رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل الثامن وعشرون 28بقلم سيلا وليد حصريه
رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل الثامن وعشرون 28بقلم سيلا وليد حصريه
الفصل الثامن والعشرون
"لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين "
"كم هو موجِعٌ أن تُحارب نفسك وأنت لا تملك الانسحاب...
أن تكون الجندي المدافع والمهزوم في آنٍ واحد،
كل سهمٍ يُطلق يصيب صدرك،
وكل نداء نجاةٍ يأتي من داخلك ليُغرقك أكثر.
أُحاول أن أُمسك بزمام روحي،
لكنها تنفلت من بين أصابعي كرمادٍ هَشٍّ لا يُمسك.
أُصالحني فأخونني، أُقنعني فأكذّبني،
أُضمّد جرحي بيدي التي فتحت النزف أول مرة.
يا لقلبي الذي أرهقه الحب،
سكب حنانه في صدورٍ مثقوبة،
حتى جفّ، ثم عاد يبحث عن قطرة دفءٍ في صحراء الخذلان.
كم مؤلمٌ أن تُحبّ بقلبٍ لم يُشفَ من طعناته،
وأن تبتسم وأنت تذوب ببطءٍ تحت رماد الصبر.
كل ما أراده سكونٌ لا يُوجعه،
لكنها حين نطقت، انكسرت بداخله أشياء لا تُرمَّم.
ومنذ تلك الليلة...
لم يعد يعرف أيُّهما أقسى، النوم أم اليقظة.
نظرت لما وضعه بين يديها، بقلبٍ يئنُّ كجرحٍ مفتوح، رفعت الذي بيدها بأنامل مرتجفة، وراحت تقرأ ماكُتب عليها مرارًا، وكأنَّها لا تصدِّق ماترى. رفعت رأسها نحوه وصوتها يتقطَّع، كأنَّ كلَّ حرفٍ يخرج ممزوجًا بالدمع:
_إيه دا يا يوسف؟
استدار ببطء، عيناه تتنقَّلان بين دموعها وارتجاف شفتيها، حاول أن يبتلع غصَّةً خنقته، ثم قال بصوتٍ خافتٍ خالٍ من الحياة:
_مش عارفة تقري؟
اقتربت منه، ونظرتها كسهامٍ مسمومة، مسحت دموعها بعنفٍ وكالتي تقتلع وجعها، ثم فتحت كفِّه ووضعت شريط مانع الحمل بداخله بقوَّة:
_وأنا مش موافقة..مش دا اللي كنت عايز تسمعه؟
تنهَّد بحدَّة، وأردف بنبرةٍ كزفرة ألم:
_ليه، مش بتقولي إنِّك بتحبِّيني، عايزة إيه تاني؟
توسَّعت عيناها بغضبٍ جحيميّ، وصرخت بصوتٍ مزَّق سكون المكان:
_إيه علاقة الحب إنَّك تحرمني من أبسط حقوقي!! لمَّا كنت ناوي على كده، ليه ماقولتليش قبل الجواز؟
ظلَّ صامتًا، يراقب انفعالها بعينٍ تخفي دمعها..لم يعد قادرًا على الرد..لحظات ثم تمتم ببرودٍ موجع:
_وكانت هتفرق في إيه؟ قبل الفرح أو بعده..النتيجة واحدة.
اشتعلت ثورتها الغاضبة، واقتربت منه كمن فقدت عقلها، وهتفت بحرقةٍ تنزف من أعماقها:
_كنت مستحيل أوافق أكمِّل الجواز! أنا مش لعبة في إيدك يا يوسف، بحبَّك أيوه، بس مش من حقَّك تلغيني، قولت لك لو مش موافق هتكلِّم مع بابا وعمُّو، بس إنتَ عملت إيه ولاحاجة
خطوة أخرى حتى اختلطت أنفاسهما، وغرست عيناها بعينيه:
_انت ليه مُصر تكرهني فيك،
دنت أكثر وأكثر وعيناها تحرقه
_عملت فيك ايه علشان تكسرني كدا، دي ليلة العمر اللي كنت بحلم بيها معاك
دارت حول نفسها وازدات دموعها بحرقة
_ليه.. ليه توجعني كدا؟! لدرجة دي عايز تعاقبني على ذنبي اني حبيتك، بس لا.. حتى لو روحي فيك، ولو اعرف انك هتموتني كدا كنت مستحيل اوافق.. قالتها بدموعها التي خذلتها أمامه للمرة الثانية
هنا شعر وكأنَّ كلماتها رصاصات تخترق صدره فوقف مذهولًا، صامتًا، يراها تنهار أمامه..تراجعت خطوةً للخلف، وجهها ممتقعٌ بالغضب والخذلان، عقلها يصرخ بأنَّه وضعها تحت الأمر الواقع ليجعل منها دميةً في يده. هرولت إلى الداخل، بينما ظلَّ هو مكانه يراجع حديثها، وقلبه ينزف بصمت.
لحظاتٍ مضت الى أن عادت، ألقت بقميصها الذي كانت ترتديه في وجهه، وصوتها يرتجف من شدَّة الألم:
_دا ردِّي يا دكتور…قرَّر مع نفسك ناوي تعمل إيه بعد كده، ولو مش مقتنع طلَّقني..مستحيل أكمِّل مع حدِّ شايف نفسه وبس، حتى حقِّي البسيط مش قادر يشاركني فيه.
نظر إلى القميص الملقى على الأرض، ثم رفع عينيه نحوها، نظرةٌ طويلةٌ ساكنة خالية من الحياة، قبل أن يستدير ويغادر دون أن ينبسَّ بكلمة…
بينما ظلَّت في مكانها لا تتحرَّك، كأنَّ الزمن تجمَّد حولها، تشعر وكأنَّ أحدهم انتزع قلبها من صدرها عنوة. استمعت إلى صوت الباب يُغلق بهدوءٍ قاتل، فانهارت على الأرض تبكي بحرقةٍ كمن فقدت نصف روحها.
مرَّت ساعاتٍ طويلة، والليل ينسحب ببطءٍ لتشرق خيوط الصباح على وجهٍ أنهكته الدموع..رفعت رأسها نحو الساعة، لقد تجاوزت السابعة ولم يعد.
تسارعت أنفاسها، وأفكارها تتلاحق كعاصفةٍ هوجاء:
هل ذهب إلى منزل والده، أم تركها كما طلبت منه في لحظة غضب؟
تجمَّد الدم في عروقها، وشعرت وكأنَّ قلبها توقَّف عن النبض، فاندفعت للخارج بخطواتٍ مرتجفة، وهبطت السلالم لاهثةً كأنَّها تهرب من موتٍ وشيك..توقَّفت فجأةً حين رأته مستغرقًا في نومٍ عميق على الأريكة.
تقدَّمت نحوه ببطء، وصدرها يعلو ويهبط من شدَّة الخوف..وقعت عيناها على علبة حبوبٍ مهدِّئة للأعصاب إلى جواره..هنا انسكبت دموعها بصمتٍ خانق، وضعت كفَّها على فمها تكتم شهقة ندمٍ موجعة.
لعنت غباءها واندفاعها، كيف لم ترَ وجعه وهي تهاجمه بكلِّ ذلك الألم؟
اقتربت أكثر، جثت بجانبه، مدَّت يدها بحذرٍ تمسح على وجهه برقَّةٍ مملوءةٍ بالحنان والذنب، ثم همست بصوتٍ مختنق:
_يوسف…
كرَّرتها مرَّتين..ثلاث..لكنَّه لم يجب، فقد غرق في نومٍ اختاره هروبًا من آلامه.
