القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل العشرون 20بقلم سيلا وليد حصريه  


رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل العشرون 20بقلم سيلا وليد  حصريه   




رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل العشرون 20بقلم سيلا وليد  حصريه   



الفصل العشرون 

لا إله انت سبحانك إني كنت من الظالمين" 


في حضرة الشوق أكتبك قصيدةً من نورٍ ودمع،

وفي عتمة الليل أذكرك في كل نبضة وكأنك بداية الكون ونهايته.


أحببتك حتى صار قلبي وطنًا لك،

ضحكتُ في حضورك كما لم أضحك من قبل، وبكيتُ على غيابك كما لم أبكِ يومًا.


كنتَ سعادتي وألمي في الوقت نفسه،

كنتَ النهر الذي أرواني والبحر الذي أغرقني،

علّمتني أن العشق يمكن أن يكون شمسًا وليلًا معًا،

دفئًا يحضنني… ووجعًا يعلّمني من أنا.


انتهت الرقصة على وقع التصفيق والابتسامات، فسحب مالك كفَّيها بين يديه، يقودها بخطواتٍ ثابتة نحو المدعوين، كانت تسير بجواره كفراشةٍ خفيفة، ابتسامتها المضيئة تُشعُّ على وجهها حمرةً وجمالًا


وصلا إلى والدته، التي انحنت  تحتضنها بحنانٍ أموميٍّ دافئ، وهمست بنبرةٍ مليئةٍ بالدعاء:

"ربِّنا يسعدكم ياحبيبتي."


ردَّت بخجلٍ طفولي:

_ميرسي ياطنط…


لكنَّها التفتت إلى فريدة وقالت:

_لا، طنط إيه؟ أنا معنديش بنات، وهيَّ من دلوقتي هتبقى زي بنتي.


ابتسمت فريدة، وعيناها تحملان بريق السعادة، ثمَّ التفتت إلى غادة قائلةً بنبرةِ أمٍّ توصِي ابنتها:

_وغادة أكيد ممنونة..مش كدا 

ياحبيبتي؟


أومأت غادة برأسها، وقلبها يخفق وهي تُلقي نظرةً سريعة إلى مالك، لتتمتم بصوتٍ مبحوحٍ بالامتنان:

_دا شرف ليَّا حضرتك.


شدَّ مالك على كفِّها، مقاطعًا الحديث بهدوء فيه شيءٌ من الجِديَّة:

_بعدين نتكلِّم في الموضوع دا ياماما.


قادها بخطواته الواثقة إلى حيث يجلس مصطفى وعمِّه..نهض مصطفى فور رؤيتها، فتح ذراعيه يحتضنها، ثمَّ طبع قبلةً حانيةً على جبينها..ثم أشار  إلى عمِّ مالك، الذي هنَّأها بكلمات محبَّة صافية.


توالت التهاني والابتسامات بين وجوه المدعوين، حتى عاد العروسان إلى مقعدهما، تتشابك أيديهما في صمتٍ مفعمٍ بالسكينة، بينما تظلُّ أنظار الحاضرين تلاحق بريقهما كأنَّهما بطلان في لوحة زفافٍ أسطوريَّة.


بدأت الموسيقى الكلاسيكيَّة تخفتُ شيئًا فشيئًا، حتى انفجر المكان بأغنية "ماممتوش أنا ماممتوش"، ليقفز يوسف وبلال وسط القاعة ويقلبان أجواء الزفاف رأسًا على عقب..التفتت حولهما الأنظار وهما يتمايلان بحركاتٍ عفويَّة مضحكة، وسرعان ماانضمَّ إليهما إسلام ليكمل الحلقة..ارتفعت الضحكات، والتفَّ الشباب في دائرة، يتراقصون بحركاتٍ هنديَّة مرحة على الإيقاع الشعبي.


ضحك أرسلان وهو يراقب فوضاهم الجميلة، ثم نظر إلى إلياس الذي أشار إليه بالتحرُّك، خطا باتِّجاههم وهو يضحك بدوره، وصل إليهم ولم يتوان ليفعل شيئًا ليشدُّه يوسف بعفويةٍ إلى الحلقة..تردَّد لحظة، ثمَّ خلع حلَّته الرسمية وسط هتاف الأصدقاء، واندمج بينهم بخطواتٍ راقصة، حتى تعانق مع إسلام وسط صرخات التصفيق والزغاريد من بعض المدعوين.


لم تستطع العروس أن تكتم ضحكاتها وهي ترى المشهد، فصفَّقت بحماس وهي تهمس لمالك:

_شوف الولاد عملوا إيه.


أومأ لها بصمت وعيناه تراقب رقصهم الممتع..


انفجرت القاعة كلَّها بهجةً بين رقص الشباب وحماس الحضور، ليصبح المشهد لوحةً من الفرح الخالص، حيث تراقصت القلوب مع حركاتهم إلى أن انتهت الأغنية..لينحني بلال بتحيَّته كأنَّه يقدِّم إليهم الشكر..

تراجع ليصطدم بجسد الياس، حمحم يبحث عن يوسف بعينيه، فيبدو أنَّه تركه لقمةً سائغة لوالده، ابتسم واقترب يقبِّل كتفه:

_عمُّو حبيبي كنت لسة بسأل عليك، منوَّر الفرح. 

_ينفع اللي عملتوه دا؟

عانق ذراع الياس وحاول امتصاص غضبه بمشاكسته المحبَّبة:

_ بص ياعمُّو مش دا فرح، والفرح بيكون فيه فرح وهيصة، ليه حضرتك زعلان هوَّ إحنا كلِّ يوم هيبقى عندنا فرح..

_ لا والله يعني الفرح مايبقاش كدا غير بأغانيكم اللي قفلت وداني. 

_طب إحنا ذنبا إيه، حضرتك معقَّد نفسيًّا من الأغاني دي.. حط قطنة

نزع ذراعه وأشار إليه بحدَّة:

_ دقيقة واحدة لو شوفتك في القاعة هرميك للكلاب ياهلفوت.

_ قاعة إيه دي، أنا حتى مابحبِّش الأفراح.. قالها وانسحب سريعًا من أمامه، هزَّ رأسه بابتسامةٍ يتمتم:

_مجانين.. 


استدار متَّجهًا إلى مصطفى وعلى وجهه ابتسامة، فقابله مصطفى بضحكةٍ مرتفعة:

_ إيه المجانين دول؟


طردتهم خارج القاعة، وصل أرسلان وهو يضرب كفوفه ببعضها قائلاً بحماس:

_ طب والله العيال بتفهم..شوفت عملوا إيه في القاعة؟


هزَّ إلياس رأسه بالنفي، قائلاً بجديَّة:

_ لا، مكنش ينفع..إنتَ شايف الفرح فيه ناس مهمَّة، وهمَّا حوِّلوه شوارع.


ربت مصطفى على كتفه وهو يهمُّ بالمغادرة:

_ متزعَّلهمش، متنساش إنُّهم شباب، ومش فاهمين حاجة.


أوقفه أرسلان بخفَّة مازحة:

_ والله يا عمُّو، إحنا المفروض ندخل الجنَّة..مكنَّاش عيال بقى.


ابتسم مصطفى وأومأ برأسه ثم غادر المكان، بينما طاف إلياس بنظراته على القاعة مردفًا بحدَّة:

_ مينفعش اللي حصل ياأرسلان، متبقاش متساهل معاهم كده..خلِّي بالك، ممكن يرجعوا يعملوا حركة مش لطيفة، واللي يحرق الدم إنُّهم مش صغيَّرين علشان كده.


اقترب أرسلان منه وتطلَّع إلى عينيه بثبات:

_ إلياس، زي ماقولت مش صغيرين، والأفراح كلَّها بيحصل فيها كده، خلِّيهم يتبسطوا.


التفت إليه إلياس مشيرًا بعينيه نحو القاعة التي يملأ معظمها أصحاب الرتب العسكرية:

_ وذنب الراجل إيه لمَّا يفضحوه بالطريقة دي؟ قاعة زي دي تتحوَّل لمهرجان بالشكل ده!!


ضحك أرسلان وهو يلكزه بذراعه مازحًا:

_ طيب تنكر إنِّهم ماعملوش جوِّ حلو؟ والله الرقصة تجنِّن، ولَّا الأغنية الهابطة دي..أنا بقالي فترة بشوفهم بيدرَّبوا عليها، فكَّرتهم بيلعبوا والله.


تنهَّد إلياس وقال:


لو الموضوع يخصِّنا مش هتكلِّم، بس دا مصطفى السيوفي..الراجل مش قليل ياأرسلان.


تحرَّك بعد دقائق متَّجهًا نحو غادة، توقَّف أمامها بابتسامةٍ دافئة:

_ ألف مبروك ياحبيبتي.


نهضت واقتربت منه، بعتاب رقيق:

_ الله يبارك فيك، مع إنِّي زعلانة منَّك.


بسط كفَّيه ونظر إلى مالك قائلاً بنبرةٍ مازحة جادَّة:

_ هخطف عروستك خمس دقايق بس ياحضرة الظابط.


اكتفى مالك بالإيماء بصمت، فتحرَّك بها إلياس إلى منتصف القاعة، حيث بدأت خطواتهما تنسجم مع أنغام الموسيقى.


خفض صوته وهمس لها:

_ لو زعلانة علشان خلِّيت إسلام ينزل بيكي تبقي غبية..هوَّ الأحقِّ منِّي..غادة، لازم تقنعي نفسك بكده، إسلام أحقِّ منِّي في كلِّ حاجة تخصِّك.


ارتجفت عيناها، وتكوَّرت بها الدموع:

_ صعب أقبل الفكرة ياإلياس..مش معقول بعد السنين دي كلَّها تقنعني إنِّ ماليش حقِّ فيك.


أمسك بيديها برفق،  وقال بصوت يحمل مزيجًا من الحنان والحسم:

_ حبيبتي، أنا ماقولتش كده..بس في أولويات لازم ناخد بالنا منها، زي ماكنَّا كلِّنا حاطِّين بابا الحضن الأوَّل، يبقى إسلام بعده..ترتيب أدوار.


هزَّت رأسها بإصرار:

_ ماتحاولش تقنعني بحاجة أنا مش مقتنعة بيها.


اقترب أكثر، ونبرته ازدادت جدية:

_ غادة، تعرفي إنِّ رقصي معاكي دلوقتي مش من حقِّي؟ مالك له الحق يعترض، ومقدرش أقولُّه “إنتَ بتقول إيه”. دا اللي عايز أفهمهولك..مهما كانت قوِّة الرابط بينَّا، في حاجات الراجل مايسكتش عليها، مش عايز ييجي وقت يمنعك عنِّي..وقتها هكون عاجز ومقدرش أعمل حاجة.


