القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية قصر البيه من الفصل الحادى عشر والثاني عشر والثالث عشر بقلم اسماعيل موسي

 


رواية قصر البيه من الفصل الحادى عشر والثاني عشر والثالث عشر بقلم اسماعيل موسي




رواية قصر البيه من الفصل الحادى عشر والثاني عشر والثالث عشر بقلم اسماعيل موسي




#١١


كان الليل يوشك على الرحيل حين سارت عائشة بخطًى متعثّرة على أطراف الحقول، كأن الأرض ترفض أن تحملها.

كان وجهها شاحبًا، وثوبها ملوثًا بالطين والدمع، والريح تمرّ فوقها ببرودٍ قاسٍ، كأنها لم ترَ شيئًا، ولم تشهد ما جرى.


كانت تسير كمن خرج من بطن الظلام لا يدري إلى أين.

وفي البعيد، كانت أنوار القرية تلمع خافتة، ومآذنها تنادي إلى صلاةٍ لم يسمعها قلبها بعد.

كلّما اقتربت من بيتها، كانت خطواتها تزداد ثِقَلًا، وكأن الجدران نفسها تعرف ما جرى لها وتخجل من النظر إليها.


عند الباب، وقفت طويلًا، تتأمل الخشب البالي الذي حفظ سرّها منذ طفولتها، ثم دفعت الباب ببطء، ودخلت.

البيت ساكن، لا صوت فيه إلا أنفاسها المتقطّعة، والقنديل مطفأ منذ الليل الماضي.

جلست إلى الجدار، وأسندت رأسها إلى الحائط البارد، تحدّق في العدم.


لم تبكِ، فالبكاء صار ترفًا بعد ما حدث.

كانت الدموع قد جفّت، ولم يبقَ في داخلها سوى فراغٍ واسعٍ لا يُحدّ.

مدّت يدها إلى صدرها كأنها تبحث عن شيء ضاع هناك، ثم أغمضت عينيها، وراحت تتنفس بصعوبة.


وفي الخارج، بدأ الأذان الأول للفجر يتسلّل بين أروقة القرية، يمتزج بصوت الريح وبأنينٍ مكتوم لا يسمعه أحد.

ذلك الأنين الذي لم يكن سوى قلبها، وهو يحاول أن يظلّ حيًا رغم كل شيء.


جلست عائشة على الأرض طويلاً، لا تعرف كم مرّ من الوقت، ولا إن كان الليل قد انقضى تمامًا أم لا. كانت تشعر أن شيئًا انكسر داخلها إلى الأبد، شيئًا لا يُرى ولا يُصلح. لم تعد تشعر بجسدها، كأنها غادرتْه وتركته هناك في الحقل، ممددًا بين الطين والبرد والعار.


رفعت رأسها ببطء حين سمعت صوتًا واهيًا يأتي من الغرفة المجاورة، صوت أمّها العجوز الكسيحة، بصوتٍ مرتجفٍ مشوبٍ بالعتمة:

– آنتي جيتِ يا عيشة؟


كادت تختنق العَبْرة في حلقها، فلم تجب، فقط خرج صوتها مبحوحًا كأنما يأتي من بعيد:

– أيوه يا أمّي... جيت.


ساد صمت طويل، سوى من أنين الريح يتسلّل من بين شقوق الجدار، وصوت الأمّ يهمس في الظلام:

– كنتِ فين يا بنتي؟ كنتِ فين طول الليل؟


أغمضت عائشة عينيها، وأجهشت بالبكاء، بكاءً مكتومًا كأنها تخشى أن يسمعه الله فيعاتبها.

زحفت إلى جوار أمّها، وضعت رأسها في حجرها كما كانت تفعل طفلة، ودفنت وجهها في ثوبها البالي، تبكي بصمتٍ لا ينتهي.

مدّت الأم يدها المرتعشة تتحسس شعر ابنتها وتهمس دون أن ترى شيئًا:

– مالِك؟ حدّ زعلك؟


لكن عائشة لم تُجب.

كانت تعلم أن الكلمات لن تغيّر شيئًا، وأن ما كُسر فيها لا يُروى ولا يُقال.


مرّت الأيام بطيئة ثقيلة، كأنها سنوات. لم تخرج من بيتها، ولم تقترب من الحقول، ولم تعد إلى خدمة محمود بيه.

كانت تجلس إلى جوار أمّها صامتة، تحدّق في الفراغ بعينين جامدتين، لا تعرف النوم إلا على فترات قصيرة، ولا الأكل إلا ما يقيم رمقها.


