القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية غناء الروح الفصل التاسع والاربعون 49بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)


رواية غناء الروح الفصل التاسع والاربعون 49بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)




رواية غناء الروح الفصل التاسع والاربعون 49بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)


الفصل التاسع والاربعون


كانت حسناء على وشك الدخول للنوم فهذا اليوم هو يوم أجازتها، ولكن حين سمعت طرق خفيف على باب شقتها....طرق بالكاد يُسمع، لكنه كان كافياً ليجعلها تتوجس، فاقتربت بخطواتٍ مترددة، وحين فتحت الباب وجدت أمامها يسر، فارتسمت على وجهها علامات الدهشة ثم ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيها قبل أن تتنهد بلهجةٍ مريبة وقد بدت وكأنها تمثل المفاجأة، فقالت بنغمةٍ مصطنعة وهي ترفع حاجبيها بدهشة متكلفة:


-يا خبر مدام يسر، نورتي!


لكن يسر لم تبتسم بل ظلت تحدق فيها بجمودٍ يشوبه الحذر، وسرعان ما التقطت حسناء بعينيها شيئاً آخر…فقد انتبهت لوجود سيدة تقف خلف يسر، تتخذ وضعية الحارسة، تراقبها بنظراتٍ قاسية تمتلئ بالشر والحقد، ارتبكت قليلاً وشعرت بنبضها يتسارع، ومع ذلك حاولت أن تحافظ على تماسكها، فتساءلت بنغمةٍ حاولت أن تبدو باردة:


-اقدر اعرف إيه سر الزيارة الكريمة دي؟


لكنها لم تكن تتوقع الجواب بهذه السرعة، فقبل أن تنهي جملتها دفعتها حكمت دفعة قوية وهي تقول بنبرةٍ تهكميةٍ حادة:


-هنتكلم على الواقف كده يا حبيبتي؟ ولا انتي عديمة النظر وقليلة الذوق؟!


اتسعت عينا حسناء دهشةً وتراجعت خطوةً إلى الخلف وقد ارتسمت على وجهها ملامح الصدمة من اقتحامهما المفاجئ، ثم نهض فيها الغضب،

فصرخت بعصبية:


-انتي جاية تشتميني في بيتي يا ست انتي؟ ما تشوفي البلوة اللي انتي جايبها دي يا مدام يسر!


فجاءها الرد من حكمت بلهجةٍ نارية:


-بلوة لما تلهفك يا حرباية، ياللي مالقتيش حد يريبكي.


ارتبكت يسر من اندفاع حكمت العنيف، وحاولت أن تهدئ من حدة الموقف لتستفز حسناء بأسلوبٍ آخر، فتقدمت منها بخطواتٍ محسوبة ونظرت إليها بعينين تشتعلان حدة، ثم قالت بنغمةٍ هادئة ولكنها مشحونة بالتهديد:


-خليكي معايا أنا يا حسناء، أنا جايلك بنفسي عشان أشوف أخرتك إيه؟


ضحكت حسناء بصوتٍ عالٍ ملؤه الوقاحة والاستهزاء، ضحكة جعلت الدم يغلي في عروق حكمت التي بدأت تبحث بعينيها عن شيءٍ ترميه بها، ثم صاحت حسناء بلهجةٍ مليئة بالغرور:


-أخرتي معروفة، انتي بس اللي مش مالكة الدكتور في ايدك، فجاية لغاية عندي تتطمني، بس أنا بقولك اهو اوعي تتطمني أبدًا.


ارتسمت على ملامح يسر نظرات التحدي، واقتربت أكثر حتى تلاشت المسافة بينهما، متناسيةً تحذير حكمت من أن تقترب كثيراً، وقالت بنبرةٍ لاذعة وقد تخللت كلماتها سخرية جارحة:


-اوقات بتصعبي عليا يا خنفسه انتي، وفاكرة إنك ممكن تهدديني، أو فاكرة بعقلك المريض إنك هتاخدي مكانتي عند نوح، على رأي ابلة حكمت إيش جاب الهانم لمسّاحة السلالم.


ثم أنهت حديثها بإشارةٍ ازدرائية مقصودة، فاشتعلت نيران الغيظ في عيني حسناء التي صرخت بغضبٍ أعماها عن التفكير واندفعت نحوها بعنف وهي تصيح:


-أنا مسّاحة سلالم يا بنت الـ **** ده أنا هوريكي.


ارتطمت يسر بخزانةٍ خشبيةٍ قديمة خلفها، فصدر صوت مكتوم لاصطدامها، وارتسمت على وجهها آثار الألم الشديد، فرفعت يدها تمسك بطنها المنتفخ وهي تلهث بخوفٍ ووجعٍ واضحين.


أما حكمت فكانت قد شهقت من هول ما رأت، ثم رفعت حاجبها وقد اشتعل الغضب في ملامحها، فشمرت عن ساعديها استعداداً للانتقام، وقالت بسخريةٍ قاتمة:


-ده انتي قلبك قوي بقى يا بت؟


التفتت إليها حسناء وقد اشتعل وجهها ازدراءً، فصرخت بسخريةٍ لاذعة:


-انتي مأجرها من انهي داهية دي؟


لكن حكمت لم تمهلها كثيراً، انقضت عليها بجسدٍ صلبٍ وذراعين قويتين، وأمسكت بخصلات شعرها الذهبية المصبوغة بعنف، تشدها يميناً ويساراً وهي تقول من بين أنفاسها الساخنة:


-مأجراها، انتي مش واخدة بالك من الشياكة ولا إيه ولا الدهب اللي لابساه؟!


صرخت حسناء بألمٍ وهي تحاول التملص من قبضتها:


-اوعي يا ولية يا قرشانة انتي احسنلك.


لكن التهديد لم يُخف حكمت، بل دفعها أكثر فدفعتها بقوةٍ نحو الأريكة خلفها، فسقطت حسناء بعنفٍ واعتلتها حكمت بثقل جسدها، وأطبقت عليها كما تُطبق اللبؤة على فريستها، توالت الصفعات واللكمات في أنحاء متفرقة من جسدها، وحكمت تضحك من بين لهاثها وهي تمزق خصلات شعرها بلا هوادة، وتصيح بسخريةٍ مريرة:


-ده شعر حقيقي ولا بلاستيك وباروكة يا نص كم انتي، ياللي متسويش في سوق النسوان تلاتة تعريفة.


كانت صرخات حسناء تتعالى، والدموع تختلط بالعرق على وجهها بينما يسر تحاول استجماع قواها لتتدخل، فنهضت بخطواتٍ مرتعشة، وسحبت حكمت من كتفها وهي تقول بصوتٍ متعبٍ مبحوح:


-يلا يا أبلة، خلاص هي اخدت اللي فيه النصيب.


توقفت حكمت وهي تلهث من شدة الانفعال، ثم نهضت ببطء وهي تنفض ثوبها كمن انتهى من معركةٍ طويلة، وقالت بنبرةٍ حادة مليئة بالتحذير:


-انتي يا بت وربنا لو فكرتي تعترضي لستك وتاج راسك انتي  واهلك يسر هانم، لكون جاية ضاربكي انتي واهلك، علقة مخدهاش حمار في مطلع.


ثم سحبت يسر من يدها بعنفٍ وهي تقول:


-يلا بينا، قبل ما نلاقي نسوان الحارة جايين فوق دماغنا.


كانت يسر تحاول اللحاق بها بصعوبة وهي تتنفس بصعوبة وتقول:


-استني يا أبلة...مش قادرة!


لكن حكمت لم تتوقف بل أجابت بلهجةٍ لاهثة وهي تسحبها أكثر:


-يلا يا ختي عالله تكون فاطمة افتكرت أنا قولت إيه!


وحين خرجتا كانتا قد وجدتا فاطمة جالسة في سيارة أجرة قد أوقفتها بعد حوالي عشر دقائق منذ صعودهما وفقاً لتعليمات حكمت، فكانت فاطمة قد اعترضت سابقاً على أن يتركهما السائق الذي أحضرهما، ولكن حكمت زمجرت بعنف خوفاً من أن يأخذ أجرة زائدة وأقنعتهما بالاقتصاد، فالتزمت فاطمة بالنصيح وتمكن الثلاثة من مغادرة الحي دون ضجيج.


