القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثالث والأربعون 43بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات

 


رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثالث  والأربعون 43بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات




رواية محسنين الغرام( الجزءالثاني)الفصل الثالث  والأربعون 43بقلم نعمه حسن حصريه وجديده في موسوعة القصص والروايات



ـ ٤٣  ـ


~ مدار مغلق ! ~


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


بعد انتهاء مراسم عقد القران، كان لا بد من الاحتفال بطريقةٍ ما ..

لكن ما لم يكن أحد يتوقعه، أن الطريقة التي اختارها فريد للاحتفال لم تكن عادية على الإطلاق.

فبدلًا من قاعة فخمة أو فندق فاخر، قرر أن يكون الاحتفال على يختٍ خاص، في عرض البحر.


فبما أنه قد تزوج الاستثنائية خاصته أخيرًا، كان لزامًا عليه أن يجعل كل تفاصيل هذا اليوم استثنائية أيضًا.


كان قد طلب سيارة “فان” فاخرة قبل الموعد بوقتٍ كافٍ، لتقلّهم جميعًا من أمام دار المناسبات إلى الميناء الخاص حيث ينتظرهم اليخت.


في المقعد الأخير، جلس فريد، بينما نغم بجواره، تستند برأسها على كتفه، وعيناها مغمضتان في سكونٍ مطمئن، كأنها أخيرًا وجدت موطنها. فيما كان يمرر أنامله على شعرها المموج برفق، مبتسمًا في صمتٍ لا يعرف إن كان من السعادة أم من ذلك الشعور بالراحة التي لم تشعر به منذ زمن.


أمامهما مباشرة جلست نسيم وقد مالت برأسها على كتف زينب في صمت لم تقطعه أي منهما، وزينب تمسح على ظهر كفها بحنان، بينما كل واحدة منهما شاردة في شيء مختلف .


وفي المقعد الأمامي، جلس عمر وحسن، حيث لم يكف عمر عن مشاكسة حسن طوال الطريق، فكان يلف ذراعه حول ذراع حسن ويقبّله على خده بين الحين والآخر فنظر إليه حسن حانقًا وهو يزيل أثر قبلته من على وجنته ويقول :

ـ يابني كفاية بوس بقى السواق شاكك فيك وربنا .


فعاد عمر وقبّل وجنته من جديد وهو يضيف :

ـ واحشني يا أبو علي ..  واحشني يا أخي بقالي كام غايب عنك .. مالك في إيه ؟


لمح حسن السائق ينظر لهما من خلال المرآة، حاجباه مرفوعان ونظراته مليئة بالشكّ والتساؤل، فاعتدل فورًا ونزع ذراعه من ذراع عمر وهو يهتف بنبرة حانقة :

ـ أنا اللي في إيه، ولا إنت اللي في إيه ؟ مالك مش على بعضك كده ! 


وأخذ يقلّب كفيه متعجبًا وهو يتمتم :

ـ لا حول ولا قوة إلا بالله.


فهتف عمر وهو ينظر إليه متعجبا وقال :

ـ كل ده علشان ببوسك ؟ دي بوسة أخويه على فكرة .. 


رمقه حسن بنظرة حادة في البداية، سرعان ما ذابت في ابتسامة واسعة، ثم مال نحوه بخفة وقبّل وجنته قائلاً بنبرة مازحة :

ـ لأ طالما أخوية يبقى خد راحتك.


انفجرت نغم ونسيم وزينب ضاحكات على المشهد، بينما اكتفى فريد بهز رأسه بيأس، وهو يتمتم في داخله بابتسامة خفيفة:

ـ الاتنين قمة في العبث. 


رفعت نغم رأسها عن كتفه، ونظرت إليه مبتسمة وهي تقول:

ـ بس دمهم خفيف .


بينما كانت كلماتها تتلاشى في الهواء، لم يسمع منها شيئًا...

كان مأخوذًا بعينيها القريبتين، كأنهما جاذبية خاصة تشده نحوهما دون مقاومة. رأى في عُمقهما ما لم يره من قبل، شيئًا يوقظ في داخله إحساسًا بدائيًّا، خامًا، يشبه الرغبة والسكينة معًا.


كانت هذه أول مرة يجلسان فيها إلى هذا الحد من القرب،

وأول مرة تكون فيها نغم متلاصقة به هكذا، حتى إن أنفاسها كانت تمتزج بأنفاسه،

وصوت قلبها يكاد يُسمع كهمسٍ دافئٍ على جلده.


اقترب منها بعينيه أكثر مما اقترب بجسده، يلتقط تفاصيل وجهها كما لو يرسمها بذاكرته، يخشى أن يغمض عينيه فيفقدها.

لم يعد يرى العالم، فقط ملامحها.. تلك الرعشة الخفيفة على شفتيها، ذلك النفس الدافئ الذي يمرّ بينهما كوشوشة لا تُسمع.


في تلك اللحظة، لم يكن فريد الرجل الهادئ المتزن الذي يعرفه الجميع؛ بل كان عاشقًا تائهًا في مدارها، كأنها كوكبه الوحيد، وكل ما عداه فراغ.

ولأول مرة يدرك أن اقترابه منها ليس صدفة، بل مسار قد رُسم له منذ البداية.


كل نظرة من عينيه، كل نبضة من قلبه،.كانت تدور حولها هي فقط.. كما يدور الكوكب في مدار مغلق،

لا يعرف أين البداية ولا يستطيع الهرب من النهاية.


كانت جاذبيتها تسحبه رويدًا رويدًا إلى داخلها، حتى صار لا يرى من الكون سواها، وكأنها مركز وجوده الوحيد، والنور الذي يدور حوله قلبه بلا انقطاع.


أطلق فريد زفرة طويلة، كأنها محاولة فاشلة للنجاة من سحر اللحظة، لكنها لم تُطفئ شيئًا.. بل زادت النار اشتعالًا.


أدار وجهه نحو النافذة للحظة، ثم عاد بعينيه إليها مجددًا، كمن يستسلم لجاذبيةٍ يعرف تمامًا أنه لا مفر منها.


كانت قريبة إلى حدٍ يُربك الحواس، ورائحتها تتسلل إليه بهدوءٍ مخمليّ، تخترق كل ما تبقى من اتزانه.


في داخله كان يوقن أنه لو لم يكن هناك آخرون في السيارة، لما كان مسؤولًا عن ما قد يفعله قلبه المنفلت من قيده، ذاك القلب الذي لم يعرف الطيش يومًا، لكنه الآن يثور في صمت، يطرق أبوابًا لم يجرؤ يومًا أن يقترب منها.


كان يشعر بأن كل ذرة فيه تتوق للمسافة التي تفصله عنها، تلك المسافة الصغيرة جدًا، التي لو اختفت، لانتهى هو تمامًا.. وابتدأ معها.


أما هي، فكانت تشعر بكل شيء دون أن يُقال.

نبض أصابعه الملتفة حول يدها،.تسارُع أنفاسه التي حاول إخفاءها، ونظراته التي كانت تمسّها كما تمسّ النسمة وجه البحر قبل العاصفة.


كانت تحسّه يتأرجح بين الرغبة وضبط النفس، وكأنّ شيئًا في داخله يحترق وهو يحاول أن يبدو ساكنًا.


وكذلك هي.فلم تكن أفضل حالًا، فكل خفقة في قلبها كانت تُجاري خفقاته، وكل نفسٍ يخرج منه يُثير ارتجافًا خفيًا في صدرها.


لم تفهم هل هو خوف أم شوق، لكنها أدركت يقينًا أنها لم تعُد قادرة على الهروب من نظرته.

كان كأنه يُمسك بها دون أن يلمسها، يشدها نحوه بقوةٍ لا تُرى، حتى خُيّل إليها أن كل ما حولهما قد اختفى، ولم يبقَ في هذا العالم سوى يده فوق يدها…

ونبضٌ واحد يتشاركانه.


توقفت السيارة عند الميناء، وكان ذلك التوقف أشبه باغتيالٍ لتلك اللحظة.


تبادلا نظرة قصيرة، محمّلة بكل ما لم يُقال، ثم تنفست نغم بعمقٍ وهي تُبعد يدها ببطءٍ عن قبضته.


أما فريد، فاكتفى بزفرةٍ طويلة، لم تكن ضجرًا، بل محاولة لتهدئة قلبٍ كان قد بدأ يركض في صدره دون كبح.


فتح عمر الباب ونزل أولاً، يعقبه حسن، ومن ثم زينب ثم نسيم، يتبعها فريد الذي ما إن ترجل حتى التفت نحو نغم ومد يده لها كما لو كان يعيد إليها ما سُلب من اللحظة، ثم ساعدها على النزول بابتسامةٍ واهنة تخفي اضطرابه، فأمسكت بيده وهي تترجل بدورها، ثم أخذت تنظر حولها بانبهار حين وقعت نظرتها على ذلك اليخت الأبيض المهيب الراسي على صفحة الماء .