أهل القرية بدأوا يتساءلون عن غيابها، بعضهم قال إن البيه طردها، وآخرون قالوا إنها مرضت.

لكنها لم تُجِب أحدًا، ولم تفتح بابها لأحد.

كانت تشعر أن النور نفسه صار غريبًا عنها، وأن القرية التي كانت تعرفها لم تعد هي، وأنها، هى الأخرى، لم تعد تلك الفتاة التي كانت فى خدمة الباشا ضاحكة متعبة راضية.


لقد صارت شيئًا آخر…

شيئًا لا اسم له.


كان الصباح ما يزال يتهدّل في شوارع القرية كسائلٍ باهت اللون حين توقّف محمود بيه بالعربه الكارو أمام بيتٍ طينيّ صغير يجاور الساقية. نزل من العربه بخطوات متثاقلة، ووجهه يحمل مزيجًا من الضجر والاستفهام، كأن شيئًا يجرّه من الداخل نحو مكان لا يريد الذهاب إليه.


طرق الباب بعصا السائق، فخرج صوت امرأة هرمة من الداخل:

– مين؟

فأجاب:

– أنا محمود بيه وكيل النيابة… جاي أسأل عن عيشة


تأخّر الردّ لحظة، ثم انفتح الباب نصف فتحة، وظهرت الأمّ الكسيحة بعينين غائرتين لا تُبصران، تحاول أن تقف، ثم جلست على عتبة الدار وقالت بصوتٍ متهدّج:

– عايزة إيه يا بيه من بنتي؟


لم يُجب في البداية، بل راح ينظر حوله، يتأمل الفناء الصغير الموحل، والجدران المتشققة، ورائحة البؤس التي تخرج من كل زاوية غير متقبل للنبره البارده قال بعد أن بلع ريقه ببطء:

– هي مَرِضِت ولا إيه؟ بقالها أيام ما جاتش الخدمة.


ردّت الأمّ ببرودٍ جافّ يخفي وراءه خوفًا غامضًا:

– تعبت شوية… ومش هتخدم فى بيوت حد تانى 


رفع حاجبيه مستغربًا ابتلع الاهانه وقال:

– مش ناوية؟ ليه؟

– كده يا بيه كل حى وحر فى حياته 


شعر محمود بيه بضيقٍ يختلط بشيءٍ من الغضب. كان يتوقع أن تنهض الفتاة راكضة حين تسمع صوته، أن تظهر على الباب متلعثمة، خجلة، شاكرة. لكن لا شيء من ذلك حدث.


التفت نحو الداخل، صوته يحمل شيئًا من التهديد المبطّن:

– طيب خليها تيجي أكلّمها دقيقة واحدة.


ترددت الأم، ثم نادت بصوتٍ خافت:

– يا عيشة… البيه عالباب.


لم تجب.

عاد النداء مرة ثانية، فسمع وقع أقدامٍ متثاقلة، ثم ظهرت عائشة عند العتبة، شاحبة الوجه، غائرة العينين، كأنها خرجت من حُلمٍ طويلٍ متعب.

لم تنظر إليه مباشرة، فقط همست:

– صباح الخير يا بيه.


قال بلهجةٍ حاول أن يجعلها هادئة:

 ليه مش عايزة ترجعي الخدمه يا عيشه ؟

– خلاص مش هقدر يا بيه … 

– مش هتقدري؟ ليه؟

–همست عيشه وهى تدارى دموعها خلاص يا بيه… الأيام دي مش زي الأول.


تأملها طويلًا، وفي عينيه سؤالٌ لا يُقال. كان يشعر أن وراء كلماتها شيئًا أكبر من التعب، شيئًا لا يجرؤ على لمسه.


قال أخيرًا، بصوتٍ خافتٍ كأنه يحدّث نفسه:

بشوقك يا عيشه 


ثم استدار عائدًا إلى سيارته ببطء.

وقفت عائشة تتابع خطواته حتى غاب عند أول الطريق، ثم أغلقت الباب دون كلمة أخرى.

أما الأمّ فظلت صامتة، تمسح على يد ابنتها المرتجفة. 


منذ أن غادر بيت عائشة، ظلّ وجهها يطارده في الممرات، في أروقة النيابة، وحتى في زوايا غرفته عند المساء.

كان يحاول أن يقنع نفسه أن الأمر لا يستحق التفكير، أن الفتاة — في النهاية — خادمة بسيطة من بنات الريف، لا يُنتظر منها إلا الطاعة، لكن شيئًا ما في أعماقه كان يتمرّد على هذا المنطق البارد.