نظرت الى الحبوب التي توضع وابتسمت ابتسامةً باهتةً حزينة، تحدِّث نفسها بصوتٍ مبحوح:
_كان بيهرب كده من حزنه، يا غبية يا ضي…
ظلت تنظر الى وجهه المستكين كالطفل، وضعت رأسها بالقرب من أنفاسه، رفعت اناملها على خصلاته، ثم نهضت وتسلَّلت إلى أحضانه كطفلةٍ تبحث عن مأوى، مرَّرت أناملها على وجهه بحنانٍ خافت، تبتسم مرة وتبكي مرة، تتخيل لو كان مستيقظًا، اقتربت من شفتيه وقبَّلته بخفَّةٍ مرتجفة، وهمست من بين دموعها وقبلاتها:
_شوفت، النصيب رجَّعني لحضنك بعد الخناقة..قالِّي هتباتي فيه غصب عنِّي وعنَّك…ظلَّت تمرِّر أناملها على وجهه ترسم كلَّ إنشٍ به في ذاكرتها:
_يا ترى ليه طلبت منِّي كدا، ماضي ولَّا إنتَ مش عايز تكمِّل وحاسس إنِّي عبء عليك، وعملت كدا علشان ضميرك؟
زفرت تشعر وكأنَّ هناك غصَّةً تمنع رئتيها من التنفُّس، دقائق وهي تحتضن ملامحه الى أن أغمضت عينيها، واقتربت تدفن رأسها بعنقه تغرق في نومٍ دافئٍ داخل أحضانه، كأنَّها أخيرًا وجدت أمانها في المكان ذاته الذي ظنَّت أنَّه صار محرَّمًا عليها.
ساعاتٌ مرَّت تتململ بنومٍ متقطِّع، حتى فتحت عينيها لتجد نفسها وحيدةً على الأريكة..استدارت بعينيها تبحث عنه، ولكنَّها لم تجده، نهضت ببطءٍ تمسح وجهها وتلملم خصلاتها المبعثرة.
صعدت إلى الطابق العلوي بخطواتٍ متردِّدة، دفعت باب غرفتهما لتتجمَّد في مكانها...
كان خارجًا للتوِّ من الحمَّام، قطرات الماء مازالت تتدلَّى من خصلات شعره، ومنشفةٌ تُغطِّي نصفه السفلي.
شهقت بخجلٍ حاد، واستدارت على الفور توليه ظهرها وهي تهتف:
_إنتَ إزاي تخرج كده من الحمَّام؟!
لم يرد، اكتفى بالدخول إلى غرفة الملابس بصمتٍ باردٍ زاد من احتقانها..
تحرَّكت خلفه بخطواتٍ غاضبة:
_إنتَ مش بترد عليَّ ليه، هوَّ إنتَ اللي زعلان كمان، دا وعدك ليَّا؟
التفت أخيرًا بعد أن جفَّف خصلاته، ألقى المنشفة جانبًا، وقال بنبرةٍ حازمة:
_اطلعي..عايز ألبس.
تقدَّمت نحوه محاولةً الحديث، لكنَّه قاطعها بحدَّةٍ:
_لو ماطلعتيش..هخلع.
تجمَّدت للحظةٍ أخرى، نظرت إلى ظهره بصمتٍ موجوع، ثم استدارت وغادرت الغرفة بخطواتٍ مثقلة.
وقفت بالخارج تدور حول نفسها في الغرفة، تريد ان تدلف إليه وتصفعه على وجهه.
لم يمضِ وقتٌ طويل حتى خرج من الداخل، ماإن رأته حتى توقَّفت في منتصف الغرفة، تواجهه بنظراتٍ مثقلة بالخذلان، ثم اقتربت إلى أن توقَّفت أمامه:
_أنا..أنا ماستهلش منَّك دا،
تمتمت بها بصوتٍ مرتجف، وتابعت حديثها:
_وشكرًا على أحسن يوم..اليوم اللي كلِّ بنت بتحلم بيه، دمَّرته بقرارتك الأنانية..
وشكرًا كمان علشان مكنتش قدِّ وعدك.
مرَّ بجانبها دون أن يلتفت، كأنَّها لم تكن موجودة.
اتَّجه إلى الكومودينو، فتح الدرج وأخرج علبة سجائره بهدوءٍ استفزَّها أكثر من أي صراخ.
شعرت أنَّ عقلها سيفلت منها، ركضت إليه وانتزعت العلبة من يده بعنف، ألقتها على الأرض وسحقتها بحذائها.
ثم رفعت عينيها نحوه، وعيناها تقدحان شررًا:
_مش المفروض إنِّنا عرسان؟!
ولَّا خلاص، عايز الكلِّ يعرف اللي حضرتك عملته، أنا مش مستعدَّة أكسر فرحة أمِّي وأبويا، ولا حتى عمِّي اللي وثق فيَّا لحضرة الباشا.
ظلَّ صامتًا يتأمَّلها ببرودٍ قاتل، كأنَّ غضبها لا يعنيه...وكلماتها كأنَّها هواء.
أمَّا هي، فكانت تقف أمامه كبركانٍ على وشك الانفجار..
ما بين أنين قلبها وكبريائها الذي يُحتضر.
رفع هاتفه ببرودٍ واضح وأجرى اتِّصالًا:
_أيوه يا بلال.
جاءه الصوت من الطرف الآخر بمرِح لا يعرف شيئًا عمَّا يحدث:
_صباح الخير يا عريس، إيه الأخبار؟
كانت تتابعه بعينين مرتجفتين، تخشى أن يتحدَّث عن شيءٍ يفضح وجعهما، اقتربت منه بارتباكٍ وهمست وهي تمسك بذراعه:
_يوسف..هتعمل إيه؟
سحب ذراعه من بين يديها دون أن ينظر إليها، وقال بجمودٍ قاتل:
_لو فاضي تعال وصَّلنا المطار.
سكت بلال للحظة، ثم سأل بنبرةٍ قلقة:
_يوسف..إنتَ كويس؟ صوتك غريب.
ابتسم يوسف بمرارة وهزَّ رأسه:
_لسه صاحي من النوم...عارف الواحد مالحقش ينام، عندي صداع..
معلش يا حبيبي، الطيارة قدَّامها ساعة، لو فاضي تعال.
ضحك بلال بخفَّة:
_ولو مش فاضي يا جو؟ المهمّ البتِّ ضي عاملة إيه؟
نظر يوسف إليها نظرةً طويلة، فيها من الألم مايقتل، ثم قال:
_خد كلِّمها بنفسك.
مدَّ الهاتف ووضعه بين كفَّيها برفقٍ موجع، ثم ابتعد نحو الشرفة.
نظرت إليه للحظة، قبل أن ترفع الهاتف إلى أذنها وتتنفَّس بارتباكٍ تحاول كبحه:
_صباح الخير يا حبيبي.
ضحك بلال من الطرف الآخر بعفويَّته المعتادة:
_صباح الجمال يا حبيبتي، عاملة إيه.. والواد جو عامل معاكي إيه؟ لو زعَّلك في حاجة عرَّفيني بس..وشوفي هعمل فيه إيه..
خلِّيكي فاكرة إنِّك أهمِّ حد في الدنيا دي كلَّها.
انسابت دموعها بصمتٍ، سالت على وجنتيها دون أن تنطق للحظات، ثم
قالت بصوتٍ مختنقٍ تحاول تماسكه:
_كويس يا بلال..أنا اللي هقولَّك عن يوسف..بعدين هقفل دلوقتي علشان أجهز.