أدارت فاطمة وجهها إلى الخلف متفقدة يسر وسألتها بقلق:


-انتي كويسة يا يسر؟


هزت يسر رأسها بتعب وهي تبحث في حقيبتها عن دوائها:


-اه شوية مغص بس هخد دوا التثبيت وهكون كويسة؟


نظرت إليها حكمت باستغرابٍ صادق وسألت:


-تثبيت ايه؟  انتي مش في الشهر التامن؟


ابتسمت يسر بخفوتٍ وهي تفتح الدواء:


-في اوله لسه، والدكتورة هي اللي مشياني عليه، بس المهم يا ابلة هي ليه البت دي متحركتش ورانا وسابتنا نخرج عادي كده؟


ارتسمت على وجه حكمت ابتسامةٌ ماكرة، ثم قالت وهي تميل نحوها:


-عشان تثبت حالة عند جوزك، وتعزز من موقفها قدامه ويبان انها المظلومة!


اتسعت عينا يسر بقلق واضح، وضربت بيدها على ساقها قائلةً بلهجةٍ مرتجفة:


-يا نهار اسود، كده نوح هيخرب الدنيا فوق راسي.


رفعت حكمت حاجبيها وقالت بنغمةٍ هادئةٍ لكنها حادة كالسكين:


-مش انتي الايام اللي فاتت كنتي بترخي، جه الوقت تشدي عليه لو جه كلمك ووريله العين الحمرا.


أجابت يسر بقلقٍ حقيقي:


-حمرا؟ انتي ماتعرفيش نوح في عصبيته، ربنا يستر.


هزت حكمت رأسها بضجرٍ وهي تتمتم:


-ستات فاشلة مش عارفة تحكم جوزها!!


تنهدت يسر بألمٍ وهي تبتلع دواء التثبيت، متجاهلة الوجع الذي كان يطرق بطنها بين الحين والآخر...والقلق الذي بدأ ينهشها في صمتٍ أشد من كل الصراخ.


                                 ***

في منزل الشعراوي.


غادرت دهب الحديقة مسرعةً بعد أن وبختها سيرا بعنف لم تعهده منها من قبل، لم تنطق بكلمة واحدة واكتفت بانحناءة خفيفة للرأس، تخفي خلفها انكسارًا صغيرًا في ملامحها الطفولية، كانت خطواتها فوق أرض الحديقة أشبه بصدى خافت يتوارى خلفه حقد لم يُقل، أما يزن فظل صامتًا تمامًا يراقب المشهد بعينين تحملان مزيجًا من الغموض والدهشة، لم يُعلق ولم يُعقب بل اكتفى بنظرةٍ طويلةٍ إلى سيرا...نظرةٍ لم تفهم معناها تمامًا لكنها شعرت بأن هناك خطب ما!!


كانت سيرا تحاول أن تُبرر انفعالها أمامه، تُقنع نفسها قبل أن تُقنعه بأن ما فعلته لم يكن قسوة، بل تصرفٌ تربوي تفرضه الضرورة ضد تدخلات دهب الفضولية من وجهة نظرها...فقالت في تبريرٍ مرتبك:


-معلش يا يزون متاخدش على كلامها هي دهب كده فضولية شوية، صغيرة حقك عليا.


لكنها كانت تدرك في أعماقها أن ما رأته في عيني دهب لم يكن فضولًا مراهقًا، بل انجرافًا بريئًا نحو إعجابٍ حقيقي بيزن!!!


زفر يزن بحدة وقد ارتسم على ملامحه ضيق واضح، فكان أكثر ما يكرهه هو التعامل مع تلك الفئة من المراهقين الذين تندفع مشاعرهم بلا وعي، كأنهم أوراق في مهب الريح، ومع ذلك حين وقفت سيرا أمامه، بعينيها المتوسلتين ونظراتها المليئة بالرجاء، شعر بأن كل ما في قلبه من ضيق قد تلاشى كالدخان.


اقترب منها بخطوات بطيئة تملؤها الثقة والدفء، ثم رفع يده يمدها برفق نحو وجهها، ليداعب خديها بحنان ظاهر في كل لمسة ثم همس مبتسمًا بنبرة أقرب إلى العشق:


-انتي حلوة كده ازاي؟


ارتبكت وبدت على وجهها علامات الخجل الجميل، فابتعدت قليلًا وهي تنظر يمينًا ويسارًا لتتأكد من خلو المكان من الأعين المتطفلة، ثم عادت إليه بخطوات حذرة يتقدمها خجل وابتسامة تنضح إعجابًا صادقًا، وهمست بصوتٍ مرتجفٍ:


-حلوة كده عشان بس عرفت اختار صح، وحبيت راجل كل الناس بتحسدني عليه.


لم يتمالك يزن نفسه من الدهشة، إذ لم يجد في ذهنه سوى الجملة الشهيرة لفؤاد المهندس في فيلم عائلة زيزي...."المكنة طلعت قماش" 

فابتسم بعفوية وأشار إلى نفسه بحماقة وهو يقول بدهشة طفولية:


-انتي بتقوليلي أنا الكلام ده؟


هزت رأسها بقوة وهي تتلاعب بأطراف أصابعها خجلًا، كأنها تخفي في حركتها اضطراب مشاعرها، وفي تلك اللحظة جذبها يزن نحوه بخفة، قبل أن تطلق شهقة صغيرة، ليحتضنها برفق يفيض دفئًا، وهمس قرب أذنها بصوت خفيض مليء بالوعود:


-النهاردة أنا محضرلك مفاجأة حلوة اوي بس بعد ما كله ينام.


رفعت رأسها نحوه بفضول صادق، وفي عينيها بريق من اللهفة والدهشة:


-مفاجأة إيه؟


قبل رأسها بحنو وهو يهمس بوعد صادق:


-وهتبقى مفاجأة ازاي؟! بس اوعدك هتفرحي بيها اوي.


لكن اللحظة التي بدت وكأنها تنتمي لزمن خارج العالم، انكسرت على صوت حاد قادم من الأعلى:


-سيرا.


كان صوت سليم يحمل صرامة اعتادتها مؤخرًا، فانتفضت كما لو أنها أمسكت بجرم لا يُغتفر، وابتعدت عن يزن بعنف وهي تهتف بارتباك مرتعد:


-ايوه يا أبيه؟ حاضر اهو جاية!


تراجعت بخطوات سريعة مرتبكة، وفي اندفاعها المفاجئ ارتطم يزن بظهره بالمزهرية الكبيرة خلفه، فسقطت متشققة على الأرض وتناثر التراب على أطراف سترته، فظل يحدق فيها بدهشة بالغة، لا من سقوطه بل من خوفها الزائد من سليم، ذاك الخوف الذي لم يكن مبررًا في نظره.

                            ****

انتهى اليوم أخيرًا بزيارة حكمت وفاطمة ويسر إلى سيرا في منزل الشعراوي، فكانت الجلسة في بدايتها هادئة نسبيًا، لكن سرعان ما تحولت إلى ساحة من التعليقات المتلاحقة والتدخلات اللامتناهية من حكمت، التي لم تدع أحدًا يتنفس دون أن تبدي رأيًا أو ملاحظة، حتى أن سليم الذي اعتاد الصبر والتغاضي، اضطر في نهاية المطاف إلى ترك حراسته لسيرا والصعود إلى الطابق العلوي بعدما استنفدت السماء حلولها مع تلك المرأة، وكأن وجودها كفيل بإشعال الجدال في أي مكان تطأه.


أما يزن فكان يجلس في الركن المقابل متكئًا على الأريكة، يراقب المشهد بعينين لامعتين تفيضان بالمرح الخبيث، فكان يستمتع سرًا بكل لحظة تضايق فيها حكمت أخاه الكبير، ولم يفت عليه أن يضيف بين الحين والآخر تعليقًا ساخرًا يزيد من حدة الموقف، فيزداد سليم ضيقًا وتزداد حكمت ثرثرةً، فيما تحاول سيرا وسعها كبح ذلك الطوفان من الكلمات.


انتهت الزيارة أخيرًا بعد ساعات من الجدل الذي لم يُثمر سوى الصداع، وغادرت يسر المنزل وهي تشعر بإرهاقٍ عجيب يثقل أنفاسها، لم تكن في أحسن حالٍ منذ الصباح، ومع ذلك أجبرت نفسها على التماسك أمام نوح الذي أصر على إيصالها بنفسه من منزل يزن إلى منزل والدها، وقد بدا عليها الارتياح لمرافقته، إذ كان لطيفًا إلى درجةٍ تثير الامتنان، كان يتحدث معها بصوتٍ هادئ، يمازحها أحيانًا ويطمئن عليها كثيرًا، وكأنه يخشى أن يتركها للحظة دون أن يتأكد من كونها بخير.


