القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية غناء الروح الفصل الخمسون 50بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)


رواية غناء الروح الفصل الخمسون 50بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)





رواية غناء الروح الفصل الخمسون 50بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)



الفصل الخمسون ." الأخير".


رفعت حكمت وجهها الذي بدا متراقصًا بين إمارات الصدمة والخذلان، وقد انكمشت ملامحها تحت وطأة الكلمات التي ألقاها يزن عليها كالسهام، كل جملةٍ نطق بها كانت كطعنة تُغرس في صدرها، تذكرها بأن ما ربته بيديها قد بدأ يتفلت من قبضتها، كانت تشعر بأن الأرض تميد تحتها، وأن ثقل الهزيمة يجثم فوق أنفاسها.


فلم تعد تلك المرأة الصلبة التي كانت تبني حول نفسها أسوار الهيبة وتفرض سلطانها بالكلمة والنظرة؛ بل بدت الآن ضعيفة ومتهالكة كمَن انهار داخله حصن قديم.


تنهد يزن طويلاً وهو يتأمل حالها، ثم قال بصوت مائل إلى الهدوء، يختار كلماته بعناية كما اعتاد أن يفعل دائمًا:


-بصي أنا مش عايزك تتصرفي تصرف يبعدها عنك أكتر، دهب محتاجة حد يحتويها ويقرب منها، كل بنت في سنها معرضة لكده، وصدقيني أنا قابلني بنات كتير زيها، أنا لو مش بحبها زي اختي الصغيرة، وانتي ليكي معزة خاصة عندي مكنتش هتكلم أبدًا.


أشارت حكمت إلى نفسها بحركة واهنة، وارتعشت يدها وهي تقول بصوت خافت كأنه يخرج من أعماق انكسارها:


-أنا مقصرتش معاها في حاجة وكل اللي هي بتتمناه عملتولها واللي اتحرمت منه حاولت اعوضها بيه.....


ثم أطبقت شفتيها وصمتت وكأنها تنصت لصوت خفي في داخلها يذكرها بأن الحب لا يُقاس بما يقدم من أشياء بل بما يمنح من دفءٍ وإنصات.


جلس يزن بجانبها وألقى نظرة طويلة على وجهها المتعب ثم قال برزانةٍ وصدق:


-أنا عارف إنك أم عظيمة، بس دي مشكلة جيل ومراهقات، وممكن تكوني موفرلها كل حاجة، بس هي ناقصها اللي يسمعها ويشوف مين صحابها وبيئتهم عاملة إيه، دي حاجة مهمة جدًا.


توقف لحظة ثم أضاف بنبرة هادئة:


-فكري في كلامي كويس وأنا متأكد إنك هتعرفي تحتويها كويس.


رفعت رأسها ببطء كأنها تنتزع نفسها من غرق داخلي ثقيل، وأخذت أنفاسًا طويلة تشق صدرها المتعب، ثم رفعت بصرها إلى السماء، كأنها تستمد منها صبرًا أو إجابة، وهمست بصوت متقطع ممزوج بالحيرة والخذلان:


-تسرق الشبكة! حرامية!


أطرق يزن رأسه بيأس ثم أدار نظره بعيدًا، كأنه يحاول الهرب من مشهد يؤلمه، وذلك بعدما أدرك أن الفتاة الصغيرة على وشك أن تدفع ثمن خطأ لا يليق بعمرها، لكنه شعر ببعض الراحة لأن والدتها بدأت تسمع وظهر بوادر إدراكها، وربما يكون هذا الإدراك هو الحاجز الأخير قبل أن تنزلق دهب نحو هاوية لا قرار لها.


نهض من مكانه وألقى نظرة أخيرة عليها فكانت ما زالت غارقة في دهشتها، ثم مد يده نحوها قائلاً بنبرة حانية تحمل بقايا الأمل:


-تعالي ندخل جوه يلا، لازم اتطمن على سيرا قبل ما حورية تاكلها.


هزت رأسها بالنفي وهي تحاول رسم ابتسامة هزيلة فوق ملامحها الشاحبة، وقالت بصوت مبحوح كأنه يتكئ على بقايا كبريائها:


-روح انت وأنا جاية وراك.


بقيت لحظة بعد رحيله تحدق في الأفق البعيد، بينما كانت دموعها تتردد بين الانسياب والتجمد، شعرت بأن الليل أثقل من أي وقت مضى، وأن قلبها بات يشبه بيتًا قديمًا أُطفئت أنواره فجأة، ولم يبقَ فيه سوى أم تحاول أن تفهم أين أخطأت، وكيف يمكنها أن تبدأ من جديد قبل أن تفقد ابنتها إلى الأبد.


استسلم يزن لصوتها ثم عاد إلى الداخل باحثًا عن سيرا التي اختفت مع حورية، لكنه فوجئ بمليكة تقف عند الباب بابتسامة صافية تحمل في كفها مشروبًا غازيًا مثلجًا، مدته إليه فأخذه واحتسى منه القليل وقد بدى على وجهه شيء من الانضباط الممزوج بالعتاب:


-عزمتي حورية ليه يا مليكة؟


رمشت بأهدابها مرارًا تحاول استيعاب السؤال، ثم تهادت ابتسامتها واختل توازن كلامها كما تفعل دومًا حين تُفاجأ بأسئلة لا تعد لها جوابًا جاهزًا:


-أنا عزمتهم لما سليم قالنا نعزم حبايبنا، فـ....


توقفت لحظة ثم أضافت بارتباك وارتبكت كلماتها:


-انت متضايق ليه؟ 


كانت نظراته جامدة ونبرته تشي ببحة شبة حادة غير التي اعتادتها منه، فأجابها بصراحة قاطعة تبرق فيها مشاعره:


-متضايق عشان مبحبش وجودها جنب سيرا، ولا وجودها في حياتي، هي شخصية فضولية وبتحب تحشر مناخيرها وتنظر على حياة الناس رغم إنها مليانة عيوب، سمعت منك كلمتين عني وخلاص كونت فكرتها عني وأني قد إيه شخص وحش وزفت ومستاهلش اعيش واحب واتجوز، وعايزني افضل في نفس الخانة لمجرد إن وجهة نظرها تطلع صح.


علت الصدمة وجهها فرفعت يدها تجاه نفسها مشيرة بصدق أنها لم تتجاوز حدها، وقالت متلعثمة دفاعا عن نفسها:


-أنا والله عمري ما حكيت معاها عنك في حاجة يا يزن، ولو كنت اتكلمت عنك فكان لشهيرة اختها ودايمًا كنت بقول عنك كل خير، يمكن...يمكن...


توقفت لتلتقط أنفاسها وتحاول صياغة اعتذار يُطفئ غضبًا لم تقصد إشعاله ثم همست:


-أنا أسفة بس والله ما كنت قاصدة ابوظ صورتك، أنا هتكلم معاها وافهمها كويس...


رد عليها بصرامة أدهشتها:


-لا....اوعي هي أساسًا والله متهمنيش، كل اللي يهمني هي سيرا ووجودها في حياتي وبس، انتي لو هتقوليلها حاجة....قوليلها تبعد عن مراتي وتخليها في حياتها.


انخفضت عيناها خجلًا وأمسكت رأسها بخفة؛ ولكن بعد لحظة عادت دعابة يزن الشهيرة تستقر في نبرته:


-أنا همشي بقى، عشان دراكولا بتاعك داخل علينا وشكله هيولع فيا.


ابتسمت هي ابتسامة حائرة وهو يبتعد، حتى وجدت نفسها بين جدار ووجود زيدان الذي ظهر حاملاً سليم الصغير يهزه برفق يناقض ملامح البرود التي غابت عن وجهه عادة:


-يزن ضايقك في حاجة؟


هزت رأسها نافيةً وردت بابتسامة مهتزة:


-لا خالص بالعكس أنا اللي كنت بضايقه وأنا ماعرفش.


تثاقل حاجب زيدان استغرابًا ثم التقط الكلمات بقلقٍ:


-مفهمتش، يعني إيه ضايقتيه؟!


طمأنته وهي تختار ألفاظها بعناية:


-اهدى الموضوع بسيط هحكيلك عليه بعدين، هو بس طلب مني ابعد عنه حورية اخت شهيرة عنه وهو سيرا.


ضحك ضحكة ساخرة مختزلة بشيء من الامتعاض، ثم قال حديثه بغيظ:


-هو الواد ده مابيحسش، مشغلني أنا ومراتي تحت أمره، مش كفاية أنا ماشي عمال احل في مشاكله هو والبرنسيسة بتاعته.