_تمام يا حبيبتي هستناكم تحت.
أنهت المكالمة، تنفَّست بعمقٍ محاولة كبح ارتجاف أنفاسها، نظرت نحوه وهو يقف في الشرفة ينظر إلى الفراغ البعيد بشرودٍ ثقيل.
وضعت الهاتف على الطاولة، ثم اتَّجهت إلى الحمَّام..لا تدري أتغسل وجهها من الدموع، أم من آثار ليلةٍ انهارت فيها كلُّ الأحلام.
بعد فترة خرجت من الحمَّام، وجدت أنَّه سبقها إلى الخارج.
أسرعت بخطواتٍ مضطربة، حتى أبصرت بلال يقف إلى جوار السيارة، ماإن لمحها حتى فتح ذراعيه وهو يضحك بعفويَّته المعتادة، فركضت نحوه كطفلةٍ تبحث عن الأمان.
_وحشتيني يا ضيِّ أنا.
ضحك وهو يدور بها في الهواء، قبَّل جبينها وضمَّ وجهها بين كفَّيه قائلًا:
_أوَّل مرَّة أصحى من النوم ومانغلسش على بعض.
تكوَّرت الدموع في عينيها، لم تستطع المقاومة أكثر، فحاوطت خصره ودفنت رأسها في صدره، لتفرغ دموعها التي ظلَّت تحبسها.
ربت على ظهرها بحنانٍ أخوي، ثم قبل رأسها وسحبها برفقٍ نحو السيارة وهو يقول ضاحكًا:
_إيه يا بنتي، اللي يشوفك يقول بقالنا شهور ماشفناش بعض!
لكنَّها لم تجب، كانت تختبئ في صدره من وجعها
في تلك اللحظة استدار يوسف، عيناه تقعان عليها وهي تكاد تختفي بين ذراعيّ أخيها.
توقَّف لبرهةٍ، صمتها وجسدهما القريب أشعلا في داخله نارًا مكتومة، فأغلق باب السيارة الأمامي بعزمٍ واضح واتَّجه نحوهما.
اقترب بخطواتٍ ثابتة، ثم قال بصوتٍ خافتٍ:
_روح يا أخويا، سوق العربية..من أوِّلها كده؟
رفع بلال حاجبه بمزاحٍ ساخر:
_وأنا السواق بتاع جنابك يا خويا؟
لم يردّ يوسف، اكتفى بفتح باب السيارة يساعدها على الجلوس دون أن ينظر إلى وجهها..جلست بصمتٍ تتنفس بارتباكٍ وهي تحاول قراءة ملامحه الباردة.
ثم دار حول السيارة وجلس بجوارها، أشار لبلال بيده وقال بحدَّةٍ خفيفة:
_يلَّا يا بني، سوق..لو هتوصَّلنا.
تحرَّكت السيارة أخيرًا، بينما كانت عيناها تلاحق ملامحه من حينٍ لآخر...
كان يتحدث بهدوءٍ مصطنع مع أخيها، يضحك أحيانًا، يردُّ أحيانًا...
لكنَّها كانت تقسم في داخلها أنَّ هذا الرجل الهادئ الآن..ليس ذاته الذي كان قبل لحظاتٍ، الآن ينهار بصمته، يكتم وجعه حتى لا يفضحه النَفَس.
عانقت ذراعه تضع رأسها على كتفه، رمقها بنظرةٍ جانبية، ثم رفع ذراعيه يسحبها تحت ذراعه، ووضع رأسه فوق رأسها..تبسَّمت بداخلها، مدَّت كفَّيها تعانق أناملها بأنامله، ارتفع تنفُّسه، لايريد أن يشكَّ بلال بأمرهما، لفَّت رأسها لتقترب الأعين من بعضها باعتذارٍ من القلب.
دنت أكثر تنظر لعينيه تهمس إليه:
_ليه..ليه كسرتني؟
اتَّجه بنظراته إلى بلال المنشغل بالطريق، يردِّد مع كلمات الأغنية التي يدوي صوتها بالسيارة ثم اتَّجه بنظراته للخارج يهرب من نظراتها وحديثها، رفعت أناملها تدير وجهه إليها بعدما علمت خوفه أن يشعر بلال بشيء.. فحاولت الضغط عليه:
_ساكت ليه، ردّ عليَّا ليه عملت كدا؟
_عملت إيه؟ فكَّريني كدا..مش فاكر حاجة، وأحسن لك مفتكرش، علشان لو افتكرت هنتوجع.
_يوسف.
انحنى يضع جبينه فوق جبينها وهمس بأنفاسه الحارَّة:
_آسف، متزعليش منِّي، نعدِّي الفترة دي وأرحمك من الأناني.
نزلت دموعها وعيناها تحاوط عيناه، همست اسمه:
_يوسف بتقول إيه؟!
ضمَّ رأسها إلى صدره دليلًا أنَّه أنهى الحديث، وصمتٌ دام، نظر بلال إلى المرآة بعدما أخفض صوت الأغاني وقال:
_هتقعدوا كتير يا يوسف في شرم؟
_أسبوع، جدُّو هيعمل العملية بعد عشرين يوم، ولازم أكون موجود.
_مش مشكلة حبيبي، إن شاءالله العملية تنجح وتعوَّضه.
_إن شاءلله...
وصلت السيارة بعد دقائق إلى المطار، ترجَّل من السيارة يعانق كفَّها، بينما حمل بلال حقيبتهم ودلف للداخل معهما الى أن غادرت الطائرة المطار.
بفيلَّا الجارحي..
دلف إسحاق إلى غرفة نجله، وجده يقف أمام المرآة يطلق صفيرًا، توقَّف خلفه يستند على المقعد يراقبه بصمت إلى أن انتهى ممَّا يفعله.. استدار فوجد والده، ابتسم واقترب منه:
_صباح الخير يا بابا.
_صباح الخير..دا إيه المزاج العالي دا على الصبح.
اقترب منه ونظر لعينيه:
_ادعيلي، رايح لعمِّو إلياس أشوف ردُّه إيه، اتَّفقت مع عمُّو أرسلان، وعملت حاجة كدا، يمكن يوافق.
_مستعجل ليه يا حمزة، مش قولت لمَّا نشوف ردّ اللجنة إيه حبيبي.
قبَّل والده وتحرَّك وهو يهتف:
_بابا ماليش دعوة بقرار اللجنة، سواء وافقت ولَّا لأ، هتجوز البنت يعني هتجوزها.
_حمزة استنى لازم تصبر، إنتَ كدا بتحطّ مستقبلك في خطر.
_مش مهمّ..تمتم بها وتحرَّك وهو يلوِّح بكفِّه، خرج إسحاق خلفه بخروج دينا مع الخادمة تحمل قهوتهم:
_حمزة خرج؟
وقف متخصِّرًا، ينظر إلى مغادرة ابنه:
_الواد دا هيجنِّني، راح لإلياس تخيَّلي.
_إزاي يعني، مش لمَّا نعرف ردّ شغله إيه؟
رفع كفَّيه وأعاد خصلاته للخلف بغضب:
_ربِّنا يستر، لمَّا نشوف أخرتها.
اقتربت دينا تحتضن ذراعه وأردفت بنبرةٍ هادئة كي تسحب غضبه:
_حبيبي اهدى ممكن، الواد بيحبَّها أوي، وشوفت دا في الفرح، عايز إيه أكتر من إنُّه يخصَّص لها رقصة قدَّام الكل.