نظرت إليه بدهشة ناعمة، ونظرتها مغلفة بالامتنان ، فأمسك يدها وتقدما سويا، فيما كان البقية قد شقوا طريقهم بالفعل نحوه.


بمجرد أن صعدت نغم إلى سطح اليخت، اتسعت عيناها بدهشةٍ طفولية وهي تتأمل المشهد الخرافي أمامها. كان المكان يلمع تحت وهج الغروب الذهبي .


وعلى على طرف الممر، اصطف أفراد الطاقم في استقبالٍ أنيق، بعضهم يرش الورد المجفف في الهواء، وبعضهم يصفّق بحماسٍ خافت، بينما انطلقت موسيقى رومانسية ناعمة تملأ الأجواء في تناغمٍ ساحر.


تقدّم أحد أفراد الطاقم بخطواتٍ ثابتة، وابتسامةٍ ودودة تعلو وجهه وهو يرحب بهما ويهنئهما بصوتٍ مفعم بالبهجة.


أما فريد، فأمسك بيد نغم بقوةٍ خفيفة وهو يقودها عبر الممر، كانت خطواتهما بطيئة، متناسقة، ووجوه من حولهم تتابعهما بإعجابٍ خالص. كانت تشعر كأنها تسير على بساطٍ من سعادة، تتهادى بخفةٍ لا تصدق أن كل هذا لها، وأنها الآن زوجته، وأن كل هذا الجمال صنعه فريد خصيصًا من أجلها.


حين وصلا إلى مقدمة السطح، قُدّمت لهما كؤوس من العصير في كؤوسٍ زجاجية أنيقة، فتبادلا النظرات وهما يرفعان الكأسين في صمتٍ مُفعم بالفرحة، كأنهما يحتفلان بالعمر الذي يبدأ الآن.


وفجأة، انبعثت زغاريد متلاحقة أطلقتها زينب بحماسٍ مفاجئ، دوّى صداها في المكان كله وأدهش الجميع لوهلة، وكأن فرحتها سرَت فيهم جميعًا دون استئذان.


ضحك حسن وهو يهز رأسه في دهشة، موجّهًا كلامه لنسيم:

ـ زينب ما صدقت انطلقت، ومش هنعرف نسكتها .


انفجرت نسيم ضاحكة، ضحكة صافية خرجت من القلب، لكن سرعان ما خفتت تدريجيًا، لتحل محلها ابتسامة واسعة دافئة، امتزجت بالامتنان والحنين... ثم فجأة، دون تردد، تقدّمت نحوه واحتضنته.


كانت تلك المرة الأولى التي تبادر فيها بالعناق، في لحظة أربكته تمامًا.

فوقف حسن مشدوهًا، يبادلها العناق ببطء، يشعر أن قلبه أخيرًا عاد إلى مكانه.. بين ذراعي توأم روحه ونصفه الآخر .


كان داخله خليط غريب من الارتباك والدهشة والامتنان، مشاعر متداخلة تصطدم ببعضها في صدره فلا يعرف أيّها يغلب. شعر أن هذا العناق ليس مجرّد لحظة حنان، بل رسالة صامتة منها تدعمه وتطمئنه أنها تشعر به جيدًا .


كان يعرف أنها أكثر مَن فهم حجم خسارته، وأكثر مَن شعر بما يمرّ به دون أن ينطق. كانت مواساتها الصامتة، بعناقها الأول، كافية لأن تُطفئ شيئًا من وجعه القديم.

وفي تلك اللحظة تحديدًا، أحسّ حسن أن قلبه يهمس بالحمد. شعر بالرضا رغم الألم، بالسكينة رغم التعب... حمد ربّه أنه لم يُترك وحيدًا، وأن لديه إخوة يشعرون به، يساندونه دون أن يطلب، يملأون فراغه الصامت بدفء وجودهم.


ولوهلة، تذكّر نغم — وتسلّل إلى صدره شعور بالشفقة عليها. هي لا تملك أحدًا مثلهم، لا ظهرًا ولا دفئًا يشبه هذا. فريد فقط... هو كل عالمها، وكل سندها، ولو غاب عنها لحظة، تتهاوى وحدها.

أما هو، فعلى الأقل، ما زال لديه من يحتضنه إذا انكسر.


وفي تلك اللحظة الصامتة، شعر حسن وكأنه أبصر الحكمة أخيرًا، تلك التي ظلّت غامضة خلف كل وجعه وخساراته السابقة.


أدرك أن الله لا يسلب شيئًا إلا ليمنحه ما هو أعمق، ولا يُبعد أحدًا إلا ليُقرّب قلوبًا أصدق.


فقد الكثير، نعم، لكن ما تبقّى كان كافيًا ليُعيد إليه معنى الحياة: إخوة صادقون، ومحبّة نقية لا تُشترى، ونسيم… توأم روحه، تلك التي بثّت فيه دفء الحياة حين ظنّ أنه فقدها إلى الأبد.


في تلك اللحظة تحديدًا، أحسّ أن الخسارة لم تكن عبثًا، وأن الوجع الذي حمله كان طريقًا إلى هذه السكينة التي تغمره الآن.


فابتسم ابتسامة خفيفة، كأنها اعتراف صامت بأنه فهم أخيرًا حكمة القدر.


قبّل أعلى رأسها وهمس إليها ممازحًا :

ـ هو انتي طالعة حلوة لمين كده يا نوسه ؟ بصراحة أنا مستخسرك في عاصم ده .


ضحكت نسيم بخفوت، ثم وضعت ذراعها في ذراعه وهي تنظر للأمام، تتسلل إلى قلبها رعشة حنين لعاصم، وقالت بابتسامةٍ خفيفة تحمل بين طياتها دفئًا ومرارة:

ـ أعتقد إن إحنا الأربعة مفيش فينا حد أخد چينات الأم أبداً.. انا وانت وفريد وعمر بينا شبه كبير جدًا الحمد لله، والشبه ده ممتد لچينات السيد الوالد والعائلة الكريمة.


أومأ حسن موافقًا، ثم مال نحوها بخفة وكأنه يبوح بسرٍ خطير وقال هامسًا بنبرة مازحة:

ـ أهو الواد عمر ده الوحيد المحظوظ بچينات أبوه، لو كان طلع شبه نادية كنت اتبرّيت منه.


انفجرت نسيم ضاحكة، ضحكة صافية عالية جعلت الجميع يلتفتون نحوها مبتسمين بسعادة لأجلها .

بينما ضحك حسن هو الآخر، وأحاط كتفها بذراعه يشاركها اللحظة بحنانٍ أخوي دافئ.


أما عمر، فكالعادة، كان يصفر بلامبالاة تامة، وكأن الفرح عنده عادةٌ لا تحتاج إلى مناسبة..

ولكن ما قطع صفيره المفاجئ هو ظهور امرأةٍ هيفاء الطول، بارعة الجمال، دخلت إلى اليخت بخطواتٍ واثقةٍ تُعلن حضورها قبل أن تنطق، فالتفت الجميع نحوها بدهشةٍ واضحة، بينما تجمّد عمر في مكانه، متسمّرًا وهو يحدّق فيها مذهولًا ويوجه حديثه نحو حسن قائلا :

ـ أوبااا .. الملعب ولع !


كان حسن يرمق عمر بنظرةٍ حائرة، لا يفهم ما الذي يقصده، ولا من تكون تلك الحسناء التي خطفت أنظار الجميع، غير أن ملامحها لم تكن غريبة عنه تمامًا.

توقّف لثوانٍ يستدعي ذاكرته، ثم اتسعت عيناه فجأة وقد تذكر أن هذه المرأة ليست سوى التي ظهرت وهي تعانق فريد في الخبر القديم !


وبحركة تلقائية، التفت نحو نغم، ليراقب ملامحها التي شحب لونها فجأة، وكأن تلك اللحظة نزعت عنها كل اطمئنانها دفعةً واحدة.


--------------


بمجرد أن لمح فريد سيلين تدخل، أدرك فورًا وقع وجودها على نغم دون أن تنطق بكلمة واحدة.

كان كمن شعر بالزلزال قبل وقوعه، فالتفت نحوها بخفةٍ وهدوءٍ محسوب، ثم أمسك يديها بكلتا يديه، يضم أصابعها بين أصابعه بإصرارٍ دافئ، كأنه يزرع فيها الأمان الذي يخشاه أن يتلاشى من قلبها.


اقترب أكثر وهمس بنبرةٍ منخفضة لا يسمعها سواها، لكن عينيه كانتا تفصحان عن كل ما لم يقله بعد:

ـ نغم بُصيلي.. 


انتزعت نغم عينيها بصعوبةٍ من على سيلين التي كانت تتهادى بثقةٍ مصطنعة، في فستانٍ قصيرٍ حدّ الوقاحة، مكشوف الصدر على نحوٍ جعلها تبدو مبتذلة لا فاتنة. شعرت نغم بضيقٍ غريب في صدرها، مزيجٍ من الغيرة والخذلان، كأن الهواء من حولها صار أثقل من أن يُستنشق.


لكنها، في لحظةٍ واعية، أجبرت نفسها على تحويل بصرها عنهـا، ورفعت عينيها نحو فريد.