اقتربت منه ومرت يدها على ذراعه محاولةً تلطيف حنقه ثم قالت بلطف وحنان:


-معلش يا زيدان ربنا يخليك ليه وبعدين أنا كنت غلطت في حاجة وضايقته وأنا ماعرفش بس هو لفت انتباهي.


ثم نظرت إلى شهيرة التي كانت مستغرقة في حديثها مع إحدى أخوات سيرا، زاد أنين الحزن في صدرها؛ فتنهد زيدان ثم جذبها إلى أحضانه بيده الأخرى، وقال بثبات خشن ملؤه الحماية:


-ضايقيه براحتك ولا يهمك وتعالي وأنا اللي هعمله لفت انتباه كل يوم، ده نهاره مش معدي عشان يزعلك.


مد يده الأخرى حاملاً الصغير سليم على صدره يهزه بلطف، رغم أنه من طبعه غير صبور، لمعت عينا مليكة بحب لهذا المشهد، إذ رؤيته يهون عن الطفل بهذا الاهتمام البسيط أثبت لها أنه يملك رقة تكفي لسقاية أطفاله حنانًا واسعًا، ابتسمت رغمًا عنها وتذكرت مشاهد الصراع التي وقعت قبل ساعات بينه وبين حكمت حول طقوس سبوع المولود وخصوصًا عادة ضرب الصحن الحديدي قرب أذن الطفل، حينها قال بغضبٍ يشي بابتسامته المشوبة بالتصنع:


-لا كده كتير، أنا مستحمل من الصبح بس كله إلا ودانه، أيه ياعم خالد انت لاقي ابنك في كيس شيبسي ولا إيه؟!


بينما كان سليم جالسًا بكل هيبةٍ وغرور على كرسيه، وقد وضع ابنته قمر فوق ساقه، فتمتم زيدان بتهديدٍ نصف مازح نصف جاد لسليم:


-وديني الولية دي لو مسكتتش لاسجنها حالاً، أنا فاض بيا.


انتفضت مليكة من غفوتها القصيرة، فإذا بصوتٍ حاد يشق سكونها، فما كانت سوى شمس التي قد اقتربت بخطوات سريعة وجهها مشتعل بالضيق، وصوتها يجلجل باللوم:


-انتي هنا يا مليكة وسايباني متبهدلة في المطبخ لوحدي.


تجمدت ملامح مليكة لحظة ثم أسرعت تبتعد عن زيدان كمن أمسك متلبسًا بذنب لا تعرف له اسمًا، لم تجرؤ على النظر في عينيه، فقط أزاحت جسدها بخفة ورحلت نحو المطبخ تُخفي ارتباكها خلف خطواتٍ متسارعة، فظل زيدان واقفًا مكانه، يتابعها بعينين تتقدان غضبًا وشيئًا من الغيرة المكتومة، حتى شعر باندفاع قوي على كتفه، جعله يستدير ليجد حكمت قد دخلت من الباب كعاصفة متجمدة، فكان وجهها قاسيًا وصلبًا، لا يشي إلا بالتحكم والغضب المكموم، وصوتها حين نطقت كان أشبه بانفجار مكتوم:


-وسع من قدامي.


توقف الزمن لحظة وانكمش المكان في عينيه، كأنه لم يعد يرى سواها وهي تمر كإعصارٍ من الجليد، فتح فمه ليُطلق ما كان يغلي في صدره، لم يعد يعبأ بعمرها ولا بمكانتها، ولا بصلة القرابة التي كانت دائمًا تكبله من الرد، لكن يدًا قوية هبطت فوق كتفه وأوقفته في مكانه فما كانت إلا يد سليم، الذي تقدم نحوه بخطوات محسوبة، وعيناه لا تحملان سوى الحزم، قائلاً بصوت منخفض، لكنه يحمل من الصرامة ما يكفي لإخماد نيران أخيه:


-معلش عشان خاطر اخوك.


لكنه كان مشتعلاً بالضيق من تصرف حكمت، فلم يستطع أن يمنع نفسه من التمتمة بانفعال حاد:


-والله اسجنها هي وأخويا انت بتقول إيه؟ إيه الست دي؟!


                                          ***


جلست حورية أمام سيرا في شرفة المنزل بعيدًا عن الضجيج القادم من الداخل، كان صمت سيرا الطويل كفيلاً بإشعال غيظ حورية، حتى أن كلمات الاعتذار التي أعدتها سلفًا تلاشت من ذهنها لتقول بنبرة عتاب لم تكن في محلها:


-انتي لسه زعلانة مني؟!


رفعت سيرا بصرها نحوها متعمدة الرد ببرود ظاهر:


-لا عادي كنتي عايزاني في إيه؟


زفرت حورية أنفاسها الملتهبة محاولة الحفاظ على هدوئها، ثم قالت بنبرة شبه حانقة:


-شوفت على الفيس إنكوا اتجوزتوا مبروك!


تبدلت ملامح سيرا من الوجوم إلى إشراقة حالمة، وقالت بسعادة صادقة:


-اه كتبنا الكتاب، بس لسه الفرح أكيد هعزمك.


نظرت إليها حورية بجدية وقالت بنبرة لا تخلو من القلق:


-واثقة من اللي انتي بتعمليه يا سيرا؟


وقبل أن تهم سيرا بالرد اقتربت منها حورية وخفضت صوتها قائلة بصدق وحرص واضح:


-أنا بس خايفة عليكي، انتي ماتعرفيش إيه مستنيكي؟....


رفعت سيرا حاجبيها باعتراض حاد وأجابت بنبرة غاضبة:


-إيه اللي مستنيني يا حورية؟! مش فاهمة الصراحة انتي عايزة توصلي لأيه؟ في عندك حاجة جديدة عن يزن غير اللي قولتيها، ولا هو هو كلامك لسه ماتغيريش!


نظرت إليها حورية بامتعاض وقالت بنبرة استفزازية:


-وهو اللي أنا قولته زمان مش كفاية إنك كنتي تهربي من الجوازة الشؤم دي!


ضغطت سيرا على أسنانها محاولة كبح انفعالها ثم قالت بغضب مكبوت:


-ومين قالك إنها جوازة شؤوم، يزن اللي مش عاجبك ده، أكتر راجل شوفته في حياتي عارف يعني إيه بنت ناس وبيعرف يصونها ويقدرها، انتي ماتعرفيش هو عملي إيه؟ ولا دافع عني ازاي؟ أنتي ماتعرفيش إيه اللي ما بينا ولا مرينا بإيه ولا هو وقف جنبي ازاي؟ لو سمحتي متجيش 

تديني دروس وتعلميني امشي حياتي ازاي!


نهضت حورية واقفة تنظر إليها بنظرة فيها شيء من التهكم، وعقدت ذراعيها أمام صدرها قائلة باستياء:


-من الواضح إنه عرف كويس يعملك غسيل مخ وعرف ازاي يسيطر عليكي؟


اقتربت سيرا منها غاضبة مشيرة إليها بحدة:


-هو انتي يزن مضايقك في إيه أنا عايزة أعرف بجد؟ أصل مش معقول هجومك عليه يا حورية؟ 


هزت حورية رأسها ساخرًة وقالت بابتسامة ممزوجة بالمرارة:


-كمان شكيتي فيا؟! وده كله عشان خاطره! يا بنتي أنا خايفة عليكي وعايزاكي تتجوزي راجل بجد.


صرخت سيرا بحرقة خرجت من أعماقها:


-ويزن راجل بجد يا حورية، وبعدين انتي مالكيش دعوة بحياتي ولا أنا بعمل إيه ولا هرتبط بمين؟ أنا كبيرة بما فيه الكافية واقدر اميز الشخصية اللي قدامي كويس، يزن ده أنا عمري ما هعرف أعوضه ولا أرد جزء من اللي عمله معايا، وعارفة كويس إنك مضايقة منه لمجرد إنه كمل معايا وأنا مسمعتش كلامك وفضلت معاه.


اقتربت منها خطوة إضافية وقالت بصوت منخفض صارم:


-حورية أنا مش هسمحلك تاني تقللي من يزن، ولا تتكلمي عليه بطريقة ماتعجبنيش، ولو سمحتي متجيش تاني وتتدخلي في حياتي زي ما أنا مبدخلش في حياتك.


نظرت إليها حورية باشمئزاز وقالت باستخفاف:


-بقيتي بجحة زيه، نجح إنه يخليكي نسخة منه.


ابتسمت سيرا بسخرية وأجابت بثقة:


-وليا الشرف يا حورية، سامعة أنا ليا الشرف إني أكون نسخة منه.


