال:
-مش عايزين نزعل نفسنا النهاردة، لينا محتاجة تتبسط اليوم ده، وأنا محتاج افصل واحس بوجودكم جنبي، فمتخليش حاجة تضايقك ممكن؟
هزت رأسها ببطء وعيناها تتأملان وجهه بذهول، في تلك اللحظة فقط، تسرب إلى قلبها يقين خافت بأن حسناء لم تنجح بعد في مخططها…وأن مكانتها عند نوح ما زالت أكبر بكثير من مجرد غريبة تحاول اقتحام حياتهما.
****
كان أول الواصلين إليهما هو زيدان، الذي ما إن لمح سيارة أخيه حتى ترك سيارته في منتصف الطريق بلا تردد، تحرك بخطوات سريعة نحو يزن، الذي كان واقفًا بجوار سيارة الأجرة يشير برأسه إلى الداخل حيث السائق الممدد، اقترب منهما على الفور، وفتح الباب الأمامي ثم انحنى يتحسس عنق السائق بحثًا عن نبض الحياة، وانتقل بعدها إلى معصمه يتحقق من مجرى الدم، وفي أثناء ذلك لم تتوقف عيناه عن التجول في أرجاء السيارة بتركيز شديد، يلتقط أدق التفاصيل التي قد ترسم له صورة أوضح للمشهد، لفت انتباهه على الفور وجود آثار لطاجن بامية مكسور، وبقايا قطع متناثرة هنا وهناك، حتى سال شيء من البامية على المقاعد والفرش.
رفع رأسه نحو يزن وقال بلهجة تجمع بين الاطمئنان والحزم:
-لسه عايش ابن الـ *****، الحمد لله.
أمسك بعدها بهاتفه واتصل أولًا بالمستشفى القريبة طالبًا سيارة إسعاف، ثم أجرى اتصالًا آخر بالقسم التابع لتلك المنطقة، تبادل مع الضابط كلمات قليلة واضحة ومختصرة، قبل أن ينهي المكالمة بصوته الرخيم الذي يفرض الجدية:
-في انتظار معاليك يا باشا.
أغلق الهاتف ثم التفت إلى يزن الذي كان واقفًا متيبسًا كتمثال، تتنازعه مشاعر متناقضة من الغضب والخوف، فانفجر فيه بغيظ مكتوم:
-انت بلغت ليه لما هو طلع عايش؟
أجابه زيدان بخشونة وصوت يقطر سخرية لاذعة:
-امال كنت عايزاني اعمل إيه؟ وتقرير المستشفى اعمل في إيه؟ وافرض مات في المستشفى؟ إنت عايز ترمي نفسك انت وهي في مصيبة مالهاش أول من آخر؟!
شد يزن قبضته وهو يتنفس بصعوبة ثم خرج صوته متقطعًا مرتجفًا:
-وافرض الظابط أمر أنه يسجنها على ذمة التحقيق؟ أنا مراتي مش هتتسجن، ولا هتدخل اقسام.
زفر زيدان بقوة ورفع حاجبيه بغيظ مكتوم:
-يعني انت شايف أنا ممكن اسمح بحاجة زي دي؟ اوعى من طريقي أنا عايز اتكلم معاها قبل ما الظابط يجي.
أمسكه يزن من ذراعه وهمس بتحذير صادق:
-براحة عليها هي أساسًا مش مستحملة، تمام؟
ابتسم زيدان باقتضاب وقال وهو يرمقه بعين جادة:
-تمام، أخوك مش غشيم، وفي النهاية ده كله لمصلحتها.
تقدما معًا نحو السيارة التي جلست فيها سيرا، شاحبة الوجه، منهارة الملامح، ترتجف كغصن ضعيف في مهب الريح، فتح زيدان باب السيارة، بينما ساعدها يزن في النزول، وأسندها بحنان واضح وهو يحيط كتفيها بذراعه:
-زيدان عايز يسألك شوية أسئلة يا سيرا.
تحدث زيدان بصوت محاولًا أن يجعله أكثر لينًا مما اعتاد:
-سيرا اهدي ومتخافيش، مفيش حد هيقدر يعملك حاجة واحنا موجودين، بس أنا عايزاك تساعديني وتوصفيلي كل اللي حصل عشان مصلحتك، من أول لحظة وقفتي فيها التاكسي لغاية ما وصلتي هنا.
رفعت سيرا رأسها بصعوبة، وعيونها ممتلئة بدموع متجمعة عند أطراف الأجفان، نظرت أولًا إلى يزن تستنجد بطمأنينته، فأجابها بابتسامة رقيقة وشدد من احتضانها ليمنحها بعض القوة، عندها التفتت إلى زيدان وحاولت أن تتكلم، لكن صوتها خرج مبحوحًا متقطعًا:
-آآ....أنا...كنت نازلة عشان رايحة لـ...ليـ...ليزن، ومعايا طـ...طاجن بامية، ولما نزلت من البيت لقيت التاكسي ده كان واقف أو كان ماشي مـ.....مشـ...فاكرة، ركبت معاه وبعدها حسـ....حسيت إنه غير الطريق، ولما سألته قفل اللوك، حاولت انزل معرفتش...ووقف هنا وكا....كان عايز....
انهارت بالبكاء فجأة ولم تستطع إكمال جملتها، راحت تشير بيدها المرتجفة إلى الأمام، ثم أعادتها إلى صدرها تحتضن نفسها، كأنها تحاول حماية قلبها من الانفجار، كانت تهز رأسها نفيًا في كل مرة تحاول النطق، وفي لحظة رفعت بصرها إلى يزن تستنجد، تستمد منه بقية شجاعتها، فأوقفها زيدان بلطف وسألها بهدوء:
-وبعد كده ضربتيه بالطاجن صح؟
أومأت برأسها وهي تقول بصوت مختنق:
-مكنتش اقصد أموته والله، كنت بدافع عن نفسي.
مسح يزن على كتفها بحنو وقال بصوت مفعم بالعاطفة:
-مامتش يا سيرا اهدي، لسه فيه الروح وهياخدوه على المستشفى دلوقتي.
