رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل الثالث والثلاثون 33بقلم سيلا وليد حصريه
رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل الثالث والثلاثون 33بقلم سيلا وليد حصريه
الفصل الثالث والثلاثون
"لا إله إلاّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين "
روحان تمضيان بمحاذاة بعض،
وما إن حاولتا الالتقاء… حتى انكسرت إحداهما على عتبة الأخرى.
لم تكن دروب العمر ملكًا لنا
لكنّا نسير فيه كغرباء
نبحث عن دفءٍ لا يعرف طريقه إلينا.
اتبعتك بلا حذر، ومضيتُ خلف وهجك حتى أطفأتُ كل قناديل العودة.
يا لسذاجة القلب حين يسلم روحه لمن لا يجيد الإمساك بها.
كانت دفاتري تنبئني بصقيعٍ يزحف،
لكن قلبي كان يصرّ على رؤية الربيع خلف كل غيمة…
حتى أخذتَ منّي ما ظننته محفوظًا خلف ألف جدار
أخذتَ قلبي المتعب، ذلك القلب الذي ظنّ أن الوصول إليك نجاة...
فإذا به غرقٌ آخر.
اقترب إلياس من ابنه يراقبه بصمتٍ يختبئ خلفه قلقٌ عميق، بينما كان يوسف يبدو كمن تلقَّى ضربةً أربكته حتى أفقدته القدرة على التنفُّس، وكلمات والدته لا تزال تطنُّ في صدره كصاعقةٍ اخترقت قلبه قبل عقله.
حاول أن يجمع شتات نفسه، لكنَّه لم يجد سوى بقايا قوَّةٍ متعبة، فنهض ببطء كأنَّ جسده يجرُّ خلفه ثقل الحقيقة التي سمعها للتو.
قال بصوتٍ خافتٍ مكسور:
_الوقت اتأخَّر، لازم أنام عندي شغل بكرة.
نادته ميرال بصوتٍ مرتجف، شعرت بأن كلماتها اسقطه أرضًا:
_يوسف…
لكن إلياس رفع يده يمنعها من الاقتراب، وبعينين يغلب عليهما الحزن والخوف قال:
_روح يا ابني لازم ترتاح، إحنا مش عايزين غلطة تتحسب عليك.. متنساش تحت إيدك أرواح ناس بريئة.
تمتم يوسف:
_تصبحوا على خير.
قالها ثم استدار يمضي بخطوات بطيئة، مثقلة، كأنَّ الأرض تشدُّه نحو الأسفل، يشعر بصدره يختنق من الضجيج الذي صنعته كلمات أمِّه في داخله عويلٌ لا يتوقف، يجرح ويذكِّر ويُعيد كلَّ ماحاول نسيانه.
ماإن اختفى حتى التفت إلياس نحو ميرال، وفي عينيه سؤال يخشى إجابته:
_إيه اللي سمعته دا؟
جلست ميرال تجمع خصلات شعرها التي تمرَّدت على وجهها بفعل ارتعاش يديها، ثم وضعت كفَّيها فوق ملامحها في محاولةٍ لإخفاء اضطرابها، وقالت بصوتٍ متهدِّج:
_عرفت بالصدفة…يوم ماكان تعبان.
ضاق صدر إلياس، واقترب منها قليلًا:
_يعني إيه، ضي اشتكت لك؟
هزَّت رأسها نافية، ودمعةٌ حائرة انزلقت على وجنتها:
_لأ..بس هيَّ انهارت من خوفها عليه، قالت كلام كتير وأنا استنتجت.
لم يستطع إلياس إخفاء الغضب الذي اشتعل بصدره ، فسأل بصوتٍ منخفض لكنَّه حادّ:
_طيب ليه ماقولتيش، ليه اتكلِّمتي معاه من ورايا؟
طالعته بنظرات أشبه بنظرة أمٍّ جُرحت لأنَّها أخفت خوفها ولم تُخفِ عواقبه، تنتظر منه أن يفهم..تنتظر أن يهدأ..تنتظر ألَّا ينهاروا جميعًا
تدحرجت دمعةٌ ثقيلة على خدَّيها، دمعةٌ حملت خوف أمٍّ ووجع امرأة تشعر بأنَّها صارت عبئًا على قلب ابنها..أمسكت صدرها كأنَّ الألم خرج من بين أضلاعها وهي تهمس بصوتٍ منكسر:
_قلبي وجعني عليه يا إلياس..كلِّ حرف كاتبه بينخر في قلبي، أنا…أنا نقطة سودة في حياة ابني، بدل ماأكون دوا لجراحه…بقيت الوجع اللي دمَّره.
لم يحتمل إلياس اهتزازها فسحبها إلى صدره بقوَّة، يحتضنها كمن يخشى أن ينهار نصفه الآخر بين يديه..مرَّر كفِّه على شعرها بحنانٍ حارق وقال لها:
_حبيبتي…يوسف بيحبِّك وبيخاف عليكي قوي، وإحنا منعرفش هوَّ كتب كده ليه، ولا إمتى..يمكن كان متضايق، يمكن ظروفه كانت ضاغطة عليه.
رفعت ميرال رأسها إليه، وعيناها تلمعان بحرقةٍ واضحة، صوتها خرج كاختناق:
_وجع لي قلبي يا إلياس..نفسي أحضنه وأطبطب على صدره وأقولُّه سامحني يا حبيبي…بس مش قادرة خايفة أوجعه أكتر…خايفة يكون وجودي بيفكَّره بمرار الأيام دي.
ابتسم إلياس رغم ثقل قلبه، وتمتم وهو يمسح دموعها بإبهامه:
_تبقي عبيطة..دا بيتجنِّن لمَّا بيشوفك زعلانة، دا ممكن يتخانق معايا علشانك وينسى نفسه.
اتَّسعت نظراتها المرتجفة:
_ليه مش قادر تقولها، عايز ما يتوجعش تاني؟
زفر إلياس بعمق، كأنَّه يحاول أن يهدِّئ من عاصفةً احزانه:
_ميرو..اهدي وبلاش تتسرَّعي، إنتي عارفة دلوقتي لو راح يوسف يقلب على ضي، مش هيعرف يسيطر على نفسه.
اتَّسعت عيناها فزعًا، كأنَّ الفكرة ضربتها كالبرق:
_والله..والله العظيم يا إلياس ماقالت لي حاجة.
اقترب منها أكثر، وصوته انخفض حدَّ الهمس، لكنَّ القلق بدا واضحًا:
_بس هوَّ مش هيفهم كدا.
سكنت ميرال لحظة، كأنَّ روحها انفصلت عنها ووقفت تتأمَّله، ثم عادت الدموع تتساقط بصمتٍ موجع، ويدها على صدرها تمسك قلبها تخشى أن تكون قد آذت ابنها بكلماتها
عند يوسف:
وصل إلى منزل عمِّه، بخروجها من المنزل مع والدتها التي تتحدَّث إليها:
_حبيبتي خلِّي بالك من نفسك، وبلاش تنطيط كلِّ شوية، خايفة تكوني حامل وتتعبي.
قبَّلت خدَّ والدتها بعد توقُّف يوسف ينتظرها وقالت:
_تصبحي على خير يا ستِّ الكلّ، متقلقيش أنا كويسة..قالتها وتحرَّكت تركض إليه..كان يتابع خطواتها مع ابتسامتها التي تذيب قلبه من الهموم،
عانقت ذراعه وطبعت قبلةً على خدِّه:
_اتأخَّرت كدا ليه؟ وحشتني على فكرة…
قالتها بصوتٍ خافت وهي تقترب منه، لكنَّه اكتفى بإيماءةٍ لغرام الواقفِة تراقب تحرُّكهم، ثم تابع سيره دون أن يمنحها ردًّا..
_يوسف..بكلِّمك مابتردش ليه؟
نظر أمامه بصمتٍ طويل إلى أن وصلا للمنزل:
ـ هاخد شاور..وقولي لحد يعملِّي قهوة ويطلَّعهالي.
قالها بلا روح، ثم همَّ بالصعود.
أمسكت ذراعه توقفه:
_إنتَ زعلان علشان شمس..صح؟
رفع عينيه إليها، نظرة ثقيلة، صامتة… كأنَّه يحمل شيئًا لا يريد أن ينطق به، ثم انسحب من أمامها دون كلمة.
راقبته وهي تعقد حاجبيها بغيظ وقلق ممزوجين، ثم نادت الخادمة:
_اعملي قهوة للدكتور، وعايزة عصير فريش.
تحرَّكت الخادمة فورًا، بينما صعدت هي إلى غرفتهما..خلعت حجابها ورداءها، وبقيت ببعض مايسترها من ثيابٍ داخليَّة، دخلت غرفة الملابس تبحث عن شيءٍ ترتديه..تجمَّدت للحظة أمام صفِّ قمصانها الحريرية الجديدة التي لم تجرؤ حتى على لمسها من قبل.