كان ينظر إليها بثباتٍ عجيب، نظرةٌ عميقة تشبه وعدًا لا يُقال، فيها دفءٌ يُطفئ كل نيران الشك.

لم يتحدث أولًا، فقط ظلّ يتأمل ملامحها المرتبكة، كمن يحاول أن يحتضنها بعينيه قبل كلماته.


ثم، بصوتٍ هادئٍ خافت قليلًا، خرجت كلماته كاعترافٍ مُنقذ:

ـ أنا بحبك يا روحي.


كانت نبرته مزيجًا من الحنوّ والإصرار، كأنّه يُقسم لا يُبرّر،

كأن كل حرفٍ منه خُلق ليُرمم شيئًا كاد ينكسر داخلها.

وفي تلك اللحظة، شعرت نغم أن الأرض استعادت توازنها من جديد، وأنه، رغم كل العيون المحيطة ، لا يرى ولا يهتم سوى بها .


كانت كلماته بمثابة يدٍ خفية انتشلتها من دوّامةٍ من القلق والغيرة، وأعادتها إلى شاطئ الأمان الذي تعرفه فقط بين ذراعيه.


نظرت إليه طويلًا، إلى عينيه اللتين تلمعان بصدق، قبل أن تمتد يدها ببطء لتتشبث بيده، كما لو أنها تتمسك بما تبقّى من يقينها في هذا العالم.

واقتربت أكثر، ثم مالت برأسها بخفةٍ لتطبع قبلةً هادئة على وجنته، قبلة لم تكن إعلانًا للحب، بقدر ما كانت إعلانًا لسيلين أن هذا الرجل صار لها، تمامًا، قلبًا ومكانًا، وأن لا أحد بعد الآن يجرؤ على منافستها فيه.


ابتسم فريد بخفة، تلك الابتسامة التي جمعت بين الدهشة والإعجاب، وكأنه فهم تمامًا ما أرادت قوله بتلك القبلة دون أن تنطق.

كان يرى في عينيها أنوثة ناضجة تمتزج بالثقة، وشعورٌ صامت بالتمسك بما هو ملكها فقط، كما لو كانت أنثى تقف على حدود مملكتها، تحدّق في الدخيل بنظرة تجمع بين التحذير والاعتزاز. 


لم تكن هذه النظرة مجرد تحدٍ، بل كانت إعلانًا خفيًا أنها مستعدة أن تحارب أي شيء يقترب من ما تعتبره لها وحدها، وفي الوقت نفسه، كانت تحمل دفءً خفيًا لفريد، إذ بدا له أن قلبها ينبض بالولاء والحب، حارسًا لما بينهما من رابطةٍ لا يقدر أحد أن يزحزحها.


أما سيلين، فكانت واقفة على بُعد خطوات، تتابع المشهد بوجهٍ جامد يخفي خلفه غليانًا دفينًا. لم تتوقع أن نغم — الفتاة التي كان يتهمها الجميع بالضعف، والتي وصلت أخبارها إلى سمعها كـمسكينة قليلة الحيلة — ستقف بهذه الجرأة اليوم، كأنها تريد أن تثبت لها شيئًا، أن لها حضورًا لا يُمكن تجاهله، وأن قوتها الداخلية لا تُقاس بما ظنه الآخرون عنها.


ولمّا اقتربت منهم بخطواتٍ محسوبة، رفعت ذراعها لتصافح فريد، ثم مالت نحوه محاولة أن تطبع قبلة خفيفة على خده — لكن فريد كان أسرع.


أبعد وجهه للخلف بهدوءٍ ولباقة، مكتفيًا بأن يصافحها وهو يقول بابتسامة رسمية، ناطقًا بالإنجليزية:

ـ أهلًا سيلين ، سعدتُ لأنكِ لبيتِ دعوتي .


شعرت سيلين وكأن اللعبة قد حُسمت قبل أن تبدأ. ورغم الغضب والاضطراب الذي يعتمل في داخلها، أخفته ببراعة خلف ابتسامة عريضة، ووجهت إليه جملةً بسيطةً، ساخرة، تحمل في طياتها تهكمًا خفيًا، وتهدف لإثارة غضبه :

ـ يا لك من طائر أخافته عاصفة… لو لم تكن بجانبك لكنت غامرتَ بدون تردد..


وتنهدت بخفة ثم تابعت :

ـ على كل حال .. تهانينا لك ولعروسك الجميلة.


صمتت لحظة لقراءة أثر كلامها على محيّا فريد، فالتقط هو الإشارة بعينٍ هادئةٍ لا تفقد اتزانها، وأجابها بابتسامةٍ ثابتة تحمل ردًّا أقوى من أي سيف، وقال :

ـ هناك فرق بين طائر يهاب العواصف، وبين طائر يختار دومًا أن يحمي عشه .. على كل حال؛ شكرًا لكِ .


تجمدت سيلين لوهلة، وكأن كلمات فريد قد صعقتها. كانت تتوقع من ورائه توتراً أو غضباً، لكنها لم ترَ إلا هدوءه وثباته، وكأن تلك الجملة أغلقت عليها كل نوافذ التهديد التي كانت تظنها مفتوحة.


ابتسمت ابتسامة متوترة، محاولة أن تبدو وكأنها لم تتأثر، ثم اقتربت بخطوات محسوبة نحو نغم، مصافحة إياها ببرود، وتحدثت بسرعة باليونانية، متعمدة أن تثير غضب نغم وتجعلها تشعر بالضيق والارتباك، فهي تعرف جيداً أن نغم لن تفهم كلمة واحدة مما تقول، ولن تعرف كيف ترد.


ثم توقفت فجأة، وابتسمت وهي تمرر نظراتها على فستان نغم بتفاصيل محسوبة، قبل أن تقول بلهجة ناعمة تخفي وراءها سُمًّا خالصًا:

ـ هذا الفستان يتفوق على ذلك الذي كنتِ ترتدينه يوم حفل الافتتاح… يبدو أن ذوقكِ تحسّن كثيرًا مؤخرًا.


شعرت نغم بالتوتر، إذ لم تدرك تمامًا مغزى كلام سيلين، وقبل أن يتمكن فريد من التدخل، بادرت نسيم بمواجهة سيلين بحزم محسوب، والتقطت بسرعة السخرية المبطنة في كلماتها. ابتسمت ابتسامة مدروسة، حاملةً رسالة واضحة لسيلين، وقالت:

ـ ربما لأن فريد صار يولي أدق تفاصيل نغم اهتمامه هذه الأيام… فهو من صمم لها الفستان بكل حب.


ختمت نسيم حديثها بابتسامة خافتة، فبادلتها سيلين ابتسامةً واسعة تخفي وراءها الكثير، ثم أومأت برأسها بإيماءة مقتضبة وهي تتجه نحو زينب، التي لوت شفتيها في امتعاضٍ واضح، وأشاحت بوجهها جانبًا بتأففٍ لم تُكلّف نفسها عناء إخفائه.


فتابعت سيلين سيرها بخطواتٍ واثقة حتى توقفت أمام حسن، نظرت إليه نظرةً متأنّيةً وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامةٌ متألقة وهي تمد يدها نحوه قائلة بلطفٍ مصطنع:

ـ مرحبًا أيها الوسيم.


مدّ حسن يده ليصافحها، لكنها ما لبثت أن اقتربت بخطوةٍ إضافية، محاولةً تقبيله على وجنته، إلا أن حسن أبعد وجهه للخلف فجأة في اعتراضٍ صريحٍ لم يترك لها مجالًا للاستمرار. عندها رمقته سيلين بنظرةٍ حادةٍ تعلوها الدهشة، ثم قالت بتهكمٍ مغلفٍ بالابتسام:

ـ يبدو أنني أخطأت التقدير… فالعائلة كلها لا ترحب بتبادل القبلات فيما يبدو.


لم يفهم حسن قصدها، فلم يجب، بينما انتهز عمر الفرصة سريعًا ومد يده نحوها مصافحًا وهو يقول:

ـ أنا أرحب بتبادل القبلات!


ضحكت سيلين بخفةٍ متعالية، وأمالت رأسها إلى الخلف في حركةٍ أنثوية محسوبة، قبل أن تقترب قليلًا وتربت على وجنته بنعومةٍ مصطنعة، وقالت بابتسامةٍ وادعةٍ يختبئ خلفها التهكم:

ـ يبدو أنك في غاية اللطف.


لكن في داخلها كانت تبتسم بسخريةٍ باردة، فـعمر بدا لها كصبيٍ صغيرٍ متحمسٍ يسعى لإثبات رجولته أمام امرأةٍ أكبر منه دهاءً وتجربة. رأته بسيطًا، عفويًا، لا يزال يلهو على أطراف اللعبة التي تتقن هي قوانينها تمامًا.

ابتعدت بعدها في هدوءٍ مصطنع، بينما ظل عمر يتابعها بنزقٍ وغضبٍ ظاهر .