تمسَّكت بكلمتها:

_ بس مالك متفهِّم ياإلياس، وعارف كلِّ حاجة.


ابتسم بحزن وهو يمرِّر عيناه على ملامحها الحزينة:

_ بس في الآخر..راجل، ومن حقُّه يغير على أهل بيته.


تساقطت دموعها وهي تهمس بانكسار:

_ إنتَ أخويا.


تنهَّد إلياس بعمق بعدما فشل في إقناعها..ثمَّ مال ليقبِّل جبينها بحنان، وأشار إلى مالك أن يقترب منها..بعد أن سلَّمها إليه بصمت، استدار وغادر المكان.


على طاولة فريدة، جلست ميرال إلى جوار ليال والدة مالك، وقد بدأت بينهما أحاديث جانبيَّة هادئة..لحظات ووصلت غرام ورحيل، فقامتا بتحيَّتهما وجلسا في هدوء.


تطلَّعت رحيل إلى ميرال مبتسمة تسألها:

_ مارقصتيش ليه ياميرال؟


استدارت إليها ميرال بابتسامةٍ خفيفة:

_ ماليش مزاج.


مطَّت غرام شفتيها متبرِّمة وقالت:

_ خلِّيكي زيي ياحبيبتي..أرسلان من ساعة مادخلنا ماشفتش وشُّه.


أفلتت رحيل ضحكةً ناعمة، وذهبت بنظراتها نحو يزن الذي كان قد توقَّف بجوار مصطفى وأرسلان بعد انتهاء رقصتهما:

_ أنا سبقتكم بقى.


قاطعهم صوت فريدة وهي تشير نحو القاعة:

_ دي مرات أخو ميرال.


أومأت ليال بتفهُّم، ثم استدارت تتأمَّل هدوء غرام ونعومتها، قبل أن تتساءل بفضول:

_ ودي مرات أرسلان؟


هزَّت فريدة رأسها بالإيجاب، وعادت توزِّع نظراتها بين الفتيات:

_ بنات، سلِّمتوا على طنط ليال؟


أومأت رحيل وغرام بالإيجاب، بينما بقيت عينا ميرال معلَّقتين على تحرُّكات إلياس في القاعة، شاردةً تمامًا عن كلِّ مايدور حولها..

لحظات وسحب يوسف المقعد وجلس بجوار والدته، التفتت إليه: 

_حبيبي كنت فين، دوَّرت عليك، وفين شمس؟

أشار إلى مكان جلوسها بجوار ضي وقال:

_ مع ضي، عند عمُّو إسحاق. 

صمت يطوف بنظراته على القاعة إلى أن وقعت عيناه على والده الذي يتوقَّف مع أحد الرجال، يبدو أنَّه ذو مكانةٍ مرموقة، اقتربت منه إحدى السيدات، ظلَّ يراقب حديثهما بأعينٍ صقريَّة، التقط من خلال الحديث أنَّها زوجته، لكن هنا انسحب الرجل يرفع هاتفه..التفت إلى والدته التي تتحدَّث مع غرام..تنهَّد منزعجًا من قاعة الزفاف التي عادت للصمت مرَّةً أخرى، بل طرد والده إليهما بالخارج إلى أن ينتهي الزفاف..خطرت بذهنه فكرة حتى يشغل والده..انحنى إلى والدته 

وهمس إليها: 


هوَّ بابا ماله؟! أوَّل مرَّة أشوفه بيضحك كده..هتصدَّقي، حسِّيته لسه مكمِّلش التلاتين.

أشار برأسه نحو إحدى السيدات الأرستقراطيَّات، تلك التي يكسوها النفوذ والجاه، وهمس:


_«بصِّي كده..شوفي بتبصِّ لبابا إزاي.. الراجل ده غريب بجد، علشان في فرح يعني مش مبطَّل ضحك، وفي البيت عامل عسكري السكَّة الحديد.»

ظلَّ يراقب تعابير والدته وهي تبتسم بهدوء، فانحنى إليها وألقى كلماته بمكرٍ طفولي:


_«طول ماإنتي طيِّبة كده، بكرة يدخل عليكي بواحدة..ويقولِّك الكلمتين اللي حافظهم أي راجل في القرآن، {مثنى وثلاث ورباع!}

_يوسف بتعمل إيه هنا، نسيت عمُّو قال إيه؟!

توقَّف وعيناه على والدته ثمَّ اقترب من بلال: 

_متخافش..أنا اتصرَّفت، وكلُّه تحت السيطرة وهنكمِّل الفرح. 

لحظات وتوقَّفت ميرال متحرِّكةً إلى يزن..وعيون يوسف خلفها، إلى أن وصلت إليه، دقيقة واحدة حتى سحبها يزن إلى مكان الرقص..

ابتسم يوسف بشقاوة، ثمَّ أمال على بلال:

_ عارف لو غلطِّت زي المرَّة اللي فاتت هعلَّقك على رأي عمَّك. 

_إنتَ لسة مصرّ، طيب ياظريف أبويا وأبوك..روح بس خلِّي العيال اللي برَّة دول يجهزوا،  ووقت ماأرنِّ لك يبقى ادخلوا. 


ظلَّ متوقِّفًا يهمس لنفسه: 

_يالَّه يابابا، لفّ شوف مامي العسل وهيَّ بترقص مع غيرك. 

تقابلت نظرات إلياس بيوسف..فتحرَّك إلياس إليه يرمقه بغضب: 

_ يادي النيلة، بدل مايشوف أمِّي، شافني.. 

وصل إليه وهزَّ رأسه بتساؤل:

_بتعمل إيه هنا؟ مش قولت لك ارجع على البيت. 

حمحم يحكُّ أنفه، ثمَّ رفع نظره إلى والده:

_آسف يابابا، بدوَّر على ماما..أصل ممعيش المفتاح. 

_مفتاح!..نطقها الياس باستغراب ثمَّ أشار إلى باب القاعة:

_ لسة ماتحسبناش.


تمام..طيب أنا بدوَّر على ماما، ومش لاقيها


دار إلياس بعينينِ مضطَّربتين يبحث عنها وسط الزحام، حتى وقعت نظراته عليها وهي تتمايل مع يزن، ضحكتها تنغرس في قلبه كخنجر..انقبض فكِّه وصرَّت أسنانه بغضبٍ مكتوم..

راقبه يوسف بصمت، فالتفت إليه إلياس فجأة:

_ عايزها ليه؟


ارتبك الصغير وتلعثم للحظة، ثم هزَّ كتفيه ببرودٍ مصطنع:

_ عايز أسألها هاخد شمس معايا ولَّا لأ.


زفر الياس في ضيق، رفع رأسه اتِّجاه باب الخروج ثم تمتم:

_ارجع على البيت مش هكرَّر كلامي، ومالكش دعوة بأختك. 

تحرَّك يوسف متذمِّرًا وهو يتمتم: 

_ نفسي أعرف دماغك دي بتفكَّر إزاي.


تركه ومضى نحو بلال وأصحابه الذين كانوا يتَّفقون على زفَّةٍ بالطبل والمزمار..لمحهم أرسلان، فاقترب بخطا ثابتة، وقف متخصِّرًا ينظر إليهم بصرامةٍ وقال:

_ أوَّل مرَّة محبتش أزعَّلكم، لكن اللي بتعملوه كتير..دي مش فرح في حارة، هنا ناس مهمَّة، ومينفعش الهبل ده.


ابتسم يوسف بخبثٍ محاولًا الضغط عليه:

_ ياعمُّو، هوَّ الفرح فيه ناس مهمَّة وناس لأ؟ ماإحنا بنحضر أفراح في قاعات زي دي، وكلُّه رقص ومزِّيكا.. وبعدين أنا وعدت عمِّتو غادة أعملَّها فرح حلو.


مسح أرسلان وجهه بكفِّه، يحاول أن يكبح انفجاره:

_ يوسف، بلال، الفرح ده مش بتاعنا.. لو سمحتوا، سيبوا الجوّ يعدِّي بهدوء. 


تأفَّف يوسف مستهترًا وتحرَّك للخارج، وقبل أن يبتعد التفت لبلال:

_ هات عربية أبوك بقى، مش هرجع ماشي على رجلي..استمع أرسلان إليه برفعة حاجب، ثمَّ اقترب من ابنه خطوةً وأشار بإصبعه في تهديدٍ جلِّي:

_ أي حركة ناقصة منَّك هزعَّلك.. متنسوش نفسكم..أنتوا لسه عيال مش فاهمين حاجة. 


مدَّ يده وانتزع المفتاح من يد والده بتهكُّم:

_ مفتاح العربية..ومش عايزين فرحكم دا، الواحد لو راح عزا كان هيلاقي صويت أكتر.


كتم أرسلان ضحكاته، ولكزه بكتفه محاولًا تهدئته:

_ يوم فرحك هجبلك طبل ومزمار.. متخافش.


زمَّ بلال شفتيه ساخرًا:

_ هوَّ إنتَ هتحضر فرحي أصلًا؟ وحياتك العيلة دي كلَّها ماهتحضر.. ناقص الناس تعايرني بيكم!


قالها وجذب المفاتيح وتحرَّك للخارج،  ألقى نظرةً عابرة نحو يوسف الذي وقف معتذرًا لأصدقائه عمَّا حدث، ثمَّ استقلَّ السيارة بجوار بلال.


جلس متأفِّفًا، يضرب أصابعه على المقود يستمع إلى كلمات بلال: 

_ إحنا نطِّرد من الفرح..لا وتقولِّي "مسيطر"!


_اخرس بقى، أبويا قالِّي لسة هيحاسبني، وبعد ماوصلت خلاص لمفتاح العربية هياخدها منِّي.


ضحك بلال بخفَّة وهو يسند رأسه على النافذة:

_ ولا تزعل..هدِّيلك عربيتي.


التفت يوسف بحدَّة، وعقد حاجبيه:

_ عربية إيه..إنتَ جبت عربية إمتى؟


رفع بلال كتفيه ببرود:

_ لأ..لمَّا أجيبها.


اختطف يوسف علبة المحارم وألقاها في وجهه بعصبية:

_ متخلِّف..أنا كنت عايز أحضر بيها الامتحانات..بس أبويا قرَّر يعاقبني.


ابتسم بلال بخبث وغمغم:

_ أبوك دا غريب ياأخي..كلُّه عنده عقاب..عامل زي أبويا بالظبط.


رفع يوسف حاجبه يتأمَّل كلامه:

_ تفتكر يقربوا لبعض؟


قهقه بلال وهو يشيح بيده:

_ لا لا..تشابه أسماء وبس.