جلس في مكتبه، أمامه ملفات القضايا، وأوراق التحقيق، غير أنه لم يرَ سطرًا واحدًا منها. كل ما كان يراه هو نظرة عائشة حين قالت: «خلاص يا بيه… الأيام دي مش زي الأول».

تلك الجملة القصيرة تسلّلت إلى صدره كخنجر مغروس في لحم الغرور.


هل حدث لها ما لا تريد أن تبوح به؟

كان سؤالًا يتردّد في رأسه كصدى بعيد، يرفض أن يهدأ.

تذكّر علوان، نظراته الخبيثة في أيام السوق، وضحكاته الغليظة حين تمرّ عائشة حاملة سلال الخبز. وتذكّر أيضًا تلك الليلة حين سمع طرقاته المفاجئة على الباب… الليلة التي غادرت فيها عائشة القصر ولم تعد.


انقبض صدره. شيءٌ خفيّ في أعماقه كان يهمس بأن بينهما — بين علوان وعائشة — جرحًا ما، جرحًا لا يريد أحدٌ أن يراه.

لكنه، بدل أن يحزن عليها، أحسّ بغضبٍ باردٍ يزحف في داخله.

غضبٌ ليس من أجلها، بل عليها.


لقد قابلت عاطفتي بالجحود، قال في نفسه وهو يضرب المكتب بقبضته.

ألستُ أنا من دافعت عنها؟ من حميتُها من كلام السوق وأعين الرجال؟ ألستُ أنا من أنقذها من تحرشات ذلك الحيوان علوان؟


أحسّ بأن الكرامة — تلك الكلمة التي طالما استهزأ بها في غيره — قد جُرحت فيه هو هذه المرة.

أن ترفض العودة إلى خدمته دون سبب… أن تقف أمامه ببرودٍ صامتٍ كأنها تنظر إلى غريب… ذلك ما لم يغفره قلبه.


خرج إلى الشرفة، كانت القرية غارقة في الغروب، والهواء يحمل رائحة الطين الرطب.

نظر نحو الحقول الممتدة وقال في نفسه:

– غريبة الدنيا… تديهم الرحمة يردّوها بالجفاء.


ثم أدار ظهره للحقول وعاد إلى الداخل، والضغينة تغلي في صدره، تتغذّى على كبريائه الجريح.


فى صباحٍ ثقيل الرطوبة، كان القصر ساكنًا إلا من وقع أقدام البستانى عبد الفتّاح وهو يعبر الممر الحجرى نحو الصالون الكبير، يحمل فى صوته نبرة رجاءٍ مكسوّة بالحرص.

وقف عند الباب وقال وهو يخلع طاقيته:

– صباح الخير يا بيه… جبتلك البنات زى ما طلبت.

أشار محمود بيه برأسه أن يدخل.


دخل عبد الفتّاح تتبعه ثلاث فتيات من بنات الريف، يرتدين الجلابيب الخشنة والطرحات الداكنة، وجوههنّ تفيض بخجلٍ فطرىّ، وعيناهنّ تتجنبان النظر إلى الرجل الجالس خلف المكتب.

وقفن فى صفٍّ قصيرٍ أمامه، والبستانى يشرح بلهجةٍ متردّدة:

– دى فاطمة بنت خالى يا بيه، شاطرة فى الغسيل والطبيخ، ودى سعدية بنت عمّى… ودى الصغيرة حليمة، بس دى دماغها ناشفة شوية.


كان محمود بيه يرمقهنّ واحدًة تلو الأخرى بعينٍ صامتة لا تنفذ إلى الوجوه، بل تتجاوزها إلى ظلٍّ غائبٍ لا يفارق ذاكرته.

رأى فى فاطمة ابتسامة عائشة حين كانت تضع له الطعام.

وفى سعدية انكسارها وهى تنحنى لتشعل المدفأة.

وفى الصغيرة حليمة، لمَح شيئًا من دهشة عائشة حين سألها: بتخافى من إيه؟


كان وجه كلٍّ منهنّ يتحوّل فى عينيه إلى ملامح عائشة نفسها، كأن الذاكرة تُصرّ على أن تظلّ حاضرة، تسخر منه ومن محاولته للنسيان.


أشعل سيجارته ببطءٍ، ثم قال دون أن يرفع رأسه:

– طيب يا عبد الفتّاح… سيبهم شوية برا.


خرج البستانى مع الفتيات، وبقي وحده، الدخان يتصاعد من بين أصابعه كأنّه يتشكّل على هيئة وجهٍ يعرفه.