ثم تجاوزتها بخطوات حادة ولكنها توقفت عند عتبة باب الشرفة حين رأت شهيرة أخت حورية، تقف هناك تنظر إلى أختها بغيظٍ مكبوت، لكنها وجهت حديثها إلى سيرا بهدوء مصطنع:


-ازيك يا سيرا، الف مبروك يا حبيبتي.


أومأت سيرا برأسها مجيبة بلطف ظاهري:


-الله يبارك فيكي يا أبلة شهيرة.


ثم غادرت متجهة نحو قاعة الاحتفال، تاركةً شهيرة تغلي غضبًا وهي تمسك بذراع أختها وتقول بانفعال مكبوت:


-يلا هنروح والله لقايلة لماما وبابا على عمايلك السودة، عشان أنا مش صغيرة عشان اسمع كلمتين من مليكة وهي بتقولي ابعدي اختك عن يزن وحياته، وتهزقني بالادب عشان نقلت كلام وعملت ليها مشاكل، امشي قدامي دي شبه طردتني بالذوق.

                                        ***


انتهى الاحتفال أخيرًا وعادت عائلة سيرا إلى منزلهم وقد بدت على وجوههم علامات الإرهاق الممزوج بالرضا، إلا أن المفاجأة كانت في انتظارهم عند مدخل البناية،

فقد كانت والدة فايق تجلس على الرصيف أمام البوابة الحديدية شاحبة الوجه، متجهمة الملامح كأنها قضت الليل كله في البكاء والانتظار، وما إن أبصرت سيرا تترجل من السيارة برفقة يزن الذي أصر على إيصالها بنفسه، حتى اندفعت نحوها بخطوات متعثرة وهي تجهش بالبكاء، تمسك بذراعيها برجاء يائس أقرب إلى الجنون، فقالت بصوت مرتعش مبحوح من فرط الانفعال:


-سيرا حقك عليا يا بنتي، ابوس جزمتك طلعي ابني من الحبس.


ارتبكت سيرا وتراجعت بخطوة إلى الوراء محاولة الابتعاد عنها، إلا أن المرأة كانت تتشبث بها بقوة هستيرية، فاضطرت إلى قول بضع كلمات بتوتر ظاهر:


-أنا ماليش دعوة هو....


لكن والدة فايق لم تدعها تُكمل بل قاطعتها وهي تزداد تمسكًا بذراعها وتلوح برأسها يمينًا ويسارًا في يأس وارتباك:


-لا انتي السبب وخطيبك ده السبب، هو فايق اللي قالي كده.


تجمعت عائلة سيرا حولها بسرعة، وشعر يزن بخطر الموقف وبالخوف على سيرا التي ارتجفت من شدة الموقف، فتقدم منها بخطوة حازمة ومد يده ليحاوطها بذراعه، يجذبها خلفه بحماية واضحة ثم واجه المرأة بنظرة صارمة ونبرة حادة قائلاً:


-ابنك يقولك اللي هو عاوزه، هو دلوقتي مقبوض عليه بسبب مصايبه وسيرا مالهاش دعوة بأي حاجة بتحصله.


رفعت والدة فايق وجهها المبلل بالدموع نحوه، وردت بصوت واهن متهدج:


-لا هما سجنوه عشان هو وز واحد على سيرا، بس والله ما كانت نيته يأذيها.


ضرب والد سيرا كفًا بكف وقد بدا الغضب على ملامحه، وقال بحدة ممزوجة بالاستياء:


-يعني معترفة باللي ابنك عمله، بصي يا ست ام فايق احنا طول عمرنا جيران ولا عمرنا حصل بينا مشاكل إلا لما فايق قل بأصله مع بنتي كذا مرة، وأنا عن نفسي مش هنسى اللي عمله معاها ولا قهرة بنتي وخوفها منه كل مرة، فيا ريت تبعدي عننا وببلاش مشاكل حفاظًا على الجيرة.


كانت الأم تهم بالرد من فرط انكسارها، لكن يزن لم يمنحها تلك الفرصة إذ أمسك بذراع سيرا برفق وحزم في آن واحد، وحركها نحو باب البناية مبتعدًا بها عن تلك المواجهة المرهقة، تاركًا وراءه عائلتها تحاول تهدئة الموقف، بينما تصاعدت نبرة الجدال في الأسفل بين أم فايق وأهل سيرا، وارتفع صوت البكاء والتوسل منها حتى تلاشى في ضجيج الشارع.


وفي خضم تلك الفوضى كانت دهب تتابع مغادرتهما بعينين تضطرمان غضبًا مكتومًا، ولم تدرك أن والدتها كانت تراقبها هي الأخرى منذ أن علمت من يزن بكل ما أخفته عنهم، فارتسمت على وجه حكمت نظرة حذرة ممتزجة بالريبة.


صعد يزن وسيرا إلى الشقة في صمتٍ ثقيل والدهشة لا تفارق ملامحها، وقفت عند نهاية الدرج ثم رفعت نظرها إليه متسائلة بصوت خافت تغلفه الحيرة:


-ليه طلعتني فوق؟


اقترب منها يزن وأجاب بنبرة هادئة لكن قاطعة:


-عشان مش عايزك تتأثري بيها وخصوصًا إنها هي وابنها متربوش.


نظرت إليه سيرا بابتسامة رقيقة حاولت بها أن تبعث الطمأنينة في نفسه، وهزت رأسها نافية بلطف:


-لا مكنتش هتأثر متقلقش، أنا مش هبلة اوي كده.


رمقها يزن بنظرة تجمع بين السخرية والعطف، وابتسم بخفة قائلاً بنبرة مازحة:


-والله ما فيه أهبل منك أساسًا.


ضحكت بخفة لكنها فاجأته بخطوة غير معتادة منها؛ إذ أمسكت بياقة قميصه وجذبته نحوها في جرأة هادئة، وقالت بنبرة حازمة خافتة تفيض ثقة وذكاء:


-لا طبعًا أنا فاهمة كويس أوي اللي حواليا، أنا اه ابان عبيطة بس فاهمة اللي بيدور حواليا، زي ما فهمت كده انك أكيد كلمت مليكة في حاجة تخص حورية، خليتهم يمشوا بسرعة ويسيبوا الحفلة.


لم يحاول يزن نفي التهمة بل اقترب منها أكثر حتى كاد أن يلامس أنفاسها، ثم همس بنبرة شغوفة دافئة، امتزج فيها الحنان بالصدق:


-حقي، أنا خوفت تأثر عليكي، وأنا ما صدقت أن دماغك اتعدلت من ناحيتي.


ارتسمت على وجهها ابتسامة ناعمة مشوبة بخجل أنثوي، وقالت بدلال صادق وهي تنظر في عينيه المليئتين بالشغف:


-هي معدولة والله يا يزن ومن أول يوم شوفتك فيه، بس أنا نفسي لما اتجوز استقر ومتطلقش أو أكون اختياري غلط، فكنت بتأنى في قراري بس وبشوف الشخص اللي قدامي هيستحق اتمسك بيه ولا لا؟


مد يزن أصابعه بلطف ليداعب جانب وجهها بحنان عميق، وسألها بصوت خفيض دافئ:


-ها ولقيتيه يستحق ولا لا؟


تنفست سيرا بعمق ثم أمسكت بيده التي لامست وجهها، وقالت بنبرة متألقة بالمشاعر خرجت من عمق قلبها المفعم بالحب:


-طبعًا، انت خلتني اشوف كل الرجالة جنبك ولا حاجة، انت حاجة كبيرة اوي بالنسبالي.


ابتسم يزن اتساعًا ثم أمسك بيدها وقبلها قبلة هادئة تفيض حنوًا، وقال بمزيج من الجد والمزاح:


-يا رب دايمًا افضل في نظرك كده يا حبيبتي  ويبعد عننا ولاد الوارمة اللي عايزين يخربوا علينا.


ضحكت بخفة متلألئة وهي ترد عليه بدلال مرح:


- فعلاً هما كتير اوي.


نظر إليها يزن بعينيه اللتين تلتمعان حبًا وقال بنبرةٍ مازحة رقيقة:


-أنا بقول نسرع في الجوازة دي عشان حالتنا تصعب على الكافر.


ضحكت بقوة وهي تبتعد عنه قليلًا ثم دخلت شقتها بخفة ووقفت خلف الباب تُطل برأسها لتقول بمزاح بريء:


-حالتك انت، لكن أنا زي الفل وفي أكتر لحظات حياتي سعادة.


ابتسم يزن وهو يتأملها بنظرة طويلة محملة بالحب، وقبل أن يرد سمع صوت بابٍ يُغلق في الأسفل بقوة مريبة، فتعجب وأشار إليها مودعًا وهو ينزل الدرج بخطوات متسارعة.