وقعت عيناها على قميصٍ أسود حريريّ..سحبته بحذر، وارتسمت على شفتيها ابتسامة صغيرة خجلة. ذكريات ماحدث بينهما قبل ساعاتٍ عادت تهزُّ قلبها بقوَّة…همساته…لمساته…قربه الذي جعلها ترتجف حتى أحاطت جسدها بيديها لتحتوي هذا الخدر اللذيذ.
دلف يوسف بعد خروجه من الحمَّام، وقف لثوانٍ يتأمَّلها وهي جالسة نصف مرتدية لملابسها، وابتسامة حالمة على وجهها.
اقترب من الخزانة يسحب ملابسه دون أن يلتفت.
نهضت فور سماعها حركته، واقتربت منه بخجل:
_حمَّام الهنا.
وقع نظره على بشرتها المكشوفة… لكنه لم يرقّ، بل ازدادت ملامحه برودًا:
_قاعدة كدا ليه؟.روَّحي غيَّري هدومك عشان متاخديش برد.
ضيَّقت عينيها، تقترب خطوة:
_مالك يا يوسف، معقول لسَّه موضوع شمس مضايقك؟
التفت إليها بحدَّة خافتة:
_ضي…عايز ألبس هدومي ممكن تطلعي برَّا؟
ارتجف جسدها من نبرته…كأنَّه تحوَّل لشخصٍ آخر غير الذي كان بأحضانها، وهناك من الوساوس التي بدأت تنخر عقلها.
تراجعت خطوةً بخطوة، خجلًا وجرحًا، وتمتمت بصوتٍ مكسور:
_ آسفة.
غادرت الغرفة سريعًا.
نظر يوسف للباب بعد خروجها، ثم ألقى منشفته بغضب على الأرض.. وقعت عيناه على القميص الأسود الذي كانت تمسكه..قبض على شفتيه بقهر، يمرِّر يده في شعره بضيق.
همس كأنَّه يحاول أن يسيطر على عاصفته الداخليَّة:
_اهدَى..لازم تهدى يا يوسف… مينفعش كدا.
دلفت الحمَّام لدقائق وخرجت، مع خروجه متَّجهًا إلى الفراش، في تلك اللحظة دلفت الخادمة بقهوته:
_القهوة يا دكتور، عملتها لحضرتك زي مابتحبَّها.
_شكرًا يا زهرة، مامتك عاملة إيه؟
_كويسة الحمد لله، شكرًا على سؤالك.
رفعت عيناها إلى ضي المتوقِّفة أمام المرآة تجفِّف خصلاتها:
_عملت لك Orange juice أستاذة ضي.
_شكرًا يا زهرة حطِّيه عندك، الصبح يبقى اطلعي لي عايزاكي.
_حاضر...قالتها وغادرت الغرفة، بينما دلفت ترتدي ملابسها، دقائق وخرجت وجدته جالسًا على الفراش منشغلًا بجهاز حاسوبه، أخذت كوب عصيرها وتحرَّكت للشرفة دون أن تنظر إليه، وقفت تنظر إلى النجوم التي تنير السماء..توقَّفت عيناها للحظاتٍ فوق القمر تنظر إلى إبداعه وكيف تحيطه النجوم، تمنَّت لو تكون نجمةً مثلهم لا يصل إليها أحد، ولكن كيف بعدما أوقعها قلبها الخائن بعشق ابن عمِّها.
استمعت إلى خطواته خلفها:
_واقفة كدا ليه؟ والقميص خفيف هتاخدي برد.
دلفت للداخل دون النظر إليه، اتَّجهت إلى فراشها تجلس عليه تنتظره، وصل إليها يسحب نفسًا بهدوء، ثم زفره وجلس على طرف الفراش:
ماما عرفت إزاي اللي كان بينَّا؟
قطَّبت جبينها بدهشة:
_ تقصد إيه؟
التفت برأسه نحوها، وصوته حمل ثقل سؤاله:
_بتقولِّي ليه ماتمِّمتش جوازك من بنت عمَّك يا بنت عمِّي؟
اهتزَّ جسدها بعنف، تهزُّ رأسها بالنفي، والدموع تنساب بلا إرادة منها:
_لا والله..أنا ماقولتش حاجة، يوم ما كنت تعبان، خوفت عليك أوي، وكنت بقول إنِّي السبب..ففهمت من كلامي، والله ماقلتلها حاجة، هيَّ اللي فهمت لوحدها.
ظلَّ يستمع لها بهدوء، رغم صخب قلبه العاصف، دقائق صمتٍ خانق… ثم قال أخيرًا:
_خلاص..انسي، أتمنَّى بعد كده تاخدي بالك من كلامك..إنتي مش طفلة علشان توقعي بالكلام.
شهقت بصدمة:
_يعني إيه؟
أجاب مختصرًا هاربًا:
_ولا حاجة..عايز أنام.
نظرت إلى فنجان قهوته، ثم إلى ظهره الممدَّد جوارها..ارتفعت أنفاسها، فشعر بها، فأغمض عينيه وقال:
_اطفي النور لو مش محتاجاه..عندي شغل الصبح.
أطبقت جفنيها محاولةً كتم شهقاتها، ثم فتحت عينيها على وجعٍ مقهور، وهمست:
شكرًا إنَّك قدِّ وعدك، بس ياريت ماتوعدتنيش بحاجة إنتَ مش قدَّها، من ساعات بس أقسمت تخلِّيني أسعد واحدة..أقسمت تبقى الوطن والملجأ الحنيِّن…ودلوقتي فعلًا أنا أسعد واحدة في الكون.
قالتها ثم استدارت تغلق النور وتوليه ظهرها.
لم يحتمل فاستدار نحوها وسحبها إلى حضنه دون كلمة، يدفن وجهه في خصلاتها.
همس بصوتٍ مبحوح:
_اتفاجئت من كلام ماما…حطِّي نفسك مكاني، حاجة خاصَّة كده إزاي تطلع برَّا؟ هيَّ أمِّي آه بس دي حياتنا إحنا.
استدارت تنظر لعينيه التي رسمها ضوء النافذة:
_والله ماقلتلها حاجة صدَّقني، لو كنت عايزة أقول كنت قلت من بدري، إحنا بقالنا أكتر من تلات شهور و…
وضع إصبعه على شفتيها يختصر:
_ششش خلاص انسي، كان لازم أقولِّك.
غمغمت باعتراض:
_بس إنتَ صدَّقت ممكن أخرَّج أسرارنا برَّة، لا وكمان زعلت منِّي.
سحبت نفسًا وعيناها تسبح بملامحه:
_يوسف دي ليلتنا الأولى، قبل ساعات كنت عايشة مشاعر أوِّل مرَّة أحسِّ بيها، طلَّعتني سابع سما فيها..
شهقة خرجت وهو يدفن رأسها بصدره:
_خلاص آسف، أنا زعلت منِّك أوي، وكان كلامي واضح، مهما كان مين بلاش يعرف حياتنا الخاصَّة.
أخرجت رأسها تنظر لعينيه:
_عارفة الحاجات دي يا يوسف، وصدَّقني أنا كمان حابَّة كدا..
ملَّس على خصلاتها بحنان:
_يعني أفهم من كلام مدامي الليلة دخلتنا؟
رفعت حاجبها باستخفاف وهتفت:
_لأ، كدا كان هيكون طلاقنا.
قطع جملتها بطريقته الخاصَّة، يخرس حروفها التي شعر بأنَّها جمرة اخترقت قلبه لتحرقه..لحظات وهو يعاقبها بطريقته حتى فقدت التنفُّس، ليتركها ويضع جبينه فوق جبينها:
_قدرتي تقوليها، أغمضت عينيها تسحب أنفاسها:
_مش قصدي طبعًا، أنا بردّ على كلامك.
مرَّر أنامله على وجهها الساطع بضوء القمر ثم قرَّبها أكثر يسكنها داخل أحضانه، وهمس إليها:
_قولت لك قبل كدا إنِّك سكنتي روحي وقلبي..ابتسمت بخجل تبعد نظراتها عنه، ولكنَّه رفع ذقنها يتعمَّق بعينيها كالفنَّان المبدع، ثم همس بجوار أذنها:
_إنتي ضي قلبي الموجوع..
_بعدِ الشرّ..نطقتها ليبحران داخل جنَّتهما، دقائق ربَّما ساعات حتى غفا الاثنان بين أنفاسٍ دافئة..
عند حمزة قبل ساعات:
خرجت فور اتِّصاله وتهديده، لتجده واقفًا أمام سيَّارته يعقد ذراعيه فوق صدره بعنفٍ مكتوم..وماإن لمحها حتى اعتدل مكانه، كأنَّ أنفاسه تعثَّرت وهي تقترب منه خطوةً بعد أخرى.
فتح باب السيارة دون أن يرفع عينيه عنها وقال بحدَّةٍ منخفضة:
_اركبي..مينفعش نقف نتكلِّم في الشارع.