شهقت سيرا بعمق وكأن حملًا ثقيلًا قد أزيح عن صدرها، وخرج سؤالها المذعور بصوت متقطع:
-كده مش هيسجنوني صح؟
أجابها زيدان بهزة رأس مطمئنة، لكن صوت صفارات سيارات الشرطة والإسعاف التي اقتربت من أول الطريق قطع لحظات الاطمئنان، تحرك زيدان مسرعًا نحو السيارة ليتلقى الضابط والمسعفين، بينما لم يحتمل يزن الموقف فأسرع خلفه وهتف بصوت آمر:
-لو مش مالك ايدك من حوار سيرا، والظابط ده هيسجنها، قوله إن أنا اللي ضربته، المهم هي متدخلش اقسام.
التفت زيدان إليه بعصبية وزجره بغيظ:
-طيب هي مش هتاخد لحظة فيه عشان كانت بتدافع عن نفسها وهو عيل ابن ******* أساسًا، أنت بقى لو قولت إنك ضربته بفكرك كده هتعدي؟ بالعكس انت بتضر موقفها أكتر، فاقعد ساكت وماتتكلمش كتير.
أطبق يزن شفتيه بغيظ بينما أكمل زيدان بحزم لا يقبل النقاش:
-روح اقف معاها، عشان لما الظابط يجي يسألها.
اقترب الضابط من السيارة وبدأ يفحص المكان بعين خبيرة، بينما المسعفون نقلوا السائق إلى نقالة ثم إلى سيارة الإسعاف، تقدم زيدان بالتحية وبدأ يسرد للضابط تفاصيل ما جرى بوضوح ودقة، رفع الضابط رأسه ليلمح سيرا من بعيد، ترتجف من الخوف، وعيناها حمراوان من كثرة البكاء، وملابسها تحمل آثار صراع واضح، فاستمع إلى صوت زيدان:
-يعني يا باشا لو أمرت تبعت حد يفرغ الكاميرات اللي موجودة في المنطقة اللي هي ركبت منها، لإن شاكك إن الموضوع في حاجة غريبة.
أومأ الضابط بموافقة ثم التفت إلى معاونه، وقال:
-خد من الباشا العنوان وفرغ الكاميرات، وشوف الواد ده لو عليه أي سوابق، وفرغ التليفون ده، وابعت حد يتابع الواد في المستشفى أول لما يفوق قولي.
ثم أعاد النظر إلى سيرا بابتسامة صغيرة أراد بها التخفيف عنها، وهو يتقدم ليبدأ باستجوابها، وقف زيدان بجانبها يحميها بوجوده، بينما يزن يقف كالسد خلفها، عيناه تفضحان خوفًا عظيمًا عليها، بدأت سيرا تجيب على أسئلة الضابط بين دموعها، تارة بصوت مرتجف، وتارة تنهار باكية، تصف كيف حاول السائق الاعتداء عليها وكيف لم يكن أمامها سوى أن تضربه، أنهى الضابط أسئلته ثم التفت إلى زيدان قائلًا:
-نروح القسم يا باشا بس عشان إجراءات المحضر.
أومأ زيدان موافقًا:
-مفيش أي مشكلة.
ثم أشار ليزن أن يأخذ سيرا في سيارته بينما تبعه هو مع الضابط، وفي طريقها إلى السيارة كانت تسير متثاقلة بجانب يزن، قلبها لا يزال يخفق بعنف، لكنها شعرت بامتنان عميق يغمرها لوجوده، لنظراته القلقة، لذراعه التي تحوطها بحنان، أغمضت عينيها براحة ثم همست وهي تتنفس بصعوبة:
-شكرًا يا يزن، لولاك أنا مكنتش....
قاطعها يزن ممسكًا يدها، ثم قبلها بلطف وعيناه لا تفارق عينيها:
-مفيش شكر ما بينا يا حبيبي.
ارتسمت على وجهها ابتسامة ممتنة، وجلست في مقعدها بجواره، وأغمضت عينيها بقوة تتنفس بارتياح لأول مرة، بعدما كان كل نفس قبل قليل يخرج منها محسوبًا، مثقلًا بالخوف والذعر.
****
فتحت حسناء باب شقة نوح بخطوات ساكنةٍ كمن تقتحم مسرحًا معدًا لتمثيلها، ودخلت حافية النظر تبحث بعين جشعة عن الخزينة، حملت حقيبة المال كما تحمل السارقة أدوات سرقتها، فتقدمت نحو غرفة النوم وألقت نظرة فاحصة إلى الفراش، فتخيلت نفسها بوقاحة مع نوح، ارتسم على شفتيها ازدراءٌ رقيق ثم تنهدت بضيق وقالت بصوتٍ مفعم بالاحتقار:
-والله كنت هعيشك ملك زمانك…أنت الخسران يعني عاجبك تعيش في القرف ده؟
التفتت بعد ذلك إلى أركان الشقة فوجدتها مهملة، يغمرها سكون أثقلته غبرة الأيام وغياب العناية، اقتربت من الخزينة وأدخلت الرقم السري بيد مرتعشة ولكن بعين حذرة، ولما انفتحت أمامها بابها انفتحت معها خزائن طمعه، رزمٌ من النقود تتلألأ بين طياتها، ارتفعت في صدرها نوبة من القهر والذهول، أمسكتهن بأطراف أصابعها وكأنها تمس أحلامًا ضائعة لم تستعدها بجدارة.
وقفت للحظة تتأمل ما بين يديها، ثم همست بصوتٍ حاد مكسورٍ بالمكر:
-يعني لو اخدت الكام باكو دول مش هيحصل حاجة، هو كان حس أصلاً باللي قبلهم.
حملت رزمة بعد رزمة ووضعتهن في حقيبتها التي، ومضت تُغادر الشقة بخطوات هادئة، وفي داخلها كانت المخططات تتكون...كيف تقتنص ما تريد، كيف تُبقي نوح في حالة تشتتٍ يسمح لها بالاستمرار.
وبعد أن قضت وقتًا في انتقاء ملابس جديدة، ومساحيق تجميل، وأحذية تليق بصورةٍ مزعومة من الأبهة، عادت إلى منزلها محمولةً على موجة من الحماس المزيف، ولما ولجت وجدت أمها قد عبأت المكان بما تبخره، وعندما رأت الحقائب شهقت بعنف:
-يالهوي سرقتيه يا بت؟
زفرت حسناء بقوة وألقت بالحقائب أرضًا، ثم جلست منهكة ينهشها مزيجٌ من الغضب والرغبة:
-يعني ياما هما الكام باكو دول هيأثروا في كم الفلوس اللي عنده، ده بعتني النهاردة احطله فلوس في الخزنة، ابن اللذينة عايش في نعيم، وأنا اتحرمت منه بسبب مراته العقربة، اعمل إيه اقتلها ولا اخلص منها ازاي، عشان ميشوفش غيري.