ابتسمت له يسر بحنو ممتنة لاهتمامه وملاطفته، غير أن الألم الذي بدأ يطرق أسفل بطنها جعل ابتسامتها تتبدد، شعرت بانقباضٍ حاد يجبرها على الانحناء قليلًا، فشدت الغطاء فوق جسدها فور عودتها إلى غرفتها، وعضت على شفتيها تكتم أنينها، تهمس في قلبها دعاءً واحدًا...أن تمر هذه الليلة بسلام، وألا تخسر جنينها الذي صار محور حياتها وسبب خوفها الأكبر.


وفي تلك الأثناء كان نوح يقود سيارته عائدًا إلى منزله، حاول أن يسترخي قليلًا لكن صوت هاتفه الذي عاد إلى الرنين مجددًا أفسد سكينته، نظر إلى الشاشة بتبرم فمط شفتيه عندما رأى اسم "حسناء" يلمع أمامه، لقد كانت تتصل به منذ الصباح عشرات المرات وهو يتجاهلها عمدًا، فلم يكن في مزاجٍ يسمح له بالدخول في نقاشٍ معها، لكن إصرارها المستمر أثار شكوكه فقرر هذه المرة أن يجيب ليعرف ما الذي يدفعها لمطاردته هكذا.


رفع الهاتف ووضعه على أذنه قائلًا بنبرة ضجر واضحة:


-الو في إيه يا حسناء، ما انتي عارفة أنا يوم الاجازة ما بحبش ارد على حد!


لم يصله الرد فورًا بل سمع أولًا صوت بكاءٍ خافت ضعيف النغمة، ثم انساب صوتها المتهدج كطعنة مفاجئة تخترق صمته:


-أنا قولت اكلمك قبل ما اعمل محضر في مدام يسر، أنا عملت للعيش والملح اللي ما بينا الاول.


تجمدت ملامحه وانعقد حاجباه بقلقٍ فوري، ثم أوقف السيارة على جانب الطريق بقوة حتى صرت العجلات صريرًا حادًا، ارتفع صوته متهدجًا وهو يسألها:


-يعني إيه تعملي محضر في يسر؟ 


تنهدت من الجهة الأخرى بصوت مبحوح قبل أن تقول بانفعال متصنع:


-مدام يسر مراتك جابت واحدة بلطجية النهاردة البيت عندي واتعدوا عليا بالضرب وهددتني وشتمتني، أنا كان ممكن انزل اعمل فيها محضر بس كبرتلك الاول.


قبض نوح على المقود بقوةٍ حتى ابيضت أنامله، وصوته حين خرج كان متصلبًا بجمودٍ ممزوج بالغضب:


-انتي واعية بتقولي إيه؟ يسر استحالة تعمل كده؟!


-روح اسألها ومش هتنكر يا دكتور، كتر خيرك مكنش العشم، أنا هنزل حالاً وهتصرف واخد حقي بطريقتي.


انتفض قلب نوح خوفًا من تفاقم الموقف، فسارع لإيقافها بلهجة حاول أن يجعلها حادة لكن متماسكة:


-لا لا... خلاص استني مقصدش على فكرة، أنا هكلمها واشوف عملت كده ليه؟ 


ثم أضاف بصوت أكثر هدوءًا وهو يضغط على نفسه كي يبدو متفهمًا:


-خلاص اهدي وماتعيطيش، اديني وقت اكلمها الاول.


-خد وقتك يا دكتور، أنا أستحالة أكذب عليك في حاجة، ولا عمري سببتلك مشكلة، بس في المقابل أنا بتهان كل مرة من مدام يسر.


ساد الصمت للحظة بينهما ولم يسمع نوح فيها إلا أنفاسه المتلاحقة وصوتها المتقطع من الجهة الأخرى، شعر أن الأرض تميد تحته، فكل خيط من كلامها يزرع في صدره شكًا جديدًا، هل يمكن أن تكون يسر قد فعلت ذلك فعلًا؟ أم أن هناك لعبة أخرى تُحاك في الخفاء؟


أغلق الهاتف أخيرًا لكنه ظل ممسكًا به بين يديه، يحدق في الشاشة وكأنها تحمل الإجابة، داخل صدره اشتعلت نار من الحيرة، وفي رأسه بدأت تتصارع الصور والاحتمالات، فقرر العودة إلى حيث منزل والد يسر ليقطع الشك باليقين.

                              ****


طرق الباب طرقاتٍ خفيفة ثم انتظر برهةً حتى فُتح الباب، فظهرت والدة يسر وهي تنظر إليه بدهشة يكسوها القلق من حضوره المفاجئ، تحامل على نفسه ورسم ابتسامة هادئة تخفي خلفها ضجيجًا داخليًا عارمًا، فقال بأدب متكلف:


-ممكن ادخل جوه ليسر ثواني، أسالها على حاجة؟


رمقته بنظرةٍ حائرة ثم همست بفضول امتزج بالقلق:


-انت كويس يا ابني؟ 


أجابها وهو يزفر تنهيدة ثقيلة:


-اه بس عايزاها في حاجة ضروري.


ترددت قليلًا.ثم تنحت جانبًا لتفسح له المجال، عبر نحو غرفة يسر بخطوات سريعة، وفتح الباب دون أن يطرقه ثم أغلقه خلفه، فوضعت والدتها يدها على صدرها بخوفٍ وهي تتابع دخوله في ارتباك.


في الداخل كانت يسر ممددة على الفراش تتنفس بصعوبة، تمسد فوق بطنها محاولة تهدئة الألم الذي خلفته تلك الاندفاعة التي تلقتها من تلك الحقيرة حسناء، ولكنها انتفضت فور دخول نوح المفاجئ، ونظرت إليه بعينين يملؤهما القلق والاستفهام:


-نوح، انت بتعمل إيه هنا؟


اقترب منها خطوةً والضيق يتكاثف في ملامحه، ثم خرج صوته مشحونًا بالغضب المكبوت:


-انتي روحتي لحسناء النهاردة؟


تحولت ملامحها القلقة إلى ملامح هجومية، واقتربت خطوة أخرى غير عابئة بما يدور في صدره:


-اه، هي قالتلك، أنا قولت بردو مش هتسكت!


اتسعت عيناه بدهشة عميقة وقلص المسافة بينهما ثم قال بشراسة خافتة:


-انتي روحتي ضربتيها؟ وأجرتي بلطجية!! بجد عملتي كده يا يسر؟


دفعت يده عنها بغضبٍ مكتوم، وقالت وهي تضغط على أسنانها بغيرة طاغية أعمتها عن إدراك مشاعره الحقيقية:


-لسه بتخاف عليها ومش قادر تستحمل عليها الهوا!!


قبض على مرفقيها بعنفٍ وهدر صوته مبحوحًا من شدة الانفعال:


-أنا خايف عليكي انتي! هي ماتفرقليش في حاجة يا يسر، انتي اللي تهميني، افهمي بقى.


كان يهزها بعنف والقلق يكسو نظراته التي تفترس ملامحها خوفًا عليها، فأجابته بصوتٍ واهنٍ تتقطعه الدهشة:


-خايف عليا في إيه؟ آآ...آنا....


لم يُمهلها الرد بل جذبها إلى صدره بقوة، يشد ذراعيه حول خصرها بارتجاف ظاهر وهو يقول بلهفة غلبتها الرهبة:


-خايف تأذيكي، حاولت ابعدها عنك، تقومي تروحي برجيلك يا يسر.


ثم ابتعد عنها قليلًا يلامس وجهها بأنامله المرتجفة وملامحه مشتعلة بالعتاب:


-افرض كانت آذتك يا يسر؟ أنا كنت هعمل إيه؟ حرام عليكي اللي بتعمليه فيا ده.


حاولت تهدئته فوضعت كفيها على وجنتيه وهمست بحنو عميق:


-أنا كويسة يا نوح ومحصلش حاجة، وبعدين أنا مأجرتش بلطجية دي أبلة حكمت اخت سيرا، وأنا روحتلها عشان تبعد عنك.


أجابها بعصبيةٍ مفعمة بالصدق:


-تبعد ولا تقرب، قولتلك هي متفرقش معايا أبدًا يا يسر، انتي اللي مهمة، أنتي لو كان حصلك حاجة، أنا كنت دخلت فيها السجن ومترددتش لحظة.