تجمَّدت في مكانها، واشتعل صوتها غيظًا:
_عايز منِّي إيه، وإزاي عايزني أركب معاك لوحدنا؟
أغلق الباب بقوَّة، ثم تقدَّم نحوها بخطواتٍ متوتِّرة..كوَّر قبضته لدرجة برزت عروقه واشتدَّت أنفاسه قائلًا:
_أنا بحارب الدنيا كلَّها علشانك… وتعبان، وفكرة إنِّي آذيكي أموت قبل ماتحصل.
نظر لها بنظرةٍ تحرق الهواء من حولها:
_أنا أبعد واحد في الكون ممكن يفكَّر يقرَّبلك بأذى..أنا أحرق الكون كلُّه علشانك…وإنتي جايَّة تقوليلي مينفعش؟!
لم تجد في حالة غضبه مكانًا للكلام، ففتحت باب السيارة وجلست بصمت..
جلس هو الآخر خلف المقود يحاول أن يسيطر على زلزلة صدره، ثم أدار المحرِّك وتحرَّك بسرعة.
استدارت إليه بذعر:
_إنتَ رايح فين؟!..قلت هنتكلِّم.
ظلَّ صامتًا لثوانٍ، حتى خرج صوته خافتًا لكنَّه أشدُّ وقعًا:
_هخطفِك، مادام مفيش فايدة من اللي بعمله.
شهقت، وترقرقت عيناها خوفًا وهي تصرخ:
_دي الثقة اللي قلت عليها، ليه عايزني أندم إنِّي وثقت فيك؟
توقَّف فجأةً على جانب الطريق..التفت إليها ونظرته هدأت تدريجيًّا أمام دموعها المتساقطة.
_شمس..أنا تعبان، فكرة إنِّي مش عارف أوصلِّك وجعاني..نفسي نتكلِّم زي أي اتنين بيحبُّوا بعض.
ضغطت على ثيابها في محاولةٍ للسيطرة على ارتجاف أنفاسها... لتشعر وكأنَّ الهواء اختفى، ولم يبقَ إلَّا أنفاسه.
أغمضت عينيها فاقترب قليلًا، خرج صوته مبحوحًا، مشبعًا بكلِّ مايكتمه:
_شمس!!
فتحت عينيها ببطء تصطدم بنظرته الراجية، همست وهي تحاول أن تثبّت أنفاسها:
_لو سمحت…إنتَ كدا بتضغط عليَّا.
لم يحتمل المسافة بينهما، فسحب كفَّها بلطف لكنَّه حازم، وضمَّه بين راحتيه ونطق:
_أنا..بحبِّك.
شهقة موجوعة خرجت منها رغماً عنها، سحبت كفَّها بسرعة وكأنَّ كفِّه نارًا لا تقوى على لمسها..أدارت وجهها للنافذة تبتلع الدموع التي هاجمت عينيها:
_وبعد الحبِّ دا إيه، ممكن تفهِّمني؟
ردَّ فورًا..بلا تردُّد..كأنَّه كان يحمل الجواب في صدره لسنين:
_نتجوِّز.
التفتت إليه بعينين يتنازع فيهما الخوف والحب:
_مينفعش، والله مينفعش..بابا مستحيل يوافق.
اقترب برأسه نحوها، وقال بصوته الرجوليّ المبحوح يذوب بينهما:
_دول ميهمُّونيش..المهمِّ إنتي، قوليلي بس إنِّك موافقة، خلِّي عندي أمل.
صمتت رغم شعورها بأنَّ روحه تُنتزع، لتتكوَّن في عينيها طبقة كرستالية مرتجفة، رآها فابتلع أنفاسه وتراجع للخلف يتنهَّد بعنفٍ مكتوم.
اختلَّ انتظام تنفُّسه، ورفع يده لا إراديًا وفكَّ أوَّل زرٍّ من قميصه كأنَّه يبحث عن هواءٍ بعد شعوره بالاختناق
كانت تراقبه، وكلُّ مايحدث بينهما ينهش قلبها.
انفجرت دمعةٌ على خدِّها، تبعَتها شهقةٌ ببكاءِ وارتجاف شفتيها:
_ياريت بإيدي حاجة، صدَّقني مش هتأخَّر.
استدار إليها بسرعة وقال بنبرةٍ قلقة:
_مش عايز غير إنِّي أسمع إنِّك موافقة…عايز أطمِّن قلبي، مش عايز أحارب الدنيا وفي الآخر تقوليلي مش عايزاك، قوليلي دلوقتي علشان أعرف هعمل إيه.
انخفض نظرها بخجلٍ طفوليّ تتلاعب بحافَّة ردائها، ووجنتاها تورَّدتا بشكلٍ خذله..وفتنه.
همست بخفوت:
_مش عايزاك..تخسر شغلك، ولا مستقبلك..أهمِّ حاجة ماضيَّعش مستقبلك.
لم يملك إلَّا أن يتنفَّس ببطء، محاولًا أن يسيطر على زلزلة قلبه وهو يرى خجلها..كالخجل الذي أوقعه من أوَّل نظرة.
مدَّ يده، ورفع ذقنها بلمسةٍ تنسف ماتبقَّى من مقاومتها، وجعل عينيها تنظر في عينيه مباشرة، وقال بنبرةٍ لا تقبل الشك، لا جدال بعدها:
_إنتي حياتي و مستقبلي.
أبعدت رأسها عنه كالملسوعة، وصوتها يرتجف كمن يحارب بين قلبه وعقله:
_لو سمحت ماتقربش مني، حرام اصلا، ممكن نرجع؟ أنا مش عايزة أكره نفسي، كفاية خونت ثقة بابا وماما فيَّا..ونزلت لك علشان متزعلش.
كانت كلماتٍ بسيطة..لكن وقعها على قلبه كان كالماء على أرضٍ عطشى.
ابتسم أخيرًا ابتسامة صغيرة، لكنَّها بعثت النبض في صدره من جديد.
اقترب باندفاعٍ لا إرادي، لم يرحم ضعفها الذي هزَّه، وانحنى بالقرب من أذنها يهمس بنبرةٍ تخترق العمق:
_بعشقِك..وحاسس إنِّ موتي هيكون على إيدِك.
رجفة قوية عبرت جسدها من سخونة همسه، فهمست وهي تبتعد عنه باضطراب:
_حمزة، لو سمحت..ابعد.
ابتعد رغم أنَّ كلَّ شيءٍ فيه كان يصرخ بضمها، وعيناه تسمَّرت على شفتيها التي نطقت اسمه بنبرةٍ شجيَّة أطاحت بصوابه.
التقط نفسه بصعوبة، وأدار السيارة عائدًا بها إلى منزلها.
مدَّ يده إلى تابلوه السيارة، فتحه وأخرج منه علبةً أنيقة..قدَّمها لها دون مقدِّمات:
_كنت عايز أدِّيهالك النهاردة، بس طبعًا طلعتي فوق ومانزلتيش.
نظرت للعلبة باستغراب:
_إيه دي؟
_افتحيها.
فتحتها، لتجد داخلها شابًّا وفتاة بثيابِ زفافٍ ملكيَّة، يدون عليهما اسمهما بماء الذهب، يدوران على موسيقى صامتة لكنَّها تنطق بالأحلام.
ابتسامةٌ واسعة انفرجت على وجهها، حتى لمعت عيناها ببراءةٍ أعادت له كلُّ الحياة:
_حلوة أوي.
قالتها بابتسامةٍ نطقتها عيناها قبل شفتيها، ثم رفعت عيناها إليه:
_حبِّيتها أوي..تابع حديثها الذي صخب القلب لأجله وهو ينظر إلى ابتسامتها كأنَّها الهديَّة الحقيقيَّة:
_عقبالنا يا حبيبتي..وعد منِّي هعملِّك فرح مصر كلَّها تتكلِّم عنُّه.
رفعت عينيها إليه، والقلق يطفح بداخلها:
_حمزة..لو سمحت بلاش تضيَّع مستقبلك.
ابتسم بحزنٍ رجوليّ، وبقناعةٍ لا تهتز:
_ماليش مستقبل من غيرك يا شمس… ولو على الوظيفة مش عايزها.
اتَّسعت عيناها بدهشة:
_ياااه…للدرجة دي بايع كلِّ حاجة؟
توقَّف بالسيارة أمام بوَّابة الكمبوند، التفت إليها وقال بصوتِ عاشقٍ فاق القدرة على تحمُّل محبوبه:
_لأنِّي ميهمِّنيش غيرك، تستاهلي أبيع الكون كلُّه علشانك.
إنتي مش فاهمة عملتي فيَّا إيه.
ارتجف قلبها لكلماته..ولمعان العشق في عينيه.
تمنَّت لجزءٍ خطير منها أن تلقي نفسها في حضنه، أن تذوب في صوته وقلبه.
شعر بضياعها، بانهيار مقاومتها القليل المتبقِّي، فمدَّ يده كأنَّه ينتشل روحها من حافَّة الانجراف:
_تأكَّدي لو هبيع الدنيا كلَّها، أنا مستعد.
نظرت لعينيه الواثقة وتاهت في قسماته التي تخبرها أنَّها ملكه هو لا غيرها.