مدّ يده نحو الفنجان ولم يشرب.

كان يعرف أنّه لن يجد بديلة.

ففى عيون كل واحدة منهنّ كانت عائشة تتكرّر، تُطلّ من بين الظلال، تبتسم أحيانًا، وتعاتب أحيانًا أخرى، ثم تغيب تاركةً وراءها صمتًا كثيفًا كرمادٍ لا ينطفئ.


همس لنفسه وهو ينفث الدخان:

– كلهم عيشة… لكن عيشة واحدة كانت تكفى لإشعال النار فى البيت كله.


كان المساء قد هبط على القصر ببطءٍ كئيب، والظلال تمتدّ فوق الجدران العالية كأنها تسحب معها ما تبقّى من دفء الحياة. جلس محمود بيه إلى مكتبه، سيجارته تحترق فى صمت، والعتمة تتكاثف حوله كأنها تستمع لأنفاسه المتقطعة. كان عبد الفتّاح يقف أمامه ينتظر الكلمة الأخيرة.


– خلاص يا عبد الفتاح… صرف البنات.

رفع البستانى حاجبيه فى دهشةٍ خفيفة:

– ليه يا بيه؟ دول نضاف ومؤدبين، وكل واحدة فيهم تتمنى تخدم حضرتك.

قال محمود بيه وهو يزفر دخانًا ثقيلاً:

– ما فيش فايدة… محدش منهم ينفع. ادّيهم كام قرش وخلّيهم يروحوا.


انحنى عبد الفتّاح طاعةً، وغادر وهو يحدّث نفسه عن مزاج البهوات الغريب. بعد قليل عاد وأخبره أنّ البنات شكرن البيه ودعين له بطول العمر، وأخذن نقودهنّ وانصرفن فى طريق القرية.


ومنذ ذلك اليوم خلا القصر من الخدم. صار عبد الفتّاح يتولّى كل شيء: يشعل المدفأة، ويحضّر القهوة، ويمسح الممرات بصمتٍ ثقيل. كان الصمت نفسه يملأ المكان حتى كاد يُسمع له صدى، لا يُقطعه إلا وقع أقدام البستانى أو صفير الريح فى النوافذ القديمة.

البيت الذى كان ينبض بخطوات عائشة صار ميتًا بلا روح، والليل يمرّ عليه كأيامٍ متشابهة لا معنى لها.


مرّت أسابيع طويلة، والقرية نفسها نسيت وجه البيه. فى صباحٍ شتوىٍّ كئيب، جاء عبد الفتّاح مهرولًا إلى مكتب محمود بيه.

– يا بيه… عيشة عند الباب.

رفع البيه رأسه ببطءٍ، عينيه ضيقتان كمن يسمع اسمًا من الماضى.

– عيشة؟ جت تعمل إيه؟

– بتقول يا بيه إنها عايزة ترجع للخدمة.

صمت محمود بيه قليلًا، ثم قال ببرودٍ قاتل:

– قوللها تمشى.


تردّد عبد الفتّاح لحظة، لكنه خرج ونفّذ الأمر. وقف عند الباب وقال لها بصوتٍ متردد:

– البيه مش عايز حد يخدمه دلوقتى يا عيشة.

نظرت إليه بعيونٍ غائرة، فيها بقايا دموعٍ قديمة، وقالت:

– بلّغه بس إنّى ما جتش غير عشان أعيش، أنا ماليش مطرح تانى.

هزّ عبد الفتّاح رأسه بأسفٍ صامت وقال:

– الكلام كلامه يا عيشة… روحى ربنا يسهل لك.


ابتعدت ببطء، جسدها يترنّح تحت ثقل الذلّ، وطرحتها السوداء تجرّ التراب خلفها.

رآها عبد الفتّاح تمضى فى الطريق الترابى نحو أطراف القرية حتى اختفت.

وحين عاد إلى القصر، وجد البيه واقفًا عند النافذة، يراقب الحقول من بعيد، كأنه يرى فيها ظلًّا يمشى فى ذاكرته لا يغيب.


لكن فى تلك الليلة، حين رحل عبد الفتّاح وأُغلق القصر على صمته، دوّى فى الفناء طرقٌ خفيف على الباب الحديدى.

كانت الطرقات مترددة، كأنها تستأذن الليل نفسه قبل أن تُسمع.

نهض محمود بيه من مقعده، اقترب ببطءٍ، والريح تمرّ من الشقوق كأنها تهمس له أن لا يفتح.