رفعت أمها يدها صارخةً في استهجانٍ مُختلط بقلق عملي:
-اكيد مراته فكت الاعمال اللي عملتها ليها عند شيخ أكبر وأقوى مني، اه أصل أنا أعمالي متخرش المياه، المهم انتي ناوية تفضلي كده تسرقي كام باكو يعني من انتي في الآخر هتتقفشي يا حلوة!!
تنفست حسناء بتمطيطٍ تظاهري ثم ارتسمت على وجهها مكر متلصص:
-أنا محتاجة بت على الله حكايتها تشتغل مكاني وأنا هالبسها الموضوع كله بطريقتي، ومن بعدها أخلع أنا.
تعقدت حاجبا أمها من الحيلة فاقتربت منها وسألت مترددةً:
-مش فاهمة يا بت؟
ابتسمت حسناء ابتسامةً لا تخلو من خبث وشرحت خطتها بخفة:
-يعني هبدأ اقوله إنك تعبانة ومحتاجة اقعد جنبك اراعيكي وطبعًا هو هيقولي شوفيلي حد مكانك، أنا بقى اجبله واحدة عبيطة واول مرة تشتغل واعرف البسها الموضوع واخلع أنا منها.
لم تصدق الأم من دهاء خطة ابنتها، لكنها سرعان ما استجابت بحدةٍ معاونة:
-وأنا عندي البت، بنت أم صفاء اللي في أخر الشارع، قارفني عشان تشوفي شغل لبنتها صفاء، البت دي مفيش أطيب واغلب منها، بنت حلال وتستاهل كل خير.
نظرت حسناء إليه بسخرية:
-هي الولية دي مضايقكي في إيه يا ما، عشان عايزة تخدميها الخدمة دي؟
زمت والدتها شفتيها بغيظ وحقد:
-واخدة مني عملين تعبت فيهم ومش راضية تسدني، وعمالة تقولي الظروف والزفت وأنا مالي ياختي، هو أنا فاتحاها جمعية!!
قالت حسناء مُطمئنة:
-طيب حلو مهدي ليها الموضوع بقى، لغاية أنا ما الاقي اللحظة المناسبة اللي اعرف اخد اللي يرضيني فيها.
****
جلس نوح ويسر في ركن هادئ من المول، على مقعد خشبي أنيق يطل على الساحة الداخلية حيث تلمع أضواء المتاجر وتتصاعد أصوات الموسيقى الخافتة الممزوجة بأحاديث المارة، كان الهواء المكيف يخفف من وهج يومهما الطويل، وفي الطرف المقابل كانت لينا مفعمة بالحياة، تلهو داخل المنطقة المخصصة للأطفال، تركض وتضحك ويعلو صوتها في بعض اللحظات، بدا على وجهها ذلك الصفاء البريء الذي يخطف القلوب، أما على وجه والديها فكانت تعابير الإرهاق تمتزج بظلال هموم ثقيلة تحاول كل منهما إخفاءها عن الآخر.
قضيا وقتًا ليس بالقصير في التجول بين أروقة المول، وحرص نوح على اقتناء كل ما أشارت إليه لينا بيدها الصغيرة، في محاولة واضحة لتعويضها عن تقصيره في حقها في الأيام الماضية، لقد كانت تلك طريقته الصامتة في الاعتذار، يترجمها بالأفعال لا بالكلمات، ومع كل حقيبة يحملها كان يشعر بشيء من الراحة يمتزج بمرارة الندم.
تنهدت يسر وهي تحدق في الحقائب الكثيرة المتراكمة بجانبها، وقد أخذت حيزًا من المكان وكأنها تعكس ثقل المشاعر التي تسكن قلبها، رفعت بصرها نحو نوح الذي وضع أمامها كوبًا من عصير المانجو المثلج، جلس بجانبها يلتقط أنفاسه بعد أن منحتهما لينا أخيرًا فترة راحة قصيرة من مطالبها الطفولية، فلاحظ في عيني يسر نظرات عتاب مكتومة، ارتسم القلق على ملامحه وعقد حاجبيه بارتباك حذر:
-في إيه؟ أنا عملت إيه؟
قالت بنبرة متزنة تحاول أن تسيطر على انفعالها:
-مش كل حاجة لينا تشاور عليها يا نوح تجيبها كده غلط وبتدلعها اوي.
ابتسم نوح ابتسامة متعبة وقال وهو يحاول التبرير:
-ما تتدلع في عز أبوها يا يسر، وبعدين ده هو يوم يعني هعملها اللي هي عايزاها.
-ماشي وانت اشتريت كتير، يبقى كفاية كده.
زم شفتيه بضيق ورد باقتضاب:
-طيب.
أطرقت لحظة ثم رفعت رأسها وقالت بصوت أكثر هدوءًا:
-نوح متضايقش مني، بس التوازن مهم اوي في تربية لينا، عشان منرجعش نندم بعدين.
تنهد نوح وهو يشيح ببصره بعيدًا، وكأنه يستدعي شيئًا غاب في ذاكرته منذ زمن بعيد:
-أنا عايزة أدي عيالي كل حاجة أنا اتحرمت منها، مش بس شوية الهدايا دول، كل حاجة يا يسر...كل حاجة.
ارتفع رنين هاتفه فجأة، فالتفتت يسر إلى شاشة الهاتف فرأت اسم والدته، لاحظن أنه ضغط على زر الرفض وأغلق الاتصال بحدة واضحة، مدت يدها بهدوء ووضعتها فوق يده تمنعه من الابتعاد، وقالت برقة لا تخلو من الحزم:
-نوح، مفيش حد بيتهرب من أهله، رد عليها.
رمقها نوح بنظرة منكسرة كأنها كشفت عن جرحه الأعمق، ثم أجاب بصوت منخفض محمل بالأسى:
-لما يكون أهلك هما مصدر قلقك يبقى فيه، أنا مبقتش مرتاح وأنا بضغط على نفسي عشانهم، لما كنت بعوزهم جنبي مبلاقيش حد، وفي أزمتي دي مالقتش واحد واقف جنبي، عارفة يعني واحد بس!! حتى أمي اتصالها ده يا إما عشان عايزة فلوس، يا إما حد منهم مدخلها تتوسط عندي.