•••


في الفندق الذي يُقام به حفل الزفاف…

تحرَّكت إلى الطاولة بعد انتهاء رقصتها مع يزن..رمقته بنظرةٍ عابرة وهي تمرُّ من جواره متَّجهةً إلى مكان جلوسهم.


لكن يده القوية امتدَّت فجأة، سحبت كفَّها لتشهق بدهشة، ارتبكت أنفاسها مع قبضته على خصرها..نظر حوله بابتسامةٍ باردة، ثمَّ تحدَّث من بين نواجذه بصوتٍ منخفضٍ يحمل التهديد:

_ المدام مالهاش راجل علشان تروح ترقص مع أخوها؟


اعتدلت تتطلَّع إليه بابتسامةٍ لم تصل إلى عينيها، وقالت بنبرةٍ تحمل جرحًا ومرارة:

_ وتعمل إيه المدام وهيَّ شايفة سيادة عظمته متجاهلها؟


أشارت بنظرةٍ سريعةٍ إلى أرسلان الذي كان يتراقص مع غرام، ثم اقتربت منه خطوة:

_ قبل ماتعاتبني ياحضرة الظابط شوف نفسك كنت فين ورميتني..لا ومش بس كدا، شايفة الضحك من الودان للودان.


ضغط على خصرها بقوَّة، فتأوَّهت مرتبكة، عيناها تتَّسعان بدهشة..دنا منها أكثر وهمس بصرامة:

_ تقعدي على كرسيكي..ولو اتحرَّكتي مش هقولِّك هعمل إيه.


قالها واستدار متَّجهًا إلى مصطفى، كأنَّ شيئًا لم يكن..جزَّت على شفتيها بعنف وهي تراه يتحرَّك بكلِّ تفاخر واعتداد بنفسه، يلفت الأنظار كأنَّه ملكٌ في عرشه.


أغمضت عينيها لوهلة، وأنفاسها تتلاحق في صدرها، تهمس داخليًا:

_ زي مايكون بتنفِّس حبَّك ياإلياس… 


اتَّجهت إلى مكان جلوسها، بعينين مثقلتينِ بتوتُّرٍ تحاول إخفائه،  لمحت فريدة ملامحها المتجهِّمة..

انحنت فريدة إليها هامسة:

_ مالك ياحبيبتي، زعلانة علشان اللي عمله إلياس مع يوسف؟


هزَّت رأسها نافيةً بسرعة، وابتسمت ابتسامة باهتة وهي تفرك جبينها:

_ لا..عندي صداع بس.


جلست تتجول بعيناها القاعة، هنا شعرت بأن الألم  ينخر عظامها حين وقعت عيناها عليه، واقفًا بجوار والدة مالك وابنة أختها، يضحك كما لم تره من قبل..ضحكة أحرقت قلبها كأنَّها سخريةً منها..

كاد الجنون يفتك بها، ومع ذلك تصنَّعت الهدوء، فيما لم تفارقها نظرات فريدة المراقبة لكلِّ ارتجافةٍ من ملامحها.


ربتت فريدة على كفِّها برفق، وأشارت بعينيها نحو إلياس:

_ ماتقومي تروحي لجوزك.


أطرقت ميرال رأسها نافيةً، ثمَّ التفتت إلى غادة التي كانت تتحدَّث مع مالك، وقالت بصوتٍ متماسك:

_ هروح أشوف غادة.


نهضت، وخطواتها تتثاقل رغم ابتسامتها المصطنعة، حتى وصلت إلى العروسين الغارقين في أحاديثهما..لمحت غادة اقترابها، فتهلَّلت أساريرها ومدَّت يدها نحوها.


انحنت ميرال تُقبِّلها قائلةً بابتسامةٍ حانية:

_ زي القمر يادودي..ربِّنا يسعدك ياروحي.


لمعت عينا غادة بفرحةٍ حقيقية، بينما ابتعد مالك نحو أصدقائه..جلست ميرال بجوارها تهمس:

_ ربِّنا يسعدك ياحبيبتي..حافظي على جوزك، شكله ابن حلال وبيحبِّك.


أومأت غادة، وضحكت بخفَّة وهي تقول:

_ نسخة تانية من جوزك ياميرو.. بحاول أقلمه على حياتي، بس تقيل أوي.


قهقهت ميرال بخفوت وغمزت لها:

_ إلياس مفيش منه نسخ..ودا المفروض تحمدي ربِّنا عليه.


اتَّسعت عينا غادة بدهشة:

_ يعني إيه؟


قاطع حديثهما صوت مالك وهو يقدِّم أحد أصدقائه المقربين:

_ غادة..دا أحمد صديقي المقرب


مدَّ الشاب يده بابتسامةٍ ودودة:

_ مبروك أستاذة غادة.

_ميرسي، التفت إلى ميرال وقال:

_دي مدام ميرال مرات أخو غادة، وصاحب الشغل. 

_أهلًا أستاذة ميرال.

قالها ومدَّ يده لتحيَّتها، قابلته مبتسمة:

_أهلًا بيك..ربتت على كتف غادة وانسحبت بهدوء، حاولت أن تسحب نفسًا بعدما وجدته جالسًا بمكانها..

جلست بهدوء مصتنع

وهو يراقبها بنظراته دون حديث


العشرون 2


مضت ساعات الفرح بسلامٍ يكسوه الهدوء، وعاد الجمع كلٌّ إلى داره.

دخل أرسلان المنزل مرهقًا، ألقى مفاتيحه على الطاولة وفكَّ ربطة عنقه بتثاقل، بينما أسرعت غرام إلى الداخل تبدِّل ثيابها بعد أن دخلت ضي غرفتها.


لم تمضِ سوى دقائق حتى عادت، فوجدته ممدَّدًا على الأريكة، تغفو ملامحه بين التعب والسكينة..اقتربت ومسَّدت بخفَّة على خصلات شعره:

_ "أرسلان، هتنام هنا؟ يلا قوم نام جوَّا."


فتح عينيه بنصفِ إغماضة، ثمَّ تمتم بلهجةٍ مثقلة:

_ "بلال مش جوَّا؟"


تجهَّمت ملامحها، تنقَّلت بعينيها في أرجاء الغرفة بخوفٍ غامض، ثم أسرعت نحو غرفته تتمتم بقلق:

_ "معرفش..هشوفه في أوضتُّه كدا."


اعتدل أرسلان في جلسته، حمل بذلته متَّجهًا إلى غرفته، لكن أذنه التقطت صوتها المرتجف من الداخل:

_ "الولد مش هنا..كلِّم إلياس، أو كلِّمه هوَّ، شوفه فين."


رفع أرسلان هاتفه يحاول الاتِّصال بابنه.


في غرفة يوسف..كان يجلس بجواره، يلعبان سويًّا ألعابًا إلكترونيَّة، دوى رنين الهاتف مع أصوات السيارات العائدة بالخارج.

ابتسم بلال وهو يمدُّ يده لينهض:

_ "شكلهم رجعوا…يلَّا تصبح على خير..بابا بيتِّصل، وبلاش تشدِّ مع عمُّو…الفرح خلص وخلاص."


أومأ يوسف برأسه مبتسمًا تعبًا:

_ "تمام..أنا أصلًا مصدَّع وهنام، عندي تيست بكرة ولازم أرتاح."


غادر الغرفة بخطواتٍ سريعة، يهبط على الدرج بخفَّةٍ شبابيَّة، قابل ميرال التي ابتسمت بحنان وسألته:

_ "حبيبي، يوسف فوق؟"


أومأ بلال وهو يشيح بيده:

_ "أيوة..بس هينام، بيقول مصدَّع."


ابتسمت برفق وربتت على كتفه:

_ "تمام ياحبيبي..تصبح على خير."

فتح الباب فدخل إلياس، توقَّف أمامه و ابتسم قائلاً:

_ أهلًا ياأخويا..لسه صاحي؟

_ وأنا أنام ليه ياعمُّو، أنا عيَّان ولَّا بقيت ختيار؟

_ ختيار..ردَّدها إلياس ممَّا جعل بلال يهزُّ رأسه بابتسامةٍ مازحًا: 

_ يعني عجوز..عارفك فقير لهجات عربية.

رفع إلياس حاجبه مشيراً إليه بيده:

_ يلَّا ياله، أنا مصدَّع وماليش دماغ لهزارك.

قفز على أطراف أصابعه واحتضن رأس إلياس وهو يضحك:

_ ألف سلامة عليك ياعمُّو، إن شاء الله اللي يزعَّلك يزعَّلني.

ابتسم إلياس رغم صداعه، تحرَّك مبتعدًا قبل أن ينفلت صبره ويكاد يلطمه 


في الأعلى..

دلفت ميرال إلى غرفة نجلها، وجدته يتهيَّأ للنوم..أطلَّت برأسها وسألت بنعومة:

_ حبيبي..نمت؟

اعتدل على الفراش، تطلَّع إليها بعينين يملؤهما الحنان:

_ تعالي ياماما..كنت ناوي أنام بس لو محتاجة حاجة أنا صاحي.

اقتربت وجلست على طرف الفراش، نظرت حولها للحظة ثم أعادت عينيها إليه:

_ لسه زعلان من بابي؟

هزَّ رأسه نافياً، وأجاب بهدوء:

_ خلاص..هوَّ شايف إنِّ دا غلط يبقى غلط، بس إحنا كنَّا بس عايزين نغيَّر الجو شوية.


مدَّت يدها تمسح على شعره بحنانٍ أمومي، وقالت بنبرةٍ مطمئنة:

_ عايزاك تهدى شوية وتركِّز..أهمِّ حاجة عندي دلوقتي إنَّك تركِّز في مذاكرتك..امتحاناتك قرَّبت خلاص.


ابتسم يوسف وربت على كفِّها بحنان:

_ إن شاء الله ياماما..المهمِّ إنتي قوليلي عملتي إيه في بابا؟ أنا كنت بهزَّر معاكي، أصلًا بابا مش شايف غيرك 


انحنت ميرال وقبَّلت وجنتيه في لحظةٍ دافئة..قام الياس في تلك اللحظة  بفتح الباب، وقف إلياس على العتبة، عينيه تجولان بينهما بحدَّة:

_ بقالي ساعة بدوَّر عليكي، وإنتي قاعدة عند الحنيِّن ابنك.


التفتت إليه بابتسامةٍ خفيفة، ثم نظرت إلى يوسف:

_ يلَّا ياحبيبي..تصبح على خير.

رفع رأسه نحو والده ببراءةٍ ممزوجةٍ بجرأة:

_ هيَّ لسه داخلة مكمِّلتش خمس دقايق..وبعدين إنتوا لسه جايين أصلًا، إيه بقالك ساعة دي يابوص؟


زمجر إلياس وهو يقطِّب حاجبيه:

_ اتخمد ياحمار..لينا كلام الصبح.