اشتدت آلام بطنها فجأة، فتقلص وجهها من شدة الألم، ورغم محاولتها التركيز في حديثه، إلا أن صوتها خرج متقطعًا وهي تصرخ بانفعالٍ موجع:


-اه مش قادرة..


ثم مالت بجسدها إلى الأمام، تتشبث بقميصه محاولةً تمالك نفسها فيما وقف نوح مذهولًا، يمد يديه نحوها في فزعٍ مكتوم...


                             *****


دخل الجميع غرفهم بعد ليلة طويلة، صعد سليم مع عائلته إلى شقته بعدما اطمأن إلى أن سيرا قد دخلت غرفتها لتنام مع دهب ابنة اختها، أما زيدان ومليكة فقد اختصرا تلك السهرة منذ بدايتها، خصوصًا بعد حضور أبلة حكمت، فوجودها وحده كان كافيًا لانتزاع أي قدر من الصبر أو الهدوء لديه، فلم ينجح مجرم ولا رئيس عصابة من قبل في استفزازه كما تفعل تلك السيدة!


أما في غرفة سيرا كانت تتابع أنفاس دهب المنتظمة وهي تغط في نوم عميق، وما إن اطمأنت إلى نومها حتى نهضت بخفة على أطراف أصابعها، تستعد لتنفيذ ما وعدت به يزن في رسالته الأخيرة.


ارتدت سروالًا أسود ضيقًا وسترة واسعة داكنة اللون يتدلى من خلفها قلنسوة كبيرة، خبأت تحتها حجابها بعناية، بدت كظل متحرك وهي تتسلل خارج الغرفة، تتلفت خلفها تارةً وحولها تارةً أخرى، حتى وصلت أخيرًا إلى الملحق الجانبي للمنزل حيث تترك به السيارات.


لكنها توقفت فجأة وقد عقدت الدهشة حاجبيها؛ إذ وجدت يزن جالسًا داخل سيارة سليم، لا في سيارته المعتادة! اقتربت بقلق وطرقت على الزجاج بخفة، فمال بجسده وفتح الباب، لتقع عيناه عليها وهي في تلك الهيئة الغريبة فضحك ساخرًا وقال بنبرةٍ مازحة:


-إيه ده يا سيرا، انتي عاملة في نفسك كده ليه؟


زفرت بضيق وهي تجلس إلى جواره، تزيح القلنسوة عن رأسها وتهمس بعصبية طفيفة:


-كنت بهرب زي ما قولتلي!


رمقها للحظة وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة مائلة، ثم اقترب منها بوقاحة خفيفة يجذبها نحوه ويغمز بعينيه ليشاكسها قائلًا:


-جاهزة عشان اخطفك.


تراجعت عنه بخجل ظاهر وهمست بارتباك:


-يزن، أنا مش هتحرك من هنا إلا لما تقولي ناوي تعمل إيه؟


هز رأسه بيأس مصطنع وتجاهلها تمامًا، ثم أدار المحرك بثقة غامضة، فقد ساعدته شمس في سرقة مفاتيح السيارة من دون علم سليم، لتكتمل مغامرته الجنونية.


تشبثت سيرا بمقعدها وهي تهمس بقلق حقيقي:


-يزن، بلاش جنان، ارجع البيت عشان محدش يشك فينا.


لكنه لم يُصغِ إليها بل مد يده وأعاد القلنسوة على رأسها حتى غاب وجهها عن الأنظار، ثم ضغط زر تشغيل الموسيقى، لتعلو من السماعات أغنية كايروكي "ساموراي"، فابتسم بصفاءٍ غريب وقال بهدوءٍ يخفي وراءه الكثير:


-تعرفي تستمعي.


رمقته بنظرة مترددة تحمل مزيجًا من الريبة والفضول، بينما كان هو يردد كلمات الأغنية بصوتٍ خافت وراحة غير معهودة، يقود بسرعة جنونية على الطريق، فيما كانت هي تتشبث بالمقعد بكل خوفها… وكل دهشتها.


                              ****


في إحدى المستشفيات الاستثمارية، كانت يسر تبكي بهلع وهي تمسك بطنها بكلتي يديها، يغمرها خوف غريزي على جنينها الصغير، حيث قرر الأطباء إجراء الولادة المبكرة، رغم أن حملها لم يتجاوز أوائل الشهر الثامن.


هزت رأسها رافضةً القرار والدموع تتساقط على وجنتيها وهي تقول بتوسل مرتجف:


-لا ادوني مثبتات، أنا هستحمل، نوح قولهم حاجة.


اقترب منها نوح بخطوات مثقلة بالقلق، وجلس إلى جوارها يربت فوق رأسها بحنان متوجع، وأغمض عينيه محاولًا أن يخفي اضطرابه، ثم همس بصوتٍ مبحوح من شدة الخوف:


-اهدي يا يسر، ده في مصلحتك ومصلحته يا حبيبتي.


نظرت نحوه بعينين غارقتين في الدموع، ثم تحولت بأنظارها إلى والديها برجاءٍ وذعر، وقالت بصوت متقطع يخنقه البكاء:


-أنا هيجرالي حاجة لو جراله حاجة، يا بابا عشان خاطري قولهم حاجة.


فرك والدها وجهه بكفيه في حيرة وحزن، يحاول أن يهدئها بعبارات متعثرة بينما كانت حالتها تتدهور أكثر، ترفض اقتراب الممرضات منها، وتتشبث بغطاء السرير كمَن يتشبث بالأمل الأخير.


فكانت تارة تحدق ببطنها بخوف يشبه الرعب، وتارة ترفع نظرها نحو لينا الصغيرة، التي كانت ترتجف في أحضان جدتها، تبكي بصمتٍ وهي تراقب والدتها المنهارة، وأحيانًا كانت تلتفت نحو نوح بعينين متوسلتين تبحثان عن طمأنينة ما في وجهه الشاحب.


حينها خطرت في ذهنه فكرة مفاجئة، فمال نحوها وقال بابتسامة صغيرة حانية رغم التوتر الذي يملأ وجهه:


-إيه رأيك لو دخلت وحضرت معاكي الولادة؟


ارتجف جسدها وبدت في عينيها حيرة مترددة، ثم أغمضت جفنيها استسلامًا حين أحست بيده تلامس خصلات شعرها بحنو عميق، ثم أشار إلى الممرضات أن يبدأن بتجهيزها، مستغلًا لحظة سكونها تلك، فاقترب من أذنها هامسًا بوعد صادق يختلط فيه الخوف بالحب:


-هدخل معاكي وهطمنك لما يخرجلنا بالسلامة، وبعدها مش هسمحلك تبعدي عني أبدًا، وهترجعي على بيتنا.


شدت قبضتها فوق يده وكأنها تتشبث بالحياة ذاتها، بينما أحاطها بذراعه في صمت يفيض بالعطف والرجاء.


حين رأى والدها استكانتها في أحضان زوجها، أطلق تنهيدة عميقة وخرج من الغرفة بخطواتٍ مثقلة، تتبعه زوجته التي تنفست قليلًا من الراحة، وقد أدركت أن ابنتها أخيرًا قبلت بفكرة الولادة المبكرة… ولو اضطرارًا.


                             *****

توقف يزن فجأة في طريق خال من المارة والسيارات، ثم التفت نحو سيرا التي كانت تجلس بجواره في هدوء تتابع سعادته المفرطة بصمت، دون أن تشاركه في شيء، حدجته بنظرة متسائلة حين قال على نحو مفاجئ:


-يلا انزلي يا حبيبي وتعالي.


رفعت حاجبيها بعدم فهم، تنظر حولها بريبة وقلق:


-أنزل فين؟ انت ناوي على إيه؟!


ثم ضمت سترتها إلى صدرها أكثر، وقالت بنبرةٍ مرتجفة يغلفها تهكم خفيف:


-انت ناوي على إيه بالظبط؟


ابتسم ابتسامة واسعة وأجاب مازحًا:


-ناوي اقتلك، انزلي يا مجنونة واسمعي الكلام وتعالي.


نظرت إليه بذهول ثم فتحت الباب بخوف متردد، وخطت نحوه حتى وقفت بجانب مقعده خلف المقود، وقالت بتوجس وهي تراقب ملامحه:


-ها جيت اهو، عايز إيه بقى؟


ابتسم لها بملامح حمل شيئًا من الحماقة والعفوية، ثم تحرك قليلًا في مقعده ليترك مساحة ضيقة إلى جواره، مشيرًا إليها بالجلوس فنظرت إليه بدهشة:


-نعم؟ مش فاهمة!