ابتسمت يسر بمرارة ثم قالت بصوت متردد:
-آآ...أنا مش عارفة اقولك إيه حقيقي؟
هز رأسه بأسى وواصل:
-ماتقوليش عشان اللي أنا فيه ده مش من يوم وليلة، ده عمر بحاله، وخلاص أنا فاض بيا، تعبي وشقايا ده كله المفروض ولادي أحق بيهم، أنا متمرمط وهتمرمط عشان خاطرهم بس.
-بس أهلك ليهم حق عليك، وخصوصًا أنهم معتمدين عليك في كل حاجة وانت عارف كده.
ابتسم بسخرية مريرة وهو يجيب:
-وأنا مش هقفل الحنفية خالص، بس هقللها شوية،
على طول بتتهمني إني عايز كل حاجة، بس في الحقيقة أنا معنديش حاجة أساسًا، أنا بحاول أسعد نفسي وأرضيها يا يسر وبردو تايه ومش لاقي راحتي.
نظرت إليه يسر بعطف ثم قالت:
-عشان سجنتها في اللي اتحرمت منه زمان، وزمان غير دلوقتي...دلوقتي بقى ليك حياة تستحق إنك تحافظ عليها وتتبسط بيها، سعادتك اللي اتحرمت منها زمان ممكن تعوضها في قربك مني ومن ولادك يا نوح.
تردد نوح للحظات قبل أن يفصح عما يعصف داخله من اعترافات ثقيلة، كان يشيح بوجهه تارة نحو الأرض وتارة أخرى نحو المارة في المول، لكن عينيه كانتا فارغتين كأنهما تبحثان عن ملاذ داخلي لا يجدانه، فأخذ نفسًا عميقًا كمَن يحاول دفع جبل جاثم فوق صدره ثم قال بصوت متهدج:
-عارفة....اوقات بحس أني بعاند مع نفسي، واوقات بحس في زحمة كتير في دماغي مش قادر أفصل منها، يمكن زمان مكنتش بعرف أهرب من اللي أنا فيه، بس دلوقتي أنا اكتشفت إن راحتي في وجودك انتي ولينا، راحتي في بيتي، مش في شغل وفلوس أبدًا.
أحست يسر أن قلبها يخفق بقوة، لكنها أخفت ارتباكها تحت ملامح متماسكة، ثم أجابت بنبرة عميقة وكأنها تُلقي حجراً في مياه راكدة:
-ولا في شوية أمنيات مراهق المفروض تدفنها، متحاولش تطلعها على حساب غيرك.
ارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة تحمل سخرية من ذاته أكثر مما تحمل ردًا عليها، ثم قال وهو يشيح بوجهه قليلًا:
-اممممم قصدك على حسابك يعني؟!
ارتجفت أصابع يسر وهي تقبض على طرف حقيبتها الموضوعة بجانبها، ثم رفعت نظرها إليه بعزمٍ ممزوج بحذر وقالت:
-نوح، أنا هسألك سؤال واحد ويا ريت تجاوبني بجد.
كان في عينيه لحظة صمت طويلة، تردد خلالها وكأنه يخشى أن يفضح نفسه أكثر، ثم انحنى قليلًا بجسده نحوها وقال:
-اسألي!
شعرت يسر بارتجاف صوتها رغم محاولتها إخفاء ذلك وقالت:
-لما بعدت عني الفترة اللي فاتت دي، شوفت واحدة وقدرت تملى عينك وتاخد قرار الجواز حتى ومتفكرش فيا؟!
ظل يطالعها نظرة طويلة صامتة، وكأنها محاكمة صامتة بين عينيه وعينيها، ثم خفض رأسه وتمتم بصوت يقطر منه ندم خافت:
-لا...للاسف مكنتش شايف غيرك.
ارتجف قلب يسر للحظة لكنها سرعان ما تنفست بمرارة وأجابت بحرقة متراكمة:
-وأنا مكنتش استحق إنك تسيبني كل الوقت ده أضرب أخماس في أسداس، وتيجي تعترفلي الاعتراف ده، يمكن كنت رجعت وأنا راضية، يمكن كنت محتاجة اسمع منك حاجة زي دي، زي ما انت عيشت في توتر وتايه في حياتك، انت كمان نجحت أنك تعيشني في كده، أنا مكنتش لايقة نفسي معاك.
ارتعشت شفتا نوح قليلًا قبل أن يجيب، وقد بدا صوته كمَن يصرخ في وادٍ مهجور لا يسمعه أحد:
-وهتلاقيها ازاي معايا وأنا أساسًا تايه ومفيش حد بيسمعني ولا بيفهمني!!
هزت يسر رأسها بأسى وقد شعرت أن الدموع تتجمع في عينيها لكنها تماسكت، وقالت بصوت أكثر حدة:
-افهمك ازاي وانت عايز تتجوز عليا؟! انت كنت بتجرحني يا نوح! عارف إيه يعني أحس إني مش مالية عينك أبدًا وحياتي مهددة معاك.
شد على قبضته وكأنه يحاول الدفاع عن نفسه في ساحة حرب غير متكافئة، ثم أجاب بصوت مبحوح:
-كنتي احتويني يا يسر.
ارتفعت نبرتها فجأة وتحول صوتها الهادئ إلى نبرة مكتومة خرجت من أعماق قلب مثقل بالخذلان:
-ومين يحتويني أنا يا نوح وأنت بعيد عني، كام مرة طلبت منك تبعد عن أفكارك دي، كام مرة احتاجتك وانت دايمًا كنت بعيد وبتتهمني بأنانية وعايزة اللي يسعدني وبس، رغم إن سعادتي كانت بسيطة...بسيطة اوي يا نوح إن أنا أحس مفيش لا قبلي ولا بعدي ده كان كفيل يخليني أسعد إنسانة في الدنيا.
في تلك اللحظة كان الهواء مشبعًا بالصمت الثقيل، وكأن جدران المول من حولهما حبست أنفاسها، ثم انشق هذا الصمت على صوتٍ طفولي ناعم يحمل براءة العالم كله، فقد كانت لينا قد اقتربت منهم فجأة بعينيها الواسعتين المتسائلتين، وقالت ببراءة قلقة:
-مامي انتوا بتتخانقوا؟!
ارتبكت يسر للحظة لكنها تماسكت سريعًا، وأجبرت ملامحها على الابتسام، ثم مدت يدها لتحتضن صغيرتها وترددت كلماتها بنبرة هادئة:
-لا لا أبدًا يا حبيبتي أنا وبابا كنا بنتكلم إنه كفاية ونروح عشان أنا تعبت ومحتاجة ارتاح.