_خايفة.
نطقتها دون وعي
ابتسم بحنان وقال:
_طول ماأنا جنبك ماتخفيش.
ارتفع النبض حتى شعرت أنَّه كاد أن يسمعه، فاستدارت بجسدٍ مرتعش:
_لازم أمشي، مينفعش كدا..أوقفها قائلًا:
_شمس…
نطقها وهو ينظر أمامه، وصوته يحمل قرارًا لا رجعة فيه:
_بكرة هرجَّعِك البيت وإيَّاكي تفكَّري تهربي، الأسبوع دا أجازة…وأنا هرجَّعِك من الجامعة، ولو مش خايف على زعل باباكي كنت وصَّلتك وجبتك كمان.
التفتت إليه بصدمة:
_إنتَ بتقول إيه؟! السوَّاق بيكون معايا، وبعدين أصلًا مينفعش حتى قعدتي معاك دلوقتي.
ردَّ بنبرةٍ ثابتة، رجوليَّة لا تعرف التراجع:
_ماليش دعوة بدا كلُّه، أهمِّ حاجة عندي أكون قريب منِّك..ولو ينفع أكون السوَّاق بتاعِك موافق.
شهقت، واتَّسعت عيناها لدرجةٍ جعلته يزمُّ شفتيه بسخريَّة عاشقٍ يعرف تأثيره:
_مش بقولِّك عاشق يا بنت الشافعي؟
سحبت نظرها سريعًا عن عينيه المفترسة، مدَّ يده وأدار وجهها برفقٍ حاسم… وعيناه تغرقان في تفاصيلها:
_لمَّا أكلِّمِك..ماتبعديش عيونِك عنِّي.
ثم اقترب أكثر، وصوته انخفض بحرارة:
_شمس..إنتي دلوقتي في حُكم خطيبتي لحدِّ ماباباكي يوافق، وقتها بس هتكوني ملكي شرعًا وقانونًا... اعملي حسابِك في كدا، ومتفكَّريش هخبِّي على باباكي موضوع الجامعة.
كلماته، نبرته، قربه…كلُّ شيءٍ فيه جعل قدميها تتخلَّخل من تحتها.
همست دون وعي، وكأنَّ عقلها غاب وترَك الأمر لقلبها المرتجف:
_طيب..لو بابا فضل مصرّ على رأيه…هنعمل إيه؟
خرجت منه “آه” محبوسة، مكبوتة، انطلقت من عمق قلب رجلٍ يعشق فوق احتماله:
_ كنت متأكِّد إنِّك بتحبِّيني.
كانت جملة مكتومة بفرحة النبض… جعلتها تبتعد بنظرها للحظة، هنا خشي من مقدار مايشعر به..كان على حافَّة اللاعودة..
على وشك أن يسقط صريعًا لعشقها بلا رجعة.. وهو يضمها يتذوق كريزتها
سحب نظره بعيدً يلتقط نفسًا سريعًا، وقال بنبرةٍ تخفِّف خوفها دون أن يخفي اشتعاله:
_متخافيش…عامل حسابي.
ثم استدار إليها وابتسامة جانبية تشعل نبضها:
_أهمِّ حاجة إنِّ قلبك باسمِ حمزة، وإنِّك موافقة على أي حاجة.
شهقت بخجل، وكأنَّها أدركت فجأةً أنَّها أفلتت من يديها زمام الأمر، فهزَّت رأسها بسرعة:
_أنا…ماقولتش موافقة.
أطلق ضحكةً قصيرة وهو يرى ارتباكها، نظراتها الهاربة، وجنتيها المتورِّدتين…
ضحكةُ رجلٍ يعرف أنَّها وقعت، وأنَّها مهما أنكرت…قلبها فضحها:
_أيوة…عارف.
مال عليها قليلًا وهمس بابتسامةٍ مستمتعة:
ربِّنا يصبَّرني عليكي وعلى أبوكي..
أنا مش ضامن نفسي المرَّة الجاية هعمل إيه، لكن في كلِّ الأحوال مش مستعجل، المهمِّ اللي أخدته النهاردة، واعرفي إنِّك دلوقتي في حكم خطيبتي، الأسبوع دا بس.
انحنى أكثر ونظراته تخترق شفتيها التي ترتجف أمامه، هنا أراد أن يوقف هذا الارتجاف، تراجع سريعًا بعدما فقد السيطرة وقال:
_الاسبوع الجاي هتكوني مراتي، عيشي على الأساس دا.
رفرفت بأهدابها تبتعد كالذي لدغه عقرب، فتحت الباب سريعًا بأيدي مرتعشة ودفعته بقوَّةٍ وهو يراقب ارتجافها، ابتسم وأخرج رأسه يشاكسها:
_بالراحة كسرتي باب العربية، وإسحاق هيعلَّقني فوقيها.
توقَّفت، واستدارت تشير بيدها المرتجفة بحدَّة:
_لو طلعت قدَّامي تاني…
نزل من العربية يحاصرها بعينيه:
_زعلانة علشان قولت العربية؟ فداكي العربية وصاحب العربية…أقولِّك فداكي أبويا بذات نفسه.
ضربت قدمها بالأرض رغم ابتسامتها من حركاته:
_يابني بس بقى!
أمسك قلبه بطريقةٍ مسرحيَّة:
_يالهوي عليك يا حمزة! بتقولِّي "يابني"؟!
أفلتت ضحكةً رغمًا عنها، فاقترب منها حتى توقَّف أمامها تمامًا:
_شمسي..لمَّا بتضحكي بتنوَّر قلبي والدنيا كلَّها.
توتَّرت وأشاحت بيدها:
_لو سمحت يا كابتن، مينفعش اللي حضرتك بتقوله ده.
لوَّح بيده بضيق:
يادي النيلة على اللي خلِّفوني! رجعتي بليدة الفصل التاني..وكابتن وحضرتك.
_بليدة يعني إيه؟
صكَّ على أسنانه يشير لمنزلها:
امشي…قبل ماأغيَّر رأيي وأخطَفِك فعلًا، وأخلِّيهم يقدِّموا ديَّة
اتَّسعت عيناها:
إنتَ صعيدي؟!
مسح على وجهه يهدِّئ نفسه، فلقد طفح الكيل وبدأ يفقد سيطرته على التهامها، ثم دنا يميل إلى مستواها:
_شمسي البريئة…دقيقة واحدة كمان، صدَّقيني مش عارف ممكن أعمل إيه… بس أقلِّ حاجة هعملها، هبوسِك..أنا بقالي نصِّ ساعة بتعامل بمعاملة ظابط الجيش معاكي.
ركضت للداخل وجسدها يرتجف:
_قليل الأدب…مش متربِّي!
مسح على شعره يراقب ركضها وهو يهمس لنفسه:
ياربّ صبَّرني عليك يا عمُّو إلياس، أصلي شكلي هخطَفها فعلًا.
بالداخل…اصطدمت بأحدهم وهي تخطو بخوف، شهقت تنظر إليه بعيونٍ جاحظة.
_كنتي فين، وعربية الزفت ده بتعمل إيه قدَّام الكمبوند؟
_هوَّ..أصله.
صكَّ على أسنانه:
_تعرفي لو عمُّو شافك، ولَّا يوسف كان عمل إيه؟ أنا واقف منتظر حضرتك لمَّا ترجعي، عيب اللي عملتيه ولَّا لأ؟
_بلال اسمعني.
_لا مش سامع، خذلتيني يا بنت عمِّي.
_هوَّ كان عايز يتكلِّم معايا بس والله.
اقترب منها بغضب:
_بعد نصِّ الليل يا محترمة، أي واحد يشوفك هيقول إيه غير إنِّك مش متربيَّة.
نزلت دموعها بغزارة تنطق بشهقاتٍ متقطِّعة:
_خوفت يجي ويتخانق مع بابا، خوفت والله.
تضايق من بكائها..اقترب منها يربت على ظهرها بحنان:
_خلاص بقى بطَّلي عياط، أنا خايف عليكي يا هبلة، تعرفي هوَّ هيتجنِّن عليكي ليه؟..علشان برائتك دي، بلاش تخسريها يا شمس، حتى لو جه زي ماقالِّك..صدَّقيني من جوَّاه هيكون فرحان، وهتكوني درَّة غالية حبيبتي.
_آسفة..تمتمت بها ببكاء، حاوطها بذراعيه:
_خلاص بقى..أنا آسف قسيت عليكي بالكلام.
قاطعهم صوت إلياس:
_شمس.
انتفض جسدها تستدير لوالدها، ابتلعت ريقها بصعوبة وتلجلجت بالكلام:
_أصل..أنا..
قاطعها بلال وهو يقترب من إلياس:
_كنَّا بنتكلِّم مع بعض، وبتسألني عن حاجات.
زوى إلياس جبينه:
_حاجة زي إيه؟
_عادي يا عمُّو حضرتك مش واثق فيَّا؟
_أبدًا حبيبي..بس مستغرب.