سحب إسحاق المقعد وجلس عليه وكلُّ خليَّة في جسده تنتفض:
_أنا مش معترض بس مستقبله، هوَّ مش فاهم حاجة، الحبِّ خاطف عقله..
عايزه يهدى ويفكَّر في مستقبله، أنا متأكِّد إلياس هيرفض أصلًا.
ربتت على كفِّه وأردفت بحنان:
_ سيب كلِّ حاجة ماشية زي ماهيَّ، أنا حاولت معاه، وفاروق حاول، بس هوَّ بيحبَّها، والصراحة البنت تتحبِّ أوي.
زفر إسحاق بغضب وأومأ برأسه، مردفًًا بامتعاض:
_ماأشوف أخرتها إيه.
بفيلَّا السيوفي:
انتهى من طعامه وتحرَّك إلى الحديقة يتحدَّث بالهاتف مع مالك في أمور العمل، دلفت سيَّارة حمزة من البوَّابة الرئيسية، أنهى مكالمته واقترب منه، ترجَّل من السيارة يهزُّ رأسه واقترب مبتسمًا:
_عمُّو إلياس إزي حضرتك؟
_أهلًا حبيبي عامل إيه، وباباك عامل إيه؟
أومأ مبتسمًا وهزَّ رأسه بخفَّة:
_كويس الحمد لله.
قالها وعيناه تحاوطان عيني إلياس المستفهمة، ثم اقترب منه وأخرج من جيبه علبةً صغيرةً مزخرفة، تُوحي بأنَّها تخبِّئ قطعةً نادرة من المجوهرات.. فتحها أمامه وقال بنبرةِ حماسٍ خافتة:
_إيه رأي حضرتك؟
قطَّب إلياس جبينه، ينظر إلى تلك الجوهرة التي تلمع كأنَّها تُحدِّثه بلغةٍ لا تُفهم:
_إيه دا يا حبيبي..دا خاتم ألماس؟
أومأ مبتسمًا..أخرجه برفق ووضعه بين يدي إلياس، فاقترب أرسلان مدَّ يده وسحبه يدقِّق النظر فيه.
كان خاتمًا مهيبًا، يتوسَّطه ألماسةٌ زرقاء صافية كقطرةٍ من السماء، تحيط بها هالةٌ من ألماسٍ أبيضٍ يفيض بالضوء، مثبَّتةٌ على قاعدةٍ من بلاتينٍ يلمع كبريق القمر.
يكفي أن تقع عليه العين ليخفت كلُّ ماحوله..كأنَّ النور اختار أن يسكن فيه وحده.
وحين يُرفع إلى الضوء، يشتعل بريقه كوميضِ برقٍ راقصٍ، يُدهش كلُّ من يراه.
لم يكن مجرَّد زينة، بل رمزٌ للترف الملكي...وحلمٌ لا يُشترى، لأنَّ من يملكه كأنَّه يملك نجمةً هبطت إلى الأرض.
_حلو أوي يا عمُّو، بس إيه المناسبة؟
سأل أرسلان بنبرةٍ هادئة تخفي خلفها علمه المسبق بنيَّة حمزة، لكنَّه أراد أن يستدرجه ليقنع إلياس بنفسه.
قال حمزة دون تردُّد:
_دا خاتم خطوبة لشمس، كنت باخد رأي عمُّو إلياس..وقبل مايفكَّر إنِّي بغريه بالخاتم، أحبّ أوضَّح إنِّي جبت الخاتم لقيمة شمس، مش لأيِّ سبب تاني.
قطَّب إلياس جبينه محاولًا استيعاب مايسمعه، لكن حمزة تابع بثقةٍ لا تهتز:
_حضرتك يمكن تكون مستغرب عرفت مقاسها إزاي، بس الموضوع مش صعب خالص.
ظلَّ الصمت مخيِّمًا، بينما نظرات إلياس تتقلَّب بين الدهشة والغضب المكتوم، كأنَّه لا يصدق أنَّ هذا الفتى تجرَّأ على قول ماقاله.
ضحك أرسلان محاولًا كسر حدَّة الجوّ، وقال بخفَّة:
_مبروك يا حبيبي، متنساش تعزمنا على الفرح.
التفت إليه إلياس بغتة، يهدر بصوتٍ حادّ:
_هوَّ دا وقت للتريقة يا أرسلان؟!
ثم عاد بنظره نحو حمزة، صوته صار أكثر ثِقلاً وحدَّة:
_عايز إيه بالظبط يا بني؟ مش فاهم كلامك.
أجابه حمزة بثباتٍ واضح:
_عايز تحدِّدوا موعد كتب الكتاب، بابا قالِّي إنُّكم مبتعملوش خطوبة، بتدخلوا على كتب الكتاب على طول.
انفجر أرسلان ضاحكًا، لم يستطع كبح نفسه هذه المرَّة:
_طيب وجبت الفستان كمان ولَّا لسه؟
ارتبك حمزة للحظة، ثم استجمع هدوئه وقال بابتسامةٍ حاول أن يجعلها جادَّة:
_لا، خفت مايعجبش العروسة... فابستأذن عمِّو إلياس آخد شمس لأي ديزاينر تعمل اللي هيَّ عايزاه.
ساد الصمت لحظةً طويلة تُلتقط فيها الأنفاس قبل أن ينفجر إلياس ضاحكًا ضحكةً هستيريةً تملأ المكان، يصفِّق كفَّيه ببعضهما بقوَّةٍ كأنَّ شيئًا فيه انكسر أو اشتعل، حتى ليُقسم من يراه أنَّه أصابه مسٌّ من الجنون.
خرجت ميرال على صوت ضحكاته التي ملأت أرجاء الصالة، تتبعها فريدة تتمتم بقلقٍ واضح:
_خير يا رب إيه، إلياس بيضحك كده ليه يا ميرال؟
هزَّت ميرال كتفيها بدهشة:
_معرفش، يمكن يوسف كلِّمه؟
شهقت فريدة واقتربت منه بسرعة، تقول بنبرةٍ متعجِّبة:
_خير يا حبيبي! مرات ابنك حامل ولَّا إيه؟
اتَّسعت عينا إلياس وأرسلان في آنٍ واحد، قبل أن يلتفت إلياس نحو أخيه وسط ضحكاته العالية ويقول بين نظراته:
_ابني مين!! هوَّ أنا عندي غير يوسف؟
اقتربت ميرال منه بقلقٍ وارتباكٍ واضح:
_إلياس..في إيه؟!
حمحم حمزة بخجلٍ وهو يقترب خطوةً منهم قائلاً بصوتٍ منخفض:
_طنط ميرال، والله ماعرف عمُّو إلياس بيضحك ليه...بس أنا جيت علشان أطلب تحديد موعد كتب الكتاب.
تبادلت ميرال وفريدة النظرات، ثم استدارتا نحوه في وقتٍ واحد، وقالت فريدة مذهولة:
_كتب كتاب إيه يا بني؟ مش إنتَ حمزة ابن إسحاق الجارحي؟
أومأ بثباتٍ وأكمل بصدقٍ هادئ:
_أيوه..كتب كتابي على شمس.
انعقد حاجبا فريدة بتساؤلٍ عجيب:
_هيَّ شمس اتخطبت إمتى؟
وهنا عادت ضحكات إلياس مجدَّدًا، ضحكةٌ متقطِّعة فيها خليطٌ من الغضب والذهول، مدَّ يده وسحب الخاتم من يد حمزة وهو يقول ساخرًا:
_شوفي يا جدِّة العروسة..خاتم الخطوبة!
تناولت فريدة الخاتم بين أصابعها، تتفحَّصه بعينين حائرتين:
_خطَّبت للبِتِّ يا إلياس من غير ماتقولِّي؟!