توقف عند الباب، ومدّ يده نحو المزلاج.

خارج القصر، وقفت عائشة، بردانة، شعثاء الشعر، ترتجف من المطر والمهانة، تهمس بصوتٍ واهنٍ:

– افتح يا بيه… أنا عيشة.



#12


كان محمود بيه جالسًا أمام المدفأة، عيناه تتابعان اللهب المتلوى كأنه يحاول أن يقرأ فيه شيئًا خفيًا. كان الكتاب بين يديه مفتوحًا منذ ساعة، لكنه لم يقرأ منه سطرًا واحدًا.

وفجأة، جاءه الصوت من الخارج — خافتًا، لكنه واضح فى صمته:

“افتح يا بيه… أنا عيشة.”


رفع رأسه ببطء، كأن الصوت خرج من زمنٍ مضى، ثم وضع الكتاب على الطاولة، ووقف. ظلّ لحظةً يستمع، يتأكد أنه لا يحلم، ثم اتجه نحو الباب بخطواتٍ حذرة.

الريح كانت تصفر من الشقوق، ولهيب المدفأة يرقص خلفه كظلٍّ يتبعه.


حين فتح الباب، رأى عيشة واقفة عند العتبة. ثوبها مبلل من المطر، وجهها شاحب كالقمر فى آخره، وعيناها معلّقتان به برجاءٍ صامت.

تأملها طويلًا — نظرة لا تخلو من الدهشة، ولا من الحذر.

اسرد الان سماع محمود بيه الذى كان يجلس جوار المدفأه

صوت عيشه

ثم تركه لكتابه فى استغراب وسيره تجاه الباب ليفتحه

ثم معاينته لعيشه بنظره طويله

قبل أن يهمس

ايه إلى جابك هنا ؟

قالت عيشه، جيت اشتغل يا بية

ابتسم محمود بيه بسخريه

وقال ارجعى بيتك يا عيشه مفيش شغل هنا

انحنت عيشه على الأرض نحو قدم محمود بيه وهمست وهى تقبلها لا يا بيه لا

بلاش انت كمان تيجى عليه زيهم !!

انا خدماتك يا بيه

تركها محمود بيه تلعق حذائه مثل حيوان آليف

ثم قال بنبره صارمه

فتحتلك دراعاتى مره قبل كده

وقابلتى رحمتى بتمردك ؟


كنت غلطانه يا بيه، غبيه وحماره

مفيش حد بيعطف عليه غيرك


 تقدّمت عيشه  خطوة، كأنها تستجدى الكلمات قبل الرحمة:

– ما تخلّنيش أرجع يا بيه… الناس ما بترحمنيش، وأنا ما ليا غيرك.


سكت محمود بيه  لحظة، عيناه لا تزالان معلّقتين بها. لم يتحرّك نحوه، لكنه شعر أن شيئًا ينهض داخله — خليط من الشفقة القديمة، والغضب المكبوت، والذكريات التى لم تهدأ.


قال بنبرةٍ ثقيلة:

آنتى خذلتينى يا عيشه ،خذلتينى 

انخفض رأسها، وهمست بنبرةٍ واهنة:

– كنت غبية يا بيه… وغلطانة.


أدار وجهه عنها، ثم قال وهو يسحب نفسًا من سيجارته:

– الندم ما بيفيدش دلوقتى… 


تجمدت عائشة مكانها، والدموع تلمع على خديها دون صوت. لم تعرف إن كانت تبكى خوفًا أم ندمًا أم شيئًا آخر لا اسم له.


– امشى يا عيشة… الليلة دى مش ليكى.


لا يا بية وحياة اغلى حاجه عندك بلاش تحكم عليه بالموت

سكن الليل وتجمدت الرياح فى الخارج وتماوج ضوء القمر على الوجه الحزين

شعر محمود بيه بشيء داخله يتحرك ،شيء مرعب لا وصف له شيء لا يمكنه التحكم به

موجه من تلك الموجات المسعوره التى كانت تأكل جسده


كنت معتقد نفسى سيدك يا عيشه، وشوفى إلى جرة ؟

جيتلك بنفسى لحد باب بيتك وفى الآخر حصل ايه ؟

سمعت كلام من واحده حثاله زيك بتقولى مش عايزه اشتغل

انا الذى عطفت عليك ومنحتك أجره لا يحلم بها فلاح فى شهور ،انتى مصيرك الحقول تصحى من الفجر وتشتغلى لحد ما ضهرك يتقسم وفى الآخر تاخديلك قرشين تلاته وتسمعى كلام يسم البدن من علوان وغيره