أما سيرا فقد عقدت حاجبيها في حيرة من ذلك الصوت، ثم اندفعت نحو الشرفة بخفة قلقة، لتطل من فوق وتراقب ما يجري في الأسفل...تحاول بعينيها أن تفهم ما الذي انتهى إليه الجدال بين عائلتها ووالدة فايق.


                                    ****


دخلت دهب غرفتها بنفاد صبر واضح، وهي تُلقي حقيبتها أرضًا بضيق ظاهر، ثم اندفعت نحو هاتفها تتلهف لمحادثة صديقتها لتخبرها بما استجد من أمور، لكنها لم تكد تلمس الهاتف حتى فوجئت بصوت الباب يُفتح بعنف شديد، لترى والدتها تدخل كالإعصار تحمل عصاها الخشبية الشهيرة، وتلوح بها بوجه متشنج تفوح منه رائحة الغضب، حتى بدا المشهد كله كأنه بركان هائج، فصرخت حكمت بصوتٍ مدو أرعب ابنتها:


-بقى يا صايعة تسرقي شبكة خالتك، وتطلعي حرامية؟ تربيتي أنا تكون حرامية في الآخر!


تراجعت دهب إلى الخلف بخطوات متعثرة، وجسدها يرتجف من شدة الصدمة، وردت بصوت مبحوح مرتعش:


-آآ...قصدك إيه يا ماما؟ أنتي بتقولي إيه؟


لكن حكمت لم تُمهلها لحظةً واحدة، وهوت بالعصا فوق جسدها بعنف جعل صرخة الألم تخرج من بين شفتي دهب رغمًا عنها، فكانت ضربتها قاسية كمَن يفرغ سنوات من القهر في لحظة، حتى  صاحت بعنفٍ جنوني:


-بقول اللي سمعتيه يا قليلة الرباية، يا سافلة، بتبصي كده ليه على خطيب خالتك يا سافلة.


شهقت دهب بفزع وهي تلوح بيديها نافية بسرعة هستيرية، تكرر كلمات النفي دون أن تجد من يسمعها، لكن حكمت لم تهدأ بل تحركت بخطوات غاضبة نحو الهاتف الملقى على السرير، التقطته بعنف وهي تصرخ بأعلى صوتها:


-افتحي التليفون ده يا بت، افتحيه حالاً.


هزت دهب رأسها رافضة في هستيريا خوف عميق، والدموع تتساقط من عينيها كمَن يستجدي الرحمة، ولكن رفضها لم يُزد حكمت إلا يقينًا بما سمعته، فاشتد جنونها ورفعت العصا مجددًا تهوي بها على جسدها المرتعش وهي تصرخ بأمرٍ لا نقاش فيه:


-بقولك افتحيه حالاً!


ارتجفت دهب وهي تحمل الهاتف بيدين مرتعشتين، أناملها بالكاد تطيعها من شدة الرعب، ثم ضغطت كلمة السر ببطء ووجل، وسلمت الهاتف لوالدتها التي خطفته بسرعة،

بينما حكمت انتقلت بين تطبيقات الهاتف ورسائل الدردشة، وما إن بدأت القراءة حتى انكمش وجهها تدريجيًا من الصدمة إلى الذهول، ثم إلى ملامح قاسية لم تعرفها من قبل، وجدت أمامها فتاة لا تشبه تلك الطفلة التي ربتها ولا الفتاة التي كانت تظنها مطيعةً بريئة، بل وجدت كلمات ورسائل تكشف حياة خفية ومشاعر تافهة، واندفاعات لا تعرفها في ابنتها.


رفعت وجهها ببطءٍ والدموع تسيل من عينيها متخاذلة، بينما الغضب يكاد يخنقها، ثم انتابتها حالة من الهياج غير المسيطر عليه، فراحت تضرب ابنتها بعصاها في كل اتجاه، وهي تصرخ بصوت مبحوح اختلط فيه الألم بالعار:


-يا سافلة....يا قليلة الادب، أنا ربيتك على كده.


كانت دهب تصرخ بألم وهي تحاول الهروب داخل الغرفة، تتقافز من مكان إلى آخر، تحتمي بالجدران والأثاث والعصا تلاحقها كأنها تعرف طريقها إلى جسدها الصغير، وبينما كادت إحدى الضربات أن تُصيبها في رأسها، اندفعت سيرا إلى الغرفة بخطوات سريعة تسبقها شهقة الفزع التي خرجت من صدرها، واحتوت جسد دهب بين ذراعيها، تحميها بجسدها وهي تصرخ لأول مرة في وجه أختها الكبرى:


-بس يا أبلة انتي بتعملي فيها إيه؟!


صرخت دهب في حضن سيرا تبكي بحرقة وتشهق بأنفاس متقطعة، بينما تلقت سيرا ضربة عنيفة دون قصد فوق يدها فارتجفت من الألم لكنها كتمت صرختها بصعوبة، تحاول ألا تترك الصغيرة وحدها في مرمى الغضب.


وقبل أن ترفع حكمت العصا مجددًا، سُمع صوت الباب يُفتح بقوة ثم اندفع صافي إلى الداخل، فقبض على ذراع حكمت بقوة حازمة، وجذبها خلفه إلى غرفتهما، وأغلق الباب بعنف وراءه، وصاح بصوت غاضبٍ متهدج:


-اقعدي خلاص اسكتي!


صرخت حكمت محاولة الإفلات منه وهي تدفع الباب بعصبية:


-سيبني يا صافي، سيبني اربيها الكلبة دي اللي فضحتني.


انتزع العصا من يدها ورماها على الأرض بقوة جعلت صوت ارتطامها يملأ الغرفة ثم التفت إليها بعينين تتقدان غضبًا وقال بصرامة مؤلمة:


-الفضيحة دي انتي السبب فيها يا حكمت، ماتلوميش على بنتك وانتي السبب في كل حاجة!


تراجعت خطوتين إلى الخلف تحدق فيه بدهشة وصدمة، وقالت بصوت مرتجف يختلط فيه الاستنكار بالذهول:


-قصدك إيه بإن أنا السبب؟! هو انا كنت اعرف باللي عملته وبتهببه!


رفع صافي صوته وهو يلوح بيده في وجهها وقد تفجر فيه الغضب الذي كتمه لسنوات:


-عملته نتيجة اهمالك يا حكمت، عملته عشان انتي سبتيها تتربى لوحدها وشغلتي بالك باخواتك وباللي حواليكي، بتتدخلي في كل كبيرة وصغيرة في حياة اخواتك وسايبنا احنا، بتطلعي عيوب في كل الناس وانتي تربيتك في بنتك كلها عيوب، ماخدتيش بالك خالص إنها في فترة مراهقة ومحتجاكي! لكن ازاي تفضلي تحشري مناخيرك في حياة الناس كلها، ومش واخدة بالك مننا، وجاية تلومي على بنتك في الآخر.


كانت كلماته كسكاكين حادة تمزق كبرياءها، فاهتزت شفتاها واغرورقت عيناها بالدموع ثم قالت بصوت مبحوح تكاد الكلمات تتعثر فيه:


-انت بتقولي أنا كده يا صافي؟


اقترب منها بخطواتٍ هادئة بعدما انطفأ بعض الغضب في صوته، وقال بصدق مؤلم ونبرة حازمة:


-اه بوعيكي يا حكمت عشان تفوقي لنفسك ولبنتك ولبيتك، وتسيبك بقى من اخواتك واللي حواليكي، ولو كان هما بيسكتوا ليكي عشان بيحترموكي، بس هيجي الوقت اللي ينفجروا فيكي عشان تبعدي عنهم.


لم تجد حكمت ما تقول فجلست على حافة الفراش وقد خارت قواها تمامًا، والدموع تنهمر على وجنتيها في صمت موجع، فلم تكن تتوقع أن تسمع من زوجها تلك الكلمات، ولا أن ترى نفسها بهذا القبح الذي رسمه في مرآة الحقيقة،

بينما ظل صافي جالسًا إلى جوارها، يربت على كتفها بحنان ثقيل:


-متزعليش مني يا حكمت لو كنت قاسي معاكي في الكلام، بس من حقي أوعيكي، احنا محتاجينك حوالينا وبالذات دهب، عايزة كل  اهتمامك، وانك تراعيها مش بالضرب ولا بالعنف....صاحبيها يا حكمت انتي امها واقربلها مني، شوفي اصحابها مين، شوفي إيه اللي وصل لبنتك كده، بنتك بتدور على الاهتمام برة في الحب عشان احنا فشلناه نديهولها صح.