هزت لينا رأسها الصغيرة واقتنعت ببراءة الأطفال، ثم عادت راكضة نحو منطقة الألعاب، بينما تبادل نوح ويسر نظرة طويلة صامتة، كانت مليئة بما عجز لساناهما عن قوله؛ نظرة حملت بين طياتها حبًا جريحًا وخوفًا من الغد، ورغبة صامتة في أن يجد كل منهما الآخر قبل أن يضيع تمامًا.
****
عادت سيرا مع يزن في المساء بعد أن انتهى التحقيق الطويل الذي استنزف قواها النفسية والجسدية، كانت حالتها أشبه بزهرة ذابلة بعد عاصفة؛ وجهها شاحب وعيناها غارقتان في بحر من الإرهاق، أما السائق فقد استقرت حالته نوعًا ما في المستشفى بعد تدخل الأطباء، وباتت سيرا الآن في مرحلة الانتظار لما ستؤول إليه الأمور حين يفيق.
على طول الطريق إلى منزلها، انهمرت اتصالات من عائلتها، تتوالى الواحدة تلو الأخرى محملة بالقلق والأسئلة، فكان يزن يجيب عليهم بإجابات مقتضبة هادئة، مختصرًا التفاصيل حتى لا يثير مزيدًا من الذعر في نفوسهم، بينما سيرا غارقة في نومٍ متقطع، مائل إلى الإغماءة أكثر من الراحة، وصوتها مبحوح مجروح كأنما خرج من معركة طويلة.
مد يزن أصابعه الطويلة ليمسد برفق فوق كفها الملقى بإهمال إلى جوارها، يحاول أن يعيدها إلى وعيها بلمساته الهادئة، وبعد لحظات استعادت تركيزها واعتدلت في جلستها ببطء، وما إن لاحظت وجودهما أمام منزلها حتى تنفست بعمق، وكأن جبلاً انزاح عن صدرها.
-انتي كويسة؟
هزت رأسها إيجابًا، وارتسمت على شفتيها ابتسامة صغيرة باهتة أرادت بها أن تطمئنه، فقد شعرت أنها قد أنهكته معها منذ بداية اليوم، فيكفيه ما عاناه بسببها، من لحظة صدمته الأولى حين طلبت مساعدته، إلى موقفه معها ومع أشقائه في قسم الشرطة، لم تشعر بالخوف أبدًا بوجودهم إلى جوارها؛ كانوا جميعًا كالدرع حولها، معاملة لطيفة وحماية صادقة، ولم تعلم أن كل ذلك كان بأمر مباشر من يزن نفسه، الذي وقف كالطود الشامخ أمامها يحجب عنها أي سوء.
رفعت حقيبتها من المقعد، لكنها تذكرت فجأة طاجن البامية المسكين فالتفتت إليه بنظرة حزينة وقالت بصوت مبحوح:
-كنت جيالك وعملتلك بامية بإيدي عشان تفرح، بس....
ابتسم يزن وربت على كفها بحنان محاولاً كسر الجو الثقيل ثم مازحها:
-عارفة مفيش أكلة قدرت تهز مكانة البامية عندي، ولا حد قدر يغير وجهة نظري فيها، بس انتي الوحيدة اللي كرهتيني فيها..
اتسعت عيناها بصدمة طفولية وترقرقت الدموع في عينيها وهي تقول بأسى صادق:
-والله كنت عملتهالك حلوة اوي.
ضحك بخفة وارتسمت على شفتيه ابتسامة دافئة:
-المهم سلامتك يا حبيبتي، أنا بهزر وان شاء الله ابقى أكلها وانتي في بيتي، أحسن من الفرهدة دي.
ابتسمت له بحبٍ صادق وتحركت لتفتح باب السيارة، لكنه سبقها بخطوة واعترض طريقها، هبط أولاً وفتح الباب لها، فتذكرت للحظة أنه لم يتركها يومًا تفتح باب السيارة لنفسها حين يكون هو معها، اتسعت ابتسامتها أكثر حين مدّ
يده نحوها، فوجدت كفها يدفن نفسه في راحته الدافئة بحب واستسلام، أما هو قال لها بصوت حاسم حنون:
-هطلعك فوق عشان اتطمن عليكي، وعشان مفيش حد يزعلك فوق.
رفعت عينيها إليه والدموع تتلألأ في مقلتيها وهمست بدعوة صادقة خرجت من أعماقها:
-ربنا يخليك ليا.
فوجوده إلى جوارها كان كفيلًا بأن يبث في روحها الطمأنينة بعد يومٍ كان كالسيف عليها.
صعدا معًا إلى شقة عائلتها حيث كان الجميع في انتظارها، ما إن رأوها بتلك الحال حتى هرع إخوتها الفتيات نحوها، واحدة تلو الأخرى تحتضنهم بذراعين مفتوحتين، وكأنهم يعيدون إليها الحياة بأحضانهم، ثم تقدم والدها منها فاحتواها بذراعيه في عناقٍ طويل، وهو يربت بحنو فوق ظهرها، وصوته كان يحمل انكسارًا وعتابًا ممزوجًا بندم خفي:
-كده يا سيرا ماتتصليش بيا؟
شعرت هي بذلك الاعتذار الضمني في نبرته، وربتت على ظهره بيد مرتجفة وقالت بضعف:
-ده...ده يزن اللي اتصل بيا وقتها وعرف ينقذني.
قطع يزن الموقف بهدوء وهو يوجه الكلام إلى والدها:
-أنا اللي قولتلها ماتتصلش بحد فيكم عشان متقلقوش.
وفي وسط الزحام العاطفي تقدمت حكمت بخطوات سريعة وقالت بغضبها المعهود:
-هو فين ابن الـ*** ده وأنا اروح اشرب من دمه.
اقتربت دهب من سيرا واحتضنتها باهتمامٍ ممزوج بالإهمال، ثم مدت يدها ليزن تصافحه بابتسامة فيها إعجاب ظاهر بوسامته وحضوره:
-ازيك يا يزن؟
لاحظ يزن في مصافحتها شيئًا من عدم الارتياح، فسحب يده سريعًا في أدب ثم التفت إلى والد سيرا يستأذن مغادرته بصوت هادئ متزن:
-عن إذنكم، ويا ريت تاخدوا بالكم من سيرا عشان قضت يوم صعب.