حاوطها بلال وتحرَّك بها إلى وقوف إلياس:
_حضرتك متعرفش شمس بالنسبالي إيه، دي طفلتي على رأي الواد الدكتور ابنك.
سحبها إلياس من حضنه:
_طيب ابعد يا ظريف، قال طفلتك، روح اتجوِّز وهات طفلة على قدَّك.
ابتسمت تتحرَّك مع والدها، ثم التفتت برأسها إلى بلال تلقيه قبلةً بالهواء.. شهق من فعلتها البريئة فقال بصوتٍ مرتفع:
_أبوكي لو شافك هيدفنك بالحيا، بنتك بتبوسني يا إلياس، اغسل عارك.
توقَّف مستديرًا إليه:
_بتقول إيه يا متخلف؟
ضحك بصوت مرتفع يشير الى شمس
_بنتك بتعاكسني.
هزَّ إلياس رأسه يسحب شمس ويتحرَّك لداخل منزله، بينما ظلَّ بلال بمكانه للحظات يتذكَّر ماصار منذ ساعات..
كان عائدًا الى المنزل، توقَّفت أمامه سيَّارة بها بعض الشباب، توقَّف ينظر إلى هيئتهم التي تدلُّ على الإجرام، لحظات ووصلت سيارة حرسه..نزل قائدهم:
_فيه حاجة يا دكتور؟
ركض الشباب إلى السيَّارة دون حديث، بينما استدار بلال إلى الرجل:
_لا..معرفش مين دول.
قالها وصعد إلى سيارته... وعاد الى المشفى، دلف الى غرفته التي تحتحز بها كارما، نادى على الممرضة
_مش عايز أي مخلوق يدخل الاوضة دي، واهتمي بمدام كارما، هي واخدة مهدئ هتنام للصبح أول لما تفوق كلميني
خرج من شروده على صوت آسر:
_كويس إنَّك لسة صاحي، عايز أعرف إيه حالة بابا بالظبط؟
سحب كفيه وتحرك الى الطاولة، يقص له عما علمه من حالة يزن
بمنزل يوسف
ساعاتٍ قليلة حتى استفاق الصباح ببطء، يحمل معه نورًا خفيفًا يتسلَّل عبر ستائر الغرفة، لكنَّه لم يزعج هدوء الروحين بعد ليلة العشق والاشتياق.
كانت الأنفاس متشابكة، والقلوب ماتزال تتحدَّث بصمت، كلُّ نبضةٍ فيها تقول:
الليلة الماضية لم تكن مجرَّد لحظة، بل ولادة حبٍّ جديد لا يموت.
ابتسامة صغيرة ارتسمت على شفتيها في نومها وهو يراقبها بصمت، يشعر بأنَّ كلَّ لمسة، كلَّ همسة، وكلَّ نظرةٍ من الليلة الماضية تركت أثرًا خالدًا، وأنَّ كلَّ يومٍ سيبدأ بنفس العشق، بنفس الصدق، وبنفس القوَّة التي صرخت فيها روحهما ليلة الأمس.
ابتسم وهو يرى ابتسامتها بنومها، أيقن أنَّها تحلم بما حدث بينهما، مرَّر أنامله في خصلاتها وانحنى يطبع قبلةً عميقةً فوق جبينها..فتحت الجميلة عيناها تهمس اسمه بصوتها الناعس:
_صباح الخير حبيبي.
_صباح الحبِّ مراتي ضي القمر.
رفعت نفسها تدفن رأسها بأحضانه وحاوطت جسده، ليسحبها إلى صدره:
_نمتي كويس؟
همست مجيبةً بنبرةٍ محمَّلة بارتياح:
_جدًّا..من أوَّل جوازنا دي أوَّل مرَّة أنام كده.
مدَّ يده إلى شعرها يمرِّرها بين خصلاتها :
_وأنا كمان…
هنا تذكَّرت المهدِّئات ممَّا أصابها ارتعاشة خفيفة، رفعت رأسها تحدِّق فيه، تسمَّرت نظراتها عليه دون حديث فهتف بصوتٍ أقرب للدهشة:
_مالك، بتبصِّيلي كده ليه؟
ازدادت حدَّة خوفها وهي تستعدُّ للمواجهة فقالت متسائلة:
_إيه حكاية المهدِّئات دي، وليه بتاخدها؟
انحنى ليلتقط كنزته، يبحث عن مهربٍ من المواجهة، لكنَّ يدها أمسكت بذراعه بتوسُّل:
_يوسف..أنا مراتك يعني نصَّك التاني… يعني مفيش حاجة تبقى مستخبيَّة بينَّا، السرّ بيكسر والجفوة اللي بيعملها بتوجع.
اعتدل جالسًا كمن أثقلته ذكرى الماضي التي لا تزال تنزف داخله..أغمض عينيه وأسند رأسه للخلف، بينما اقتربت منه تلامس وجهه بحنانٍ تحاول أن تهدِّئ من روحه الضائعة:
_حبيبي لو سمحت.
فتح عينيه على صوتها المنكسر:
_لو معتبرني كلِّ حاجة زي مابتقول… صدَّقني مفيش حد هيخاف عليك قدِّي، أنا بحبَّك أوي…وأموت لو حصلَّك حاجة، يوسف إنتَ بقيت كلِّ حياتي.
مدَّ ذراعه فجذبها إليه، كأنَّ حضنها هو الشيء الوحيد القادر على احتواء مابداخله..أسند رأسه فوق رأسها وقال:
_فاكرة..فاكرة حريق الفيلَّا؟
تجمَّد جسدها للحظة، وعلمت أنَّ ماسيقوله أثقل ممَّا تقدر هي على احتماله، لكنَّها أحاطت كفَّيه بيديها تشجِّعه على المواصلة.
تنفَّس بعمق، وكأنَّ كلَّ نفسٍ يخرج من صدره رمادًا قديمًا:
_من يوم الحريقة وأنا مبعرفش أنام، النار كانت حواليا والدخان بيخنقني… وأنا طفل مرعوب مش قادر يصرخ.
انزلقت الدموع من عينيه ببطءٍ مؤلم:
_سمعت صريخ مامتك برَّا…وكنت عايز أقولَّها "أنقذيني يا طنط" بس صوتي ماطلعش…كأنِّ لساني اتشلّ، الدنيا كانت بتعتم والدخان مالي البيت وأنا قاعد على السلِّم بعيَّط لوحدي… ومحدش سامعني.
ارتجف صوته وهو يستعيد ذكرياته المؤلمة يتابع:
_لحدِّ ماالبوَّاب فتح الباب وشوفت مامتك وهي بتجري وسط النار، وبعدها الدنيا اسَودِّت…وغبت عن الوعي.
مسح على وجهه بكفٍّ مرتعشة:
_ومن اليوم دا كلِّ ماأحاول أنام… أحسِّ النار بتطوَّقني من تاني، بنادي على بابا وماما ومحدش بيرد، كبرت… بس الخوف كبر معايا.
تنفَّس بثقل:
ولما دخلت ثانوي قلت لوالد صاحبي الصيدلي إنِّي مش بنام، إدَّاني دواء… وقال ضرره بسيط، ومن ساعتها وأنا باخده.
ياالله على هذا الانكسارٍ الذي يشعر به داخله وهو يتابع حديثه المؤذي:
_حاولت أبعد عنُّه بس مقدرتش، الكوابيس رجعت وبقت أوحش، مش مجرد حريقة..حاجات تانية..كوابيس ماليهاش آخر.
انسابت دموعه على وجنتيه وجعًا، كأنَّها آخر ماتبقَّى من طفولته المحترقة، وماإن لمحته حتى هوت على ركبتيها أمامه تضمُّ وجهه بين كفَّيها بلهفةٍ مرتجفة، كأنَّها تحاول احتواء جراحه التي مازالت تنزف لسنوات.
همست بصوتٍ متصدِّع:
إنتَ إزاي اتحمِّلت دا كلُّه لوحدك، إزاي محدش قدر يحسِّ بيك؟
حاول أن يرسم ابتسامة رغم اختناق أنفاسه، وقال بنبرةٍ خفيفة يغلِّفها الحزن:
_ليه بتحسِّسيني عشت مأساة؟ عادي..كلِّ واحد فينا بيمرّ بمرحلة صعبة، فيه اللي بيعدِّي…وفيه اللي مابيعرفش، وأنا للأسف ضعيف، مقدرتش.
انحنت تقبِّل خاصَّته قبلةً رقيقة هدَّأت شيئًا من ارتجافه، حاوط عنقها كأنَّه كان ينتظر لملمة هشاشة روحه المنكسرة، لحظات بترانيم العشق الذي ترعرع داخل كليهما، تراجعت برأسها ثم تنفَّست بصدقٍ وعيناها تعانق عيناه:
_إنتَ أقوى شخص قابلته في حياتي.. أوعى تقول على نفسك ضعيف، يوسف معقول ورا الوشِّ الهادي دا كلِّ المعاناة دي؟
رفع حاجبه بمشاكسه خفيفة:
_من إمتى وإنتي طيبة وبريئة كده؟
ضحكت وهي تلاطفه بلكزةٍ على كتفه، لكنَّه أمسك يدها فورًا:
_لا..دا التطوُّر زاد أوي، وبقينا بنمدِّ إيدينا كمان!