نهضت ميرال سريعًا وخرجت من الغرفة متجنِّبةً النظر إليه، بينما خطا هو نحو يوسف بعد أن تبادلا نظراتٍ مشحونة..وقف أمامه كظلٍّ ثقيل وقال بصوتٍ جاف:

_ يوسف..إنتَ مابقتش صغير..لازم تفهم إنَّك ابن إلياس الشافعي.


تقلَّب يوسف في فراشه بانزعاج، ضغط على جبينه وقال بفتور:

_ بابا، أنا تعبان ومصدَّع وعايز أنام..لو حضرتك عندك دماغ للخناق، روح اتخانق مع ميرو..ابنك فاصل خلاص.


تشنَّج فكُّ إلياس، وكوَّر قبضته حتى انغلقت وبرزت عروقه، أومأ برأسه دون أن يتفوَّه بكلمة، لكنَّ نظراته الحادَّة كانت كافية لتوحي بأنَّه على شفا أن يصفعه.


دقائق قليلة كانت كافية لتبدِّل ثيابها، ثم اتَّجهت نحو غرفة ابنتها..وجدتها قد غرقت في نومها، فابتسمت بهدوء..لحظات ودخلت المربية تحمل كوبًا من الحليب:

ــ خلاص يامدام، هيَّ نامت..طبعًا ماغسلتش سنانها.

ــ والله يامدام قالت عايزة لبن، نزلت أجيبهولها لقيتها نامت.

ــ خلاص، نامي إنتي كمان بكرة إجازة..تصبحي على خير.


أغلقت باب الغرفة بهدوء، ثم عادت إلى جناحها الخاص..خرجت من غرفة الملابس متثاقلة الخطا حتى بلغت الفراش، تسحب الغطاء استعدادًا للنوم، لكنَّ يده اعترضتها فجأة، قبض على كفِّها بقوَّة، وقال بنبرة غاضبة تسبق نظراته:

ــ ينفع اللي حصل النهاردة في الفرح؟ ولا كأنِّك متجوزة!


التفتت إليه سريعًا، غضبها يشتعل في عينيها:

ــ أنا برضو؟ ولَّا حضرتك من وقت ماوصلنا ولا كأنَّك تعرفني! هوَّ فيه إيه بالظبط، وبعدين تعال لي هنا..مين اللي كنت حضرتك بتضحك معاها من الودن دي للودن دي؟


زوى حاجبيه، يحاول السيطرة على انفعاله أمام توتُّرها:

ــ مالك ياميرال؟ أوزني كلامك..إيه بضحك معاها دي؟ أنا مش فاكر..دا فرح وأكيد مجاملاته كتيرة.


انتزعت كفَّها بعنف وأشارت إليه بحدَّة:

ــ خلاص..روح كمِّل مجاملاتك وسبني أنام.


ــ ميرال! إنتي اتجنِّنتي؟


ــ آه. 

صرخت بها وهي تبتعد، كأنَّها تهرب من جرحٍ أحدثه غضبها قبل غضبه، لكنَّه لم يسمح لها بالفِرار..جذبها بقوَّة حتى ارتطمت بصدره، لتتبعثر كلُّ مقاومتها أمام صلابة حضنه..عيناه كانتا نارًا تخرس أيَّ حرف، وفي الوقت ذاته ماءً يطفئُ كلَّ وجع.


_انتي بتعاندي مين؟!

قالها بصوت مشوب بالغضب والخذلان.


رفعت حاجبيها ببرود تحاول تخفي ارتجافها:

_مش بعاند حد يا إلياس… زهقت من القعدة، قولت أشوف غادة.


تجمدت نظراته للحظات ثم طالعها بملامح ممتعضة وأومأ بتذمر:

_لاحظي إننا كبرنا على الزعل  ماينفعش كل واحد فينا يتقمص من التاني كده. أنا مش هسيب بابا وإسلام في يوم زي دا علشان أقعد جنبك… إرسلان ويزن مش ولاد مصطفى السيوفي… حتى لو الهوايات اختلفت، مصطفى السيوفي هيفضل أبو إلياس لحد ما أموت.


ارتجف صوتها وهي ترفع عينيها إليه، تنطق بالكلمات كأنها تنتزعها من قلبها:

_وأبويا أنا كمان يا إلياس… حتى بعد اللي حصل… الراجل دا له فضل عليّ كبير…


_حبيبي العاقل.. وكان ليه القمصة، وكمان روحتي تضحكي مع راجل غريب

_ متكلمتش مع حد 

لمس وجنتيها، يمرر اصابعه عليها، وهمس بخفوت: 

_ لا.. اتكلمتي وضحكتي كمان.. وأنا لازم اعاقبك بطريقتي 


ارتجف جسدها بين ذراعيه، شعرت أنَّ كلَّ مابداخلها يتهاوى دفعةً واحدة.. عنادها، غضبها، دموعها المكتومة، وكأنَّ قلبها وجد نفسه أخيرًا حيث ينتمي..أنفاسه الحارَّة التصقت بوجهها، فتسارعت أنفاسها هي الأخرى، كأنَّ أرواحهما تتلاحق لتلتحم في أنفاسٍ واحدة... تقابلت النظرات في حديث طويل ملئ بالعشق، لتغمض عيناها مع ارتجاف شفتيها،  لينحنى ويخطف شفتيها، هنا لم يعد في العالم صوت سوى خفقاتهما، ولا في الذاكرة سوى وهج قبلته..انكسرت كلُّ جدرانِ البُعد، وذاب الغضب في سيلٍ من الاشتياق..كانت بين ذراعيه أسيرةٌ مختارة، روحها تتلاشى فيه كأنَّها خُلقت من أجله وحده.. ضمها لصدره بحنان وهمس بجوار اذنها

_ محبتش ترقصي قدام حد، حتى لو في حضني، قولت لك قبل كدا، اطلبي اللي انتي عايزاه في بيتنا وكل اومرك مجابة

رفع عيناه يعانق عيناه ولأول مرة تنطقها شفتيه

_بغير عليكي، مش عايز حد يشوف تفاصيلك غيري 


هنا قد وقعت لحظةٍ صافية لا يشوبها سوى خفقاتهما، لترتسم جنَّةٌ لعشقًا، ضمَّتهما معًا، حيث لا كبرياء ولا ضعف، بل دفءٌ لا ينتهي واحتواءٌ يحيا من جديد بأحضان بعضهما البعض.


فترةٌ ليست بالقصيرة ظلَّت تنعم بأمان حضنه، حتى غفت مستسلمةً لنومٍ عميق، لا تدري أهو من إرهاق هذا اليوم المزدحم؛ أم من شوقها الضاري الذي كان ينهش قلبها منذ أسبوعين كاملين وهي مستقرَّة في منزل السيوفي استعدادًا للزفاف كما أرادت فريدة، اعتبارها بأنَّها أختُ غادة الكبرى..فما كان منها إلَّا أن ترضخ لرغبتها.


دسَّ أصابعه بين خصلات شعرها الحريرية، ومشاهد سريعة من حفل الزفاف تتراقص أمام عينيه، حضورها البهيّ، ابتسامتها التي خطفت الأنظار، وحتى غيرتها المجنونة التي أشعلت قلبه..ابتسم ابتسامةً وادعةً وهو يتذكَّر ملامحها الغاضبة في تلك اللحظة،  انحنى بخفَّة ليطبع قبلةً رقيقة بجوار شفتيها، هامسًا:

ــ مجنونة..هيَّ عيوني ممكن تشوف غيرك؟


رفَّت أهدابها على وقع كلماته، بين النوم واليقظة، وارتسمت على محيَّاها ابتسامةٌ صافية، همست بعدها بصوتٍ واهن:

ــ بحبَّك.


تورَّدت وجنتاها تحت لمسة يده الحانية، وظلَّت عيناه تلمعان بسعادةٍ صافية..يكفي أنَّها بين أحضانه،  بحضرتها تسقط قلاعه وجبروته، لا يطلب من الدنيا شيئًا آخر؛ يكفيه أن يستمع إلى دقَّات قلبها تناديه باسمه.


طبع قبلةً أخرى على وجنتها، ثم همس بحنوٍّ يذيب الصخر:

ــ وأنا..بحبِّ أمِّ يوسف.


عانقت ذراعه كطفلة، ورفعت رأسها لتسنده فوق صدره، لتجد في إيقاع دقَّات قلبه الصاخبة أمانها، فيما ظلَّ هو يربت على خصلاتها بحنانٍ حتى غلبه النعاس، فغفيا معًا..قلبان لا يعرفان إلَّا لغةً واحدة: لغة العشق.


عند غادة…

بعد ساعاتٍ من السفر، وصلا أخيرًا إلى الفندق في قلب باريس، مدينة العشَّاق.

دخلت بخطواتٍ مرتجفة، كأنَّ الأرض تهتزُّ تحت قدميها، وهمست في سريرتها دعاءً واحدًا: «اللهمَّ اجعل هذه الليلة تمرُّ بلا جراح».


جلست بأنفاسٍ مرتفعة فوق الاريكة، حتى لحق بها وهو يغلق مكالمته مع خدمة الغرف.

دلف ينظر إلى جلوسها، إنَّها مازالت بفستانها الأبيض. 


اقترب منها ببطء، عيناه تلتهمان ارتجاف وجهها..رفع ذقنها بين أصابعه يتأمَّل ملامحها الجميلة:

_ "ألف مبروك ياحبيبتي..."


ابتلعت ريقها بصعوبة، فقد خانها صوتها، ولم تخرج سوى إيماءةٍ خجولة.

ابتسم وهو يراقب احمرار وجنتيها، ثمَّ مرَّر أنامله عليها، فارتجفت كمن لامست النار.

أغمضت عينيها باستسلام، وارتجفت شفتيها كمن ينتظر المصير.


ازدرد ريقه، يقاوم عاصفةً تشتعل داخله، لكنَّ مظهرها كان كافيًا لأن يزيح أقسى الحواجز.

مال نحوها بلا وعي…وخطف منها أوَّل قبلة.

قبلةٌ تذوَّق فيها طعم حياةٍ جديدة، قبلةٌ جعلته يشعر أنَّه وُلدَ من جديد، وجعلتها هي تذوب، لا لشيءٍ سوى رغبتها في أن تُدفن في هذه اللحظة، أن تنسى ماضيها وتثبت له أنَّه وحده المتحكِّم بقلبها.


لكن سرعان ماأفلتها وهو يلهث، يتراجع متنحنحًا محاولًا السيطرة على مايشتعل في صدره.

أشار إليها بيدٍ مرتجفة:

_ "روحي..غيَّري فستانك وتعالي نصلِّي."


هزَّت رأسها سريعًا، ثمَّ خطت للداخل تهرب منه أوَّلًا…ثمَّ تهرب من نفسها أكثر.