التفت نحوه حسن قائلاً باستفهام :

ـ هي قالتلك إيه؟


فأجابه عمر وصوته يقطر غضبًا:

ـ قالت لي أنت لطيف جدًا .


و ازداد صوته انفعالًا وقال وهو يقطب حاجبيه:

ـ يعني إنت تقولك وسيم وأنا تقوللي لطيف؟! هي شايفاني إيه بالضبط؟


انفجر حسن ضاحكًا، ثم مد يده وقرص وجنتيه بحركةٍ مازحة وهو يقول:

ـ ما هي عندها حق، إنت لطيف و مقطقط!


أبعد عمر يده بعصبيةٍ وهو يقول بحدةٍ مصطنعة:

ـ بطل هزارك البايخ ده يا حسن.


لكن حسن لم يتوقف، بل اقترب منه وهمس بابتسامةٍ واسعةٍ وهو يحيط كتفيه بذراعه :

ـ مش مهم يا حبيب أخوك هي شايفاك إيه… المهم ميرال شايفاك إيه، ميرال هي الأهم.. ولا إيه ؟


أومأ عمر وهو يمرر يده خلف عنقه ويقول :

ـ على رأيك ..


وتابع :

ـ أنا رايح أشوف حاجة تتاكل على اليخت ده ، مش لو كنت أعرف كنت عملت حسابي في صنارتين وقعدنا أنا وانت نصيد سمك أهو على الأقل نسلي وقتنا بدل الهِو اللي إحنا فيه ده .


ورمق سيلين بانزعاج وهو يتحرك، وقال مقلدًا إياها بسخرية :

ـ you are so kind قال إيه .


-------------


وقفت نغم عند مقدّمة اليخت، تحدّق في الأفق البعيد بعينين شاردتين، كأنها تبحث في اتساع البحر عن مهربٍ من غصّةٍ تعتصر صدرها. كانت ملامحها ساكنةً على نحوٍ خادع، تُخفي وراء سكونها صراعًا خافتًا بين الحزن والخذلان. عقدت ذراعيها أمام صدرها، وأدارت وجهها بعيدًا عن الجميع، علّ الموج يبتلع ما يعتمل في داخلها من وجعٍ صامت.


كانت لا تزال تسمع صدى كلمات سيلين، كطعنةٍ ناعمةٍ مغلّفة بابتسامة. لم تكن الكلمات مؤلمةً في ذاتها، لأنها لم تفهمها، وهذا بالذات ما جعلها تشعر بالضيق  لما تحمله نظرات سيلين حينها من تعالٍ متعمّد، ومن نظرةٍ أرادت أن تُذكّرها بأنها ما زالت تلك “البسيطة” التي لا تليق بعالمٍ مثل عالم فريد.


اقترب فريد بخطواتٍ متزنة، و وقف إلى جوارها لحظةً، يراقب ملامحها الصامتة، ثم مدّ يده برفقٍ ليزيح خصلةً من شعرها نثرتها الريح على وجنتها، وترك أنامله تستقر بخفةٍ على كتفها، ثم أخفضها لتستقر على ظهرها.

لمسةٌ واحدةٌ حملت ما لا تُطيقه الكلمات من طمأنينةٍ ومواساة.


لم تلتفت إليه فورًا، لكن شيئًا في داخلها بدأ يهدأ، كأن لمسته كانت وعدًا صامتًا بالأمان. كان حضوره إلى جوارها بعث في نفسها السلام من جديد ، أعاد إليها توازنها وذكّرها بأنها لم تعد وحدها في وجه الريح.


قال بصوتٍ منخفضٍ، نبرته أقرب إلى التوعية :

ـ وبعدين ؟ مش لازم تخلي كل موقف يحصل يأثر عليكي بالشكل ده ، لازم تكوني قوية يا نغم لأن الحياة بتدوس على الضعيف صدقيني.


زفرت نفسًا مهمومًا وهي تنظر حولها بشرود، وتلألأت في عينيها دمعة، فقال محذرًا :

ـ لالالا.. مش يومه خااالص .. لو عيطتي هزعل منك بجد !


ابتلعت غصتها لئلا تسمح لدموعها أن تنهمر في مثل هذا اليوم، بينما هو أحاط خصرها بذراعٍ وجعلها تقترب لتسند رأسها على صدره في شبه احتضانٍ، وقال :

ـ من هنا ورايح هنقابل حاجات كتير تضايقنا، مش سيلين بس.. لسه في حاجات كتير مضطرين نواجهها لما نرجع مصر ؟! 


وأخفض عيناه ينظر إليها وهو يقول مبتسما بمزاحٍ خافت:

ـ هتعرفي تواجهي ولا هتسيبيني لوحدي وتخلعي ؟!


انبعثت ابتسامتها على نحوٍ أضحكه، فتمتم :

ـ مش عارف ليه خايف منك يا قصيرة انتي .. ربنا يستر .


تنهدت مطولا ثم أردفت وهي تمد يدها لتدسها داخل كفه بإصرار :

ـ متخافش أبدا .. حتى لو مش بعرف أواجه.. لازم أتعلم .


أومأ مؤكدا ، وهتف بثقة :

ـ بالظبط .. برافو عليكي .


ابتعدت عن عناقه خطوة، ثم رفعت عينيها لتلتقي بعينيه، وقالت بضيقٍ يلمع بهما :

ـ أنا متضايقة لأني دايما بحطك في مواقف تضايقك .


هم ليتحدث ولكنها قاطعته وأضافت :

ـ يعني.. الحوار اللي حصل ده كله واللي مفهمتش منه حاجه .. متأكدة أنه ضايقك وإن " المبقعة " دي قالت كلام يستفزك .


ضحك عاليًا على ما نعتت به سيلين، ضحكةٍ عميقة لفتت أنظار الجميع ، لا سيما " المبقعة " التي التفتت نحوهما في انزعاج جاهدت لتخفيه، بينما ضحكت نغم بدورها وهي تستمع إلى ضحكة فريد التي أطربت قلبها .

ثم نظر إليها وتساءل :

ـ طيب بما إنك كنتي مش فاهمة اللي هي قالته، عرفتي منين إن كلامها استفزني ؟!


لتجيبه بثقة تلقائية :

ـ لأني بحس بيك وبفهم نظرة عينيك كمان ..


هز رأسه متسائلا :

ـ فعلا ؟


فهزت رأسها مؤكدة وهتفت :

ـ فعلا جدا.


ابتسم وهو ينظر إلى عينيها وقد تلاشت ضحكاته ولم يبق على شفتيه سوى ابتسامة هادئة ، وهمس إليها بنبرةٍ عميقة وقال :

ـ طيب بما إنك بتفهمي نظرة عينيا، يا ريت تفهميني عينيا بتقوللك إيه دلوقتي ؟


نظرت داخلت عينيه تقرأهما بعينٍ خبيرة ؛ نظراته كانت كأنها نار هادئة، لا تؤذي لكنها تشعل كل إحساسها. كانت عيناه ثابتةُ عليها، تتفحصها كأنها صفحة لم يمل من قراءتها، وكأن كل ملمحٍ صغير في ملامحها يثير فيه شغفًا عميقًا. لم تكن مجرد نظرة، بل كانت إعلانًا صامتًا لكل ما يختلج في قلبه من شوق ووله ورغبة، وكأن كل جزء منها مخصص له وحده، وكأن كل نفس تأخذه هو يشعر به كما لو كان من ذاته. 


شعرت بنظراته تغوص في أعماق روحها، تكشف عن مدى تعلقه بها، عن شغفه الذي يتجاوز حدود العقل إلى شعور خام يملأ صدره ويجعله يود أن يبقيها قريبة إلى الأبد. 


أمعنت النظر داخل عينيه أكثر؛ فرأت فيهما وهجًا غريبًا : نظراته التي بدت موجهة إليها وحدها، كأنها مركز عالمه كله. جعلت دقات قلبها تتسارع مع كل ثانية تمر، وكأن الوقت قد توقف لتلك اللحظة فقط. كان دفء عينيه يغمرها، ينساب إلى داخلها ببطء، يملأها بالأمان والحنان، وفي نفس الوقت بالرغبة في القرب منه أكثر فأكثر. أدركت أن كل شيء آخر حولها قد اختفى، وأنه لم يتبق سوى هذا الاتصال الصامت بين قلبيهما ، صامت ولكنه أبلغ من أي كلام.


حينئذ لم تجرؤ على نطق كلمة، وكل ما فعلته أن أمالت وجهها جانبًا، مبتسمةً بطريقة جعلته يدرك أنها قد أحكمت قراءة عينيه بالفعل، وأنها استوعبت ما أراد أن تصل إليه، وأنها التقطت نظراته المشتعلة شغفًا، غامرةً بحبٍ وعشقٍ صافٍ خالص.


لم يسألها عن ما رأته في عينيه؛ فهو يعلم أن نظراته تحمل ما لا يُقال، تخترق بصمت أعماق القلب، وتترك أثرًا لا يُمحى.