بعض البشر منحهم بعض الحريه والتعاطف بيخليهم يتمردو عليك

مش بيقدرو النعمه إلى هما عايشين فيها

كان رأس عيشه يلامس الأرض من الخزى والانكسار

تهمس بوجع انا مخذلتكش يا بية ولا تخليت عنك

الظروف كانت اقوى منى

إلى حصلى كان أمر صعب اووى اووى


نفخ محمود بيه دخان سيجارته بغل ،انا ميهمنيش حصل معاكى ايه ومش وظيفتى اسمع قصصك

آنتى مجرد فلاحه لعينه متمرده ولو اديتك فرصه هترجعى

تتمردى تانى


مش هتمرد يا بيه والله مش هتمرد همست عيشه وكأنها عثرت على القشه إلى ستنقذها من الغرق

انا خدماتك ،من ايدك دى لايدك دى.....


ترك محمود بيه باب البيت مفتوح لم يسمح لها بالدخول ولم يطردها

عاد ليجلس على مقعده جوار المدفأه يفكر فى شرود

انا هذا الصراع داخله سوف يقتله ،ما بين حارس للعداله يفترض به ان يراعي روح القانون وما بين ذلك الآخر داخله

الذى يتوق للاخضاع والتلذذ بنظرات الانكسار فى عيون نسائه

وماذا فعل لة القانون الذى يقيده ؟

القى به  فى غياهب الارياف ليعيش بين الفلاحين الحثاله

والبهائم والذباب والروث ؟

انه داخل قذره، فى ملكيته الخاصه وقوانينه الخاصه ولا يوجد اى مانع ان يكون حارس للعداله خارج بيته

وملبى لرغباتة داخل ملكيته الخاصه ،سمع اصطكاك أسنان عيشه من البرد

لكنه لم يشعر بأى شفقه عليها ،كان الآخر داخله هو المتحكم

بينما حارس العداله التهمه الحطب الذى يطقطق داخل المدفأه

من اليوم لن يحضر خادمه واحده ،سيحضر عشرات الخدم

سيستمتع باخضاعهم فى ملكيته الخاصه ،ان المرأه مهما كان نوعها تحب أن تخضع، تتوق لذلك لكنها تأبى ومتعته ان يقضى على ذلك الكبرياء المزيف،على ذلك الإباء العميق داخل روحها 


ظنت عيشه ان محمود بيه نسيها حينما طال شروده

حيث كان ينظر إلى اللهب بعيون تائهه وتتراقص على وجهه قسمات متصارعه عصيه على فهمها الضعيف


انتى طلعتى من هنا مرفوعة الرأس يا عيشة وانا همنحك فرصه تانيه تترمغى داخل نعيمى

همست عيشه ،شكرا يا بيه انا هبوس ايدك


استنى عندك... صرخ محمود بيه فى عيشه التى حاولت دخول القصر، حتى ظنت انها اقترفت جرم عظيم او فعلت كارثه


إنحنى أمرها محمود بيه بنبره صارمه ،انتى خرجتى من هنا انسانه، لكن هتدخلى القصر نوع تانى ،شيء احتاجه انا

هتدخلى القصر زاحفه يا عيشه


وماله يا بيه اذا كان دا يرضيك حاضر هعمل إلى عايزه

جثت عيشه على الأرض بملابسها المبتلة وجسد يرتعش من البرد مثل هره شريده زحفت نحو المدفأه

وحينما وصلت رفعت رأسها فتلاقت عيونها بعيون محمود بيه الصارمة الذى مد لها يده بلامبلاه ثم همس كأن الكلمات تخرج من جوفه وليس من بلعومه، انا سيدك..

.. نعم.... سيدى

القى محمود بيه حزمه من الحطب داخل المدفأه ،اقفلى الباب يا عيشه وقربى من النار خليها تدفيكى


#13


قرب اللهب حيث استشعر جسدها الدفيء وهى تعاين البية يدخن سيجارته تفكرت عيشه  !!

إنه غير عابيء بها على الإطلاق، إنه حتى لم يسأل ما بك  ؟


وهى راقده على حصيرها تخيلت عيشه ذلك الموقف يحدث أكثر من مره ،وهى فى كنف البية يسألها عن ما حدث لها

ثم تقص عليه جبروت علوان وظلمه ،فيغضب البيه ويدخل محمود السجن ،إنها حتى تخيلته يربت على كتفها ويطمأنها ويقول لها لا تخافى انا الى جانبك.