ارتفعت ضحكات أرسلان هو الآخر، غير قادرٍ على التماسك:
_الله يخرب بيتك يا حمزة، وقَّعت العيلة في بعضها.
وقبل أن تكتمل الجلبة، وصل صوتٌ ناعمٌ مرتجف من خلفهم:
_حمزة...
تجمَّد الجميع، والتفتوا نحو شمس التي توقَّفت عند العتبة، ملامحها تجمع بين الذهول والارتباك.
اقترب منها حمزة سريعًا، متجاهلًا العيون المعلِّقة به، وقف أمامها، يبتلع أنفاسه بين نظراتٍ تفيض بالشوق، ثم همس بخفوتٍ عميق:
_وحشتيني..أوي.
ابتعدت شمس خطوةً إلى الخلف، كأنَّ الأرض انسحبت من تحت قدميها، ارتجف قلبها بين ضلوعها من وطأة نظراته التي اخترقتها دون رحمة:
_إيه اللي بتقوله دا؟!
خرج صوتها هامسًا مرتجفًا يحمل صراع الخجل والدهشة، لكنَّه لم يُمهلها، مدَّ يده وأمسك كفَّها أمام الجميع، نظر في عينيها بثباتٍ، وقال بوضوحٍ يسمعه كلُّ من في المكان:
_شمس..أنا طلبت إيدك من باباكي، وبقولِّك قدَّام الكلّ...
"أنا بحبِّك، وبتمنَّى نكمِّل حياتنا مع بعض."
_شمس!!
هدر صوت إلياس فارتجَّت له القلوب، تجمَّدت مكانها، وانتفضت فزعًا، ثم سحبت كفَّها من بين يدي حمزة بسرعةٍ خائفة..
أشار إليها بصرامةٍ حادَّة:
_ادخلي جوَّا يا بنتي.
تراجعت خطوتين قبل أن تختفي خلف الباب، بينما كان الغضب يتجسَّد في ملامح إلياس وهو يقترب من حمزة خطوةً بخطوة، وخرج صوته متماسكًا لكنَّه يحمل نبرة تهديدٍ واضحة:
_لولا إنِّي واثق في تربية إسحاق، وعارف هوَّ راجل قدِّ إيه محترم، كنت صدَّقني هتعامل معاك بطريقة تانية خالص.
اقترب أكثر حتى صار وجهه على بُعد أنفاس:
_لو كنت سكت وقت لمَّا رقصت معاها في فرح أخوها، فده لأنَّك حطِّيتني قدَّام أمر واقع...لكن شكلك مفهمتش الدرس، ولسه ناوي تستفزِّني بأسلوبك دا.
_إلياس، اهدى بقى.
قالها أرسلان وهو يحاول تهدئة الموقف، لكن نظرة إلياس إليه كانت كالسهم:
_كنت عارف، صح..ومش بعيد أنتَ اللي اتَّفقت معاه كمان؟
ثم عاد إلى حمزة، يحدِّق في عينيه بثقل :
_هسألك سؤال واحد يا ابن إسحاق...
مال نحوه أكثر، وقال بصوتٍ خفيض لكنَّه يقطع الصدر من شدَّته:
_مش هتكلِّم عن سنِّ بنتي اللي لسه طفلة في نظري...
توقَّف لحظة، ثم أكمل بنبرةٍ أبطأ وأقسى:
«أبوك قالَّك إيه..لمَّا قلت له إنَّك عايز تخطب شمس، وليه مجاش معاك؟»
صمت حمزة، وراحت عيناه نحو أرسلان الذي تدخَّل بفطنة:
«حمزة أكيد ماقلُّوش إنُّه جاي يقولَّك كده، بس هوَّ على علم وعارف كلِّ حاجة، وكان منتظر الوقت المناسب يا إلياس.»
التفت إلياس إليه بنظرةٍ حادَّةٍ وقال:
«اسكت يا أرسلان، مش عايز أسمع صوتك.»
استدار إلى حمزة، اقترب منه وربت على كتفه بشكلٍ مُحتدٍّ:
«هعدِّي فكرة إنَّك بتجبرني تاني..بس اللي إنتَ جاي له مش عندي يا بني. البنت لسه صغيرة ومش هجوِّزها دلوقتي، وفوق كده..أوعى تفكَّر مهما تفرض عليَّ أفعالك..فكَّر في حدِّ تاني ينفعك، بنتي للأسف مش هتنفعك..
كنت أتمنى لكن مفيش نصيب.»
ردَّ حمزة بصوتٍ كتمه الحُزن وغضب الرؤية السريعة للحكم:
_عمو إلياس، لو سمحت، أنا بحبها
_طلبك مرفوض ياكابتن حمزة
هنا هزَّ رأسه، ثم انفجر بغضبٍ ممدود:
«حضرتك حكمت من غير ماتفكَّر حتى!»
وقف إلياس وحاول الضغط على نفسه المرتعش، الان الماضي يعاقبه بقسوة، سحب نفسًا، وحاوط كتفيه، لكن هدوئه كان مُحمَّلًا بألمًا موجع:
«حمزة، إنتَ عاقل وطول عمري أسمع إنَّك ذكي، بس بنتي ماتنفعكش، بلاش أوجعك وصدَّقني المسألة مش مجرَّد فرق سن بس، بينكم أكتر من اتناشر سنة لكن فيه حاجات مينفعش نعديها»
تراجع حمزة بخُطوة، ثم عاد بصوتٍ مُخنوق من التحدِّي والصدق:
«لو قصدك على السن، دا مش سبب إنَّك ترفض..ولو الموضوع بجد على جد شمس وخالتها، أنا مستعدّ أتنازل عن الوظيفة اللي حتحرمني منها.»
هنا كان وقع الكلام صاعقًا..شهقاتٌ وعيونٌ متحمِّسة، وجسدُ إلياس ارتجف من ضيقٍ في الصدر، ونظرة التوسُّل ارتسمت فيه:
«أنا مش بجبرك، بس عايز أفهِّمك إنِّي بحبَّها..وأكيد فهمت قصدي لمَّا خصَّتها برقصة، مابلعبش بمشاعر بنتك، لأنِّي بحبَّها بجد.»
أطلق إلياس نَفَسًا، وقال بحزمٍ مُنهكٍ:
«امشي يا بني..ربِّنا يسعدك، بنتي متنفعكش»
قالها الياس وتحرَّك بجسدٍ يترنَّح، يشعر بقبضةٍ تعتصر فؤاده، كأنَّ الماضي مازال يعاقبه ويخنقه في أعزِّ مالديه.
صاح حمزة بصراخ وحاول اللحاق به، ولكن اوقفه ارسلان يربت على كتفه
_روح دلوقتي، ياحمزة، احنا حاولنا نفهمك صعوبة الموضوع
_أنا هتجوزها ياعمو ارسلان، عرف عمو إلياس بكدا، شمس هتكون مراتي
قالها وهو يطوف بنظراته عليهم
انتفض جسد ميرال، تتراجع للخلف، والماضي عاد يخنقها بقسوة، هزت رأسها وبكت:
_ذنبهم ايه ولادي، ليه بيحصل معانا كدا..
اوقفها ارسلان يهز رأسه بألم لوالدته، اقتربت غرام تساعدها على الوقوف
_حبيبتي قومي
طالعتها بعيونًا باكية:
_ليه بنتحاسب على حاجة مالناش دعوة بيها، اعمل ايه اكتر من اللي عملته علشان ولادي
ضمتها غرام وربتت على ظهرها، وبكت على بكاؤها
عند إلياس دلف إلى مكتبه بخطواتٍ ثقيلة، يغلق الباب وراءه بأنينٍ مكتوم، اتَّكأ على الحائط يتنفَّس بصعوبة، يشعر بأنَّ الهواء يأبى أن يدخل رئتيه.