ابتسم ثم أردف بخبث طفولي:


-تعالي اقعدي جنبي يلا، عشان اخليكي تسوقي.


حدقت به للحظة ثم انفجرت ضاحكة ساخرة من حديثه الذي بدا كالمزاح الثقيل، لكنه فاجأها حين جذبها نحوه بعنف وأجلسها في المساحة الضيقة جدًا إلى جانبه حتى كادت تقع بين ذراعيه، فقد كان يحتل المقعد كله بجسده العريض، لذا حاولت التملص منه وهي تزجره بعنفٍ خجول:


-اوعي يا يزن، عيب كده، يالهوي بتعمل إيه؟


لكنه طوق جسدها بذراعه، ووضع يدها عنوة فوق المقود، ثم طبع على وجنتها قبلة خاطفة دافئة جعلتها تتجمد في مكانها، وقد اتسعت عيناها بخجل صامت، ولكنه استكمل وهمس قرب أذنها بصوت مبحوح بنبرة أقرب إلى الرجاء منها إلى المزاح:


-عايز افرحك وابسطك، ومفيش أحسن من اللحظات دي، انسى أي حد وأي حاجة وفكري فينا وبس.


التفتت إليه ببطء فصدمت بقرب وجهه من وجهها، وارتجفت شفتاها بخجل، ثم قالت بتلعثم وهي تزيح رأسها عنه قليلًا:


-آآ...أنا مش مرتاحة، اقعد هنا وعلمني زي ما علمتني قبل كده.


أنهت حديثها وهي تشير برأسها نحو المقعد الآخر، ولكنه أشار برأسه نافيًا وقال بنبرة ساخرة متعمدة:


-اولاً ماينفعش عشان دي عربية سليم، أنا واخدها أساسًا عشان هي واسعة واوسع من بتاعتي، وثانيًا انتي قلقانة من إيه، المتعة هتبدأ لما تتجرأي وأنا جنبك.


هزت رأسها رافضة بعناد واضح وهي تبتلع ريقها بخجل:


-بس أنا مش عايزة يا يزن!


ابتسم ابتسامة ماكرة واقترب منها ليقبل وجنتها مرة أخرى، ولكنه أطالها هذه المرة ثم همس ببراءةٍ مفتعلة:


-براحتك يا حبيبي، أنا كنت عايز أفرحك.


تنفست بارتياح حين ظنت أنه اقتنع، لكن دهشتها لم تدم طويلًا إذ أعاد تشغيل السيارة بهدوء، وضمها إلى صدره وهو يقود بيد واحدة:


-بس مش هتنازل عني أني اسوق وانتي جنبي وفي حضني.


شحب وجهها وتسارعت أنفاسها، هل تصرخ الآن؟! لقد وقعت في حب رجل مجنون لا يعرف للقيود معنى! ازدادت سرعته حتى بدأ الهلع يتسلل إلى وجهها، فالتفتت إليه صارخة باستسلام متوتر:


-خلاص...خلاص هسوق أنا.


ثم همست لنفسها بقلق وبقلة حيلة:


-يمكن أخلص من الزنقة دي.


ترك المقود ووضع يدها مكان يده، فقبضت بكلتا يديها عليه بعصبية، تراقب الطريق بتحفز، أما هو فكان يعلمها بهدوء وحب وصبر شديد، يصدر تعليماته بلطف جعلها تسترخي شيئًا فشيئًا، حتى بدأ الخوف يتبدد من قلبها، وسرعان ما انطلقت ضحكاتها الطفولية تملأ السيارة قبل أن تصرخ بسعادةٍ غامرة:


-يزن، أنا مبسوطة اوي.


نظر إليها بدهشة متعجبة من تحولها المفاجئ، ثم شد ذراعه حولها ليحميها، محاولًا تهدئتها وقد لاحظ اندفاعها الطائش نحو السرعة فهتف بنبرةٍ هادئة حازمة:


-عينك على الطريق، والمرايات يا حبيبتي.


لم تُصغِ إليه وضحكت بعفوية صافية:


-شغلنا عنبة ولا عصام صاصا يا يزون.


زفر بانزعاج وقال باشمئزاز طفولي ساخر:


-إيه؟! اشغلك إيه؟ اخرسي أنا مش هشغلك غير أغاني على مزاجي.


ضحكت بخفة وقالت مازحة:


-عندك حاجة للست؟!


لكنها انجرفت بيدها دون وعي بالمقود نحو اليمين، فتمكن يزن بمهارة من تعديل المسار ثم زمجر بقلق:


-كنا هنحصلها دلوقتي، فكك من الاغاني دلوقتي وركزي في اللي بقوله.


إلا أنها وبجنون مفاجئ تركت المقود تمامًا وصرخت بمرح طفولي:


-يزن أنا مبسوطة اوي.


أصابه الهلع لتصرفها الأحمق في ظل ضحكاتها، فـ للحظة  ندم على تلك الفكرة المجنونة، وأدرك أن حماسها الزائد قد يقودهما معًا إلى الهلاك، فاضطر لإيقاف السيارة على جانب الطريق بينما هي تحتج بلهفة طفولية:


-أيه ده، لا متوقفهاش، أنا عايزة اكمل!


فتح الباب لها وقال مبتسمًا بخوف واضح على السيارة:


-كفاية كده يا سيرا، يلا نروح....وبصراحة أنا مضمنش، العربية لازم ترجع سليمة.


تجمد وجهها بخيبة أمل حزينة، فهزت رأسها باستسلام وهمت بالنزول، لكنه فاجأها وهو يغلق الباب مجددًا ويجذبها نحوه بعنف رقيق، يهمس بتهدج صادق:


-تتحرق عربية سليم ولا أنك تزعلي يا روح قلبي، يلا نخربها.


ابتسمت له بعينين تلمعان حبًا، وقد أدركت كم ضعف أمامها، فأرادت أن تعبر عن امتنانها، فقبلت رأسه بخفة ولكنه اندهش حتى ضحك قائلًا بسخرية لاذعة تخفي ارتباكه:


-هو انتي بتبوسي أبوكي يا سيرا، وشي قصر معاكي في حاجة؟!


ضحكت وهي تضربه فوق يده بخجل مصطنع:


-احمد ربنا، ويلا انزل عشان أنت مضيق المكان عليا، وعايزة اسوق براحتي.


رمقها باستنكار ساخر وضغط بجسده عليها أكثر حتى التصقت بالمقود:


-اتنيلي هو انتي عارفة تسوقي وأنا جنبك لما ابعد عنك، وبعدين أنا أساسًا قتيل القعدة واللحظة دي، عاجبك على كده تمام مش عاجبك، هروحك ولا يفرق معايا دمعة ولا زعل منك.


لكن بعد لحظات استسلم لرغبتها، وجلس في المقعد المجاور يراقبها برعب مكتوم، فقد بدا واضحًا أنها متهورة أكثر منه، فأمسك رأسه بيديه وهو يلعن في نفسه ضعف قلبه أمامها، وابتسامتها البريئة التي كانت كفيلة بأن تُسقط أقوى إرادته…


-ابعدي عن الرصيف...ابعدي عن الرصيف.


لكن السيطرة أفلتت من يديها في لحظة خاطفة، إذ لم يتمكن يزن من الإمساك بالمقود في الوقت المناسب، فارتطمت السيارة بحافة الرصيف بعنف صاخبٍ، ارتد صداها في الطريق الخالي، مما أدى إلى اندفعها قليلًا إلى الأمام قبل أن تتوقف تمامًا، فساد الصمت المكان لثوانٍ بدت طويلة كالعمر.


كانت سيرا ترتجف في مقعدها ونظراتها شاردة، ثم ابتعدت ببطءٍ عن المقود، تتحسس جسدها في حيرة طفولية، قبل أن تلتفت إليه بخجل واضح وتهمس بصوت واهن:


-أنا الحمد لله كويسة.


لكنها كعادتها قابلت انفعاله بابتسامة بريئة تذيب غضبه دون أن تدري، ثم فتحت الباب بهدوء كأن شيئًا لم يحدث، وهبطت من السيارة بخفة تتنافى مع الموقف، لتلتف حولها وتتوجه نحوه قائلة ببراءة لا تحتمل:


-يلا يا يزون انزل روحني عشان زهقت.


حدق فيها بدهشة مذهولة بين الغضب والضحك واليأس، ثم أطلق تنهيدة طويلة وهو يتمتم ساخرًا في سره:


-أنا واحد أهبل أساسًا.