خرجت بعد دقائق مرتديةً إسدالها، تسير بخطواتٍ خجلى كأنَّها تتعثَّر بثقل اللحظة.

ظلَّ يتابعها بعينيه، يتأمَّلها بصمتٍ يفيض إعجابًا وطمأنينة..أشار إليها لتقف خلفه، فأمَّها بركعتين، يفتتحان بهما حياةً جديدة، حياةٌ يُستهلُّ كتابها بذكر الله، ويُستودعُ سرُّها بين يديه سبحانه.


ماأعذب أن يبدأ المرء رحلته مع شريكة عمره بسجدة، يضعان فيها أوَّل عهدٍ مع الله، أن تكون حياتهما قائمةً على الرحمة والمودَّة، وأن يكون بيتهما حصنًا من الطهر والسكينة.


انتهت الصلاة، جلس لحظاتٍ يتأمَّل ارتباكها، كأنَّها وردةٌ تتفتَّح لأوَّل مرَّةٍ أمامه..مدَّ يديه ليحتوي كفَّيها بين راحتيه، رفعهما إلى شفتيه وقبَّلهما قبلةً حانيةً كعهدٍ لا يُنكث..ثمَّ رفع نظره إليها وهمس:

_ غادة..عارفة يعني إيه زوجة، عارفة يعني إيه حياة جديدة؟


ابتسمت بخفوت، وهزَّت رأسها قائلةً بنبرةٍ تفيض حنانًا:

_ يعني سكينة واطمئنان لزوجها..


شدَّ على يديها أكثر، وقال بصوتٍ مبحوحٍ بالصدق:

_ والزوجة الصالحة ياغادة..هيَّ تاج على رأس زوجها، ستر له في الدنيا، ودعاء له في الغيب..هيَّ اللي لو نظر ليها أفرحته، ولو غاب عنها حفظته، ولو أمرها أطاعته فيما يرضي الله.. الزوجة الصالحة هيَّ رزق، بل هيَّ أعظم كنز ممكن يرزقه ربِّنا لعبده.


ارتعشت شفتاها بابتسامةٍ متأثِّرة، لتجد نفسها تهمس كمن تُتمُّ المعنى:

_ والزوج الصالح..هوَّ أمان، هوَّ اللي يمسح دموعي قبل ماتنزل، ويخاف على قلبي قبل جسدي، ويقودني معاه للجنَّة.


ارتسمت في عينيه لمعة لا يقدر على حبسها، كأنَّها وعدٌ صامتٌ أن يكون لها كما تمنَّت وأكثر.

نهض وهو مازال ممسكًا بكفَّيها، يسحبها برفقٍ كأنَّه يقودها إلى قدرٍ مكتوبٍ منذ الأزل..خطا بها نحو فراشهما، المكان الذي سيُدوَّن عليه قصَّةُ عشقٍ صادقة، تحيا وتزدهر على طاعة الله وحفظه.


نزع عنها إسدالها برفق، لتطلَّ أمامه في غلالتها البيضاء الناعمة، كأنَّها حوريَّةٌ من الجنَّة تجسَّدت بين يديه. ارتجف صوته الداخلي وهو يمرِّر أنامله المرتعشة على ملامح وجهها البريء، فيما أغمضت هي عينيها متأثِّرةً بلحظةٍ لم تعشها من قبل، خفقان قلبها ينبض بعنفٍ لكنَّه خفقانٌ لذيذ، يسكب الطمأنينة في روحها.


ضمَّها إلى صدره أوَّلًا، يحتضن أنفاسها ورائحتها، يسحب من بين ضلوعها حنانًا طاهرًا وهبه الله له وحده..ما أجمل أن تكون السعادة بالحلال، وما أعذب أن يظلَّ البعدُ عن المحرَّمات هو أوَّل عهدٍ بينهما.


مكثت بين ذراعيه ساكنة، كعصفورةٍ أرهقها الطيران فوجدت أخيرًا عشُّها.. أزاحها قليلًا لينظر في عينيها الساحرتين، ثمَّ انحنى ليختطف قلبها قبل أن يختطف شفتيها..قبلاته الناعمة بدَّدت خوفها وبدَّلت توتُّرها راحةً واطمئنانًا، حتى استسلمت لذراعيه بحنانٍ لم يسبق أن ذاقته.


مرَّت دقائق ثمينة كأنَّها من عمرٍ آخر، حتى غدت زوجته قولًا وفعلًا، تحت مظلَّةِ حبٍّ عفيفٍ باركه الله..

ابتعد أخيرًا، يقبِّل جبينها بحنوٍّ لا يُجارى، وهمس بأنفاسه الحارَّة:

_ ألف مبروك ياحبيبتي..ربِّنا يجعلنا سعادة لبعض العمر كلُّه.


اختبأت بخجلٍ في صدره، فابتسم بضحكةٍ رجوليَّةٍ مشاكسة:

_ لسه برضو بعد اللي حصل؟!


لكزته بخجل وهي ماتزال تخبِّئ رأسها في حضنه:

_ بس بقى..إنتَ ضحكت عليَّا.


قهقه بصوتٍ عالٍ، فرفعت رأسها تنظر إليه، لترى في جاذبيَّته سرَّ السحر الذي خطف قلبها منذ زمنٍ بعيد، وكأنَّها الآن فقط تذوَّقت حقيقته.


قبل سنة من آلان


بعد سفر طارق، عادت الى عملها رغم جراحها،  ذات يومًا خرجت من عملها كعادتها متَّجهةً إلى السيارة التي تقلُّها إلى منزلها، لكنَّها لم تجده في انتظارها كالعادة..كان هناك رجلٌ آخر.

صعدت السيارة بصمت، وعادت إلى بيتها..يومان والوضع كما هو، اختفاء مالك، وغضبُ إسلام الذي مازال يشتعل، وهروب طارق الذي رسمته في ذهنها كخيانة.


في المساء، طرقت ميرال بابها برفق، ثمَّ همست من الخارج:

_ أدخل ولَّا أرجع؟


أومأت لها بصمت.

دلفت ميرال للدَّاخل، عينها تلتقط انكسارها...جلست بجوارها، مالت برأسها على كتفها، وهمست بنبرةٍ خافتة:

_ قلبي وجعني أوي ياميرال..ليه الخيانة؟ أنا كنت رايحة والله أنهي كلِّ حاجة، بس هوَّ ماصدَّق، وأوَّل حاجة عملها إنُّه خانِّي.


رفعت ميرال رأس غادة برفق تحتضن وجهها بكفَّيها، وعينيها تحملان صدقًا ووجعًا قديمًا:

_ غادة..سواء طارق عمل أو ماعملش، مالكيش حق تقولي إنُّه خانك.


برقت عيناها وانسابت دموعها على وجنتيها، تهزُّ رأسها نافية.

مدّت ميرال يدها لتزيل دموعها بحنانٍ وقالت بنبرةٍ عميقة:

_ حبيبتي..مش إسلام وإلياس اتخانقوا معاه؟ خلاص ياغادة الموضوع انتهى، هوَّ يعمل اللي هوَّ عايزه..هوَّ كده ماخانكيش، إسلام قالها علني..طارق ماينفعكيش.


ابتسمت ميرال بمرارة وهي تكمل:

_ صدَّقيني دا احسن لك، أنا أكتر واحدة مجرَّبة.. هتتوجعي أضعاف لو كمِّلتي، متخلِّيش قلبك يسيطر عليكي..أنا عارفة إنِّك تعبانة وقلبك موجوع، بس مش كلِّ حاجة قلوبنا بتتصرَّف فيها.


أطرقت راسها للحظة، تسترجع ألمها الخاص، ثمَّ قالت بصوتٍ متقطع:

_ أنا مشيت ليه؟ مع إنِّي بعشق أخوكي، وكمان عندي ولد..علشان شُفت ده الصح..عيلة كانت هتتهدّ، وجوزي حياته كانت هتضيع بسببي، وابني هيتعاير..طيب أنا ماعرفتش أختار حياتي ونصيبي، إنَّما إنتي قدَّامك الحلول..ليه توجعي قلبك؟


أخذت نفسًا عميقًا، ثمَّ أكملت بوجعٍ صادق:

_ صدَّقيني إنتي دلوقتي مش حاسَّة بحاجة..غادة، أنا بخاف أقول اسمي قدَّام حد، جوَّايا ألم يقهر أي جبل.. علشان كده بقولِّك..قلبك دلوقتي له علاج، قدَّام هتنقهري


قطع حديثهم دخول فريدة وهي تقول بلهفة:

_ كلِّمي جوزك شوفيه اتأخَّر ليه!


نظرت إلى ساعتها بسرعة، ثم التقطت هاتفها بارتباك، وعيناها على فريدة:

_ أيوة ياإلياس..اتأخَّرت كده ليه؟


جاءها صوته متعبًا عبر الهاتف:

_ أنا في المستشفى.


شهقت وهبَّت من مكانها بفزع:

_ ليه!! في إيه؟!


ابتعد إلياس عن سرير مالك، وقال بصوتٍ بدا مثقلًا:

_ مالك عمل حادثة.


وضعت كفَّها على فمها بصدمة، وارتجف صوتها:

_ هوَّ عامل إيه؟!


_ كويس..شوية رضوض بسيطة..نصِّ ساعة وراجع، مفيش حد معاهم دلوقتي.


تنفَّست بعمق تحاول السيطرة على ارتجافها، وقالت بصوتٍ مبحوح:

_ طيب حبيبي..خلِّي بالك من نفسك.


أغلقت الهاتف وهي مازالت تحت وقع الصدمة، لتجد عيني فريدة تترقَّبها بقلق..التفتت إليها قائلة:

_ مالك عمل حادثة، وهوَّ معاه في المستشفى..خلاص، روحي إنتي وبابا، وأنا هفضل مع غادة.


انتقلت بنظرها إلى غادة، التي ابتسمت ابتسامة واهنة وأومأت:

_ متقلقيش عليَّا ياحبيبتي..وبعدين أنا هلكانة وهنام.


اقتربت منها وربتت على كتفها:

_ طيب حبيبتي..إسلام شوية ويرجع.


فجأة تذكَّرت وسألت بقلق:

_ آه صحيح..هوَّ فين؟


أجابت فريدة وهي تتنهَّد:

_ فاروق تعبان، وملك راحت تزور باباها.


أومأت بتفهُّم وقالت:

_أنا كويسة.


بعد دقائق جلست على فراشها، وكلمات ميرال ترنو بعقلها، أغمضت عيناها تشعر بإزهاق روحها، إلى متى ستعاني في علاقاتها..نظرت إلى ميرال المنشغلة بعملها، ثمَّ قالت:

_هوَّ مالك عمل حادثة إزاي ياميرال؟.