أحاط كتفيها بذراعه، ووقفا يتأملان الأفق الممتد من حولهما بشرود، حتى التقط فريد صوتًا مألوفًا يثير الضوضاء من خلفهما. التفت ليجد جيرالد قد صعد إلى سطح اليخت، يهتف قائلاً:

ـ أعتذر للجميع، لقد تأخرتُ…


تقدم نحو فريد، الذي ظل واقفًا بهدوء، مشيرًا إلى القبطان معلنًا بدء الرحلة، وما إن اقترب منه حتى احتضنه بحفاوة، وهو يهتف:

ـ فريد.. يا رجل! يقولون إن من تزوج قد دخل القفص الذهبي! هنيئًا لك، رحلتك بدأت للتو .. 


وضحك عاليًا ثم اقترب منه وهمس بوجه متهكم:

ـ ولكن يا صديقي… لا تدع الحماسة تسيطر عليك فتلقي بالمفتاح! صدقني، ستحتاجه لاحقًا .


انفجر ضاحكًا من جديد، بينما قابل فريد ضحكاته الصاخبة بابتسامةٍ رصينة، وقال :

ـ شكرًا لك على تلك النصيحة القيمة، جيرالد . ولكنني لا أظن أني سأحتاجها .


تفاجأ جيرالد برده، ولكنه أكمل حديثه متهكمّا :

ـ من يدري يا عزيزي اللورد ؟! فكل الأقفاص تبدو لامعة ومبهجة في بداية الأمر .


ابتسم فريد باقتضابٍ مضطرًا، محاولًا إنهاء حديث جيرالد الساخر دون أن يُظهر ضيقه، بينما التفت الأخير إلى نغم ومد يده يصافحها وقال بنبرةٍ مازحةٍ تحمل طابع الإعجاب:

ـ الجميلة الغاضبة؛ تهانينا لكما.


ظلت نغم تحدق في يده الممدودة بضيق، وفي داخلها كانت لا تميل إلى مصافحته إطلاقًا، لكن مراعاةً للموقف مدّت يدها على مضض لتصافحه.


ولكنه بدا كأنه يريد أن يلامسها بأريحيةٍ زائدة، ثم همّ بتقبيل يدها في حركةٍ مهذبة ظاهرًا، جريئةٍ باطنًا. لكن نغم تراجعت بخفةٍ متوترة، وسحبت يدها بسرعةٍ من بين أصابعه، وقد ارتسمت على وجهها ملامح دهشةٍ واستغراب. التفتت إلى فريد في لحظةٍ تلقائية، تبحث في عينيه عن معنى لتصرّف جيرالد المستفز.


لم تنتظر كثيرًا لتعرف الجواب، لأن فريد كان قد سبقها بردّ فعله دون كلمةٍ واحدة.

ابتسم بخفوتٍ مصطنع، ثم مدّ ذراعه نحو خصرها برفقٍ حازم، وجذبها إليه قليلًا حتى أصبحت أقرب له مما ينبغي، وقال محدثًا جيرالد بنبرةٍ هادئةٍ حاسمة، وقد ارتسم على وجهه ذلك الثبات الذي لا يُنازع:

ـ سيد جيرالد، أقدّر لطفك، لكن ما فعلته قبل قليل لا يليق، ولا يُسمح بتكراره.. لدينا في ثقافتنا حدود لا يجوز تجاوزها، خصوصًا مع النساء .


ثم أردف بنبرةٍ أكثر عمقًا وهو يرمقه بثباتٍ أشد:

ـ خاصةً أن نساءنا لا يُشبهْنَ أيَّ نساءٍ أخريات.


 تجمّد جيرالد لحظة، وقد بدت الدهشة جليّة في عينيه، ثم ابتسم ابتسامةً خافتة محاولًا كسر حدّة الموقف، وقال بإنجليزيةٍ مترددةٍ وهو يرفع يده اعتذارًا:

ـ أوه.. أعتذر منك شريكي العزيز، أظنني تجاوزتُ اللباقة، لكني لم أقصد الإساءة مطلقًا.


أومأ فريد بإيجازٍ دون أن يفقد صرامة ملامحه، فيما اكتفت نغم بصمتٍ واجمٍ، يختلط فيه الارتباك بشيءٍ من الفخر بما قاله.

لم تكن قد فهمت تمامًا كلماته، لكن نبرته وحدها كانت كفيلة بأن تُخبرها بكل ما تحتاج أن تعرفه؛ فحدّة صوته، ونظراته الثابتة التي لم تَزِغ عن وجه جيرالد، جعلتها تدرك يقينًا أنه كان يدافع عنها، ويضع حدًّا لأي تجاوزٍ لا يقبله قلبه قبل أن ترفضه كرامته.


حاول جيرالد تدارك الأمر ، فابتسم باتساعٍ وربت على كتف فريد قائلًا:

ـ سأتفقد الأجواء بأريحية، لا تقلق.. والآن دعني أرحب بجميلتي سيلين ثم أعود إليك.


في تلك اللحظة، رفع فريد نظره نحوه بنظرةٍ حادةٍ هادئة، نظرةٌ لم تحتج إلى كلماتٍ لتفصح عمّا في داخله؛ كانت رسالة صريحة بأن عليه أن يزن كلماته وأفعاله من الآن فصاعدا وألا يتهاون أبدًا في تعامله مع نغم.


التقط جيرالد الإشارة فورًا، فابتسم بخفوتٍ مرتبك، وأومأ برأسه بإيماءةٍ صغيرةٍ قبل أن ينسحب مبتعدًا .


أما سيلين، فكانت تتابع المشهد من بعيد، وعلى شفتيها ابتسامة صغيرة تجمع بين الخبث والشماتة، كأنها تستمتع بسقوط جيرالد في فخٍ لم تتمنَّ له مخرجًا.


-------------------


بينما كان عمر منشغلاً بتصوير المكان من حوله، والتقاط العديد من الصور مع نسيم، وتصوير فريد ونغم… وبالطبع تصوير سيلين دون أن تدري،

استغلّ حسن انشغال الجميع وحاول الاتصال بنادر عبر الإنترنت، مستفيدًا من خدمة الاتصال الفضائي التي وفّرها نظام الاتصال في اليخت.


بعد قليل، أجابه نادر، فهتف قائلا بقلق :

ـ أيوة يا متر .. إيه الأخبار ؟ 


ـ كله تمام يا حسن ، متقلقش .


ـ أبويا مسألش عليا ؟! 


ـ الحقيقة يا حسن، من وقت ما جيت كان نايم، الممرضة اللي هنا قالت إنه طول النهار نايم تقريبا بسبب تغيير نوع الدوا اللي قال عليه الدكتور ، ومن وقت ما فاق سأل عليك بس أنا قلت له زي ما طلبت مني أقولله، إنك بتخلص مشاوير ضرورية علشان افتتاح المزرعة .. 


ـ عفارم عليك يا متر .. متشكر جدا.


ـ العفو يا حسن ، طمني إيه الأخبار عندك ؟


ـ كله تمام .. أنا طيارتي ١٠ بالليل إن شاء الله .


ـ ترجع بالسلامة إن شاء الله ، على العموم أنا لازم أرجع دلوقتي على مكتبي لأني عندي شغل ضروري يخلص الليلة ، وهبقى أتابع مع الممرضة بالتليفون .


ـ تمام يا متر.. كتر خيرك، مع السلامة .


أنهى حسن الاتصال فإذ بزينب تقترب منه، وهي تسأله بخفوت :

ـ إيه الأخبار يا حسن ؟


ـ بيقول كله كويس.. بيقول إنه سأل عليا وقالله إني بخلص مشاوير عشان المزرعة ..


وتنهد بريبة، ثم قال :

ـ تفتكري يكون قاله وبيشتغلنا ؟


نظرت زينب أمامها بحيرة، وقالت:

ـ مش عارفه ، نادر ولاءه الكامل للباشا .. بس من خلال معرفتي بيه طالما وعدك إنه مش هيقول إنك مسافر فمش هيقول.


مط شفتيه بحيرة مماثلة، ثم تنهد وقال :

ـ يقول بقى ولا ميقولش.. كده كده هيعرف .


ونظر إليها وأردف :

ـ والله مانا خايف غير من اللحظة دي.. لما يعرف إن فريد ونغم اتجوزوا ، وإني أنا وعمر شهدنا على كتب الكتاب ..


نظرت إليه زينب وأومأت تؤكد إحساسه وهي تقول :

ـ ربنا يستر .


 هز رأسه بخفوت، وفي أعماقه شعور بالخوف يتشبث به، خشية أن يختل التوازن الذي يسيطر على الأجواء، أو أن يحدث ما قد ينزع تلك الفرحة .


على بعد خطوات، كان فريد يراقب المشهد، محاولًا تفسير التقارب الغريب بين حسن وزينب، ومتابعة حديثهما الذي رسم على وجهيهما القلق والارتباك. بدا له أن ثمة سرًا مخفيًا، شيئًا لا يعرفه أحد غيرهما، وما زاد شعوره بالانزعاج أن قلبه لم يهدأ قط وهو يشعر بوجود هذا الغموض حولهما .