                              ****


عاد الاثنان أخيرًا إلى المنزل والصمت يخيم بينهما كاتفاقٍ غير معلن، حيث جلست سيرا طوال الطريق مطرقة الرأس، تتجنب النظر إليه بينما اكتفى يزن بقبض يده على المقود في صمتٍ متوتر.


وحين توقفت السيارة أمام البوابة، همت سيرا بالنزول لكنها توقفت فجأة وقد لاحظت شروده، فالتفتت نحوه وسألته بقلق صادق:


-مالك يا يزن سرحان في إيه؟


تنهد بقلة حيلة وهو يردد ساخرًا:


-بفكر انام فين عشان اللي سليم هيعمله فينا بعد ما يشوف عربيته.


رفعت حاجبيها بدهشة مصطنعة وهي ترد ببرود طفولي ساخر:


-إيه فينا؟ ليه هو أنا مالي!، أنا ماليش دعوة، تصبح على خير.


ثم فتحت الباب وغادرت بخفة متعجلة، تركته يحدق في إثرها بذهول مشوب بالضحك واليأس،

ثم أطلق ضحكة قصيرة يائسة، ولكن جاءه اتصال من قبل نوح يخبره بولادة يسر، فأسرع بالذهاب إليه بعدما استمع إلى صوته المرتجف.

                        ****


قبيل أذان الفجر خيم السكون على أروقة المستشفى، لا يُسمع سوى أزيز الأجهزة ونبض الصغير الذي وُضع في الحضّانة فور ولادته،

فكان نوح يقف بجوار الزجاج الشفاف، شارد النظرات وإلى جواره يزن يتأمل المشهد بصمتٍ خاشعٍ، وكأن أنفاس الطفل الصغيرة تُعيد ترتيب فوضى الأيام في قلبيهما.


ابتسم نوح بخفة حين رأى صدر الصغير يعلو ويهبط بانتظام مطمئن، ثم همس وهو يزفر بارتياح خافت:


-الحمد لله بيتنفس كويس.


تذكر كيف أقنع يسر بصعوبةٍ ودموع كثيرة من قبلها بضرورة وضع الطفل في الحضّانة، وكيف استسلمت أخيرًا بعد إرهاق طويل فغلبها النوم تحت تأثير المهدئات.


فالتفت إلى يزن وسأله بصوتٍ واهن تتخلله لمحة انكسار لم يجد إخفاءها:


-شبهي صح؟


رفع يزن حاجبيه مستغربًا ثم ابتسم بسخرية رقيقة وهو يجيب:


-هو باين له ملامح يا نوح أساسًا


ابتسم نوح ابتسامة واهنة تحمل في طياتها شيئًا من الألم ثم قال بشرودٍ متعب:


-اهو بصبر نفسي بكلام المفروض اسمعه من اللي مني يا يزن، مش هما أهل الاب بيقولوا كده بردو.


لم يُجب يزن بل مط شفتيه بضيق واضح، فكان يعلم كم الآلام التي يسببها له جفاء أهله، الذين لم يأت أحد منهم رغم أنه أخبرهم بنفسه بولادة حفيدهم، فتنهد وقال بهدوء محاولًا التخفيف عنه:


-كويس إن محدش جه منهم، عشان أهل يسر ميضايقوش، وكمان انت شايف يسر تعبانة ازاي!


هز نوح رأسه بتفهم صامت ثم عاد بنظره إلى الحضّانة، يراقب صغيره بشغف، ولكن فجأة اخترق السكون صوت مألوف حمل معه مزيجًا من الدهشة وقليل من الحنان:


-حمد لله على سلامته يا ابني، هو فين؟


استدار نوح بدهشة ليجد والدته واقفة على عكازها، وبجانبها أحد الجيران الذين استعانت بهم لتصل إلى المستشفى بعدما رفض أبناؤها الآخرون المجيء بحجج واهية، تقدم نحوها بسرعة وقبل يدها بعاطفة مترددة وهو يقول مبتسمًا بضعف:


-اهو هناك.


نظرت حيث أشار فرأت المهد الصغير والطفل الغافي فيه، فتبدلت ملامحها إلى الجمود وسألت بهدوء لا يخلو من فضول:


-هتسميه إيه؟!


أجاب نوح بثقة دافئة وهو يبتسم بنعومةٍ تعبر عن امتنان خفي:


-آدم...يسر عايزة تسميه آدم.


انعقدت شفتاها بامتعاض خفيف ولم تُعلق، لكن نظرتها حملت كل ما لم تقله، أما هو فظل يكرر الاسم بحب:


-آدم نوح الشاذلي.


                          ****


في صباح اليوم التالي عاد يزن إلى المنزل بعد ليلةٍ طويلة قضاها برفقة نوح في المشفى، دخل من بوابة البيت بخطوات مرهقة ووجه يحمل ظلال التعب والسهر، إلا أن ما رآه في نهاية الحديقة أيقظ في داخله يقظة مفاجئة، فكان هناك فوق أحد الأدراج الخشبية دهب تجلس في استرخاء وبرود، تعطي ظهرها للحديقة بأكملها بينما تتحدث في الهاتف بنبرة لا تخلو من الحدة، فقالت بغيظ ظاهر:


-معرفش أنا أساسًا مش طايقاها ولا طايقة الكلام معها.


سكتت لحظة تستمع للطرف الآخر، ثم أردفت بصوت أكثر انخفاضًا لكنه ملئ بالحنق:


-بقولك لا مش مديني وش وبيكلمني بقرف، وخالتو عايشة الدور اوي، والله اقدر اقلب ماما وجدو عليها واضايقها اكتر.


تجمد يزن في مكانه وقد انعقد حاجباه بامتعاض واضح حين سمع اسم سيرا يُذكر في حديثها، فازداد وجهه عبوسًا وتقدم خطوة نحوها، لكن صوته خنقه الغضب قبل أن يخرج، بينما هي واصلت حديثها بلهجة متبرمة:


-أنا القعدة هنا بدأت أساسًا تخنقني، ويزن ده أنا مش طايقاه، بيزعقلي عشان خاطرها، والله ولا يستاهل أعجب بواحد زيه أساسًا.


أوشك يزن أن يتدخل ليوبخها، غير أنه توقف حين سمع ضحكتها الخفيفة، تلك الضحكة التي اتخذت منها السخرية لباسًا، فكانت تهز رأسها في لا مبالاة، وهي تقول:


-لا مقدرش ياستي أعمل كده، ما تروحي الفرح من غير دهب، هي عدت مرة والحمد لله عرفت ارجع الشبكة تاني، وبعدين خلاص هي بقت مراته مظنش أنها ممكن تخاف بسبب حاجة زي دي، يزن ده مدلعها على الآخر.


حينها فقط اتضح ليزن أن اختفاء الشبكة كان بفعلٍ أحمق من تلك الفتاة المتهورة، وأنها لم تفعل ذلك إلا بدافع الغيرة الطفولية لكنه بدلاً من الغضب الصريح، اكتفى بابتسامة باردة على شفتيه، وقرر في نفسه ألا يمر الأمر مرور الكرام، وأنه يجب أن  تعرف والدتها ما جنته تربيتها المتساهلة، لتتولى تأديبها بنفسها، فكان في أعماقه غليان مكتوم، ليس لأنها خططت لتفاهة كتلك بل لأنها تجرأت على ذكر سيرا بنبرة تقلل من شأنها.


رفع نظره إلى السماء زفرًا ثم مضى إلى داخل المنزل تاركًا وراءه تلك المراهقة العابثة، باحثًا عن حبيبته التي لم يجد في نقائها مثيلًا، وما إن دخل حتى رآها جالسة في صالة المنزل بجوار شمس، وقد بدت عليها علامات الخوف والارتباك، فيما كانت عيناها تتحركان بخفة نحو سليم الذي وقف أمامه بملامح صارمة وصوتٍ خشن:


-هو انت اخدت عربيتي امبارح؟


ابتلعت سيرا ريقها في توتر، تائهة بين رغبتها في الرد وخوفها من خطأ في الكلام، فحاول يزن التدخل لتبرير الموقف لكن سليم رفع يده مقاطعًا بغضب مكبوت:


-واوعى تكذب أنا شايفك في الكاميرا انت وسيرا ماشيين بيها بليل.


تسارعت أنفاس سيرا واتسعت عيناها رعبًا وهي تنظر إليه غير مصدقة، ثم قالت بحماقة بدت في صوتها المرتجف:


-شوفتني أنا يعني! يمكن مكنتش أنا!، أصل أنا فاكرة أخر حاجة كنت نايمة.