ربما لأن عقلها بهيمه كما يقول البية تسرف فى الأحلام من موقعها أسفل قدميه رأت البية جبل شاهق وهى مجرد حصى صغير يطأه السائر.


إتعشيت يا بيه ؟

إنتبه محمود بيه لعيشه وترك كتابه ثم رمقها بغضب ،بعيون مستعره

انا قلت ايه يا بهيمه ؟

همست عيشه قلت ايه يا بك؟

امسك محمود بيه طرف أذنها ،أسمى سيدك فاهمه ؟

_فاهمه يا سيدى 

إتعشيت يا سيدى ؟ ترك محمود بيه الكلمه تلف وتدور، ابتلعها فى اعماقه 

إلى بيعجبنى فيكى عيشه انك رغم ظروفك مش بتنسى طبيعة شغلك !!

طبعا يا سيدى دا شغلى ومقامى انا عارفه


غيرى هدومك وحضرليلى عشا خفيف يا عيشه...


نهضت الخادمه مثقله بالجروح والضعف ،بدلت ملابسها بأخرى ولاحظت ان البية لم يتخلى عن ملابسها ولم يلقى بها خارج المنزل فزاد امتنانها له أكثر، انها تعرف أن قلبه ابيض

ومهما صرخ او قسى فأنه ليس مثل اولائك البشر فى الخارج الذين يرمقونها بشهوة وقد نابها ما نابها من علوان حتى انها لا تستطيع أن ترفع عينها عن الأرض


ثم دلفت إلى المطبخ واحضرت جبن وزبده بلدى وعيش وضعتهم على الصنيه قبل أن يرتفع صوت البيه

خلصى يا حيوانه...


ارتعد جسد عيشه ،البيه لازال غاضب منها يقول حيوانه وبهيمه.

وصلت عيشه عند البية ووضعت الصنيه امامه واضعه ذراعيها جوار جسدها.... عشا خفيف يا بي.. سيدى


ابتسم محمود بيه ومنحها نظرة رضا جعلت قلبها يرقص من الفرحه

يمكنها ان تعمل طول النهار من أجل نظرة امتنان من البية حتى لو انكسر ظهرها

___صحه وعافيه يا سيدى

ورغم أميتها ونشأتها المعقده الا انه لم يخفى على عيشه

ان تلك الكلمه تمنح البيه شعور بالراحه فأولت على نفسها ان تقولها عمال على بطال.

اعمل قهوة يا سيدى ؟

ايوه يا عيشه من فضلك

لم يقل حيوانة همست عيشه فى سرها، اذا هكذا ستجرى الأمور

اعدت عيشه القهوه وقدمتها بطاعه محببه لنفسها ،القهوه يا سيدى محمود

ثبت محمود بيه نظره على عيشه وهمس اشكرك

تعالى اقعدى قريب منى هنا وعينك على المدفأه

__حاضر يا سيدى

شعر محمود بيه بالملل من كتابه فنحاه جانبآ ،اسمعى يا عيشه

نعم يا سيدى..


أنا قررت اوظف خدامه ولا اتنين يساعدوكى فى شغل البيت

انتفض جسد عيشه ،لا تحب أن تشاركها امرأه فى خدمة البك

__هو انا قصرت فى حاجه يا سيدى؟

انتى سبتى القصر ومشيتى يا عيشه ومش بعيد تكررى الأمر مره تانيه، ثم القصر كبير ومحتاج خدم

كانت غلطه يا سيدى ومش هتتكرر تانى


الخدم إلى انا محتاجهم فى نفس عمرك، افضل انك تختاريهم بنفسك يا عيشه

لكن قبل توظيفهم لازم أعاينهم بنفسى، عايز ظروفهم تكون نفس ظروفك، غلابه وعايزين ياكلو عيش

صمتت عيشه ،شعرت ان القصر تحطم فوق دماغها، ان خدمة محمود بيه من حقها وحدها ولن تشاركها فيه إى امرأه

__ممكن اقول حاجه يا سيدى؟

قولى يا عيشه

ممكن لو وظفت خدم غيرى اتولى انا بس خدمتك ؟

ابتسم محمود بيه فى سره، هذا ما يرغب به تحديدا

ذلك التحدى ،الرغبه فى الامتلاك

_لكن انتى يا عيشه مش مستعده تعملى إلى انا عايزه

وانت هتحتاج ايه يا بيه اكتر من إلى انا بعمله ؟


رفع محمود بيه حاجبه، هحتاج حجات كتير يا عيشه

واى حاجه احتاجها لازم تتنفذ دون جدال او نقاش


همست عيشه طيب فهمنى يا سيدى ؟


مش محتاجه تفهمى حاجه يا عيشه انا متأكد انك مش هتقدرى تعملى إلى انا عايزه

بكره الصبح هاتى الخدم الجداد اول ما ارجع من المحكمه

عايزهم يكونو هنا فى القصر منتظرين

ثم نهض من فوره إلى غرفته تاركًا عيشه بفكر صاخب مجلجل...