_ معرفش والله ياغادة، ارتفع رنين هاتف ميرال التي ردَّت: 

_أيوة حبيبي. 

أنا تحت انزلي، ونزِّلي الولاد.

_لا اطلع إنت، ماما وبابا مش موجودين وغادة لوحدها. 

استدارت إلى غادة الشاردة:

_إلياس جه تحت، هنزل أعمل حاجة خفيفة ونقعد زي زمان..إيه رأيك؟ 

تمدَّدت على الفراش تهزُّ رأسها بالنفي: 

_ماليش نفس، انزلي لجوزك، هوَّ مش هيطلع لأنُّه لسة زعلان منِّي. 


بعد فترةٍ من الصمت، أمسكت هاتفها بتردُّد، ضغطت اتِّصالًا ورقَّة قلبها تنتظر جوابًا.


- السلام عليكم.

- وعليكم السلام.

- ألف سلامة، عرفت من ميرال.

- شكرًا..أنا كويس.

صمت لحظات، ثمَّ أضاف بصوتٍ مُنكسر:

- إنتي عاملة إيه؟

- الحمد لله كويسة، نزلت الشغل... انا رجعت الشركة.

- آه..

آسفة على الإزعاج، وألف سلامة.

- شكرًا.

أنهى المكالمة، ألقى الهاتف بجواره وكأنَّ ثِقله يساوي مافي صدره من تعب..رفعت والدته نظرها إليه بفضول لا يخفيه التعب:


- مين دي ياحبيبي؟

- أخت إلياس..وبنت مصطفى السيوفي.

تسائلت بتردُّد:


- هيَّ لسة متجوِّزتش؟


ردَّ عليها بحدَّةٍ طفيفة، كرَّسها الألم والإعياء:

- هاتي المخدَّة ياماما ورا ضهري، مالناش دعوة تتجوِّز ولَّا لأ.


دقَّقت والدته النظر في ملامحه، تحاول قراءة غضبه الذي شعرت بأنَّه أقوى من جروحه، وقالت بنبرةٍ حنونة متداخلة بالتأفُّف:


_ - مالك ياحبيبي..ليه مضَّايق كده؟


أجابها بصوتٍ متقطِّع، كأنَّ الكلام يجهد صدره:

- ماما أنا تعبان ومش قادر أتكلِّم.

وضعت الوسادة خلف ظهره بعناية أموميَّة، رفعت كفَّها فوق رأسه المجروح:

_بس أنا فاكرة البنت دي كويس، وكمان حلوة، ليه مااتجوِّزتش لحدِّ دلوقتي؟ 

أغمض عيناه وانفجر بكلمةٍ جارحةٍ خرجت من حنجرةٍ موشاةٍ بالغضب:


- دي واحدة غبية متخلِّفة، راحت حبِّت واحد ردِّ سجون، معرفش عقلها كان فين.


صمتت والدته تراقب نظراته الغاضبة، ثم ارتسم على وجهها تهكُّمٌ مرّ، وقالت بصرامةٍ تحمل ذاكرةً مؤلمة:


_ - شوف مين اللي بيقول..مابلاش إنتَ ياحضرة الظابط، ولَّا نسيت مين عمل فيك كده؟


لم تكن تلك جملةٌ عابرة، كانت كلمَةٌ مُثقلةٌ بتاريخٍ طويل..وقعَت على قلبه كصفعةٍ أبشع من أي ألمٍ جسدي، هنا شعر بضربةٍ قاسية على رأسه، أصعب من ضربة الحادث نفسه.


أخفض عيناه للحظة..وألم رأسه ازداد، وصار كلُّ صوتٍ حوله مكتومًا، إلَّا صوت يذكِّره بصوتٍ حادٍّ يقتلعُ من صدره ماتبقَّى من هدوء.


ساد الصمت الغرفة كغيمةٍ سوداء، يحفظ لكلٍّ فيه سرَّه وأوجاعه..

قالت بصوتٍ مرتجف، وكأنَّها تنزف حروفًا:

_عمرك ماهتنسى يامالك..عارف؟ هتفضل دي النقطة السودة اللي مطبوعة في حياتنا للأبد.


أشاحت بوجهها عنه، وقالت بصوتٍ متعبٍ ومرّ:

_مالك ارتاح دلوقتي..مش عايزين نرجع للماضي وتغلَّطني تاني..بس افتكر..من شهر كنت هموت بسببك، والنهاردة إنتَ كنت هتموت، أنا مش فاهمة هتفضل عامل فيَّ كدا ليه؟


دفع الغطاء عنه بعصبيَّة، جسده يرتعش من الألم والضعف..حاول أن ينهض، لكنَّه ترنَّح..هبَّت من مكانها فزعة، واقتربت تحاول تهدئته، تكبح جمرة غضبه..

لتقول بصوتٍ باكٍ، يقطر رجاءً:

_خلاص..مش هتكلِّم تاني، هخرج من الأوضة بس بالله عليك ارتاح علشاني.


ارتفعت أنفاسه مع بكائها:

_ كفاية أبوك وأخوك..أنا تعبت ربِّنا ياخدني وأرتاح من العذاب دا..

لفَّ ذراعيه حولها فجأة، جذبها إلى صدره، وطبع قبلةً دافئةً فوق رأسها:

_خلاص ياأمُّي..أنا آسف، عارف زعَّلتك منِّي كتير..حقِّك عليَّا متزعليش.


رفعت عينيها إليه، واختلطت دموعها بابتسامةٍ حزينة:

_أنا مش زعلانة منَّك ياابني..أنا بس عايزة أرتاح، حرام عليك..ريَّح أمَّك يامالك مش كفاية الوجع اللي شلته على أبوك..ينفع كدا؟


أغمض عينيه بحزن، وأردف بنبرةٍ منكسرةٍ بين يديها:

_برضو ياماما، برضو هنرجع نزعل من بعض؟


احتضن وجهها بيديه المرتجفتين،

_ ماما أنا مش هتجوِّز تاني، ريَّحي نفسك. 

قبَّلت كفَّيه بحنانٍ أموميٍّ غامر:

_علشان خاطري انسى الماضي 

ياحبيبي..وعيش الحاضر..ربِّنا المنتقم وهيجيب لك حقَّك..صدَّقني أنا مسامحة..اتجوِّز وعيش حياتك بقى..

لو بتحبِّ أمَّك فرَّحني بيك، شوف البيت دا عامل زي القبر، مفيش غيري أنا وإنت، املاه عليَّا بعوضك يابني. 

عاد إلى الفراش دون رد..سحب الغطاء وقال: 

_ سبيني أرتاح ياماما لو سمحتي. 

ظلَّت تراقبه بصمت، ثمَّ خرجت تجرُّ آلامها على فلذة كبدها، وأغلقت الباب خلفها. 

مضت أسابيع قليلة حتى تعافى وعاد إلى عمله بالشركة من جديد.

في مساءٍ هادئ، أقام إلياس حفلةً خاصَّة للعائلة داخل مقرِّ الشركة احتفالًا بفتح فرعٍ جديد، وبتزايد شهرته ومكانته حتى صار اسمه مطلوبًا في كلِّ مدينة.


خرجت غادة إلى حديقة الشركة، تستنشق هواءً باردًا وتراقب القمر المعلَّق في السماء..كان لمعانه يتوارى خلف الغيوم بين حينٍ وآخر، فتبتسم رغم كلِّ شيء لجمال الخالق في خلقه.

خطت رحيل خطواتٍ هادئة وتوقَّفت بجوارها:

_سرحانة في إيه؟


هزَّت غادة كتفيها وأشارت إلى السماء:

_بشوف جمال الخالق في خلقه.. شوفي القمر عامل إزاي.


رفعت رحيل عينيها إلى القمر، ثم أعادتهما إليها..تنهَّدت قليلًا ثم قالت:

_غادة..ليكي رسالة معايا.


استدارت غادة تنظر إليها في انتظار الكلام.

حمحمت رحيل بتردُّد:

_طارق..


أغمضت غادة عينيها، شعرت بقبضةٍ تعتصر صدرها، لكن رحيل أكملت:

_طارق ماخنكيش..أنا بس حبِّيت أبرَّأه قدَّامك..والله العظيم كانت خطَّة، عارفة مينفعش أقولِّك كدا، بس حرام تفضلي فاكرة إنُّه غلطان.


رفعت غادة كفَّها تستوقفها:

_رحيل، لو سمحتي..طارق صفحة وانتهت، أنا غلطت وربِّنا حاسبني.


تراجعت بنظراتها تبحث في الوجوه عن إلياس وإسلام، قبل أن تتمتم بصوتٍ مبحوح:

_خسرت إخواتي علشان مشيت ورا قلبي..اللي خلَّاني أغضب ربِّنا وأخون ثقة أهلي، أنا بكره نفسي أوي..رجاءً مش عايزة أعرف عنُّه حاجة، سواء خان ولَّا ماخانش، الصفحة دي نفسي بجد أمسحها من ذاكرتي.


اقتربت رحيل منها خطوة:

_أفهم من كدا إنِّك خلاص مسحتيه من قلبك؟


رفعت غادة يدها بغضب، وانفجرت دموعها:

_أنا بكره نفسي..أنا إزاي عملت كدا؟ بكره قلبي وكلِّ حاجة اسمها حب..اللي قدَّامِك دي ضيَّعت أهمِّ حاجة..قيمها وتربيِّتها، علشان إيه؟ علشان تثبت إنَّها صح وكلُّهم غلط! رحيل، مش عايزة أسمع اسم طارق تاني..ربِّنا يوفَّقه.


قالتها وانسحبت بخطواتٍ سريعة، تكاد تأكل الأرض من تحتها..فجأةً اصطدمت بجدارٍ بشري، رفعت رأسها لتوبيخ صاحبه، لكنَّه كان يوليها ظهره،  استدار إليها ينظر لعينيها بعمق ثم قال: 

_آسف.


قالها بهدوء وتحرَّك مبتعدًا..مسحت غادة دموعها بعصبية، واتَّجهت نحو سيارة إسلام، جلست خلف المقود وقادتها بلا هدف، تتجوَّل في الطرقات حتى وجدت نفسها تقف عند شاطئ النيل الذي اعتادت أن تهرب إليه، حيث تلاقت دموعها بصمتٍ على وجنتيها 


مرَّت فترةٌ طويلة دون أن تشعر بالوقت..رنين هاتفها يتكرَّر في السيارة، لكنَّها لا تستمع ولا تكترث لأيِّ شيء.

بعد فترة توقَّفت سيارةٌ خلفها..نزل  منها يتحدَّث في هاتفه:

_لقيتها ياباشا..حاضر، هترجع على البيت.


تقدَّم منها ومدَّ يده بالهاتف:

_كلِّمي إلياس باشا.