شهقت شمس بصوت مصطنع يعكس دهشة تمثيلية وهي تقول:


-مش معقول طلعتي بتمشي وانتي نايمة يا حرام، معلش معلش فداكوا يا حبيبتي.


ثم نهضت بسرعة وجذبت سيرا من يدها محاولة إنهاء المشهد المحرج، والتفتت نحو سليم قائلة بنبرة تحمل العتاب:


-خلاص يا سليم البنت طلعت بتمشي وهي نايمة، يلا هندخل احنا نجهز الفطار عشان نهى وخالد جايين.


نظر إليها سليم بغيظٍ شديد من تصرفها المستخف، ثم أدار وجهه عنهم وقد احتقن غضبًا، وما إن التفت حتى فوجئ بيزن ينظر إليه بابتسامة خبيثة، تزينها ملامح البراءة المصطنعة:


-شفت على طول ظالمني، وأنا كنت بعمل عمل إنساني في الآخر.


زم سليم شفتيه ورد بعصبية وشك:


-انت كنت مخلياها تسوق عربيتي، أصل مش معقول تكون انت اللي خبطتها، انت مش غشيم كده!!


ضحك يزن باستهتار وهو يربت على كتفه قائلًا:


-فاداها يا سليم، مالك مضايق ليه كده؟ هعوضك وهجبلك عربية زيرو بس متخوفهاش كده تاني، إيه يعني خبطتها الدنيا هتتهد، عادي خبطة والسلام.


اقترب منه سليم بخطوات غاضبة وصوت منخفض لكنه حاد:


-واقسم بالله لو مابعدتش حالاً من وشي، لهتشوف تصرف مش هيعجبك.


اكتفى يزن بابتسامة جانبية ورفع حاجبيه بتحد، ثم دار على عقبيه يسير في فخر مصطنع، كطاووس يتبختر بعد نصر صغير على خصمه، تاركًا خلفه سليم يغلي غيظًا.


                              ****


استفاق فايق مفزوعًا على صوت رنين هاتفه،  فتح عينيه ببطء ورأى على شاشة الهاتف رقمًا غريبًا، تلعثم للحظة قبل أن يفترض أن المتصل قد يكون والدته، فحمل الهاتف إلى أذنه ورد بحذر:


-الو.


رد صوت منهك ومُتعب من الطرف الآخر:


-ايوه يا فايق.


فكان ذلك صوت سامي الواهن يتحدث بصعوبة، تسمر فايق وانتفض من فوق الفراش المتهالك، حيث كان يختبأ في إحدى الغرف الشعبية في منطقة عشوائية في محافظة قريبة من القاهرة.


-انت معايا يا فايق؟


عاد صدى صوت سامي يقذفه إلى الواقع فأجاب بقلق واضح:


-آآ..اه، انت فوقت امتى؟


-فوقت من شوية وعرفت باللي حصل، أنا عايزك تيجيلي بسرعة.


تلعثم فايق مستفسرًا:


-وده ليه ان شاء الله، اجيلك ليه؟


سمع فايق نفس الصوت يرتعش أكثر هذه المرة، وكلمات سامي تنساب بين الاحتضار والتهديد:


-تيجي عشان أنا مش هروح فيها ببلاش يا فايق، أنا اتفقت مع الممرضة والدكتور مايقولش حاجة للشرطة لغاية ما انت تيجي وتجيب معاك ٣٠٠ الف جنية، ٢٠٠ الف ليا، و١٠٠ الف للمرضة والدكتور عشان اضمن سكوتهم.


ارتفعت نبرة فايق فجأة بين السخرية واليأس:


-انت عبيط هو أنا لو حيلتي ٣٠٠ الف كنت اعرف واحد زيك.


صمت سامي لحظة ثم ضبط صوته بما يشبه التسوية:


-خلاص أنا هقولهم على كل حاجة، مع أني كنت ناوي اشيلها لوحدي وابعد أي تهمة عنك.


تردّد فايق لبعض الثواني ثم أجاب محاولًا كسب الوقت وربما تخفيف الصدمة:


-طيب طيب، سيبني بس يومين ادبرلك المبلغ.


-لا...اخرك معايا بكرة، وان مجتش هقول كل حاجة للظابط.


تخطى قلبه صدره من شدة الخوف، وشعر بثقل القرار يسقط عليه كصخرة، أنهى المكالمة وهو يحدق في السقف المتهالك وفمه يأن من فكرة أن حياته قد تنقلب بين لحظة وأخرى بسبب ابتزازٍ جعله يتأرجح بين الخوف والغضب واليأس.


ولكنه ارتمى حيث الخلف وقال بنبرة خافتة وقد

أعماه الشيطان:


-مكنتش ناوي اعملها يا سامي، بس انت اللي هتضطرني!

                              ****

انتفضت حسناء من على مقعدها الخشبي بغيظ بعدما جفاها النوم ليلة أمس، خاصةً بعد توبيخ والدتها لها حين عادت ووجدتها تتألم من شدّة الصفعات والضرب، نظرت في هاتفها بحقد:


-دي خلفت.. كاتب الحمد لله رزقني بآدم؟!


ضحكت والدتها ضحكات متقطعة ساخرة:


-يا فرحة أمك بيكي بجد، اهو سكتي على ضربهم ليكي عشان فاكرة إنك هتاخدي عنده بونطة، اهو اداكي على قفاكي.


ثم نهضت والدتها وهي تشير بإصبعها بلهجة صارمة:


-بت انتي، فكك بقى من الدكتور الغبرة ده، وخلصينا من القرف ده وروحي شوفيلك مكان تاني تشتغلي فيه، أصل الموضوع ده بوخ اوي، والواد ده مش سالك من ناحيتك وبكرة تقولي أمي قالت.


أنهت والدتها كلامها بنظرة حادة، ثم غادرت تاركة حسناء جالسة على المقعد، تغليها الأفكار وتخطط في صدرها طرق الانتقام بعدما بدت خطتها للمرة الألف قاصرة عن تحقيق مبتغاها!

                              ***


ليلاً...


كانت المشفى غارقة في صمت ثقيل، ألقى فايق نظرة حذرة حوله قبل أن يترجل من سيارة الأجرة ويشد معطفه الطويل على جسده، وقد انعكست على وجهه ملامح التوتر الممزوجة بعزيمة خبيئة.


دخل المستشفى بخطوات وئيدة يرافقه ممرض شاب بدا عليه الارتباك، كان قد أغراه فايق بمبلغ مالي كبير مقابل مساعدته في التسلل إلى غرفة سامي دون أن يثير شك أحد من الحرس أو الطاقم، تردد الممرض في بادئ الأمر، لكنه وافق في النهاية.


قاد الممرض فايق عبر ممرات طويلة صامتة، تتعالى فيها أنفاس الأجهزة وتفوح منها رائحة المعقمات الباردة، وما إن وصلا إلى الطابق الذي ترقد فيه غرفة سامي حتى توقف الممرض عند المنعطف وقال بصوت خافت وهو يرمق المكان بقلق:


-أنا هقف لغاية هنا، عشان أنا ممرض في قسم النسا والتوليد، وهيشكوا فيا، ادخل انت ومتكلمش حد عشان العساكر متشكش فيك.


أومأ فايق برأسه بتفهم بارد، ثم شد الكمامة على وجهه تقدم بخطوات ثابتة كأنه طبيب يعرف طريقه عن ظهر قلب، تجاهل نظرات العساكر المرابطين عند الباب، ومد يده ببطء إلى المقبض، ففتح الباب في سكون غامض وانساب إلى الداخل.


كانت الغرفة غارقة في ضوء خافت ينبعث من مصباح صغير عند رأس السرير، فكان سامي مستلقيًا فوق الفراش الأبيض، أخرج من جيبه قطعة قماش مبللة، وبدأ يقترب بخطوات متأنية تشي بنية آثمة كذئب يقترب من فريسته دون أن يُصدر صوتًا.


حين رفع القماشة فوق وجه سامي، انتفض الأخير فجأة وقد أدرك الخطر فحاول إبعادها بكل ما تبقى فيه من قوة، واشتبك الاثنان لحظاتٍ قصيرة، لكن فايق شد قبضته بعنف وأطبقها على فم سامي حتى كاد الأخير يختنق، وفجأة اخترق الصمت صوت بارد من خلفه:


-تحب اساعدك؟


تجمد فايق في مكانه وارتجف جسده للحظة وهو يلتفت ببطءٍ نحو مصدر الصوت فوجد رجل يقف عريض المنكبين يضع يديه في جيبيه وينظر إليه بابتسامة مستفزة تحمل مزيجا من الثقة والتهكم،

فعرفه على الفور إنه زيدان شقيق يزن خطيب سيرا.