رفع نظره إلى الداخل قبل أن يغادر، فرأى سيرا تتوسط أحضان والدتها، تغلق عينيها براحة بينما والدتها تبكي في صمت وتهمس بأدعية خافتة لحفظ صغيرتها التي عانت كثيرًا، وكأن البؤس قد كُتب على جبينها قدرًا منذ البداية.
****
ترك فايق نافذته التي كان يقف خلفها منذ ساعة، يراقب من خلالها بيت سيرا كما لو كان صقرًا يتحين الفرصة للانقضاض، كان يتابع بخيطٍ من التوتر كل حركة وكل نفس، رأى يزن يرافقها إلى المنزل، يعود بها ببساطة وكأن شيئًا لم يكن، فارتسمت على وجهه علامات الغضب والريبة، لم يكن يفهم ما يجري ولا كيف انقلبت الأمور على هذا النحو، وكل ثانية تمر عليه كانت تذكي نيران الشك في صدره.
ابتعد عن النافذة ببطء، ثم بدأ يتحرك في الغرفة ذهابًا وإيابًا كوحشٍ محبوس في قفص، خطواته متسارعة متوترة، يده تعبث بشعره مرة وتغلق على هاتفه مرة أخرى، اجرى اتصالات متكررة بسامي، يتصل ويعيد الاتصال بلا توقف، وصوت الرنين المتكرر يملأ الغرفة كصفارة إنذار تثير أعصابه أكثر.
وأخيرًا بعد سلسلة من المحاولات، أُجيب على الاتصال، ولكن ما إن وُضع الهاتف على أذنه وهم أن يفرغ ما في صدره من كلمات، حتى باغته صوت آخر ليس صوت سامي، صوت غريب هادئ وجاف لا يعرفه:
-مين معايا؟ مش ده تليفون سامي؟
رد الصوت الآخر على الطرف الثاني بنبرة رسمية:
-اه، انت قريبه؟
ابتلع فايق ريقه بتوترٍ شديد، شعر بالبرد يتسرب إلى أطرافه، وأجاب محاولًا التحكم في صوته:
-اه قريبه انت مين؟
جاءه الرد حاسمًا قصيرًا:
-تليفونه في قسم شرطة *****، وهو في المستشفى، فتعالى لو سمحت على قسم الشرطة عايزين حد من أهله.
شعر فايق أن الأرض تميد من تحته، وانكمشت معدته في خوفٍ لم يعرفه من قبل، حاول أن يتمالك نفسه، فسأل بهدوء مصطنع لكن الكلمات كانت تخرج متقطعة:
-آآ...اه ...تمام، بس هو في مستشفى أيه يا باشا وحالته إيه وحصله إيه؟
أجابه الرجل ببرود:
-مستشفى الـ *****، وهو حاليًا لسه مفاقش، المهم تعالى في أسرع وقت.
أُغلق الهاتف وتجمد في مكانه للحظة، أنفاسه تتلاحق باضطراب، يسمع صدى كلمات الرجل في رأسه، جلس على حافة السرير واضعًا رأسه بين كفيه يفكر بعشوائية، يحاول أن يربط الخيوط المبعثرة، ماذا حدث لسامي؟ هل انكشف أمره؟ هل هو في خطر؟ وماذا عن نفسه الآن؟
أفاق من شروده فجأة وكأن أحدهم صفعه، تقدم بخطوات سريعة نحو حقيبة صغيرة موضوعة في زاوية الغرفة، فتحها بعجلة وبدأ يجمع ثيابه ومتعلقاته المهمة، بعض المال، أوراقًا ثبوتية، هاتفًا قديمًا كان يخفيه، وبضع احتياجاته، وفي كل حركة كان يؤديها توحي بالذعر والرغبة في الفرار.
توقف للحظة عند الباب يده على المقبض، ووجهه شاحب كأنه فقد نصف دمه في دقيقة واحدة، أدار رأسه نحو الغرفة، تذكر سامي...تذكر كل ما خطط له، لكن غريزة البقاء كانت أقوى، فشد على أسنانه وفتح الباب، ثم خرج بخطوات مسرعة إلى المجهول، حاملاً حقيبته الصغيرة وقلبه المشتعل بالخوف والتوجس.
هتفت والدته من خلفه بتعجب:
-رايح فين يا فايق؟ انت مسافر شرم تاني تشتغل؟
لم يجيب وغادر مسرعًا فتركها في حيرة من مغادرته تلك وكأنه يهرب من شيء مخيف، تمتمت بأدعية تحفظه، ثم جلست وهي تقول بضيق يغمره الحقد:
-الواد حاله اتبدل، أكيد دي عين حكمت حسبي الله ونعم الوكيل فيها.
****
عاد زيدان إلى منزله وهو يشعر بقلقٍ متصاعد يثقل صدره، وما إن خطا إلى الداخل حتى اتجه مباشرةً نحو غرفة يزن، دفع الباب بخفة فوجد شقيقه ما زال مستيقظًا، يتحدث عبر الهاتف مع سيرا بصوت منخفض، أشار له زيدان بصرامة أن يُنهي الاتصال فورًا، فأطاع يزن على الفور لكنه لم يخفِ ارتباكه من الملامح المتوترة التي ارتسمت على وجه أخيه، قطب حاجبيه وسأله بقلق:
-في إيه يا زيدان؟
اقترب زيدان منه وصوته ممتلئ بجدية أثارت في نفس يزن خوفًا أكبر:
-سيرا في بيتها صح؟
أومأ يزن برأسه إيجابًا، لكنه شعر بغصة في حلقه من طريقة السؤال فتابع زيدان بصرامة أكبر:
-طيب بلغها متخرجش من بيتها الفترة دي، تمام؟
ازدادت علامات القلق على وجه يزن وهو يقول:
-في إيه؟
تنهد زيدان ثم جلس على الكرسي المقابل له، وصوته يفيض بالصرامة والحذر:
-في إن الواد اللي حاول يعمل فيها كده مش سواق تاكسي أصلاً، ده طلع واخد العربية دي من جوز اخته، والكاميرات وضحت أن العربية فضلت واقفة أكتر من تلات ساعات على أول المنطقة عند سيرا والواد ده كان بينزل يقعد على القهوة ويتكلم في التليفون شوية وبعدها يرجع للتاكسي تاني، وأول ما سيرا نزلت من بيتها الواد ده جاله تليفون واتحرك براحة وهي وقفته وركبت.