قهقهت بصوتٍ عالي، لكن ضحكتها لم تكتمل، إذ سحبها إلى حضنه يجلسها فوق ساقيه ويحتجزها بين ذراعيه.
حاولت التفلُّت، فضحك وقرَّب شفتيه من أذنها هامسًا بنبرةٍ تشعل الهواء بينهما:
_شش…دخلتي عرين الأسد، آه صح نسيت مش بيقولوا "صباحية مباركة" فين صباحيتي؟
تحرَّكت في حضنه محاولةً الإفلات، لكن قبضته اشتدَّت حول خصرها كطوقٍ لا يُكسر:
_عايز صباحية مباركة مفيش خروج من عريني غير بيها.
تنهَّدت بخضوعٍ ساخر:
_خلاص..صباحيَّة مباركة يا سيدي.
زوى جبينه باعتراضٍ دلَّ على مشاكسته:
فيه عريس زي القمر كده يتقالُّه "صباحيَّة مباركة" حاف!! من غير حتى حتِّة لانشون؟…طيب أنا راضي بسندوتش مربَّى.
نظرت إليه بصدمةٍ ضاحكة:
هوَّ إيه اللي بتقوله دا؟
أجابها بنبرةٍ رخيمة تذوب دفئًا:
_عندِك حق يا حبيبتي مش هتفهمي، المربَّى دي بتكون عملي..تقطَّعي الفراولة الأوَّل زي كده.
قالها ثم أمسك وجهها، وأنزل خاصَّته على ثغرها في قبلةٍ غارقة، قبلةٍ حملتهما معًا إلى لذَّة عشقٍ لا يشبه إلَّا نفسًا يُردُّ لمن اختنقت روحه طويلًا.
باقي الفصل
القسم الثاني
ابتعد مُرغمًا بعد الرنين المتواصل، يحاول لملمة أنفاسه والسيطرة على سيل المشاعر المتدفِّق داخله، بينما كانت هي تستند إلى ظهر السرير مغمضة العينين، يتزيَّن وجهها بابتسامةٍ هادئة وروحٍ مطمئنة..كانت تشعر أنَّ عشقها له بات على حافَّة الجنون، لا تُصدِّق أنَّ يومًا ما كانت ستبلغه إلى هذا الحد.
عاد الرنين بعد الصمت..فتحت عينيها لتجده يغرق بنظراته في ملامحها بنعومةٍ صامتة؛ نظراتهما التقت كأنَّها نغماتٌ موسيقيَّة تتناغم وحدها.. همست برقَّة:
_ردّ على التليفون.
لكنَّه لم يفعل شيئًا…فقط سحبها إلى صدره واضعًا رأسه فوق رأسها:
_لو قولتلك إنِّي مش عايز أشوف ولا أسمع حدِّ غيرك هتصدَّقي؟
أحاطته بذراعيها بقوَّة، تهتزُّ مشاعرها في داخلها:
_وأنا كمان.
تراجع قليلًا ينظر إليها:
_إيه رأيك أخطفِك كام يوم بعيد؟
_موافقة…
نطقتها سريعًا بلا تفكير، فقهقه بخفَّة:
_بقولِّك أخطفِك…وموافقة؟
_أه…أي مكان…ومن غير ماأعرف حتى، مادام معاك موافقة.
ضمَّها إليه بقوَّة يسحقها بين ذراعيه:
_عايزِك كده على طول…أي مكان أكون فيه تبقي إنتي فيه.
رفعت رأسها تنظر إليه بعينين دامعتين بالحب:
_ماينفعش أبعد…لأنِّي مش هعرف أعيش.
انخفض برأسه نحو شفتيها…لكن الهاتف عاد للرنين ثانيةً..
ضحكت بنعومة تشير بعينيها إلى الهاتف.
لم يشعر بنفسه إلَّا وهو يلقيه بقوَّة، فيتهشَّم إلى أجزاء.
شهقت واضعةً كفَّيها على فمها:
_يا مجنون!
التفت إليها يشير بيده:
_أنا مش هشيل تليفون تاني.
عانقته وهي تضحك بصوتٍ صاخب:
_صباحيَّة مباركة يا حبيبي.
قهقه، يعلم أنَّها تمازحه ثم لامس وجنتيها بحنان:
_عايزة تروحي فين، نفسك في إيه؟ أي حاجة عايزاها…قولي.
دفنت رأسها في أحضانه كطفلةٍ تتمتَّع بالأمان:
_عايزة أجيب ولدين وبنتين…
قالتها ثم رفعت رأسها تحدِّق في عينيه:
_يوسف…نفسي يبقى عندنا أولاد أوي، الفكرة دي مجنِّناني، بتخيَّل نفسي وأنا أمُّهم واهتمِّ بيهم…وإنتَ راجع من الشغل وهمَّا يجروا عليك…
يارب نفسي أعيش الإحساس دا أوي.
ظلّ صامتًا يستمع لكلِّ حرف، ثم زفر بقوَّة وهو يضمُّ يدها بين يديه:
_أنا عارف تقصدي إيه…ماتخافيش يا ضي؛ الموضوع ده شيلته من دماغي خلاص وأنا كمان نفسي يبقى عندنا أولاد أوي.
فركت كفَّيها بخجل تبتعد قليلًا عن نظره.
فرفع حاجبه بسخريَّةٍ خفيفة…
حدَّق فيها بعمق، ثم همس بنبرةٍ مُنكسرة:
_للدرجة دي مفيش ثقة؟
هزَّت رأسها نافية ثم قالت بخفوت:
_كنت عايزة أطَّمن..مش حقِّي؟
اقترب يمسك يدها بحنان:
_حقِّك يا حبيبتي… واطمِّني، أنا عمري ماهعمل حاجة إنتي مش موافقة عليها..ودا كان أسهل أعمله ليلة فرحنا…ومن غير ماتعرفي كمان.
نظرت إليه طويلًا قبل أن تسأل:
_يعني إنتَ مقتنع يا يوسف يبقى عندنا ولاد؟
رفع حاجبه ساخرًا بخفَّة:
_إنتي تعرفي عنِّي ممكن أعمل حاجة من غير اقتناع؟
قبل أن ترد، قاطعهم طرقٌ خفيف على باب الغرفة:
_الباشا تحت بيسأل عليك يا دكتور.
_تمام..قولي له عشر دقايق ونازل.
تمتم بها وهو ينزل من فوق السرير، يلتقط قميصه على عجل.
التفت إليها:
_جهِّزي نفسك، هشوف بابا عايز إيه، وهكلِّم بلال يحجز لنا أي مكان..إيه رأيك في إيطاليا؟
ابتسمت بعينين ممتلئتين حبًّا:
_قولتلك يا حبيبي أي مكان مش فارق.
اقترب منها، قبَّل جبينها واحتوى وجهها بين راحتيه:
_خلاص سبيلي نفسك ووعد… هعيِّشك أسبوع مش هتنسيه طول عمرك.
ضحكت بخجل:
_ومين قالَّك..أي حاجة تخصَّك ممكن أنساها؟
اعتدل واقفًا وهو يلوِّح بيده:
_لا كده إلياس هيطلَّقنا وحياتِك.. اهدي شوية لحدِّ ماأشوف أبويا كان بيحلم بإيه.
ضحكت بنعومة جعلته يحدِّق فيها بضيقٍ مُتعمَّد:
_بطَّلي ضحك..ميهمِّنيش على فكرة عادي هجيلِك.
وضعت كفَّيها على فمها تمنع ضحكةً انفلتت منها، بينما هو دلف إلى الحمَّام.
بمنزل يزن:
توقَّف آسـر بجوار الطبيب الذي يتابع حالة والده، وصوته يخرج متوتِّرًا:
الحالة نفسيَّة…جسديًّا مفيش حاجة. واضح إنُّه اتعرَّض لضغط شديد.
تعلَّقت عيناه بالطبيب وكأنَّ روحه معلَّقة بإجابة واحدة:
يعني…فيه أمل يرجع يتكلِّم تاني؟
أكيد، بس لازم يغيَّر جو…هل تعرفوا إيه اللي وصَّله للحالة دي؟
أومأ آسر وشكره سريعًا، ثم أسرع إلى غرفة والده.
وجد رحيل تجلس بجوار يزن، تُطعمه بيدين مرتعشتين لكنَّها تُجاهد لإخفاء خوفها.
ماما…إيه اللي حصل لبابا، إزاي وصل لكدا؟
رفعت رحيل رأسها إليه، نظرتها قلقة لكنَّها ثابتة، ثم عادت تنظر ليزن:
مفيش يا حبيبي…يمكن ضغطه علي من غير ماياخد باله، المهمِّ بقى حضَّر نفسك…الخميس مسافرين برَّا نشوف دكتور متخصِّص.