سقطت القماشة من يده كأنها جمر أحرق أصابعه، وتراجع خطوة إلى الوراء محاولًا تبرير وجوده بكلمات لم يستطع نطقها.


فاقترب زيدان منه ببطء وثبات لا يخلو من التهديد، وقال بصوت هادئ يحمل في طياته سخرية حادة:


-مكنتش متوقع تيجي بالسرعة دي يا فايق!!


نظر فايق إلى سامي الذي بدأ يسعل بشدة، وقد استعاد وعيه شيئًا فشيئًا، ثم لم يكد يلتقط أنفاسه حتى دوى صوت الأبواب تفتح على مصراعيها، وامتلأت الغرفة فجأة برجال الشرطة والضباط، وفي مقدمتهم كان الممرض ذاته يؤدي التحية العسكرية لزيدان قائلاً بثقة:


-أي أوامر يا باشا، أنا تحت أمر الحكومة.


رفع زيدان يده مشيرًا إليه أن يتراجع، ثم أدار بصره إلى فايق الذي بدت على وجهه ملامح الصدمة والذهول، فكان يحاول أن يستوعب ما جرى...وكيف تحول من صياد إلى فريسة محاصرة؟


 قاطع سامي سعاله بكلمات غاضبة وهو يرمقه بحدة ملتهبة:


-بقى كنت عايز تموتني يا ***، الباشا طلع عنده حق في كل كلمة.


أطلق زيدان ضحكة قصيرة متهكمة، واقترب من فايق حتى صار بينهما شبر واحد، وقال بنبرة صارمة تقطر ازدراء:


-كل حلفاؤك خانوك يا ريتشارد.


أطرق فايق رأسه وقد انطفأ في عينيه بريق الغرور الذي طالما ميزه، فيما تابع زيدان ساخرًا:


-حلو تهمة جديدة تتضاف ليك يا حلو الشروع في قتل زميلك.


ثم التفت نحو العساكر قائلاً بصوت جامد حاسم:


-خدوه.


وما إن أطبقت الأصفاد على معصميه حتى بدا فايق كظل مكسور يساق نحو نهايته، فيما ظل زيدان واقفًا مكانه ينظر إليه بنظرةٍ تجمع بين الانتصار والاشمئزاز، وأخيرًا قد طوى صفحة أرهقت عقل أخيه.

                            ****

 في اليوم التالي...


تألق منزل آل الشعراوي بأنوارٍ مضيئة وأصوات الاغاني التي انطلقت احتفالًا بسليم ابن نهى وخالد، إذ قرر سليم إقامة السبوع على عجل بسبب رغبة خالد الذي أراد العودة سريعًا إلى مرسى مطروح.


اجتمعت العائلتان؛ عائلة سيرا بأكملها وعائلة الشعراوي، في جو من الألفة والبهجة، بدا الاحتفال بسيطًا في مظاهره لكنه غامر بالمحبة والدفء، جلست نهى وسط الجميع تتلقى كلمات التهنئة وعبارات المودة، بينما لا تفارقها ابتسامة الرضا، لقد حظيت باحترام خاص من الجميع، ولا سيما بعدما أطلقت على طفلها اسم سليم، وهو الاسم الذي رن في القلوب قبل الآذان، فكانت الهدايا الفاخرة تتوالى عليها.


وفي الجهة الأخرى من الصالة كان يزن يتحرك بخفة وبهجة غير معتادة، يتابع خطوات سيرا بعينين يملؤهما الحب والفخر، بينما هي كانت أيضًا في أوج سعادتها، خصوصًا بعد أن أبلغهم زيدان بالقبض على فايق، فزالت الغمة التي خيمت طويلًا على حياتهم، وأخيرًا بات بإمكانها أن تلتقط أنفاسها بحرية.


وها هي تستعد للعودة مع عائلتها في مساء اليوم، لذا اقتربت من يزن بخجل محبب، وقالت بابتسامة هادئة تشعل صفاء:


-يزون... بعد ما يخلص السبوع أنا هارجع معاهم.


أومأ يزن بتفهم وهو يحدق في عينيها بحنو صامت، لكنها أسرعت تتابع حديثها وقد احمرت وجنتاها:


-وبكره تيجي تاخدني أنا وفاطمة، نروح نزور يسر شوية، نقعد معاها لغاية ما ابنها يقوم بالسلامة، لازم نخفف عنها بردو.


أشار يزن إلى عينيه مبتسمًا وقال بلطافة محبة:


-من عنيا يا قلبي.


ترددت لحظة ثم تجرأت وأمسكت يده لتقوده إلى زاوية بعيدة عن الضوضاء، نظرت إليه بعينين تملؤهما الامتنان وقالت بخفوت دافئ:


-شكرًا على كل حاجة...وعلى وجودك جنبي.


ارتسمت على وجهه ابتسامة امتزج فيها الحب بالعطف، ثم رفع كفها برفق إلى شفتيه، وقبلها قبلة طويلة خاشعة، وهو يهمس بصوت متهدج من فرط الصدق:


-أنا اللي المفروض أشكرك...من غيرك كنت هفضل تايه زي ما أنا.


كادت سيرا تفلت من شفتيها كلمة طالما خبأتها في صدرها، اعترافًا خجولًا كان يطرق قلبها ليل نهار، لكنها توقفت بغتة حين انفتح الباب الصغير المقابل لهما، وظهرت حورية أمامهما بهدوء لم يخلو من الغموض.


قالت بصوت رزين وهي تبتسم نصف ابتسامة:


-سيرا...إزيك؟ دورت عليكي كتير.


نظرت سيرا إليها بدهشة لا تخفى، فبادرتها حورية بتوضيحٍ لطيف:


-مليكة عزمت شهيرة أختي وعزمتني كمان، فقولت أجي أشوفك وأسلم عليكي... وأباركلك على كتب الكتاب.


تدخل يزن بصوت خشن وهو يحكم قبضته حول يد سيرا في تملك واضح:


-الله يبارك فيكي مكنتيش تتعبي نفسك.


تجاهلته حورية تمامًا ووجهت بصرها نحو سيرا بجدية مفاجئة وقالت:


-كنت عايزة أكلمك في موضوع مهم لوحدنا.


طال صمت سيرا لحظة قبل أن ترفع عينيها نحو يزن في إشارة واضحة أن يترك لهما بعض الخصوصية، ورغم ما يشعر به من ريبة تجاه حورية وتاريخها المليء بالهجوم والغيرة، إلا أنه قرر الانصراف واكتفى بنظرة تحذيرية سريعة ثم خرج بهدوء.


وما إن تجاوز الباب حتى اعترضت طريقه حكمت، شقيقة سيرا، وقد بدا على وجهها عبوس غاضب، وهي تقول بسخطٍ واضح:


-هي مقصوفة الرقبة دي عايزة من أختي إيه؟


فتح يزن فمه ليجيبها لكن عينيه انزلقتا إلى الداخل حيث لمح دهب ابنتها تحدق في خالد زوج نهى بنظرات حالمة مراهقة، رفع حاجبيه في اندهاش مشوب بالضيق مستغربًا من سرعة تقلب مشاعر تلك الفتاة الصغيرة.


زفر ضجرًا وقال لحكمت بنبرة جادة غلفها التوتر:


-سيبك من مقصوفة الرقبة دي...أنا عايزك في موضوع مهم، تعالي معايا الجنينة بره نتكلم براحتنا.


تهلل وجه حكمت بحماسة فضولية، وقالت وهي تلاحقه بخطواتٍ متسارعة:


-آه، طبعًا... أوي أوي!


وصلا إلى الحديقة الصغيرة، فجلست على درج خشبي عريض يطل على الممر، ثم مالت نحوه بعينين لامعتين وسألته بفضول متقد:


-ها؟ الموضوع بخصوص مين؟ سيرا؟


ابتسم يزن ابتسامة خفيفة وقال بجدية مقصودة:


-لا... بخصوص دهب بنتك.


اتسعت عينا حكمت دهشة، وهي تحاول استيعاب ما يقصده، فيما ارتسمت على شفتي يزن ابتسامة متحفظة تخفي وراءها كلامًا لم يُقل بعد..

__________________


قراءة ممتعة ♥️😍

تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااا


تعليقات

التنقل السريع
    close