بينما كانت سيرا في غرفة دهب، ما تزال تحتضنها في صمت مبلل بالدموع، تهدهدها برفق كأنها تحاول أن تمسح عن قلبها خوف الطفلة ووجع الصفعة، وكان عقلها يكاد يجن مما سمعته من صافي قبل دخولها إلى الغرفة، ولكن طيبة قلبها لم تسمح لها بأن تنتقم من دهب، بل كانت لها خير عون وسند.


                                            *****


في اليوم التالي...


دخلت حسناء إلى العيادة بخطوات متثاقلة تفيض بالضيق، وعيناها تجولان في المكان كأنهما تمسحان كل زاوية فيه بكره دفين وحقد مكتوم، بدا وجهها شاحبًا من أثر السهر والتفكير، وارتسمت على محياها ملامح امرأة أنهكها الغضب وأثقلها التردد في الانتقام، زفرت بأنفاس ساخنة تحمل في طياتها ضجرًا عميقًا، ثم وضعت حقيبتها الجلدية الزرقاء فوق المكتب المخصص لها بإهمال ظاهر.


رفعت نظرها نحو الساعة المعلقة أمامها، تتأمل عقاربها التي تتحرك ببطء يثير في داخلها نفاد الصبر، ثم اتجهت بخطوات محسوبة نحو غرفة مكتب نوح، وما إن دفعت باب الغرفة حتى تفاجأت بوجوده جالسًا خلف مكتبه، محني الرأس على أوراق متناثرة، يخط عليها ملاحظات سريعة.


توقفت عند عتبة الباب ثم قالت بنبرة رسمية حاولت أن تخفي وراءها اضطرابها:


-معلش يا دكتور مكنتش اعرف إنك هنا!!


رفع نوح رأسه ببطء وارتسم على وجهه ابتسامة خفيفة لم تفهم معناها، فرد بهدوء وثقة ظاهرة:


-لا عادي يا حسناء، كويس أنك جيتي، عايزك تظبطيلي المواعيد وتشوفي أمور العيادة اليومين دول.


لم تُجبه في الحال بل أخذت نفسًا عميقًا، كأنها تجمع شتات قرار اتخذته بعد صراع طويل مع نفسها، ثم قالت بجمود ظاهر وبنبرة تحمل في طياتها إصرارًا خفيًا، وهي تضع نهاية خطتها التي أعدتها في صمت منذ الليلة السابقة:


-كنت جاية عشان اقولك أنا أسفة مش هقدر اكمل في العيادة بعد اللي حصل، بس متقلقش أنا هجبلك واحدة مكاني.


تبدل وجهه وبدت على ملامحه علامات المفاجأة والرفض في آنٍ واحد، فقال بصوت يختلط فيه التعجب بعدم الرضا:


-إيه القرار المفاجئ ده يا حسناء؟ انتي عارفة كويس أني مقدرش استغنى عنك.


رفعت عينيها إليه بنظرة حادة يملؤها الشك والاستنكار، وكأنها تتساءل في سرها، أهو صادق فيما يقول أم يبتغي تهدئتها فحسب؟ لكنه استكمل كلامه بجدية واضحة:


-أنا عارف أنك زعلانة من اللي يسر عملته، أنا روحت وكلمتها بس هي ولدت، تعدي الظروف دي وأنا هجبلك حقك، تمام؟!


لم تُجبه سوى بإيماءة خفيفة من رأسها، ولكن في داخلها كان الشك يتسلل كأفعى هادئة تلتف حول يقينها، لم تكن عينا نوح صافية كما ادعى، بل كان فيهما غموض لم تطمئن له، ومع ذلك آثرت الصمت وخرجت من الغرفة وهي تحمل في داخلها أفكارًا متشابكة تتنازعها، بين الغضب الذي يشتعل في صدرها والطمع الذي بدأ يمد جذوره في أعماقها، تتهيأ لاقتناص فرصة تجعلها ثرية وسعيدة دون أن تُتهم أو يُشك بأمرها.


لم تمضِ سوى دقائق معدودة حتى خرج نوح من غرفته، وقد بدا مستعدًا للانصراف، فكان يمسك بسترته الجلدية ويهم بالخروج وهو يقول بنبرة هادئة:


-سلام يا حسناء، واعملي اللي قولتلك عليه.


لكنه ما لبث أن توقف عند عتبة الباب، والتفت إليها فجأة وصوته يفيض برجاء غير مألوف:


-عشان خاطري يا حسناء وانتي مروحة ادخلي اوضة الكشف هتلاقي في المكتب في الدرج الأخير شنطة فلوس سودا وفيها جيب صغير سايبلك فيه مفتاح الشقة والباقي طبعًا انتي عارفاه، سلام.


عاد خطوة واحدة إلى الداخل وابتسم لها ابتسامة صغيرة لم تدرِ إن كانت صادقة أم مصطنعة، ثم قال وهو يشير إليها بيده:


-خلي بالك عشان المبلغ المرة دي كبير اوي، وأنا معنديش غيرك اثق فيه.


ثم غادر العيادة بخطوات ثابتة، تاركًا وراءه هواء مثقلاً بالتساؤلات، ظلت حسناء تتابعه بنظرات متسائلة تستقصي ما وراء حديثه المفاجئ، أتراه شعر بالذنب لما فعلته زوجته بها؟ أم أن لابنه الصغير تأثيرًا جعل قلبه يلين؟!


لحظات من التردد مرت، قبل أن تدفعها رغبة غامرة إلى الدخول إلى غرفة الكشف، دفعت الباب بهدوء وتوجهت مباشرة نحو المكتب، فتحت الأدراج واحدًا تلو الآخر بعجلة ظاهرة، إلى أن وصلت إلى الدرج الأخير فوجدت الحقيبة التي وصفها لها، كانت حقيبة جلدية سوداء لامعة الأطراف وثقيلة الوزن.


مدت يدها بتردد، ثم أمسكت بها وفتحتها ببطء حذر، لتتسع عيناها دهشة أمام ما رأت، رزم من الأوراق النقدية مرتبة بعناية، مدت أصابعها تتحسس ملمس الأوراق كأنها تتحسس الحلم الذي طال انتظاره، ثم تمتمت بصوت خاف يقطر حقدًا وسخرية:


-يا ابن المحظوظة الفلوس بتلعب معاك لعب.


ارتفع حاجبها الأيسر وابتسمت ابتسامة جانبية يلوح فيها الطمع، ثم همست كأنها تبرر لنفسها جريمتها القادمة:


-يعني الكام باكو دول لو اخدتهم مش هيعملوا حاجة؟!


أغلقت الحقيبة بخفة وأخرجت رزمتين من داخلها لتخبئه في حقيبتها الخاصة، ثم خرجت من المكان بخطواتٍ ثابتةٍ تحمل بداخلها لهفة خفية، متجهة نحو منزل نوح وهي تبتسم ابتسامة ماكرة تنذر بنهاية خطتها.


                                             ****


دخلت سيرا إلى المعرض بخطوات متأنية يغمرها الترقب، حتى وقعت عيناها عليه، فكان يقف إلى جوار سيارة حديثة الطراز، يلمع هيكلها تحت وهج الشمس، بينما هو منشغل بتدوين ملاحظاته في دفتر صغير يحمله بيده.


وقفت تتأمله بصمت يفيض بالحب والدهشة تكسو ملامحها من شدة اندماجه في عمله، فكان تركيزه الصارم وهيئته الواثقة يليقان به إلى حد يُربك القلب، ظلت تتابعه بعينيها حتى دخل مكتبه وهو لا يزال يسجل ملاحظاته دون أن يلتفت حوله، كأن العالم بأسره قد انحصر في أوراقه تلك.


تحركت خلفه بخفة حتى كادت تصطدم بباب المكتب الذي هم بإغلاقه بقدمه دون أن يلتفت، لكنه توقف فجأة عندما شعر بيد صغيرة تدفع الباب من الخلف، فالتفت بدهشة طفيفة، ليفاجأ بها واقفة خلفه تبتسم له بعفوية محببة، قائلة بنبرة مازحة رقيقة:


-يااااه لدرجادي مش واخد بالك مني؟


ارتسمت على وجهه ابتسامة واسعة، تحمل بين طياتها فرحًا صادقًا، ورد عليها بخفة ظله المعهودة:


-نورتي يا سرسورة. 


اقترب منها بخطوات دافئة وقبل جبينها بحنو شديد، ثم أفسح لها المجال لتدخل المكتب وأغلق الباب خلفها برفق، ولكنه لاحظ الضمادة البيضاء التي تلتف حول يدها المتورمة قليلًا، فتبدل وجهه قلقًا واقترب منها على عجلٍ ممسكًا بيدها بين كفيه يسأل بلهجة خشنة يغمرها القلق:


-مين عمل فيكي كده؟! أنا سايبك سليمة امبارح!