تجهم وجه يزن أكثر فسأله بقلق أكبر:
-وبعدين؟
أخذ زيدان نفسًا عميقًا وكأنه يجمع شتات أفكاره قبل أن يواصل ببطء وثقة مفادها يقين مرعِب:
-في أمين شرطة معرفش دماغه رايحة منه فين، رد على تليفون الواد ده عشان كان في اتصالات كتير، وافتكر إنه حد من أهله، ولما قال للظابط قدامي إن في حد من أهله اسمه فايق جاي على القسم، الاسم رن في دماغي.
نهض يزن من مكانه وقد علت الدهشة وجهه، ثم نطق باسم واحدٍ لم يحتمل صمته:
-فايق؟
أومأ زيدان برأسه ثم أضاف بهمسٍ ينعكس عليه توتر اليوم بأكمله:
-اخدت الرقم وعملنا تحريات وطلع هو فايق جارها، وهو ولا قريبه ولا حاجة، بعتنا نجيبه لقيناه هرب، بس هنجيبه متقلقش.
ارتفعت نبرة يزن قلقًا مختلطًا بغضبٍ متصلب، وسأل بنبرةٍ توشحت بالرعب والريبة:
-يعني انت شاكك إنه متفق مع الواد ده على سيرا ولا إيه فهمني؟
رد زيدان وهو يعبر عن رجل المباحث الذي داخله فقلة الأدلة لا تمنحه يقينًا مطلقًا:
-الصورة لسه مش واضحة يا يزن، بس اه غالبًا لإنه في اتصال ما بينهم مدته ثواني في نفس التوقيت اللي هي نزلت فيه!
-زيدان، الواد ده مش طبيعي....
هب يزن وهو يهز ساقيه بعنف؛ ثم بعد لحظةٍ قصيرة من الصمت المملوء بالتفكير قال بحزمٍ لا يخلو من فزع:
-سيرا لازم تكون معايا، وتحت عيني طول الوقت.
رد زيدان بهدوءٍ حازم، محاولًا أن يطوق جنوح العاطفة لدى أخيه بمقاربة واقعية:
-ما في وسط أهلها يا يزن، انت بس بلغها ماتتحركش من بيتها واحنا ادينا مواصفاته في المستشفى لو راح هيتقبض عليه.
هز يزن رأسه بعنادٍ يختلطه استهجان، وقال بنبرةٍ تميل إلى التحدي:
-لا طول ما الزفت ده مش ممسوك أنا لا يمكن اسيبها بعيدة عني.
تمالك زيدان نفسه وسأله ببرودٍ يختبئ وراءه استياء منطقي:
-يعني هتعمل إيه؟ هتاخدها غصب عن أهلها؟
في تلك اللحظة دخل سليم مندهشًا من ضجيج أصواتهم فسأل مستفسرًا:
-في إيه؟ صوتكم عالي ليه كده؟
تنهد زيدان مجددًا ثم روى له ما دار من تحريات وتحقيقات؛ استمع سليم بانتباهٍ، وتبدلت ملامحه وهي تختلط بالغضب والقلق معًا، لكنه لفت بصره إلى يزن الذي بدا كمَن تلاطمه أمواج الخوف ونادى عليه بصوتٍ يحاول أن يضبطه:
-وانت عايز تعمل إيه يا يزن؟ ما أخوك مش ساكت اهو، وهيتجاب متقلقش.
أجاب يزن بحزمٍ لم يخفه ارتعاشًا داخل الصدر:
-أنا عايزاها معايا وجنبي أنا مش هتطمن إلا وهي معايا.
تدخل سليم محاولًا فرض منطقٍ يتجاوز حد
العاطفة:
-يا ابني فيه حاجة اسمها أصول مينفعش نتعداها!
قاطعه يزن وكأن نفسه قد انقطع، وقال بحدةٍ تلامس الغضب والمرارة معًا:
-أصول لما كانت خطيبتي، بس هي دلوقتي مراتي، ومن حقي احميها بالطريقة اللي أنا شايفاه صح.
انفجر زيدان بغيظٍ لم يستره صبره:
-يا ابني ده مجرد كتب كتاب انت مجنون؟!
-بقولك إيه ماتستفزنيش أنا مش ناقص.
حاول سليم ترجيحهما لمنطق أقل حدة، وسأل بهدوءٍ مهيأ للوساطة:
-يعني انت عايز تعمل إيه؟
أجاب يزن بلا مواربة وكأنه يقذف بحبل النجاة الأخير:
-كلم أبوها يا سليم يخليه يجيبها تقعد معانا هنا لغاية ما الـ**** يتقبض عليه.
أجاب سليم بصوت يشي بالرفض الحذر:
-أبوها مش هيرضى.
ردد يزن بصلابة وقد ارتسمت على وجهه قناعة مختلطة بيأسٍ شديد:
-وأنا كمان مش راضي أنها تفضل هناك وأنا مش هكون متطمن، يا سليم انت ماتعرفش حاجة عن سيرا، اقسم بالله لو سيبتها يوم كمان هلاقيها لابسة في مصيبة جديدة، اسمع مني وكلمه واقنعه، انت أساسًا بتعرف تقنع أي حد.
اعترض زيدان مؤكدًا رغبة سليم في ضبط الأمور:
-مينفعش يا يزن اخوك عنده حق في حاجة اسمها أصول.
زفر يزن بقوة ثم أخرج حله الأخير ليصل إلى مراده:
-يا جماعة هي مراتي، اقولك بلاش نستنى الفرح.
اعتلت ملامح الصدمة وعدم الرضا وجه سليم، ثم قال بنبرة غليظة:
-وذنبها إيه يا بني دي بنت ونفسها تفرح واهلها يفرحوا بيها!
تنهد يزن بقوة عندما نفذت جميع حلوله وقال بعصبية حاول تحجيمها:
-تمام اوي خلاص أنا مش هستنى لحظة واحدة وهنزل ادور على فايق بطريقتي وهجيبه.
أوقفه سليم بصرامة بعدما التقط نظرات زيدان الخائفة من تهور أخيه، فسارع بقوله الحاسم:
-خلاص متدخلش، وأنا هكلم أبوها وهحاول اقنعه.
أطرق سليم رأسه للحظات ثم قال بنبرة يغمرها الغيظ:
-يعني انت دايمًا تحطني في مواقف زي الزفت، بالله عليك ازاي هقول للراجل هات بنتك عندنا أصل اخويا مش واثق إنكم هتحموها.