رفع يده إلى صدره، يضغط عليه محاولًا كبح تلك الرجفة التي تجتاحه… أصبح قلبه متهشِّمًا بين أنينٍ وذكريات.
جلس خلف مكتبه يُسند رأسه بين كفَّيه، يغرق في صمتٍ كثيفٍ يخالطه بكاءٌ مكتوم..العلبة التي كان يحملها حمزة، تلمع كأنَّها تذكِّره بالجرح الذي لا يلتئم.. ونظرات ابنته ودموعها التي حاولت اخفائها
دلفت فريدة بخطواتٍ متردِّدة، توقَّفت عند الباب، نظرت إلى نجلها الذي انحنى على نفسه كطفلٍ مكسور.
اقتربت منه بخفَّةٍ ووضعت يدها على كتفه، وقالت بصوتٍ يختنق بالعطف:
_ناوي على إيه يا ابني؟
رفع عيناه إليها بتيهٍ وشرود، وأردف بصوت انكسر داخله كلُّ شيء:
_مش عايز أكسر قلب بنتي يا ماما..مش قادر…
كفاية وجع فيَّا وفي أمُّهم…
ذنبهم إيه يتعذِّبوا بماضي أسود؟
ذنبهم إنُّهم اتولدوا في دايرة اتفرضت عليهم.
قالها ثم انحنى، أطبق كفَّيه على وجهه، وارتفع نحيبه المكتوم كجندي مهزوم
بينما وقفت فريدة خلفه، تغالب دموعها، هامسةً بوجعٍ لا يُقال:
_اللي بيحبُّه ربِّنا القدر دايمًا بيمتحنه في أغلى ماعنده…
نهض واتجه يجلس على الاريكة، يحتضن رأسه، يحاول ان يكتم أنينه، جلست فريدة بجواره، فتمدَّد على الأريكة، وأسند رأسه فوق ساقيها، يلهث من ثقلٍ في صدره كأنَّه يحمل الكون على أضلعه:
_قلبي هيوقف من الوجع يا ماما… ولادي بيروحوا واحد ورا التاني…
مسَّدت على خصلاته بحنانِ أمٍّ أحرقتها التجارب قبل أن تُطفئها السنين:
_سامحني يا حبيبي، ياريتني ما قابلتكم…كنتوا زمانكم عايشين في أمان الله…
اعتدل، واحتضن كفَّيها يقبِّلهما كمن يبحث عن طمأنينةٍ في راحة يديها:
_المرَّة دي الاختبار صعب أوي، مش قادر أتنفِّس..مش بقولِّك كدا علشان أحمِّلك ذنبنا، بس ليه يحصل معانا كدا؟
أجابته بعينٍ يختبئ فيها الإيمان خلف الحزن:
_حبيبي، على قدِّ إيمانك بتتجازى… أكيد ربَّك عنده حكمة، هوَّ أنا اللي هقولَّك يا إلياس؟
هزَّ رأسه والدموع تتساقط من عينيه كأنَّها اعترافات متأخِّرة:
_بس المرَّة دي الوجع مؤذي أوي يا ماما…الوجع في ولادي، ياريته فيَّا أنا…
ضمَّته إلى صدرها، وهمست في شعره بصوتٍ مرتجف:
_استغفر ربَّك يا حبيبي، ربِّنا عنده الأعظم والأحسن..ارجع بسنين عمرك وافتكر مراتك وبنتك كانوا فين، ليه ماشكرتش على دا؟
بلاش تيأس من رحمة ربِّنا…
وشمس عاقلة، عارفة إنَّك مستحيل توقف قدَّام سعادتها، ويوسف بكرة ربِّنا يهديه، هوَّ بس مشافش شوية، ومتأكِّدة إنِّ ضي هتفوقه عقلًا وقلبًا.
سكت لحظةً، ثم انتفض كأنَّه تذكَّر شيئًا فجأة:
_ماكلِّمتش يوسف واطَّمنت عليه…
قالها وتوقَّف عند الباب، يلتفت إليها بنظرةٍ مرهقة:
_هكلِّمه..أطمِّن عليه.
خرج إلياس يبحث عن ميرال…
قبل قليلٍ، صعدت ميرال الى غرفة ابنتها، بغرفة شمس، كانت تجلس بشرودٍ على فراشها، تُقلِّب صفحات الترجمة أمامها دون أن ترى شيئًا منها.
دلفت إليها ميرال بهدوءٍ يشبه النسمة، رسمت ابتسامةً خافتةً على شفتيها:
_شمُّوس..فاضية؟ ماما عايزة تتكلِّم معاها شوية.
رفعت شمس عينيها مبتسمةً بخفوت:
_أكيد يا ماما، اتفضَّلي حضرتك.
خطت ميرال إليها وجلست بجوارها، تمعَّنت فيها لحظة ثم قالت برقَّةٍ تخفي خلفها قلقًا:
_بتعملي إيه يا حبيبتي؟
هزَّت شمس كتفيها بخفَّة:
_عندي ترجمة صغيرة..حضرتك محتاجة حاجة؟
أشارت ميرال إلى ساقيها، فابتسمت شمس وتمدَّدت برأسها عليها كعادتها، لتبدأ ميرال بتمرير أصابعها في خصلات ابنتها بحنانٍ أموميٍّ يفيض وجعًا:
_حبيبتي..إنتي تعرفي حمزة من زمان؟
_لا والله يا ماما، معرفوش أوي… اتقابلنا كام مرَّة بس.
تجهَّمت ملامح ميرال قليلًا:
_طيب إزاي يا بنتي؟ دا بيقول بيحبِّك.
نظرت إليها شمس في دهشةٍ ممزوجة بالخجل:
_سمعته..بس ليه بابا كلِّمه كده؟
صمتت ميرال لحظة، تدقِّق في ملامح ابنتها كأنَّها تحاول قراءة مالا يُقال، ثم همست:
_إنتي بتحبِّيه يا شمس؟
نزلت برأسها إلى أسفل وقالت بصوتٍ خافت:
_مش موضوع بحبُّه يا ماما..بس هوَّ شخص جذَّاب، وحاسَّة إنُّه..يعني…
رفعت ميرال ذقنها لتجبرها على النظر في عينيها، وسبحت بعيني ابنتها بينما قلبها يتمزَّق بصمت:
_عجبك، مش كده؟
أومأت شمس بخجلٍ طفولي، ثم أسرعت لتبرِّر:
_بس والله ماقولت له حاجة، ولا اتكلِّمنا غير مرِّتين صدفة..وإمبارح في الفرح لمَّا لمَّحلي كده، حضرتك عارفة عمري ماخبِّيت عنِّك حاجة..شخصيِّته جذبتني، وكمان حاسَّة إنُّه فعلًا..يعني مش بيلعب.
سحبت ميرال رأس ابنتها إلى صدرها، وانسابت دموعها حارقةً تكاد تُهشِّم ماتبقَّى منها:
_معرفش أقولِّك إيه يا حبيبتي..بدعي ربِّنا من كلِّ قلبي يقدِّملك السعادة اللي تستحقيها…
بس يا شمس، حاولي تبعدي قلبك عن اللي ممكن يوجعك.