قبل أن يرد، خرج صوت يزن…مكسور، متقطِّع، لكنَّه "صوت":
مـ…ش…رايح…في مكاان…يا رحيل…
تجمَّدت رحيل لثانية، ثم لمع بريق عينيها كأنَّها رجعت للحياة.
قفزت نحوه تحتضن رقبته، ودموعها تسبق كلماتها:
يزن حبيبي…حمدلله على سلامتك! صوتك…صوتك رجع يا روح رحيل… الحمدلله…الحمدلله!
دموع آسر سالت بلا مقاومة…ينظر لوالده الذي ضمَّ والدته بصعوبة لكن برغبة.
بابا إنتَ كويس؟
أومأ يزن له بثقل…ولكن الإشارة كانت كافية.
دخلت رولا تركض، تتعلثم:
بابا اتكلِّم، ماما قالت بابا اتكلِّم!
أشار لها يزن بيده المرتجفة:
ر…و…لا…
جثت أمامه تمسك كفَّيه وتقبِّلهما بلهفةٍ موجوعة:
حبيبي يا بابا…حمدالله على سلامتك… ربِّنا مايحرمني منَّك…
حاول رفع كفَّيه نحو رأسها، فرَفَعته رحيل وساعدته حتى وضع يده فوق شعرها:
_ماتعيطيش…حبيبة بابا…
لكن رولا انهارت، صوت بكائها ارتفع حتى صار صرخة:
_آااه يا بابا، أنا بموت من غيرك…
نظر إليها يزن بعينينِ محمَّلتين بالألم، فبادرت رحيل وسحبتها إلى حضنها:
تعالي حبيبتي..بابا كويس يلَّا قومي خدي نفسك.
ضمَّها آسر من كتفها:
تعالي…سيبي بابا يرتاح.
خرجت رولا مع أخيها بينما لم تفارق عيناها والدها حتى آخر لحظة.
جلست رحيل بجواره، ابتسامة باهتة تحاول أن تُخفي انهيارها، رفعت كفَّيه وقبَّلته:
حمدالله على السلامة يا يزن…
فتح عينيه بصعوبة، همس:
ابـ…عتي…لإلياس…
هزَّت رأسها بسرعة خوفًا ورفضًا:
لا…بلاش يا يزن، علشان خاطري مش عايزة حد يبصِّ لبنتي إنَّها مش كويسة، شدِّ حيلك…ولمَّا تقوم بالسلامة نزور رؤى سوا…
أومأ…ثم أغمض عينيه مستسلمًا للتعب.
ظلَّت رحيل تطالعه بعينين ممتلئتين بالألم..
كأنَّ قلبها معلَّقًا بين خوفٍ قديم… ومصيرٍ قادم.
بمنزل يوسف:
هبط للأسفل وجد والده يرتشف قهوته:
_صباح الخير..حلمت بتشرب قهوة.
رفع نظره ينظر بساعته:
_معرفتش إنَّك هنا إلَّا لمَّا شوفت عربيِّتك.
جلس بمقابلته يدقِّق النظر به:
_مش فاهم؟
_إنتَ مش كنت بتقول عندك شغل، وبعدين بتَّصل بيك مابتردش ليه؟
_تليفوني اتكسر.
_إيه اللي كسر تليفونك؟
_نصيبه يا حج.
_ماشي يابن إلياس..إنتَ كويس؟
_جدًّا..
صمت الياس للحظات ثم سحب نفسًا متَّجهًا بنظره إلى ابنه:
_يوسف عايز أتكلِّم معاك راجل لراجل، بس قبل أي حاجة، انا مش بدخَّل في حياتك حبيبي، أنا أب وعايز أطَّمن عليك، و..
قاطعه يوسف بعدما أدرك بما ينوي قوله:
_بابا أنا كويس، ولو على الموضوع اللي سمعته صدَّقني مش صح، وانتظر حفيدك إن شاءلله..الصراحة كنت ناوي أسمِّي إلياس فقولت كفاية حضرتك.
_لا والله، ومين قالَّك أنا موافق أصلًا.
قهقه عليه وأشار:
_قول والله..ابتسم إلياس يشير لجواره:
_تعال جنبي عايز أتكلِّم معاك في موضوع مهم.
نهض من مكانه وجلس بجواره يقصُّ إليه سبب رفضه لحمزة...انتهى من حديثه ينتظر ردَّ ابنه:
_أنا فهمت، حضرتك مش ملزم تقولِّي، شمس لسة صغيرة، وكمان حاسس السنِّ بينهم كبير.
_مش موضوعي السن، بس مش عايز أختك تعيش تعيسة، أنا عارف الواد بيحبّّها وجدًّا كمان، بس تفتكر الحبِّ كافي؟
_طبعًا يا بابا..أهمِّ حاجة، يعني حبُّه هيخلِّيه يواجه صعوباته، حمزة شخص كويس، وعلى قدر من الاحترام، وطبعًا مش هنختلف على عمُّو إسحاق، لكن شمس فعلًا صغيرة، أنا مش موافق إنَّها ترتبط في السنِّ دا، لازم تخلَّص دراستها وتحقَّق هدفها.
_حبيبي إنتَ مش فاهم قصدي.
_لا فاهم حضرتك، خايف حمزة يتأثَّر بجوازه من شمس ويرجع يندم، أنا قولت لحضرتك لو بيحبَّها بجد الحاجات دي مش هتفرق معاه، لأن زي ماحضرتك قولت قبل كدا، الانسان اللي بيعمل الوظيفة ويبان فيها، مش الوظيفة اللي بتعمل الانسان، وحمزة سواء، حربية أو مدني هيكون ناجح.
_الناس دي مش بتفكَّر كدا حبيبي.
_بابا الموضوع بسيط، ارفض مش علشان مستقبله زي ماحضرتك خايف، لأن الحاجات دي في إيد ربِّنا.
ربت إلياس على كتفه ونهض من مكانه:
_ربِّنا يسهِّل، خايف أختك تتعلَّق بيه بس، وإنتَ شايفه مجنون.
_لا ماأظنِّش، هوَّ عاقل وإن شاء الله يتقبَّل الموضوع..شوف حضرتك المناسب واعمله، حتى لو شمس هتزعل شوية، بس حقيقي أنا مش عايزها ترتبط دلوقتي.
قاطعهم دخول بلال ملقيًا تحيَّة الصباح:
_بتِّصل بيك مابتردِّش.
ضحك إلياس بسخرية وقال:
_تليفونه اتكسر يا حبيبي.
_اتكسر!! مش فاهم إزاي يعني؟
في تلك اللحظة وصلت ضي:
_صباح الخير يا عمُّو.
_صباح الورد حبيبة عمُّو، عاملة إيه؟
_كويسة الحمدلله..توقَّفت بجوار يوسف الذي حاوط أكتافها، طالعهم إلياس بنظرةٍ مطمئنَّة ثم انسحب للخارج، بينما سحب بلال يد يوسف وهو ينظر إلى ضي:
_ضي لو مفطرتوش جهِّزي الفطار، واعمليلنا قهوة، بإيدك أه.
قالها وتحرَّك يسحب الآخر، وعيناه على زوجته.
بعد دقائق بالحديقة، هبَّ من مكانه فزعًا:
_يعني إيه متجوزة عرفي، إنتَ مجنون يابني؟!
_يوسف اقعد لو سمحت، محدش يعرف خالص، حتى آسر مايعرفش.
_أكيد اللي بتقوله دا جنان.
_يوسف كلِّ اللي قدرت أوصلُّه، إنِّ عمِّتها المحبوسة هيَّ ورا دا كلُّه.
_عمِّتها مين؟
تساءل بها يوسف بجهل.
فأجابه بلال:
_اسمها رؤى على ماأظن.
هنا ارتفعت دقَّات قلبه بصخبٍ جنونيّ، وحياة الطفولة كلَّها تمرُّ أمام عينيه، وصورتها تتحرَّك سريعًا ككابوسٍ كاد أن يسحب روحه، هوى على المقعد وشحب روحه:
_خالتو رؤى، معقول توصل للقذارة دي؟!
_المهمِّ دلوقتي..البنت ماتعرفش إيه اللي حصلَّها كلِّ اللي فكراه إنَّها راحت المكان دا بناءً على كلام رؤى.. ومتعرفش إيه اللي حصل، صحيت من النوم لقيت نفسها..يعني، أكيد فاهم اللي حصل.
_باااااس يا بلال اسكت لو سمحت.
دار حول نفسه كالمجنون، كاد عقله أن ينفجر يهزُّ راسه بغضب:
_مستحيل..لا مستحيل تضرّ بنت أخوها، صمت وتذكَّر مافعلته به، لم يشعر بنفسه وهو يضغط على كوب المياه ليتحطَّم بيده..نظر بلال لدمائه:
_يوسف ممكن تهدى، لازم نفكَّر بهدوء، لأن الورقة مكتوبة باسم واحد مجهول الهوية، من يوم فرحك وأنا بدوَّر معرفتش أوصلُّه.