فهو إلى الآن لم يفهم سر اعتذار نادر وحضور حسن بدلا منه، نعم لقد هاتفهُ نادر واعتذر منه وأبلغه أن مشغول للغاية في عدة مشكلات خاصة بمزرعة حسن، ولكنه لم يقتنع تمامًا بما قاله، والآن.. بعذ ذلك القلق و الوجوم اللذان يرتسمان على وجهيّ حسن وزينب فلقد تأكد أن ثمة شيء عليه معرفته في أقرب وقت .

فنظر إلى نغم، وقال وهو ينظر داخل عينيها مبتسما :

ـ هنرجع مصر إمتا ؟ 


ارتسم على وجهها عبوس تلقائي، فقرص وجنتها وهو يتابع :

ـ متخافيش ، طول ما إحنا مع بعض مش لازم تخافي أبدا.


هزت رأسها بهدوء ، ثم قالت :

ـ طيب بعد ما نرجع المفروض أول حاجه هتحصل إيه ؟


تنفّس فريد بعمقٍ وهو يثبت بصره إلى الأمام، ثم قال بصوتٍ هادئٍ يخالطه التوجّس:

ـ المفروض أروح الفيلا وأتكلم معاه بنفسي، وأبلغه بكل اللي حصل.


سألته نغم بخوفٍ ظاهرٍ في نبرتها:

ـ وأنا… مش هكون معاك؟


التفت إليها، وابتسم ابتسامةً دافئةً تخفف من قلقها، ثم سألها برقةٍ:

ـ عايزة تكوني معايا؟


صمَتت لحظة، فمرت في ذهنها كلماته السابقة عن الشجاعة وعدم الهروب من المواجهة. وبرغم الخوف الذي بدأ يزحف إلى صدرها، إلا أنها لم تُرِد أن تكون ضعيفة أمامه أو أمام نفسها. تذكّرت عيني سالم ونظرته التي طالما بثّت فيها الرهبة، تخيّلت لحظة مواجهته، حدّته، محاولاته القديمة لإخافتها أو التقليل منها. ومع ذلك، لم تسمح لتلك الصور أن تسرق منها عزمها هذه المرّة.


كانت تدرك أن الشجاعة لا تعني غياب الخوف، بل القدرة على المضيّ قدمًا رغم الخوف. قلبها كان يخفق بقوة، ويديها ترتجفان، لكن بداخلها شعلة إصرارٍ تزداد اتّقادًا.

لن تكتفي بالوقوف على الهامش، لن تترك فريد وحده في مواجهة أبيه.

ستكون إلى جواره مهما كانت العواقب، ستحمي حبها كما يحمي هو عشه، وستثبت له أنها تستحق ثقته، وتستحقه هو.


رفعت بصرها إليه أخيرًا، وفي عينيها خليطٌ من الخوف والعزم، وقالت بصوتٍ حازمٍ رغم ارتجافه:

ـ أيوه… عايزة أكون معاك.


ابتسم فريد بعمقٍ وهو يرمقها بإعجابٍ صامت، ثم مال نحوها وقبّل أعلى رأسها بحنانٍ خالص. أغمضت عينيها وأسندت رأسها إلى صدره، تستشعر دفء أنفاسه وسكون لحظتها القصيرة تلك قبل أن تعود العاصفة.

أما هو، فظلّ صامتًا، يسند ذقنه فوق رأسها، وذهنه يفيض بالقلق… كان يدرك في أعماقه أن القادم لن يكون سهلًا، وأن ما ينتظرهما قد يحمل الكثير من المفاجآت.


--------------------


كانت نسيم قد بدأت تشعر بدوارٍ خفيف منذ لحظات، إحساسٌ غريب يتسلّل إلى رأسها كأن البحر يدور بها. وضعت كفّها على جبينها محاولةً مقاومة الدوار الذي ازداد مع حركة اليخت، ثم قالت بصوتٍ خافت وهي تنظر الى زينب :

ـ أنا هنزل أغسل وشي وراجعة .


فعرضت عليها زينب المساعدة بصدق:

ـ تحبي أجي معاكي حبيبتي ؟


ـ لأ لأ.. مش هتأخر .

نهضت ببطء، وسارت بخطواتٍ متثاقلة نحو الممر الداخلي لليخت.


دخلت الحمّام الصغير، غسلت وجهها بماءٍ باردٍ علّها تستعيد اتزانها، ثم نظرت إلى انعكاسها في المرآة.

كانت شاحبة قليلًا، وملامحها منهكة أكثر مما اعتادت أن تراها.


مدّت يدها ببطء تلمس وجنتيها، ثم انزلقت كفّها تلقائيًا نحو بطنها… توقفت هناك، تلامس بخفوتٍ ذلك الموضع الذي يختبئ فيه سرّها الصغير.

وبدون وعي، ابتسمت.


كانت تلك الابتسامة مزيجًا من دهشةٍ وفرحٍ خافت، فقد أدركت في تلك اللحظة أن ما تشعر به ليس مجرد دوارٍ عابر… بل هي بداية الوحام.

الطفل الذي في أحشائها بدأ يعلن عن وجوده، يرسل إليها إشاراتٍ خفية كأنها تحية أولى من كيانٍ يتكوّن داخلها.


وفي تلك اللحظة، خطر ببالها وجه عاصم، زوجها الذي اشتاقت إليه، فشعرت بدفقة شجاعة تسري في عروقها، وقررت أنّها ما إن تعود، ستصارحه بكل شيء، بلا خوفٍ ولا تردّد، فقد آن الأوان أن تواجهه بالحقيقة .


استقامت، وسحبت نفسًا عميقًا ثم زفرت ببطء، محاولةً استجماع قوتها وحيويتها من جديد، ومسحت وجهها بمنديلٍ ورقي، قبل أن تهمّ بالخروج وهي لا تعلم أن ما ينتظرها سيقلب حياتها كلها رأسًا على عقب…


اتجهت نحو السلم، لكنّها ما إن صعدت بضع درجات ، حتى توقّفت فجأة، فقد سمعت أصواتًا قريبة تأتي من فوق، حيث كانت سيلين وجيرالد يقفان إلى جوار السُلم يتحدّثان بصوتٍ منخفضٍ، كأنّهما يخشيان أن يسمعهما أحد… فتوقفت نسيم في مكانها، تُنصت بانتباهٍ وقد خفق قلبها بشدّة.


كانا يتبادلان الحديث بالإنجليزية، تقول نسيم:

ـ قبل أن تذكرني بذلك من المفترض أن تذكر نفسك أولا ، أنت أيضا حاولت إثارة ضيقه عندما حاولت تقبيل يدها ولكنها منعتك .


نظر إليها جيرالد بحدة وأضاف :

ـ لا، أنا لم أقصد إثارة ضيقه لأنني ليس لدي مصلحة في ذلك، أنتِ من تحاولين التفرقة بينهما وتقومين بمهام لم يطلب منكِ أحد القيام بها .


فأجابته بحدة مماثلة وقالت :

ـ لقد فعلتُ كل ما طُلب مني ولكنه لم يؤت ثماره، حاولت التفرقة بينهما كما تلقينا الأوامر أنا وأنت وتسببنا في إثارة الجدل حول اسمه واسم تلك اليافعة ولكن كل ما فعلناه ذهب سدى، ها قد تزوجها ولم يبتعد عنها .. ويبدو أنه لا نية له في ذلك .


ـ حسنًا.. ها أنتِ ذا تقولين الخلاصة ! فعلنا ما طُلب منّا وانتهى الأمر .. لم نعد مطالبين بالقيام بالمزيد ، وأي إضافة طائشة من عقلك الغبي لن تلحق الأذى بأحدٍ سواكِ .


ونظر إليها بحدة وقال :

ـ يبدو أن هذه اللعبة انتهت، سيلين !! 


هم بتركها والانسحاب، ولكنها استوقفته قائلة بحدة خافتة :

ـ لم تنتهِ طالما أنكما ما زلتما شركاء ، سيد جيرالد !


واقتربت خطوة ، ونظرت إليه بتحدٍ وقالت :

ـ ولن تنتهي إلا إذا أردت أنا !


قطب جبينه متعجبًا وسألها :

ـ ماذا تقصدين ؟


رفعت حاجبيها بتحدي وقالت ببرود مدروس:

ـ أقصد أنك إن لم تساعدني في الوصول إلى فريد سأخبره أنك تقوم بخداعه، وأنك متواطيء مع …


وضع يده على فمها قبل أن تكمل، وهمس بغضب حاد :

ـ كفي عن هذا الهراء، أقسم لكِ إن حاولتِ القيام بأي حماقة دون علمي، سألقيكِ في مرمى فريد، سأضعكِ بيدي هاتين تحت أنيابه ليفتك بكِ دون رحمة .


ثم أشهر سبابته بوجهها بتحذير لا يقبل الاجتزاء، وقال بلهجةٍ ثائرة :

ـ احذري سيلين !