رفعت غادة عينيها المبلَّلة بالدموع إلى الرجل، ثم إلى الهاتف:

_ألو؟


جاء صوت إلياس صارمًا عبر الهاتف:

_ردِّي على تليفونك ياأستاذة..طمِّني باباكي، إنتي مش طفلة علشان تقلقيهم عليكي..وارجعي على البيت فورًا..


قالها ثمَّ أغلق الخط دون أن يضيف شيئًا.

أخذ مالك الهاتف منها وأشار إلى السيارة:

_اتفضلي..ومينفعش تخرجي تاني لوحدك..اتكلِّمنا في الموضوع دا كتير.


ظلَّت غادة تنظر إليه بصمتٍ للحظات، ثم تمتمت بصوتٍ مبحوح:

_آسفة..محسِّتش بالوقت..تعبتك معايا.


أومأ بتحفُّظ، ثم تحرَّك أمامها يفتح باب السيارة بعينين تمسح المكان كحارس حدود.

نظرت إلى الاتِّجاه الذي كان يراقبه وسألت ببرود:

_بتبصِّ على إيه؟


أشار بعينيه دون حديث، فاستقلَّت السيارة في هدوء.

دقائق بالصمت يحوم بالمكان، قبل أن يقطعه صوته فجأة:

_فيه حاجة لازم أقولها، رغم إنَّها أمانة..بس أنا زعلان على حالتك.


رفعت غادة عينيها إليه، فقال بثبات:

_طارق بريء..هوَّ اتَّفق معايا..وقبلها إسلام أخوكي كان عنده، أكيد فاهمة الباقي.

_ لو خلصت سوق وانت ساكت


أطبق يديه على المقود بقوَّة..

_انتي فاهمة قصدي

ردَّت بحدَّة:

_لا..مش فاهمة، ومش عايزة أفهم.. وممكن ماتتكلِّمش في حاجة ماتخصَّكش؟


أوقف السيارة فجأة واستدار إليها بنظراتٍ غاضبة:

_مش عارف على إيه بتكلِّميني كدا..أنا بس حبِّيت أبرِّيه علشان لو حضرتك هتموتي من غيره.


رمقها بنظراتٍ استخفافية حتى انسابت دموعها بغزارة، التفتت إليه صارخة:

_مااسمحلكش تتكلِّم معايا كدا! وزي ماإنت سمعت من شوية..لا طارق ولا غيره يهمِّوني..أنا بكره الرجالة كلَّها.. وياريت تسوق وإنتَ ساكت..مالكش دعوة بحياتي الشخصيَّة.


أسبوع آخر.. 

تذهب معه إلى عملها دون حديث، لن يكترث لها، ارتفع رنين هاتفها، نظرت للرقم باستغراب، ثم ردَّت: 

_أيوة مين؟! 

على الطرف الآخر تحدَّثت:

_غادة السيوفي معايا؟ 

ضيَّقت عيناها وقالت: 

_أيوة..كان يستمع إلى مكالمتها باهتمام إلى أن استمع الى اسم والدته: 

_مين ليال البحيري؟


توقَّف فجأةً ممَّا جعل جسدها يهتزُّ بعنف، رفعت عينيها إليه بغضب، واستأنفت حديثها في الهاتف:

_ أيوة يافندم..سامعة حضرتك.


حمحم مالك وأشار بيده يطلب هاتفها:

_ دي والدتي..ممكن تليفوني الشبكة عندي ساقطة.


لم تتردَّد، سلَّمته الهاتف، فانتزعه سريعًا وهو يقول:

_ أيوة ياماما.


ساد صمتٌ قصير من جهتها، ثمَّ جاء صوتها الدافئ عبر الخط:

_ إنتَ معاها ياحبيبي، يعني كدا هتريَّح قلبي؟


انعقدت نظراتها بدهشة تبادلها مع نظراته التي انصبَّت عليها للحظة، ثم ردَّ باقتضاب:

_ ماما، أنا في شغل..وأكيد مفيش شبكة، ماتقلقيش الناس.


أنهى المكالمة سريعًا، ثم أعاد الهاتف إليها قائلاً ببرود:

_ شبكة زي ماقلت.


اكتفت غادة بإيماءةٍ صامتة، بينما ارتسمت على ملامحها حيرة لم تخفَ عنه.


عاد إلى منزله، و الغضب يطلُّ من وجهه كشرر..وقف أمامها متجهِّمًا، وقال بصوتٍ ينضح انزعاجًا:

_ ممكن أعرف كنتي عايزة توصلي لإيه؟ انسي اللي في دماغك خالص.


لكنَّها لم تتراجع، بل تقدَّمت نحوه بعينين متحدِّيتين:

_ اسمعني ياابن عثمان..أنا رحت بيت السيوفي النهاردة وشُفت البنت.. عجبتني، غير عيلتها، يعني دي متأكدين من حسبها ونسبها،  وطبعا فاهم قصدي، وأنا دلوقتي اللي بقولَّك يا مالك، لو مافكَّرتش في حياتك، أنا اللي هسافر عند خالك..وساعتها انسَى إنِّ ليك أم.


رمته بكلماتها الحاسمة وصعدت إلى غرفتها، وأغلقت الباب عليها يومين كاملين قاطعته 

في اليوم الثالث، كان يقود السيارة بصمت يراقب غادة، متأثِّرًا بكلام والدته الذي ظلَّ يتردَّد داخله..استمع إلى حديث غادة عبر الهاتف، تقول بصوت حزينًا، مليئًا بالرفض:

_ آسفة ياحبيبتي..لا، ماليش في جوِّ الحفلات ده.

تبعها تنهيدةٌ موجعة:

_ روحي إنتي وخدي الورد معاكي..أنا مش بتاعة الحاجات دي..وبعدين أفراحهم مابحبَّهاش، كلُّه لبس مكشوف واختلاط قذر..لا، مقدرش.. مقدرش أحضر فرح زي ده.


أنهت المكالمة بعد حوارٍ طويل، بينما عيناه تتابعانها بصمت، لحظة سكون كسرتها كلماته التي خرجت عفوية، متردِّدة:

_ إيه اللي يخلِّي بنت محترمة تحضر أفراح زي دي؟ آسف..سمعت الحوار من غير قصد.


رفعت رأسها إليه، نظرةٌ عميقة ترتسم في عينيها، وقالت بنبرةٍ صادقة:

_ يمكن مش فاهمين إنِّ ده غلط.. وفاكرينه مجرَّد حفلة..أحيانًا يامالك الواحد مابيكتشفش غلطه إلَّا بعد مايخسر حاجات حلوة.


اجابها بشرود، وكأنَّ الكلمات تخرج من جرحٍ لم يلتئم:

_ عندك حق..ساعات مابنحسِّش إنِّنا غلط إلَّا لمَّا بنخسر.


ساد صمتٌ قصير، ثم التفت إليها، وقال بصوتٍ منخفض مثقل بالاعتراف:

_ سألتيني مرَّة حبِّيت قبل كدا؟


رفعت عينيها لتلتقي بعينيه، فأومأ برأسه، وقال:

_ حبِّيتها..وسرقتني..يوم فرحنا هربت مع صاحبي، ومعاها كلِّ فلوسي..والدي ووالدتي كانوا رافضينها، بس ماسمعتش كلامهم..ودفعت التمن.


شهقت غادة وقد وضعت كفَّيها على فمها من هول الصدمة، بينما هو ابتسم بمرارة، وأكمل:

_ وبنت عمِّي كمان،يعني عملت حبيبة علشان فلوسي وسلطتي.. ومش بس كدا ..اتجوِّزت، وعملت فرحها بفلوسي.


أطلق ضحكةً جافَّة ممزوجةً بالقهر، لكنَّها سرعان ماتلاشت..بعدما همست غادة بأسفٍ عميق:

_ أنا آسفة..بس صدَّقني، َّهي ماتستاهلش واحد زيَّك..يمكن ربِّنا نجَّاك منها، مش مهمِّ الفلوس.


نظر إليها نظرةً طويلة ثم قال بسخريةٍ حزينة:

_ زي ماربِّنا نجَّاكي من طارق كدا.


هزَّت رأسها بهدوء، وصوتها خرج وديعًا:

_ يمكن الظروف مختلفة..بس أنا اللي غلطانة مش طارق.


_ وياترى اتعلِّمتي إيه؟

سألها بعينين تبحثانِ عن الحقيقة.


تنهَّدت ونظرت إلى النافذة، كأنَّها ترى حياتها في الخارج:

_ كتير..أوِّلها إنِّ الحبِّ نصيب، والحياة نصيب..وكلِّ ماتكون حياتك برضا ربَّك هتحسِّ إنَّك بخير، حتى لو خسرت. ومهما كان الحبّ بريء..من غير رابط، يفضل غلط.. طارق نقطة سودا في حياتي، وبحاول اصلح من نفسي، عارفة اني غلطت، بس مين فينا معصوم من الغلط، المهم مانتمداش فيه

اومأ لها بإعجاب من حديثها


مرَّت أيام، قرَّر بعدها أن يتقدَّم لخطبتها، إرضاءً لوالدته أوَّلًا، ولأنَّه لمس فيها التغيير ثانيًا.


وفي اليوم التالي لزيارتهم الرسميَّة، خرجت غادة لتجده بانتظارها..توقَّفت أمام السيارة لكنَّه لم يكترث لوقوفها.. تردَّدت لحظة، ثم فتحت الباب وجلست بجواره، تحدِّق فيه:

_ إزي حضرتك يامالك باشا؟


أجاب وهو يتظاهر بالانشغال بكاسيت السيارة:

_ أهلًا أستاذة غادة..مش قاعدة في مكانك ليه؟


شعرت بضيقٍ من بروده، فهتفت بانفعال:

_سيبك من مكاني، وقولِّي يعني إيه اللي سمعته دا، كلِّ يوم بركب معاك، ومش قادر تقول كلمة؟


أدار عينيه إليها ببرودٍ مصطنع:

_ كلمة إيه، هوَّ في حاجة؟


ضغطت على أسنانها غيظًا، بينما هو كان يتلذَّذ برؤية غضبها الصريح.. تحرَّك بالسيارة، والجوُّ مشحونًا بينهما، حتى توقَّف فجأةً بجانب الطريق..التفت إليها بجديَّة:

_ ماحبتش نتكلِّم في حاجة من ورا والدك..إنتي أمانة، وأنا مابخونش الأمانة..اللي سمعتيه منِّي كان مجرَّد حاجات عن حياتي قبل أي خطوة رسمية.