فرك جبينه، كاد أن ينزع جلده وهو يهزُّ رأسه رافضًا أن يستمع لحديثٍ آخر..
_بس أنا هعرف أجيب اسمه الحيوان دا، وربِّي لأقطَّعه.
_تمام هنعمل فيه اللي إنتَ عايزه، بس نوصلُّه إزاي، وهيَّ مش فاكرة أي حاجة، حتى المكتب طلع إيجار ليومين.
وصلت ضي تحمل قهوتهما:
_عملت لكم قهوة.
نهض واتَّجه للداخل وهو يقول:
_مش شارب عندي مشوار مهمّ.
تابعت تحرُّكه ثم اتَّجهت إلى بلال:
_إيه اللي حصل؟
مفيش حبيبتي..أنا كمان عندي شغل ولازم أروح المستشفى حالًا.
بعد فترة..
دلفت تبحث عن الذي يريد رؤيتها، توقَّف بعدما دخلت واقترب منها وهي تتطلَّع حولها:
_أنا اللي عايز أقابلك.
دقَّقت النظر به ثم تساءلت:
_إنتَ مين؟!
ابتسم بمرارة ودنا يهمس بأذنيها:
_يوسف إلياس السيوفي، ولَّا أقول الشافعي يا خالتو.
انتفض جسدها وتراجعت للخلف:
_يوسف..
دنت تملِّس على جسده بكفَّيها المرتجفتين، وانسابت دموعها:
_ياااه..لسة فاكر خالتك يابن إلياس؟
تراجع ينظر إلى المقعد:
_اقعدي يا خالتو، بينَّا حساب ولازم نصفِّيه.
سحبت المقعد تتطلَّع إليه باشتياق:
_كبرت أوي، وبقيت نسخة من أبوك، كأنُّه هوَّ اللي قدَّامي.
ابتسمت بحزن وقالت:
_شوفت أبوك وخالك عملوا فيَّا إيه؟
أومأ لها وقال:
_أه شوفت..وأنا لمَّا عرفت جيت علشان أخرَّجك.
توسَّعت عيناها تتراجع بجسدها على المقعد:
_تخرَّجني، إنتَ هتخرَّجني؟!
زمَّ شفتيه وهزَّ رأسه:
_أه..بس لازم يكون فيه مقابل.
عند الياس
خرج برفقة ميرال الى منزل يزن ولكنه توقف على دخول حمزة من البوابة الرئيسية.. قطب جبينه قائلًا
_خير على الصبح
وصل حمزة اليه، خلع نظارته واقترب منه ملقيًا السلام، ثم قال دون تردد
_أنا جاي اعرف حضرتك هجيب شمس من الكلية الاسبوع دا
ضغط الياس على اسنانه بقوة وزمجر بغضب
_انت ليه مصر يابني تطلع في الشخص اللي دفنته
اقترب حمزة منه ونظر داخل مقلتيه
_معلش يمكن حضرتك نسيت تكفنه، احنا جينا وقرينا فاتحة، يعني بنتك دلوقتي ضيفة معززة مكرمة عند حضرتك، والله مش هزار ياعمو ولا تقليل منك، انا عملت كل المطلوب مني، واللي الدين والتقاليد بتقوله، اتمنى تتقبلني علشان بنتك خلاص بقت ملكي
_ميرال قولي له يمشي، انا عامل خاطر لابوه
_حمزة حبيبي مينفعش اللي بتعمله
_ايه اللي بعمله ياطنط ميرال، هل بعمل حاجة عيب ولا حرام، التفت الى الياس وتابع حديثه
_حضرتك شايف اني شخص مش كويس ومش أمين، لو حضرتك شايف اني مش راجل هنسحب
_يابني ياحبيبي افهم.. بنتي ماتنفعكش
_عمو إلياس انا قدمت استقالتي، علشان اريحكم كلكم، ناقص بس تعتمد وحضرتك بما انك خبرة فاهم قصدي.. شمس خلاص مش هتنازل عنها، ولو جيت في يوم زعلتها يبقى موتني من غير مايرف لك جفن
_مش هينفع... صرخ بها الياس بعدما فقد سيطرته، ثم تقدم خطوة منه
_الموضوع مش يخصك بس، عيلتك كلها، ولادك وولاد اخوك، مش هينفع يابني بالله عليك بلاش تكسر بنتي، بنتي لسة صغيرة.. بلاش توصلني اني احبسك
تراجع يرتدي نظارته مردفًا
_انا قولت كل اللي عندي، الباقي مايلزمنيش
قالها وتحرك مغادرا، مع رفع الياس هاتفه يتحدث الى ابنته
_انتي فين يابابا
_خارجة حبيبي فيه حاجة
_شموسة اكيد مش هتخون ثقة باباها مش كدا حبيبتي
توقفت وشعر بارتجاف الارض تحت قدمها
_هو فيه حاجة... تسائلت بها بتقطع فقال
_لو حمزة جالك ماتخلهوش يقرب منك حبيبتي
صمتت للحظات مع دمعة انبثقت من عينيها
_حاضر يابابي
_وبعدين ناقصني مجنون شمس كمان
قهقهت تنظر للذي غادر البوابة
_انت بجد هتحبسه
استدار اليها
_هم العيال دول اتجننوا مرة واحدة، اخر حاجة كنت اتوقعها الواد الاهبل دا
تلاعبت بزر قميصه
_متنساش بنتك اللي وقعته
_بنتي بنت ك.. وضعت كفيها على فمه وارتفعت ضحكاتها، ابعدها يرمقها بغضب
_هو ايه الجيل الاسود دا ياربي، العيال ماشية تحب على نفسها
_مالك يابني مين مزعلك
_هو فيه غيره ابن اسحاق، ايه الواد دا
ضحكت ميرال تغمز لارسلان
_بيقوله ابو مراتي
قهقه ارسلان بصوت مرتفع
حدجه الياس
_بتضحك، البجح بيهددني، بيقولي احمد ربنا انها لسة اسمها شمس الياس مش شمس حمزة
_يعني ايه
_مش عارف يعني ايه
صمت ارسلان للحظات حتى توسعت عيناه بذهول
_قصده ابن اسحاق، لا كدا لازم قعدة عرب
دقق الياس النظر اليه
_اقطع دراعي لو انت مش شغال مع الواد التنح دا من ورايا
بعد دقائق وصلت الى سيارتها، بدخوله الحرم الجامعي، اشارت لسائقها
_رجعني على البيت
ترجل سريعًا من سيارته ولكن تحركت رغم تلاقي النظرات، هنا شعر بنيران جحيمية تأكل صدره، استقل سيارته وتحرك سريعًا يقطع طريق سيارتها، ترجل سريعًا وتحرك اليها وقام بفتح الباب
_انا مش متفق معاكي من امبارح
_لو سمحت ياكابتن مينفعش كدا، متخلنيش اتصل بالشرطة
لم يفعل شيئا سوى أن يسحبها رغم اعتراض السائق، ولكن فاق جنونه التعقل يدفعها بالسيارة، وانحنى يحاصر جسدها
_امبارح عيونك قالت لي بحبك، ماتختبريش صبري، انا كنت هوصلك بس، لكن باباكي يسكت لا
_كلم الياس باشا ياحمزة بيه
استقل سيارته وهو يشير الى سائقها
_قوله بنتك في الحفظ والصون، ماتخفش هرجعها شمس الياس بس ماوعدوش كتير
حاولت فتح باب السيارة وهي تصرخ به
_نزلني بقولك.. بلاش شغل قطاع الطرق دا
_على فكرة المسلسل حلو يبقى تابعيه
_مسلسل ايه
قالتهغ بزهول فرد
_قطاع الطرق، احترمت باباكي ورحت لعنده استأذنه، بس ازاي يسكت الياس باشا، كل شوية مستقبلك
_حمزة لو سمحت رجعني، انت كدا بتولع نار بين العيلتين
_انتي بتحبيني ولا لا
صرخ بها وهو يقود السيارة بسرعة جنونية
_ياله منتظر الرد، بتحبيني ولا لا
_حمزة حاسب هنعمل حادثة، حمزة لو سمحت
عند الياس
ركض الى سيارته بعد اخبار سائقه بما حدث، ورفع هاتفه
_يعني لو موت ابنك دلوقتي، تقدر تقولي هيكون ايه الوضع
_في ايه ياالياس
_في ان ابنك مش متربي وعايز يتربى يااسحاق باشا، ياريت ماترجعش تلومني
قالها واغلق الهاتف، وصلت ميرال الى منزل ارسلان تطرق الباب بقوة افزعت الجميع
_الحق ياارسلان، حمزة خطف شمس، الياس ممكن يموته
وحشتوني اوي
اتمنى يكون لسة فيه شغف للرواية واعذروني على تأخري
اخر مشهد مش متراجع
منتظرة رأيكم.. ودعوة حلوة من قلب صافي...
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا
الرواية كامله الجزء الثاني من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات
إرسال تعليق