نظر إليها بتمعن يحمل مزيجًا من الغضب والخوف، ولكنها  فاجأته عندما ضحكت بهدوء وهي تتذكر الموقف قائلةً:


-لا دي أبلة حكمت ضربتني بالعصاية وماكنتش تقصد!


عقد حاجبيه في استنكار واضح وهو يقول:


-يعني إيه معلش مكنتش قصدها؟!


لم تشأ أن تُشعل الجدال فاختارت أن تمازحه، وأبدلت ملامحها إلى حزن مصطنع وهي تهمس بعتاب رقيق:


-لا ما انت السبب في ده كله! 


اتسعت عيناه دهشة وهو يشير إلى نفسه مستنكرًا:


-أنا السبب ازاي؟!  أنا هخليها تضربك؟! ده أنا مبستحملش عليكي الهوى!


مطت شفتيها بطفولة متذمرة وهي تقول:


-قولتلها ليه على دهب يا يزن؟ ومجتش قولتلي أنا، دي حاجة زعلتني اوي.


تنهد بعمق وجلس أمامها على الطاولة، وصوته يخرج هادئًا لكنّه يحمل شيئًا من العتاب:


-وانتي لو قولتلك كنتي عملتي إيه؟! كنتي كلمتي دهب ومارضتيش تعرفي اختك صح؟!


هزت رأسها بإيجاب مؤكد وهي تنظر إليه بعينين تتقدان بالعاطفة:


-ايوه كنت هعمل كده عشان معرضش دهب لضرب يا يزن؟ كنت هنصحها مرة واتنين لغاية ما تتعدل.


أطرق رأسه قليلًا ثم قال بحزم مشوب بالحزن:


-أنا مقصدتش أبدًا لما اقول لأبلة حكمت إنها تضربها، أنا كمان نصحتها إنها تحتويها، بس يا حبيبي موضوع دهب مينفعش أبدًا بالنصيحة، البنت واصلة لمرحلة صعبة ولازم رادع في حياتها، وحد يكون رقيب عليها، أنا لو مش خايف عليها مكنتش هتصرف كده، اختك كانت لازم تعرف وتاخد بالها من بنتها شوية!


نظرت إليه بهدوء واستغراب وقالت بنبرة أكثر لينًا:


-ماشي يا يزن بس انت بردوا ماتعرفش أبلة حكمت بتتصرف ازاي، دي ماسكة العصاية للغريب قبل القريب، كنت متخيل هتعمل فيها إيه؟


أجابها بجدية ثابتة:


-في النهاية هي أمها يا سيرا، ولازم تفوق وتهتم معلش ببنتها شوية، البنت لو كانت كملت على نفس الطريق كانت ضاعت.


ابتسمت  نصف ابتسامة وقالت بمكرٍ أنثوي:


-غريبة، أنا حاليًا محتاجة حورية تيجي وتشوفك انت ازاي راجل بتعرف تتصرف صح، وتغير نظرتها عنك.


ضحك بخفة وقال دون اكتراث:


-ميمهمنيش يا سيرا، هي من الأساس متفرقش معايا كلامها، وبعدين اعذريها هي نظرتها محدودة ومينفعش نلومها، يعني هي مقتنعة طالما أنا كنت بتاع بنات يبقى ممكن استغل أي بنت تيجي قدامي حتى لو صغيرة، على أساس أنا كنت بستغل الكبار فقررت اغير نشاط!!


ضحكت بخجل وهي تقول بهدوء صادق:


-عارف موقفك مع دهب طمني إني اختياري صح، واحد مكانك كان استغلها!


رفع حاجبه مازحًا وقال:


-استغل مين!!! مش لما  اعرف استغلك انتي الاول.


ضحكت بخجل وأشارت نحوه بيدها المتورمة قائلةً بتحذير لطيف:


-بس بعد كده لازم أي حاجة تخص اهلي تيجي وتعرفني الاول.


اقترب منها ببطء ووضع كفه على خدها بحنو صادق وهمس بنبرة دافئة تحمل خوفًا حقيقيًا:


-خوفت عليكي.


تطلعت إليه بعينين لامعتين وسألته بخفوت:


-من إيه؟؟


أجاب بصوتٍ يقطر صدقًا:


-يحصلك مشاكل، حد يضايقك، أو مثلاً دهب تستغلك غلط وخصوصًا أنك أهبل منها كتير وهي اوعى وانصح.


انتفضت سيرا بمرح مصطنع وقالت:


-إيه ده انت بتشتمني على فكرة.


ضحك قائلًا:


-مقصدش والله يا روحي أنا كل اللي اقصده مبحبش أدخلك في مشاكل، أنا عايزك على طول رايقة وبعيدة عن وجع القلب، أنا لو سيبتك قريبة من أي مشكلة برجع الاقيكي لبستيها لنفسك كلها.


أطلقت تنهيدة صغيرة وقالت بعتاب ساخر:


-يزن انت مش واخد بالك أنك مابتكملش كلمة حلوة في حقي؟؟


ابتسم بعفوية ورفع حاجبيه بدهشة مصطنعة:


-أنا؟! ازاي بقى؟ امال مين اللي فرحت بوجودها وبخاف عليها وعايزها على طول جنبي ومعايا، ومحستش إن أنا لقيت نفسي واكتفيت من كل اللي كنت فيه إلا بوجودها.


توردت وجنتاها وقالت بخجل طفولي:


-مين دي بقى؟!


أجابها ضاحكًا بخفوت دافئ:


-امممم واحدة اسمها سيرا...تعرفيها؟؟


ضحكت وقالت بخجلٍ:


-يعني اسمع عنها!


-صحيح يا سيرا؟ أنا مسألتكيش قبل كده، مين سماكي سيرا وليه ومعناه إيه؟


أطلقت ضحكة خفيفة وقالت بأسلوب قصصي مشوب بالحنين:


-يااااه دي قصة مأساوية اوي، بص يا سيدي خال بابا كان مدرس عربي ودين الله يرحمه بقى، لما أنا اتولدت بابا كان محتار يسميني إيه وكان مفكر إن كده خلاص أنا أخر اخواتي، فحب يسميني اسم مميز راح لخاله وسأله وكان وقتها خال بابا ده فاتح كتاب السيرة النبوية فقاله خلاص سميها سيرة وبابا عجبه الاسم وحس إنه مميز فراح الصحة يسجلني الراجل اللي بيسجل كان لسه مرجع مراته على ذمته بعد ما كان طلقها وغلط وكتبني بسيرا بالالف يعني، بابا حاول يقوله غيرها الراجل حلف بالطلاق ما هو مغيرها وبقيت سيرا، والناس اتحايلت على بابا يمشيها عشان خاطر مراته.


تأملها يزن لحظة ثم انفجر ضاحكًا بصوت عالٍ:


-يعني عاملة مشاكل من صغرك.


قالت متذمرة وهي تعبس في وجهه:


-ما تتريقش أنا أساسًا مبحبش اسمي، بحسه مش مفهوم واقعد اشرح للناس.


ابتسم بلطف وقال وهو يفتح درج مكتبه:


-بس أنا بحبه...بحبه اوي لدرجة انتي مش متخيالها...شوفتي دي.....


أخرج دفترًا جديدًا ذو غلاف مخملي أسود منقوش عليه اسمها بخط عربي ذهبي أنيق، أمسكته سيرا بين يديها بحنان بالغ، تتلمسه كأنها تحتضن شيئًا منها ثم فتحته لتتفاجأ بتواريخ مرتبة بعناية خلف بعضها، رفعت نظرها نحوه بدهشة فسبقها بالحديث:


-ده اول يوم شوفتك فيه مسجلتوش على طول بس سجلته بعدها لما بدأت أحس إنك اكبر من مجرد واحدة معجب بيها، ودي تواريخ المواعيد اللي كنتي بتديهالي عشان اقابلك ومابتجيش وده تاريخ خطوبتنا وكتب كتابنا...


كان يتحدث بصدق وهدوء، بينما أصابعها تلامس يده برفق وتهمس بصوت متقطع:


-حاسة قلبي هيقف من اللي بسمعه، وأنا اللي كنت مفكرة نفسي بحبك من اول لحظة، طلعت انت كمان معجب ومداري.


ضحك يزن بحب على عفويتها بينما كانت تقلب الصفحات فتتوقفت أمام  تلك العبارات  الانجليزية التي كانت مرفقة مع الصور التي نشرها لهما على مواقع التواصل الاجتماعي، كانت السعادة تملأ وجهها حتى وقعت عينها على عبارة غريبة بخط عربيّ أنيق:


"غَنَاء الروح"


رفعت رأسها تسأله بفضول طفولي صادق:


-يعني إيه؟!