احضرت عيشه ثلاثة خادمات ليختار من بينهم البيه

واحده صديقتها ،واخرتين من العاملات فى الحقول

فتاتين مائعتين تعرف انهم لن يعجبو الباشا


توقفت العربه الكارو آمام باب القصر ونزل منها محمود بيه يخطر فى بذته الرسميه وسيجاره فى فمه

رقم الفتيات المنحنيات بلا اهتمام وجلس على المقعد ثم نزع طربوشه من فوق رأسه ووضعه على الطاوله

ركضت واحده من البنات وامسكت الطربوش مسحته بكم عبايتها وهمست تحب اسيبه فين يا بيه؟

لم يرد محمود بيه وأشار إلى عيشه التى اقتربت منه

نعم يا سيدى....

عرفى الخدامه الجديده تحط الطربوش فين..

شعرت عيشه بصدمه ،لقد عينت الخادمه التى تمنت ان لا يختارها البيه ولا تعرف السبب

ثم وقفت الخادمات فى صف وهمست عيشه دول البنات إلى حضرتك أمرت بيهم

سعيده وليالى وفيروز ، لم يكن محمود بيه مهتم بالاسماء

__اشتغلتم فى قصر قبل كده؟

لا يا بيه..


اها، طيب انا محتاج اتنين منكم ،واحده اشتغلت بالفعل وهختار من الاتنين الباقين وأحده

ثم اختار الفتاه البعيده عن عيشه وترك التى تقف إلى جوارها لترحل والتى كانت صديقة عيشه


دول هيبدأو شغل من النهرده، ودى ممكن تروح بيتها

ثم نهض إلى غرفته وقبل ان يغلق الباب دخلت عيشه عليه

سيدى ؟ فيروز دى بنت غلبانه ويتيمه ومقطوعه من شجره

وعلوان مطين عيشتها ذى واكتر لو سمحت شغلها معايا

__رفع محمود بيه ايده  ،بس انا مش محتاج خدم تانى يا عيشه خليها تروح

عشان خاطرى يا سيدى ،ابوس ايدك دى غلبانه والله

وانحنت آمام البية بطاعه وذل وامسكت يده وطبعت قبله عليها

اطلق محمود بيه بصره كان باب غرفته لازال مفتوح

وفى الخارج الفتيات ينظرن إلى عيشه المنحنيه آمام سيدها

فتركها دقيقه خاضعه قبل أن يرفع يده

خلاص خليها تشتغل معاكى، شكرآ يا سيدى شكرا

انحنى محمود بيه إلى اذن عيشه وهمس ،انا عملت كده عشانك

همست عيشه دى جميله مش هنساها طول عمرى

واصل البيه همسه لازم تطيعى سيدك اكتر من كده وتكونى ممتنه لعطفه عليكى

حاضر يا سيدى حاضر..

تحول البيت الساكن وضج بالصخب عادت الحياه إلى غرفه

وانتشرت ثرثرات الخادمات داخل ارجائه

وفى اليوم التالى الذى انبعثت فيه روائح الطبخ داخل المطبخ وصل البيه من عمله

وانتظر الغداء ،كانت ليالى تحمل الصنيه عندما اوقفتها عيشه

سيبيها ياعيشه اطلق محمود بيه أمره من داخل الرواق

انها الخادمه التى ركضت نحو طربوشه

وضعت ليالى الطعام على الطاوله ،اتفضل يا بيه بالهنا والشفا

لم يشتمها الباشا لم يقل بهيمه او حيوانه كما توقعت عيشه

__همس شكرا

تأمر بحاجه تانى يا بيه ؟

متشكر انتى اسمك يا ايه ؟

خدماتك ليالى يا بيه

شكرا يا ليالى تقدرى تمشى


اشتعل الغضب فى صدر عيشه ،انها الوحيده التى تستحق ان يتحدث معها البية

حضرت القهوه بسرعه وخرجت تقف إلى جوار البية دون أن تنزلها من يدها


تكملة الرواية من هناااااااا 


لمتابعة باقى الرواية زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كاملة من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

 مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هناااااا







تعليقات

التنقل السريع
    close