في تلك اللحظة.. تجمّدت نسيم في مكانها وكأن الزمن توقّف عند تلك اللحظة بالذات. شعرت ببرودةٍ تسري في أطرافها، وبأن الدم انسحب من وجهها حتى غدا شاحبًا كقطعةِ ثلج. لم تصدّق أذنيها… الكلمات التي تسلّلت إليها من حديثهما كانت كطعَناتٍ متتابعة، كلّ جملةٍ منها تُسقط قناعًا جديدًا عن وجوهٍ ظنّتها تعرفها.


تسارعت أنفاسها، وانقبض صدرها حتى خُيّل إليها أنّها ستختنق. اتّسعت عيناها بدهشةٍ ووجع، حاولت أن تقنع نفسها أنّها لم تسمع ما سمعت، أنّ الأمر ربما سُوء فهم… لكنّ صوت سيلين كان واضحًا كخنجرٍ مغروسٍ في صدرها.


شعرت برجليها ترتجفان، وكأنهما لا تقويان على حملها. مدّت يدها إلى الدرابزين تستند عليه في صمتٍ متشنّج، بينما يدوّي في رأسها اسم واحد فقط: عاصم!


الاسم ارتطم في ذهنها كسقوط حجرٍ في بئرٍ عميق… أحقًّا هو وراء كلّ هذا؟ وراء كلّ ما حدث لفريد؟


اختلطت في داخلها مشاعر الغضب والخذلان والرعب، وغمرها إحساسٌ خانقٌ بالمرارة؛ زوجها الذي ظنّت أنّها أنقذته من ظلامه، كان ما يزال غارقًا فيه حتى عنقِه. 


حاولت أن تتراجع بخطواتٍ متردّدة، ساقت خطاها نحو الحمام، وقفت من جديد أمام المرآة تنظر لنفسها وهي تحاول التنفس بعمق لئلا تبكي ، لكن دموعها خانتها، تساقطت رغمًا عنها بصمتٍ موجع، كأنّها نعيٌ خافتٌ لثقتها التي ماتت في تلك اللحظة.


--------------------


بعد قليل ..


انشغل طاقم اليخت بإعداد مائدة العشاء الفاخرة لكل من على متنه.


على الطاولة، كانت الألوان تتراقص في انسجامٍ مذهل؛ أطباق التزاتزيكي بالكريمة الطازجة والخيار المبشور، السلطة اليونانية المكونة من الطماطم والزيتون الأسود وقطع جبن الفيتا، وأسياخ السوفلاكي المشوي تتصاعد منها رائحة الزعتر والليمون الطازج. بجانبها وُضعت البطاطس بالعسل والجوز، وأطباق البرياني البحري المليئة بالمأكولات البحرية الطازجة، تُزينها رشّات من البقدونس وزيت الزيتون الفاخر. كانت المائدة أشبه بلوحة فنية، تشبع العين قبل أن تُرضي الذائقة.. وتدعوك لتذوق عبق المطبخ اليوناني الأصيل.


بدأ الجميع بتناول العشاء بشهيةٍ مفتوحة، مستمتعين بتناسق النكهات التي تنقلهم إلى قلب المتوسط في رحلةٍ من المتعة والدفء.

أما فريد، فكان عالمه كله محصورًا في تلك الجالسة إلى جواره. لم يغب عن نغم لحظة؛ إذ كان يطعِمها بين الحين والآخر بيده، في حركةٍ تجمع بين الرقة والهيمنة، لا تُشبه تدليلًا عابرًا بقدر ما تشي بامتلاكٍ ناعمٍ يُغلفه الحنان.

كانت نظرته إليها حانية، لكنها عميقةٌ إلى حدٍّ يجعلها تشعر أن كل ما حولها تلاشى.

ضحكاتهما الخافتة امتزجت بنغمات الموسيقى الرومانسية التي تصدح في الخلفية، وكل تفصيلةٍ بينهما كانت تُعلن أمام الجميع أن ما بينهما ليس مجرد حب، بل يقينٌ لا يتزحزح؛ يقين بأن هذه المرأة هي عالمه، وأنه مهما دخلت ألف “سيلين” إلى المشهد، فلن يرى سوى حبيبته الاستثنائية.


لكن على الطرف الآخر من المائدة، كانت سيلين تراقب المشهد في صمتٍ ثقيل.

ابتسامة باهتة رسمت على شفتيها، فيها شيء من الخبث وشيء من المرارة.

هي تعرف تمامًا أنها لم تكن سوى أداة، وُجدت في محيط فريد لغرض محدد، وأن علاقتها به لم تكن سوى لعبة محسوبة.

ومع ذلك… لم تستطع أن تمنع نفسها من الغيرة.


كيف لفتاة مثل نغم، الهادئة، البسيطة، أن تُثير كل هذا الشغف في رجل مثل فريد؟

كانت تلك الفكرة وحدها تُؤلمها أكثر من كل الخسارات السابقة.


كيف وهي سيلين - التي اعتادت أن تُهلك الرجال بنظرة، أن تراهم يتسابقون لينالوا رضاها، أن تشعر دائمًا بأنها الأقوى في أي لعبة عاطفية - أن ينكسر غرورها الأنثوي على يد فريد الذي كسر تلك القاعدة.

حين حاولت أن تقترب منه، أن تختبر تأثيرها المعتاد، اكتشفت أن نظراتها لم تهزّ فيه ساكنًا، وأنه، ببساطة جارحة، لم ير فيها أكثر من ظلٍّ عابر.


كانت تبتسم وكأنها غير مبالية، بينما في داخلها صراع خفيٌّ بين كبرياءها المجروح وغرورها المُهان الذي يرفض تصديق أن رجلاً كفريد، بكل وسامته وثقته ونظرته الآسرة، أن يعرض عنها بهذه البساطة

أن يلتفت لتلك الفتاة الهادئة التي لا تملك نصف جاذبيتها؟ ولا يلتفت لها هي !


بينما على الجانب الآخر، كانت نسيم تحدّق في سيلين بعينين متوجستين، تحاول أن تُعيد ما سمعته في رأسها مرةً تلو الأخرى، لعلّها تجد تفسيرًا آخر، معنىً أقل قسوة مما فهمته لتوّها... لكنها عجزت عن خداع عقلها؛ 

فكل ما نطقت به سيلين لا ينطبق إلا على عاصم.


هو وحده من يملك الدافع لإفساد أحلى أوقاتهم.

هو وحده المستفيد من أن يضرب فريد في مقتل.

هو وحده الذي لم يهدأ يومًا، ولا كفّ عن السعي لتدمير عائلتها، كما فعل من قبل.


كانت تشعر في أعماقها أن عاصم لن يترك هذا اليوم يمر دون أن ينصب فخًّا جديدًا، والآن، كل شيء اتّضح أمامها كصفحةٍ مكشوفة:

سيلين وجيرالد… مأجوران من زوجها!

زوجها الذي تحمل منه قطعةً في أحشائها…

زوجها الذي أحبّته كما لم تحبّ أحدًا من قبل، ووهبته قلبها بلا تردّد.

زوجها الذي كانت تظنّ أنه سيكفّ أخيرًا عن الانتقام من إخوتها، فإذا به لا يزال غارقًا في حقده، غارقًا أكثر مما تخيّلت.


نظرت إلى فريد، فارتجف قلبها.

وجعٌ خافت تسلّل إليها وهي تفكّر في السرّ الذي أصبحت تخفيه عنه، وفي ثقل الحقيقة التي لا تدري كيف ستواجهه بها.


هل تملك الشجاعة لتخبره أن من فعل به كل ذلك هو زوجها؟

وإن فعلت… هل ستكون مستعدة لتحمّل عواقب انفجار فريد القادم؟


هي تعرف فريد جيدا …

يعرف متى يسامح، ومتى ينفجر.

ففي المرة السابقة، عندما مرر إليه عاصم ضربةً موجعة عبر أيمن، اختار الصمت وتقبل الخسارة الفادحة التي تعرض لها لأنه كان مثقلاً بالذنب تجاه ما حدث لـحازم.


لكن الآن؟

بعد أن يكتشف أن عاصم لم يتوقف قطّ عن دسّ السموم في طريقه؟

هل سيسكت؟ مستحيل.


تخيّلت المشهد، فارتجفت أنفاسها.

كيف ستواجه العاصفة حين تنفجر؟

هل ستقف إلى جانب زوجها، وهي التي تمتلئ منه غيظًا واشمئزازًا؟

كيف وقد صار الغضب منه يسري في عروقها بدل الدم؟

أم ستقف إلى جانب أخيها ؟!


ثمّ ماذا عن الطفل الذي في أحشائها… الطفل الذي يحاول أن يمدّ بينهما خيط حياة رقيق للغاية ؟


كانت الأفكار تتلاطم في رأسها كأمواجٍ متوحشة، وكل موجة تتركها أكثر تيهًا، وأكثر خوفًا من القادم…


أسقطت رأسها بين كفيها بتعب واضح، فوجدت يد حسن تمتد نحوها سريعا، وسؤال فريد الذي سبقه :

ـ نسيم انتي كويسة ؟ 


رفعت رأسها ونظرت إلى اخوتها الذين يرمقونها جميعهم بخوف، فأومأت بابتسامة هادئة وقالت :

ـ أنا كويسة متقلقوش .. شوية صداع بس .