نظرت إليها شمس باستغرابٍ:
_مش فاهمة حضرتك تقصدي إيه؟
لكن قبل أن تُجيب، قطع الصمت طرقاتٌ خفيفة على باب الغرفة.
دخل إلياس، يحمل على ملامحه، القلق، وعيناه تتنقَّلان بين ميرال وابنته بشرودٍ واضح:
_ميرال..كلِّمتي يوسف؟
هزَّت رأسها نافيةً، وقالت بصوتٍ هادئٍ حاولت أن تُخفي به توتُّرها:
_لأ، لسه..قولت أكيد نايمين.
اقترب منها بخطوةٍ مضطربة، وصوته يتهدَّج بين الحذر واللهفة:
_لأ يا حبيبتي كلِّميه..هوَّ سافر من ساعتين شرم، زمانه وصل، طمِّنيه وطمِّنيني.
قالها وهو يسحب ذراعيها نحو الشرفة هامسًا بنبرةٍ فيها استعجال:
_بعد ماتكلِّميه خلِّيه يدِّيكي ضي وكلِّميها، أكيد فاهمة قصدي.
تردَّدت للحظة وهي تنظر في عينيه:
_طيب..بس ينفع كده يا إلياس؟ ابنك صعب، ولو عرف ممكن يزعل.
ربت على كتفها بنظرةِ رجاءٍ صامتة:
_مش هيعرف...المهمِّ تطمِّنني.
أومأت وسحبت هاتفها..انتظرت لحظاتٍ قبل أن يأتي صوته عبر السمَّاعة:
_صباح الخير يا حبيبتي، إيه كنتي بتحلمي بيَّا ولَّا إيه؟
ابتسمت بخفَّةٍ متصنِّعة:
_عامل إيه يا حبيبي، ومراتك عاملة إيه؟
أجاب وهو يرمق "ضي" التي كانت تفرغ حقيبتها خلفه:
_كويسة..وجدُّو عامل إيه النهاردة؟
قبل أن تُجيب، سحب إلياس الهاتف من يدها بنفاذ صبرٍ واضح:
_عامل إيه يا يوسف؟
_كويس يا بابا، كنت لسه هكلِّمكوا وأطمِّنكم..آسف لو قلقتك.
_مش مهمِّ يا حبيبي، عارف إنَّك مشغول، جدَّك كويس بس العملية هتتأجِّل أسبوعين كمان، الدكتور شايف حاجة في التحاليل وعايز يظبَّطها.
_ابعتلي التحاليل دي أشوفها، وبعدين التأخير ده مش كويس.
_سيبك من عملية جدَّك..وقولِّي إنتَ فين؟
_شرم الشيخ.
_ليه شرم، مش كنت بتقول هتسافر برَّة؟
_علشان أكون قريب من جدُّو..وكده كده دي مش آخر سفرية.
_تمام يا حبيبي...خد ماما عايزة تكلِّمك.
تناولت ميرال الهاتف، وهمس إلياس:
_كلِّمي ضي.
_حبيبي، إدِّيني ضي أكلِّمها وأطَّمن عليها.
_هيَّ في الحمَّام يا ماما، أوَّل ماتطلع هخلِّيها تكلِّمك.
_تمام يا حبيبي..خد بالك من نفسك، والبس تقيل، الجوِّ برد الأيام دي.
_حاضر يا ماما.
أغلق الخطّ والتفت ليجد "ضي" واقفة خلفه، تنظر اليه بنظرات تحمل عتابًا صامتًا.
قالت ببرودٍ حادّ:
_ليه قولت لها إنِّي في الحمَّام؟
صمت للحظة، ثم اقترب منها ببطء:
_اللي بينَّا مايخرجش برّة..مهما حصل حتى والدتك، لحدِّ مانشوف هنقرَّر إيه.
انتزعت الهاتف من يده بحدَّةٍ واحتدَّت بنبرةٍ جريحة:
_ماتقوليش أعمل إيه وماعملش إيه..دي حياتي أنا، مش محتاجة أوامرك.
خطت خطوةً نحوه بعينين مشتعلة..
_أنا مراتك، يعني أيِّ قرار لازم تشاركني فيه، مش تنفِّذه من ورايا يا دكتور.
قالتها وهي تتَّجه إلى الشرفة وتغلق الباب خلفها بعصبية، فظلَّ واقفًا مكانه يرمقها بغضب، يتمتم لنفسه:
_وبعدين يا يوسف هتعمل إيه؟
سحب منشفته متَّجهًا إلى الحمَّام، بينما في الخارج جلست "ضي" أمام الكاميرا تبتسم بدلالٍ مصطنع:
_والله كويسين يا طنط، عارفة إنُّكم قلقتوا، صحينا متأخَّر ويادوب لحقنا الطيَّارة.
_ضي...
تمتمت بها ميرال، وصوتها بالكاد خرج وهي تُلقي نظرةً خاطفةً نحو إلياس، ثم عادت بعينيها إلى الشاشة، تسأل بخفوتٍ مرتجف:
_يوسف..تمِّم جوازه بيكي؟
تجمَّدت ملامح ضي، ورجفةٌ قويَّةٌ اجتاحت جسدها حتى ارتعشت شفتاها..حاولت السيطرة على دموعٍ تمرَّدت عند أطراف عينيها، ثم سرعان ماارتسمت على وجهها ابتسامةٌ واهيةٌ تخفي مايعصف بقلبها:
_متقلقيش يا حبيبتي إحنا كويسين، وكلِّ حاجة كويسة.
تأمَّلتها ميرال لثوانٍ طويلة، كأنَّها تُصغي لما وراء كلماتها، ثم أومأت بتفهُّمٍ حنون، وابتسمت بتعبٍ واضح:
_طيب يا حبيبتي...هسيبك علشان ماعطَّلكيش.
أنهت المكالمة، وبقيت تنظر إلى الشاشة المظلمة للحظاتٍ كأنَّها تبحث في سوادها عن قلبها الذي يصارع بصمت..
في مطار القاهرة، صدح صوت المذيع معلنًا وصول الطائرة القادمة من لندن.
خرج آدم الرفاعي من الطائرة يتقدّمه نجله رائد، الذي بلغ السابعة والعشرين من عمره، وخلفه فرح، ابنته الوحيدة ذات الخمسة عشر ربيعًا، تتشبّث بذراع والدتها إيلين الرفاعي، جرّاحة هادئة القسمات تحمل بين ملامحها سكينة الأطباء وثقتها المعهودة
عبروا صالة الوصول بخطواتٍ متأنية، تتقاذفهم مشاعر العودة بعد غيابٍ دام سنوات. وبينما كانوا يتجهون نحو سيارات الأجرة، توقّف رجل على بُعد خطوات منهم، يحدّق في وجه آدم باندهاشٍ متأمل.
رفع صوته بدهشةٍ ممزوجة بفرحٍ حقيقي:
_معقول!.. آدم الرفاعي؟
استدار آدم مبتسمًا، وكأن الزمن تراجع خطوة للوراء.
_أوووه!.. المهندس العظيم يزن الشافعي بنفسه!
تبادلا العناق بحرارةٍ صادقة، تخللتها ضحكة رجولية خفيفة من أثر الشوق.
قال يزن وهو يربّت على كتف آدم:
_مصر نورت والله يا عم.
ثم حوّل نظره نحو إيلين بابتسامةٍ ودودة:
_ونورتيها كمان يا دكتورة.
ابتسمت بلُطفٍ وقالت:
_بوجودك يا باشمهندس.
نظر يزن الى اولاده،ثم قام بالإشارة إليهما بفخرٍ أبويّ واضح:
_رائد وفرح... على فكرة، رائد مهندس كمان، بس معماري مش ميكانيكا زيك.