أجابها مبتسمًا:


-يعني اكتفاء...أنا مكتفي بيكي، هو الصراحة مش أنا اللي ألفتها زي دول...


وأشار نحو العبارات الانجليزية الأخرى، مستكملاً بهدوء:


-استعنت بنوح صاحبي عشان اشطر مني في العربي وكنت عايز احطها في دعوة الفرح.


اتسعت عيناها دهشة وهمست بخفوت مرتبك:


-دعوة الفرح؟


-اممم...


نهض من مكانه واتجه إلى مكتبه، ثم عاد يحمل بيده بعض التصميمات الورقية وقال بابتسامة واثقة:


-كنت هقولك عليهم عشان تشوفيهم وتختاري أنهي واحد منهم عاجبك.


تناولت الأوراق بيد مرتجفة تتأمل الدعوات المزخرفة بعناية، وكلها تتقدمها تلك العبارة نفسها مكتوبة بماء الذهب، شعرت بسعادة طاغية تكاد تفيض من ملامحها، وودت لو احتضنته في تلك اللحظة لكنها تماسكت وخفضت نظرها خجلًا، فوجدته يقترب منها بهدوء، ثم انحنى وقبل جبينها قبلة طويلة ناعمة، وهمس برقة مملوءة بالعاطفة:


-هخرج اشوف الناس اللي برة دي عايزين إيه؟ واجيلك تكوني اختارتي الدعوة والميعاد اللي يناسبك بس حاولي متطوليش عليا، عشان مخطفكيش من بيت اهلك بلا فرح بلا حوارات تبعدني عنك.


جلست في صمت والدفتر بين يديها، تتأمل اسمها المذهب على الغلاف وعبارة «غناء الروح» التي صارت تنبض في قلبها كأنها وعد أبدي، رفعت بصرها نحو الباب الذي خرج منه قبل لحظات، وابتسامة خجولة تتسلل إلى شفتيها، فلأول مرة شعرت أن القدر لم يكن قاسيًا كما ظنت، وأن هذا الرجل الذي دخل حياتها صدفة، صار وطنها الذي لا تخشى الرحيل منه أبدًا.

                                            ****


حاولت حسناء إدخال المفتاح في باب شقة نوح مرارًا، ولكن القفل أصر على عدم الانفتاح، زفرت بضيق وهي تتمعن المفتاح بين أصابعها، ثم تغير تعجبها إلى اندهاش، إنه نفس المفتاح الذي كانت تأخذه مرارًا من قبل، إذًا أين المشكلة؟! رفعت هاتفها لتتصل بنوح، ففوجئت به مقفلاً.


 ماذا ستفعل بالحقيبة المليئة بالمال؟ إلى أين تذهب بها؟ بعد تردد قصير اختارت أن تأخذها معها إلى البيت.


نزلت من البناية واستقلت سيارة أجرة واضعة الحقيبة في أحضانها كما لو كانت حملًا ثمينًا يجب حراسته، كان قلبها يخفق بسرعة من الخوف أن تسرق، وما إن وصلت إلى منزلها وفتحت الباب حتى فاجأتها والدتها تمشي في أرجاء المنزل تنثر الملح وتهمس بتعاويذ قديمة، لكن عيني والدتها توقفتا عاجزتين أمام الحقيبة السوداء التي تحتضنها.


فقالت بلهجة حادة ومندهشة:


-إيه دي يا بت؟!


لم تجب حسناء؛ دخلت غرفتها ووضعت الحقيبة على الفراش، شرعت تتخلص من ملابسها محتاجة إلى لحظةٍ من الراحة، لكن توجه والدتها إلى الحقيبة بخطى سريعة أوقفها، وخاصة عندما فتحتها بفضول جارف، فإذا برزم المال أمامها، برزت أعينها دهشة وانطلقت شهقة قوية منها:


-يالهوي سرقتيه يا بت؟


تقدمت حسناء بسرعة وأمسكت بالحقيبة، عيناها تلمعان بالغضب والتبرير معًا فأجابت باستنكار محكم:


-لا طبعًا هو أنا غشيمة ولا إيه؟ دي فلوس ادهالي ارجعهاله البيت بس تقريبا اتلخبط واداني مفتاح غلط وقافل تليفونه، فقولت اجيبهم هنا لغاية ما يرد، بقولك ياما متدخليش حد غريب هنا الشقة لغاية ما الفلوس دي تمشي من البيت


ردت والدتها بنبرة ساخطة لا تخلو من خوف وحذر:


-اللي يشوفك كده يابت يقول خايفة على مصلحته؟!


ابتسمت حسناء ابتسامة مرة وقالت بدلال وغرور:


-اه ومخافش ليه مش هو اعتذرلي وقالي حقك عليا، واتمسك بيا كمان.


هزت الأم رأسها بتحفظ وقالت بلهجة تقطعها القلق والخوف مما هو قادم:


-يا شيخة؟؟ والله شكلك هبلة وهتاخدي على قفاكي في الآخر منه، الدكتور ده استغلالي.


أغلقت حسناء عينها ثم قالت بلهجة متعبة تبحث عن الخصوصية في ظل فرض والدتها الهيمنة عليها:


-بقولك إيه فكك وسيبني انام، مابتزهقيش من كلامك ده!


هزت والدتها رأسها باستياء وغادرت تاركة حسناء تغفو فوق فراشها بهدوء لم تعهده من قبل.


                                          ****


كان نوح يجلس إلى جوار يسر في المستشفى، أمام الحضانة الزجاجية التي يرقد فيها صغيرهما، يراقبان أنفاسه الصغيرة المتقطعة، خيم الصمت على المكان إلا من صوت الأجهزة، فيما كان الحنين يعصف بقلب يسر كعاصفة لا تهدأ.


تنهدت بعمق وبدت في ملامحها لوعة الأم ووجع الفقد المؤقت، ثم همست بصوت مبحوح يغلفه الحزن:


-نفسي يكون في حضني اوي يا نوح.


ربت نوح على كتفها برفق، محاولًا أن يزرع الطمأنينة في قلبها وقال بنبرة هادئة يغلب عليها الأمل:


-كلها أيام يا حبيبتي ويبقى وسطنا وينور بيتنا الجديد.


رفعت نظرها إليه بدهشة ممزوجة بالفضول وسألته:


-بيتنا الجديد؟!


ابتسم ابتسامة واسعة وبدت في عينيه شرارة الفخر، ثم اقترب منها قليلًا وقال بحماس:


-شقة على النيل حلوة وواسعة وأحسن من المنطقة اللي كنا فيها، ومهندس الديكور خلص فرشها وكل حاجة مستنية بس انتي تيجي انتي ولينا والباشا الصغير تنوروها.


حدقت فيه بنظرة غامضة أربكته لوهلة، ثم عقدت ذراعيها على صدرها وقالت بهدوء أقرب إلى التحدي:


-ومين قالك إن أنا هرجعلك؟


ابتسم نصف ابتسامة تحمل في طياتها مزيجًا من الرجاء واليقين ثم قال بثقة:


-ده غصب عنك يا يسر!


رفعت حاجبيها بدهشة وقالت بسخرية ناعمة:


-يا سلام!! هتغصبني ازاي بقى؟!


اقترب منها أكثر وقال بصوت خفيض لكنه مفعم بالعاطفة:


-هخطفك انتي ولينا ومش هخلي ابوكي يعرفلك مكان.


ابتسمت بسخرية حزينة وقالت بنبرة تحمل شيئًا من اللوم:


-اللي بيخطف حد بالطريقة اللي انت بتتكلم بيها بيكون بيحبه وعنده استعداد يعمل أي حاجة عشانه!


قال بسرعة دون تردد وكأنه كان ينتظر تلك الجملة تحديدًا:


-طيب ما أنا بحبك ومعنديش حد اغلى منك انتي وعيالك.


أطرقت قليلًا ثم همست:


-وبالنسبة اللي  عنده استعداد يعمل  أي حاجة عشانه؟! مش واخد بالك منها!


رد عليها بهدوء:


-انتي طلبتي حاجة وأنا معملتهاش، اطلبي بس وطلباتك اوامر.


نظرت إليه بثبات وقالت بصرامة لطيفة:


-اطرد حسناء من عندك.


ابتسم وقال دون تردد:


-حاضر أي حاجة تانية؟!


رفعت حاجبيها بدهشة وقالت باستغراب:


-بالسهولة دي؟! 


قال مبتسمًا وهو يمد يده ليلمس أصابعها المرتجفة:


-اه مشكلتك إنك مش عارفة قيمة نفسك اوي وبتحطي نفسك في مقارنة مع ناس متستاهلش.