تنهد زيدان وهو يفكر بصوتٍ مترددٍ على نحو يكاد يحاكي عقل الضابط:
-قوله يا سليم إن فايق ممكن يضرهم لو هي فضلت موجودة وسطهم عشان يوصلها، الافضل تختفي عن الانظار ومفيش أأمن مكان غير هنا، وأنا بردو هحطلهم أمين شرطة يحرسهم.
مسح يزن على وجهه بضيق وسأله بصوت متهدج:
-هتكلمه دلوقتي؟
نهض سليم وهو يقول برفض لاذع:
-لا طبعًا انت اتجننت الساعة ٣ الفجر الوقت اتأخر، بكرة الصبح اهو الاقي كلام مناسب اعرف اقولهوله.
*****
في اليوم التالي…
كان يزن يتحرك ذهابًا وإيابًا في الردهة المؤدية إلى باب الشقة، يترقب عودة سليم الذي رفض الرد على اتصالاته المتكررة، حتى سيرا لم تجب على هاتفه مما زاد من توتره وقلقه.
فجأة فُتح باب الشقة ودخل زيدان، وقد بدت على وجهه علامات الإرهاق البالغ، إذ لم يذق طعم النوم منذ ليلة الأمس، فأسرع يزن نحوه يسأله بلهفة:
-الواد ده فاق يا زيدان؟
رمقه زيدان بعينين مثقلتين بالإجهاد ثم رد بنبرة متعبة:
-لا لسه تحت الملاحظة متقلقش.
تجدد قلق يزن فسأله مرة أخرى:
-وفايق؟
أجاب زيدان متثاقلاً:
-لسه بردو، وسع عشان اسلم على ماما واطلع أنام، مش قادر افتح عيني.
دفعه جانبًا بخفة وتوجه إلى الداخل، حيث وجد مليكة جالسة تتابع قلق يزن بعيون متعاطفة، بينما كانت تُطعم الصغيرة قمر، نظر إليها زيدان بضيق، إذ لم يزل يتعامل معها بذلك الأسلوب الجاف منذ ولادة نهى تقريبًا، في حين أنها اعتادت أن تتجاهل جفاءه وتتصرف ببساطة.
زفرت مليكة بضيق عندما غاب عن أنظارها، وحاولت كبح دموعها التي أوشكت أن تنهمر،حيث شعرت بخوفٍ شديد من عودة نهى وزوجها إلى المنزل اليوم أو غدًا بعد أن يسمح الأطباء لها بمغادرة المستشفى، وللمرة الأولى اجتاحها توتر شديد من فكرة وجود نهى وخاصةً مع طفلها، الذي بدا وكأنه فجر في قلب زيدان حنان الأبوة الكامن.
قطع شرودها صوت سيارة سليم التي توقفت أمام المنزل، أعقبها مغادرة يزن على الفور، ثم أبصرت من النافذة سيرا تهبط من السيارة وبرفقتها دهب ابنة حكمت.
وقف يزن مصدومًا وقد تخلل شعوره مزيج من الدهشة والانزعاج لوجود تلك الفتاة مع سيرا؛ إذ لم يطمئن قلبه قط لوجودها أمامه، ومع ذلك اقترب منهم ورحب بهم بهدوء، لكنه ما إن صار قرب سليم حتى مال عليه هامسًا بغيظ:
-هي دهب جاية ليه معاكوا؟
هز سليم كتفيه بلا مبالاة وأجاب:
-معرفش أبو سيرا كان رافض أساسًا بس اختها الكبيرة اقنعته وبعتت بنتها معاها وعشان كده ابوها وافق.
***
ارتدى فايق معطفًا أسود اللون ووضع قلنسوة على رأسه لا تلائم حرارة الجو اللاهبة، فكان منظره غريبًا للعين العابرة، لكنه تقدم بخطوات هادئة وواهنة نحو المستشفى، محاولًا أن يخفي ارتباكه خلف قناعٍ من التماسك.
استوقف أحد الممرضين عند المدخل وبأسلوبه الملتوي المعتاد دس في يده مبلغًا صغيرًا من المال، فاستجاب الأخير بترحابٍ ظاهر وأخذ يجيب عن أسئلته مطولًا:
-اه الحالة اللي فوق، انت صحفي؟
هز فايق رأسه مجيبًا وصوته مبحوح يتصنع الاطمئنان:
-اه وانت عارف الداخلية مبقتش تقولنا حاجة؟
ابتسم الممرض ابتسامة خفيفة ثم قال وهو يخفض صوته قليلًا:
-ده يا سيدي، واحد كان بيحاول يغتصب بنت، بس البت خبطته على دماغه والواد في غيبوبة، بس باين أهل البت دول واصلين لأنه حرفيًا الدنيا مقلوبة من وقت ما جه هنا المستشفى.
شعر فايق بجفافٍ في حلقه وابتلع ريقه بصعوبة، قبل أن يسأل بقلقٍ مكبوت:
-وفي احتمال يفوق؟
رد الممرض مترددًا:
-معرفش والله بس غالبًا اه يعني، أصلاً هما مستنين إنه يفوق بفارغ الصبر وكل شوية يسألوا، وحاطين اتنين عساكر فوق على اوضته وتحت هنا في الاستقبال قاعد بردو عساكر.
أطرق فايق للحظة ثم ابتسم ابتسامة متصنعة وهو يقول:
-شكرًا يا ادارة، هات رقمك عشان اتابع معاك حالته.
أومأ الممرض سريعًا:
-اه اوي اوي.
ناوله الرقم ثم انصرف إلى عمله، بينما أسرع فايق يخطو خارج المبنى متوجهًا إلى دراجة نارية مستأجرها، جلس فوقها وقد غمره فيضان من الأفكار القاتمة؛ كيف للشرطة أن تكشف أمره وسامي ما زال في غيبوبة؟! إذا لم يفق بعد، فمن أين لهم بالمعلومات التي دفعتهم إلى إصدار أمر بالقبض عليه بل وتفتيش منزله أيضًا؟
ارتعش قلبه وهو يشعل المحرك، كأن شبحًا يطارده في وضح النهار، لا يدري من أين يأتيه الخطر، من سامي إن استفاق؟ أم من الشرطة التي بدا أنها تقترب منه بخطوات واثقة؟
__________
قراءة ممتعة
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااا


تعليقات
إرسال تعليق