ابتسم يزن بإعجاب:
_ما شاء الله، ربنا يحميهم.
قاطعت فرح بخفةٍ مراهقة:
_والصغنن فينا لسه أولى ثانوي.
ضحك يزن بخفوتٍ ودعاها بحنان:
_ربنا يحفظك يا صغيرة.
ثم التفت آدم مستفسرًا:
_كنت فين كده يا يزن؟
_كنت في النمسا... عند إيمان، بقالي شهر تقريبًا.
ثم تابع بأسفٍ خفيف:
_حتى يوسف اتجوز امبارح وما حضرتش الفرح.
تبدّل وجه آدم بدهشةٍ خافتة:
_يوسف مين؟ تقصد ابن إلياس؟
أومأ يزن مؤكدًا، قبل أن يفتح باب سيارته التي توقّفت بجانبه، وقال مبتسمًا:
_نتقابل بعدين
عاد إلى القصر كجنديٍّ مهزومٍ من معركة خاسرة، تتساقط الهزيمة من عينيه قبل أن تنطق بها شفتاه.
دخل بعنفٍ، وبدأ يحطّم كل ما تقع عليه يداه، كمن يريد كسر العالم بأكمله ليتوقف وجعه.
فزعت دينا من صوت تحطيم الزجاج وصراخ ابنها، ركضت نحوه والهلع يسبق خطواتها.
_حمزة!.. مالك ياابني؟
استدار نحوها، يلهث كوحشٍ مطارد، وأشار بيده مهددًا:
_بابا لو مصرفش، أنا هخطفها!
سمعتيني؟ مش عايز الوظيفة دي ولا عايز أي حاجة منه، خليه يتصرف، مفيش مستحيل عند إسحاق الجارحي!
لم تمضِ لحظات حتى وصل إسحاق بعدما بلغه من أرسلان ما جرى.
ارتفع صوته يجلجل بالهيبة والغضب:
_مالك يا لا فيه إيه؟ محدش قادرك أبوها رافض خلاص! والبنت نفسها مش عايزاك، افهم بقى
انتفض جسد حمزة، كأنما اشتعلت النار في عروقه، واقترب بخطواتٍ غاضبة من أبيه حتى صار على بعد أنفاسٍ منه.
نظراته تومض كشرارةٍ خارجة من قلبٍ يغلي:
_هتجوزها يا إسحاق باشا، حتى لو غصب عنك... وعن أبوها!
لم ينتظر إسحاق ردًا، بل صفعه صفعةً عنيفة دوّى صداها في أرجاء القصر.
شهقت دينا بفزعٍ، ورفعت يديها إلى فمها، بينما تراجع حمزة ببطء، الدموع تتجمع في عينيه كغيمةٍ ثقيلةٍ تسبق العاصفة.
تلفّت حوله بأنفاسٍ مختنقة، ثم قبض على مفاتيحه بعصبية، وخرج بخطواتٍ متعثّرة،
قاد حمزة السيارة بسرعةٍ جنونية، كأن الشارع ساحة حربٍ مفتوحة بينه وبين عقله.
كل ما يراه أمامه، لم يكن سوى ملامحها...
ضحكاتها الطفولية تتردّد في أذنيه، همسها الخافت، لمسة اناملها الناعمة بين كفيه وهم يتراقصون، نغمة صوتها وهي تناديه لأول مرة باسمه دون ألقاب.. تلك الكلمة وحدها كانت كفيلة بإشعال العالم داخله.
لكن جاء صوت الياس يتسلّل إليه، قاسيًا، رافضًا، يصرخ في رأسه كعويلٍ يطعن قلبه.
ضغط أكثر على دواسة البنزين، وكأن السرعة هي طريقه الوحيد لإسكاته، أو طريقه إلى الهروب اليها
_طلبك مرفوض يابني ربنا يسعدك بعيد عن بنتي..هذه ليست كلمات انما كانت قيودًا من نار تلتف حول عنقه، لتجعل أنفاسه تتلاحق، وعروقه تتشنج، ويداه تعضّان على المقود بقوةٍ كمن يقاتل القدر.
صرخةٌ مكبوتة خرجت من صدره، تبعتها انحرافة حادة...
لتنقلب السيارة رأسًا على عقب، تتدحرج على الأسفلت، وصوتٍ مدوٍّ يختلط بأنينٍ مكتومٍ...
ثم سكون.
سكونٌ ثقيل، لا يُسمع فيه سوى همسه باسمها
بشرم الشيخ
استيقظت ضي بعد نومٍ متقطّع، على رنين هاتفها الذي لم يتوقف.
مدّت يدها بتثاقلٍ تلتقطه، ثم أجابت بصوتٍ مبحوحٍ من أثر النعاس:
_أيوه يا ماما؟
_حبيبتي، عاملين إيه؟ عرفت إنكم في شرم، بس مكنش له لزوم السفر في الوقت دا يا ضي.
اعتدلت على الفراش، تسند رأسها إلى الوسادة، وصوت والدتها يأتيها محمّلًا بوجعٍ تعرفه جيدًا.
_ليه يا ماما؟ مش من حقي أفرح شوية؟
_ضي، حبيبتي، متنسيش إن جدك تعبان.
أنا متأكدة إن يوسف ماقدرش يرفض لك طلب، بس لازم تكونوا هنا قبل العملية بأسبوع على الأقى
وبعد العملية سافروا براحتكم يا قلبي.
تعرفي؟ جدو سأل عليكم النهارده.
أخفضت ضي رأسها بحزنٍ وهمسٍ خافت:
_حاضر، هكون هناك قبل العملية، لو عايزة ارجع دلوقتي هرجع
ساد الصمت لحظة، ثم جاءها صوت أمها مجددًا:
_ مش قصدي حبيبتي، مش عايزة يوسف يزعل، هو عندِك، عايزة أكلمه.
نظرت ضي إلى مكان نومه، فوجدته خاليًا فردت
_معرفش...
قالتها بغير وعي، لتأتيها نبرة أمها المندهشة:
_يعني إيه متعرفيش؟
_قصدي... لسه صاحية، هشوفه حالًا.
أنهت المكالمة بسرعة، ثم أطلقت تنهيدةً حارقة كادت تعصر صدرها.
تمتمت في سخريةٍ مرّة:
_حلوة "جوزِك فين" دي... مش لما يبقى جوزي علشان اعرف هو فين
نهضت ببطءٍ من الفراش، تتحرك بخطواتٍ ثقيلة.
منذ مساء الأمس لم تره، ولا تدري إن كان نام ام خرح كعادته
توجهت نحو الحمام وهي تتثاءب، دلفت إلى الداخل تنزع ملابسها برتابة، جمعت خصلاتها للأعلى، فتحت كابينة الحمام لتتسع عيناها فجأة...
كان يقف ، تحت تدفق المياه، منكفئ الرأس، لم يشعر بها أولًا من صوت الماء،لكن شهقتها العالية اخترقت أذنه
التفت نحوها بصدمةٍ، فتح عينيه وأغلقهما مرتين كمن يظن أنه يتخيل، بينما هي تتراجع للوراء تصرخ فيه بخجلٍ وغضبٍ مختلط:
_آه يا قليل الأدب!!
أغلق الماء بسرعة، وهي تدور تلتقط روب الحمام من على الحامل، ترتديه على عجل...وفتح باب الكابينة الزجاجي، لتشهق وتصرخ
ولكن
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا
الرواية كامله الجزء الثاني من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات
إرسال تعليق