تنهّدت بغيظ وقالت بمرارة خفيفة:


-والله؟ مش انت السبب....طيب يا نوح بما إنك انت اللي اتكلمت بقى في النقطة دي، يبقى شرطي الأخير...


نظر إليها بترقب فقالت بوضوح تام:


-هو مفيش جواز عليا أبدًا غير لما أموت....ولما أموت كمان متتجوزش وعيش على ذكرياتي.


أمسك بيدها برفق وهمس بحرارة:


-بعد الشر عنك يا حبيبتي، اللي انتي عايزاه كله هيتعمل بس ارجعي البيت انتي ولينا خلاص مبقتش قادر ابعد عنكم، الفترة اللي فاتت عرفت قيمة نعمة يعني إيه ربنا يكون مديك راحة البال وانت مش عارف تستمتع بيها.


ابتسمت يسر إليه ابتسامة مشرقة وقد تلألأت الدموع في عينيها كأنها خيوط ضوء حائرة بين الحزن والفرح، فكانت أنفاسها ترتجف من شدة الانفعال وصوتها يخرج متهدجًا، يحمل في طياته ذهولًا وسعادة غامرة:


-بجد يا نوح؟ يعني خلاص مفيش....


وقبل أن تكمل كلمتها، مد يده برفق ووضع إصبعه على شفتيها، ليصمتها بصوت يقطر حنانًا وحزمًا في آنٍ واحد، وقال بنبرة واثقة هادئة كالعهد:


-مبقاش في حياتي إلا يسر وبس.


تجمدت الكلمات على شفتيها، وتلاقت نظراتهما في صمت طويل يفيض بما عجز اللسان عن قوله، لقد كانت تلك اللحظة أشبه بوعد صامت بين قلبين أنهكهما الفراق، ووصل بهما الحنين إلى يقينٍ لا رجعة فيه.


فابتسمت بحنو بينما انحنى نوح ناحيتها يهمس لها بصوته الدافئ:


-رجوعك ليا مش بس بداية جديدة... دي حياة كاملة كنت مستنيها من زمان.


                                             *****


دوى الطرق على باب الشقة بعنف متواصل، ارتج له صدى الجدران وأفزع "حسناء" التي كانت نائمة داخل غرفتها، انتفضت بخوف وركضت مسرعة نحو باب غرفتها، وما إن فتحته حتى تجمدت في مكانها وقد رأت رجال الشرطة يملؤون المكان، فيما كانت والدتها تقف باكية أمام أحد الضباط ترجوه بصوت متهدج:


-بالله عليك يا بيه سيبني، ده أنا بعمل اعمال في الخير، هتقبضوا عليا.


رمقها الضابط بنظرة حادة قبل أن يلتفت إلى حسناء التي تقدمت بخطوات مترددة وقد ارتسمت على وجهها علامات الذهول والقلق، فقالت بصوت مبحوح:


-في إيه يا بيه؟


رد الضابط بنبرة رسمية صارمة:


-معانا إذن من النيابة بتفتيش البيت والقبض عليكي.


شهقت حسناء بدهشة وهي تنظر حولها، وكأنها لا تصدق ما تسمعه:


-ليه؟


قال الضابط بثبات:


-في بلاغ ضدك متقدم انك  سرقتي مبلغ مالي كبير من دكتور نوح الشاذلي.


تراجعت خطوة إلى الخلف تفتح فمها محاولة التبرير، لكن أحد العساكر نادى الضابط وهو يرفع حقيبة أنيقة بين يديه:


-الفلوس اهي يا باشا.


اقترب الضابط ليتأكد فابتسم ببرود وهو يقول:


-تمام اقبضوا عليها وهاتوا ورايا.


صرخت حسناء بصوت عالٍ وهي تحاول التملص من أيديهم:


-ليه مش لقيتوا الفلوس؟!


لكن لم يستمع إليها أحد وسُحبت بقوة بين العساكر الذين كبلوها وهي تبكي في هلع، التفتت إلى والدتها التي كانت تُقاد هي الأخرى تصرخ بجزع وهي تقول:


-طيب هي سرقت، أنا مالي يا باشا، أنا بتاعت خير وأعمال بس.


                                          ****


خرجت حسناء من غرفة التحقيقات بخطوات متثاقلة، كأنها تسير فوق جمرٍ مشتعل، كانت الدموع تجف على وجنتيها قبل أن تسقط من جديد، وقد بدت ملامحها منهارة تمامًا، فقد واجهها الضابط ببلاغات متتالية مقدمة من نوح نفسه؛ يتهمها فيها بسرقته أكثر من مرة، وبمحاولة اختطاف ابنته، والتخطيط لإيذاء زوجته، ولم يكن الشاهد سوى خالها الذي لم يتردد في قول الحقيقة حين سُئل.


حاولت الإنكار في البداية، تارةً بالصراخ وتارةً بالتوسل، لكن كثرة الأدلة والضغوطات جعلت جدارها ينهار، فكان الوضع كالتالي بكاء طويل تبعه اعتراف مرتجف؛ روت فيه كل تفاصيل أفعالها، كيف حركها الطمع وكيف أغلقت بصيرتها الرغبة في المال والانتقام حتى نست نفسها وضلت طريقها.


لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد قدم نوح بنفسه أدلة إضافية، مقاطع مصورة تظهر محاولاتها السابقة لسرقته في مبالغ صغيرة، وصولًا إلى آخر مقطعٍ يُثبت بوضوح أنها هي من أخذت الحقيبة من عيادته، كانت جميع الأدلة ضدها، خاصة أن نوح لم يذكر في أقواله أنه هو من أعطاها الحقيبة، متعمدًا أن يبدو الأمر كأنها سرقتها فعلًا.


حينها فقط أدركت حسناء أنها كانت طُعمًا غبيًا في خطته المحكمة، وأنها وقعت في فخه بيديها مثلما تقع الذبابة في خيوط العنكبوت.


وبينما كانت تجلس في ردهة القسم، لمحت نوح يسير في الرواق بثبات واعتداد، رأسه مرفوع كطاووس يخطو فوق رماد معركة انتصر فيها، اقتربت منه بخطوات متعثرة، وجهها شاحب وصوتها مبحوح وهي تقول برجاء يائس:


-ليه كده يا نوح، ده أنا وثقت فيك وانت اللي طلبت مني اوديلك الفلوس الشقة، تلعب عليا وتديني مفتاح غير المفتاح الاصلي عشان الفلوس تفضل معايا وتتهمني بسرقتها.


التفت إليها ببرود وسخرية، وقال بلهجة قاسية لا تعرف الرحمة:


-ده على أساس إنك مش سرقتي منها ومن اللي قبلها واللي قبلها!! 


أطرق رأسه للحظة قصيرة كأنه يستجمع غضبه، ثم رفع عينيه نحوها وقال بنبرة هادئة لكنها حادة كالسكين:


-عديتلك كتير واقول معلش صغيرة وفاكرة إنها ممكن تضحك عليا، جاهلة بس انتي زي التور اللي ماشي في طريقه وحالف ليأذي أي حد، وفكرتي في لينا وافتكرتيني غبي وشربت طعمك ليا ومفهمتش من أول لحظة إنك السبب في ده كله، فاكره إنك انتي اللي استغلتيني بس في المقابل أنا اللي استغليتك للي أنا عايزه، بس لغاية يسر وتقفي عندك.


انهارت حسناء تبكي وتقول بصوت مخنوق:


-اتنازل عن كل البلاغات دي وأنا اوعدك مش هجي جنبك.


لكنّه نظر إليها بعين خالية من الشفقة وقال ببرود قاتل:


-كنتي فين زمان....اديتك فرص كتير بس كل مرة بتصري على طمعك وفاكرني هسيب مراتي عشان خاطرك، ومش عارفة إن في كتير قبلك حاول وبرضوا فشلوا، بس الفرق هما محاولاتهم ساذجة لكن انتي كنتي قادرة على الأذية واللي زيك يستحق اللي انتي فيه.


سكت لحظة ثم أكمل بصوت خافت لكنه موجع كطعنة في قلبها:


-اللعبة خلصت يا حسناء وانتي مكانك هنا.


وبينما كانت تُساق إلى غرفة الاحتجاز، كانت نظراتها تتشبث بوجهه كالغريق الذي يبحث عن طوق نجاة، لكنه لم يعد يرى فيها سوى الغدر الذي صنعته يداها!


________________


قراءة ممتعة ♥️♥️


الخاتمة نستقبل بها عائلة الجارحي في فرح كريمة المجتمع يزن الشعراوي ومغناطيس المصائب سيرا حسني.



تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااا


تعليقات

التنقل السريع
    close