على الفور، مد حسن يده داخل جيب سترته وهو يقول :

ـ معايا برشام صداع حلو..


ولكن فريد هتف بحدة قاطعًا حديثه :

ـ لأ .. مينفعش .


تجمّد حسن لحظة، وهو ينظر إلى أخيه في صمتٍ مشوبٍ بالدهشة، قبل أن يخفض يده ببطء. شعر بانقباضٍ غامض في صدره، لم يفهم له سببًا واضحًا؛ أهو يرفض مساعدته لأخته؟ هل يظنّ حقًّا أنّه قد يؤذي نسيم ؟ أم أن في الأمر شيئًا آخر لا يدركه؟


أسئلةٌ متلاحقة مرّت في رأسه وأثقلت صدره بشيءٍ من الغضب الصامت، فيما بقيت نظرات فريد الحازمة بلا تفسير… تزيد حيرته وتترك في داخله أثرًا من ضيقٍ لم يدرِ له مبرّرًا.


لاحظ فريد التبدّل الطفيف في ملامح حسن، واستوعب سريعًا أن نبرته كانت قاسية أكثر مما ينبغي، فعدل من جلسته، ومسح على ذقنه بارتباكٍ خفيف، ثم قال بنبرةٍ هادئةٍ هذه المرّة، كمن يحاول تدارك الموقف:

ـ مينفعش نسيم تاخد أي علاج .. لأنها حامل.


سرت لحظةُ صمتٍ ثقيلة في المكان، بدت وكأنها أوقفت الزمن لثوانٍ، قبل أن تتّسع عينا حسن بدهشةٍ صافيةٍ، تبادلتها معه زينب التي وضعت يدها على فمها غير مصدّقة، ثم هتفت بانفعالٍ تغلب عليه الدهشة والفرح :

ـ بجد ؟!


ابتسم فريد بخفوتٍ وهو يومئ برأسه إيجابًا، فيما كانت نظراته تتسلّل نحو نسيم التي تابعت المشهد في صمتٍ وابتسامةٍ واهنةٍ ترتسم على شفتيها، فاندفعت نحوها تعانقها بحبورٍ شديد وهي تقول :

ـ بسم الله ماشاء الله.. ألف مبروك يا حبيبتي ، ربنا يتمم لك حملك بخير يا بنتي .


بينما اقترب منها حسن، عانقها وقبّل رأسها وهو يتمتم بسعادة :

ـ مبروك يا حبيبة أخوكي .. تقومي بالسلامة إن شاء الله.


ابتسمت نسيم بسعادة رغم ما يدور في رأسها من آلام قاتلة، وردت بخفوت :

ـ شكرا يا حسن ربنا يخليك ليا .


بينما كان عمر غارقًا في عالمه الموازي كعادته، يقوم بالاتصال بميرال اتصالا مرئيّا وما إن أجابت المكالمة حتى صاح قائلا :

ـ يا حبيبــــة قلبــــي يا ميــــــرال !


أدار الكاميرا مبتسمًا بفخرٍ وكأنه يعرض عليها لوحة فنية بارعة الجمال، وقال بنغمةٍ مرحة:

ـ شوفي! شوفي الجمال اللي أنا فيه! البحر ورايا ..


وغمز إليها بمشاكسة وهو يحرك حاجبيه بعبث ويقول قاصدًا مغازلتها :

ـ والقمر قدامي ..


وبدأ يُحرّك الهاتف في كل الاتجاهات ليُريها المكان من حوله؛ لكن ما إن مرّت الكاميرا على سيلين، الجالسة بثقةٍ مصطنعة وابتسامتها المتكلفة تزين وجهها، حتى تغيّر وجه ميرال في لحظة.


انعقد حاجباها، وتبدّل صوتها بنبرةٍ حادةٍ مملوءة بالغيرة والغضب المكبوت، وقالت :

ـ إيه ده ؟! هي دي القمر اللي قدامك ؟!


تجمّد عمر لوهلة، وهو ينظر إلى الشاشة في ارتباكٍ وذهولٍ واضح، يحاول استيعاب ما فهمته ، وما لم يكن يقصده هو أبدا وقال :

ـ لأ أنا قصدي عليكي انتي ..


ـ إنت كمان بتكدب عيني عينك ؟! 


ـ بكدب إيه يا بنتي افهمي.. 


صاحت بانفعال :

ـ مش عاوزة أفهم يا عمر .. إنت بتتصل بيا علشان تحرق دمي مش كده ؟ 


ـ أحرق دمك ؟! يخربيت الهطل ! أنا غلطان إني بكلمك علشان تباركي لفريد ونغم وأشاركك الأجواء عندي .. يلا اقفلي .


نظرت إليه بغضب وهتفت بحدة :

ـ اديهم الموبايل !


ناول الهاتف إلى فريد، الذي التقطه ونظر إلى ميرال مبتسما وقال :

ـ أخبارك إيه يا ميرال ؟


فأجابته ميرال بابتسامة مضطربة قليلا وقالت بهدوء:

ـ الحمدلله بخير يا مستر فريد، ألف ألف مبروك لحضرتك ولنغم.. ربنا يسعدكم .


ـ متشكر يا ميرال ربنا يبارك فيكي .. عقبالكم إن شاء الله.


اهتزت حدقتيها بخجلٍ، وأومأت بصمت ، بينما أمال الهاتف نحو نغم التي نظرت إليه دا بابتسامة واسعة وقالت :

ـ عقبالك يا ميرال .. 


لتجيبها ميرال بحدة غاضبة :

ـ والله مش باين .. 


ضحكت نغم وهي تنظر إلى عمر الذي يرمق الهاتف في يد نغم وكأنه يرمق ميرال نفسها بغضب وتجهم ، وقالت وهي تقرب الهاتف إلى فمها أكثر بصوت شبه هامس :

ـ متضايقيش نفسك يا حبيبتي ، إحنا الأساس .


ابتسمت ميرال بتنهيدة مصاحبة، ثم أومأت وقالت:

ـ ربنا يسعدك يا نغم ويتمم فرحتكم على خير .


ـ يارب يا لولو .. عمر معاكي . 


التقط عمر الهاتف من نغم بسرعة، لكن قبل أن ينبس ببنت شفة، كان قد تفاجأ بميرال وقد أنهت الاتصال دون الانتظار لسماع رده، فأخذ يحدق في الشاشة للحظات بضيق، ثم دس الهاتف بجيبه وهو ينظر إلى حسن الذي يغمز إليه متسائلا :

ـ مالها مرار قالبة عليك ليه ؟


طالعه عمر بحنق ثم تمتم بقلة حيلة :

ـ ده مرار طافح .. أنا كان مالي ومال العبط ده كله ! دول صنف كله دماغهم تعبانة يا عم !


التقت عينيه بعيني نغم تلقائيا فرفه كفه وكأنه يتراجع وهتف :

ـ لا مؤاخذه يا مرات أخويا .. بره عنك الكلام ده طبعا .


نظرت نغم إلى فريد وقد راقها اللقب كثيرًا، راقها أن تُنسب إليه بهذه الطريقة الدافئة، ثم ابتسمت، كانت تنظر إليه بصمت، بعينين تفيض بشيء لا يُقال، كأنها تشعر بكل ما يدور في رأسه وقلبه معًا.. تراقب ارتجافة أنفاسه، واهتزاز صوته الصامت وهو لا يقول شيئًا.


أما هو، فكلما التقت عيناه بعينيها، كان يشعر أن جاذبيتها تزداد قوة، وكأنها تُقربه أكثر فأكثر إلى مدارٍ لا خلاص منه.


في تلك النظرات القريبة، أدرك فريد أن الأمر بينهما لم يعد مجرد حب، بل انجذاب كونيّ، انصهار بين روحين .


كان يراها كما تُرى الأرض من الفضاء: جميلة، معقدة، مدهشة، ومهما حاول أن يصفها، يبقى عاجزًا أمام روعتها.


وهي أيضًا، في تلك اللحظة، لم تكن تنظر إلى فريد الرجل الذي تعرفه، بل إلى الحضور الذي يملأ المكان حولها، إلى الأمان الذي تشعر به كلما اقترب منها،

إلى الرجفة التي تتسلل إلى أطرافها كلما نطق اسمها بصوته الهادئ.


كأن بينهما لغة لا يفهمها سواهما، صمتٌ طويل يشرح أكثر من آلاف الجُمل، وعيونٌ تتحدث عن شوقٍ لم يُقال، عن فصول قادمة ستتعاقب في حياتهما من ربيعٍ يحمل وعد اللقاء، إلى صيفٍ يشتعل فيه الشوق، إلى خريفٍ تتساقط فيه الكلمات، وشتاءٍ لا يُبقي سوى الدفء الذي يجمعهما رغم كل العواصف .


༺═──────────────═༻


#يتبع


تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني من هنااااااااا 

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع
    close