انغرست عيناه بأعينها، وأردف بصوتٍ أكثر صلابة:

_ بس لازم تفهمي حاجة كويس..أنا إنسان صعب، مابسمحش بالغلط، وما بغفرش بسهولة..لو قلبك لسه متعلَّق بحد يبقى انسي


توقَّف عند كلماته الأخيرة، وعيناه تخترق ملامح وجهها..


قاطعته بسرعة، وكأنَّها تريد أن تُخرس كلَّ مخاوفه:

_ أنا موافقة يامالك..بس عايزة أقولَّك حاجة..اللي قدَّامك دي بتتأسِّف لنفسها قبل أي حاجة، أنا قلبي نضيف…وأكيد إنتَ فاهم قصدي، مش عايزة في وقت من الأوقات تبقى في نظرة شك في عينيك إنِّي ممكن…


التفت برأسه إليها سريعًا، عينيه هذه المرَّة أهدأ لكن أكثرُ صدقًا، وقال بلهجةٍ حاسمة:

_ وأنا لو كنت شاكك فيكي، كنت مستحيل أتقدِّم..أنا بس عايز أفهِّمك حياتنا هتبقى إزاي لو حصل نصيب..إن شاء الله أكون الشخص اللي تلجئي له أوَّل واحد.. حتى قبل والدك، أكيد فاهمة قصدي.


تابع حديثه أكثر دفئًا رغم صلابته:

_ وممنوع نخبِّي عن بعض حاجة..أنا مش هضحك عليكي ولا أزوَّق كلامي.. أنا محتاجك..وإنتي كمان محتاجاني، محتاجين نصلَّح ماضينا سوا.


ظلّت تحدّق فيه للحظات، ملامحها بين الخوف والارتياح، بينما ابتسامته الخافتة كسرت التوتُّر القابع بينهما. كان المشهد كأنَّه بداية عهدٍ جديد، ليس فيه أقنعة ولا مجاملات، فقط صدقٌ وجراحٌ قديمة تحاول أن تلتئم.


عودة للحاضر 

بمنزل الياس


دلفت بخطواتها الصغيرة بعدما طرقت الباب واذن لها بالدخول 

-بابي حضرتك فاضي، مامي بتراجع مع يوسف وانا فيه حاجة مش فهمها في Religion

خلع نظارته وأشار إليها:

-تعالي ياشمسي 

خطت إلى أن وصلت إليه، رفعها فوق مكتبه وازاح خصلاتها المتطايرة فوق وجوهها 

-مش قولنا الدين اسمه دين ..

هزت كتفها للأعلى وتحدثت بطفوليتها

-دي تربية دينية يابابا، مش الدين، مامي قالت الدين بيخصنا في 

رفعت كفها تعد على أناملها الصغيرة

-الصلاة..ودي اهم حاجة..حاجة كبيرة اوي، وبعدين الصوم ، وبعدين الزكاة وبعدين الحج

-غلط يابنت إلياس ..ماما اللي قالت لك كدا 

هزت رأسها بنعم، زم شفتيه وهو يفتح كتابها 

-اهي امك دي عايزة تاخد درس معاكي 

-واو..ليه ماما هتروح المدرسة تاني، بس هي كبيرة اوي 

-بطلي كلام وقولي ايه اللي عايزة تعرفيها وصدعتيني من قبل ما تسألي 

قلبت بصفحات الكتاب إلى أن توقفت على حديث النبي صلى الله عليه وسلم 

قال رسول الله ﷺ:

"أربعٌ من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلةٌ منهن كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر."

عايزة افهم الحديث دا، وتشرح براحة علشان شمس تفهم، وماتزعقش علشان ماعيطش واخاصمك

رفع حاجبه يتطلع إليها بصمت

-وايه كمان يابنت ميرال 

-دلوقتي بنت ميرال، اومال ليه كنت بتتخانق مع مامي زمان وتقولها دي اسمها شمس إلياس 

هو حضرتك بتنسى ولا ايه 

فرك جبينه محاولًا ألا يصفعها على وجهها، رفع رأسه إليها 

-طيب يابنت إلياس ..اسمعي الشرح بس لو اتكلمتي ..انحنت تتعلق بعنقه:

-عارفة هتجبلي تشكوليت، لانك بتحب شمس، مش انا شمسك 

جحظت عيناه من أسلوبها

-ماشي ياميرال ياصغيرة ..خديني على قد عقلي واسمعي وافهمي علشان مش هعيد الكلام 

-واهي قاعدة ياسي بابا..علشان افهم ويارب افهم منك حاجة 

نقر على مكتبه وهو يتطلع إليها ومشاهد من الماضي تمر بعقله، ابتسامة لمعت بعينيه ثم سحبها إلى أقدامه 

بصي يا حبيبتي، النبي ﷺ علّمنا إن فيه صفات لازم المسلم يبعد عنها، عشان ما يبقاش فيه شبه من المنافقين.

أول حاجة: لما حد يأتمنه على سر أو أمانة، ما يخونش.

يعني لو صاحبتك قالتلك سر، ما تروحيش تقوليه لحد.

تاني حاجة: لما يتكلم، ما يكذبش.

يعني لو عملتِ حاجة غلط، تقولي الحقيقة حتى لو هتزعليني، لان ربنا بيحب الصادقين.


تالت حاجة: لما يوعد، يفي بوعده.

زي ما أوعدك أجيبلك لعبة وأوفي، وأنتِ كمان لما توعديني تذاكري لازم تفي.

رابع حاجة: لما يخاصم، ما يفجرش.

يعني ما يقولش كلام وحش أو كذب علشان يغلب التاني، لأ، حتى في الخصام لازم يكون عادل.


هزت راسها وقالت بابتسامة بريئة:

يعني يا بابا، المسلم الصح يكون أمين وصادق وبيوفي بوعده وعادل حتى وهو زعلان؟

ضمها لحضنه:

بالضبط يا ميرال ياصغيرة، دي صفات اللي ربنا بيحبهم.

طيب حضرتك قولت لو صاحبتي قالت سر مااقولش، طيب ينفع اقولك السر اللي يوسف قالي عليه 

تجمد جسده للحظة، ثم انزلها من فوق ساقيه:

-تعرفي نفسي اعرفه علشان اذله، بس مينفعش حبيبتي اي حد يقولك سر مينفعش تقوليه

-طيب ليه ماما قالت لك سر عن عمتو غادة وحضرتك سمعتها، انا سمعتها وهي بتقولك

-بت دقيقة واحدة لو شوفتك في المكتب هعلقك مكان النجفة 

رفعت عيونها إلى النجفة ثم نظرت لوالدها 

-بس كدا الاوضة هتبقى ضلمة على حضرتك 


قاطعهم دخول ارسلان 

_الياس.. فاضي 

تطلع اليه بتساؤل 

_عايزك في حاجة مهمة اوي

اتجه بنظره الى شمس واشار إليها بالخروج

_حبيبتي اطلعي لمامي، عندي مشوار

_ اوكيه يابابي 

تمتمت بها الصغيرة وتحركت للخارج، مع اقتراب الياس متسائلًا: 

_ فيه ايه مالك 

_ احلام الجارحي.. لازم اقدمها للعدالة، وقبل ماتقول مينفعش.. اسحاق قالي اعمل اللي عايزه، وكمان قدم استقالته، خلاص قرر يبعد عن شغله بسبب عمايلها 

شهق بخفوت 

_ اوعى تعمل كدا فعلًا، مش معاك، متخليش غضبك منها ينسيك فضل فاروق واسحاق عليك، انت كدا هدمرهم 

_ الست دي لازم تتحاسب ياالياس، وفرصتي النهاردة

_غلط يابن ابويا، اللي بتفكر فيه غلط، حتى لو اسحاق قالك اعمل اللي انت عايزه، بس دي امه، مهما عملت امه ومفيش حد بيختار اهله.. وفاروق مايستاهلش دا 

_ اسمع مني علشان متندمش

_ انا مستحيل ااذي بابا فاروق، كان مجرد كلام من قهرتي على امي 

حاوط الياس اكتافه: 

_ارسلان، انا مقدر غضبك وزعلك على طنط صفية، بس متنساش اسحاق وفاروق مالهمش ذنب، دا عمرها، كدا كدا هي كانت هتموت.. بلاش تقهرهم 

واحلام اكيد ربنا مطلع وهياخد حق الكل منها.. خليك بعيد حق الراجل اللي رباك


هز رأسه واستدار للمغادرة، اوقفه الياس 

_رايح فين؟! 

_هشوف بابا فاروق، اخر مرة صحته مكنتش عجباني 

بمنزل اسحاق 

دلفت الى غرفة مكتبه، وجدته جالسًا بشرود، اقتربت وعانقته من الخلف: 

_سرحان في ايه!! 

قبل كفيها، وسحبها الى أن اصبحت امامه

_فيكي طبعًا.. الولاد فين 

مررت اناملها على خطوط التجاعيد في وجهه واردفت

_وحشتني على فكرة.. وانا حجزت رحلة لشرم يومين ومش عايزة اعتراض

ضمها بحنان يهز رأسه: 

_ من ايدك دي لايدك دي.. 

قاطعهم رنين هاتفه

_ايوة ياعزيز

_اسحاق باشا، فيه عربية قطعت طريقنا وخطفت حمزة باشا مننا

فزع من مكانه وشعر بإنسحاب انفاسه

_ انتوا فين، وازاي دا يحصل 

_احنا راجعين من الجامعة، تحرك بخطوات سريعة دون ان ينبس بحرف الى دينا، وصرخ بالهاتف

_ابعت اللوكيشن بسرعة 


بقصر الجارحي 

كان يجلس امام فراشه.. يحمل طعامه

_كبرت يافاروق وبتصغر، غضبان على الاكل ليه، مش قولنا نعقل

ابتسم اليه بحنان، لقد ضعفت صحته وخارت قواها، سحب كفيه بايده المرتعشة.. 


همس بنبرة خافتة، يخشى أن يجرح قلبه:

_لسه زعلان من أبوك؟


لمعت عيناه بالدموع، هز رأسه ثم قال بصوت مبحوح:

_حضرتك قولت… "أبوك". فيه حد يزعل من أبوه؟!


لم تمر دقائق حتى اخترق صمت القصر أصوات طلقات نارية متتالية، كأن حربًا ضارية اندلعت بالخارج.

انتفض واقفًا، وركض بخطوات متسارعة نحو شاشة المراقبة، عيناه تشتعلان غضبًا، كور قبضته بعنف.

يهمس بين أسنانه:

_يبدو إن أعداء إسحاق عرفوا إنه ساب وظيفته…


التفت سريعًا نحو فاروق، مد ذراعه ليساعده على النهوض:

_بابا… لازم نخرج حالًا من القصر…


لكن لم يُتم كلماته، إذ دوى ارتطام الباب الداخلي بالقوة، واقتحم القصر ملثمون بملامح غاضبة، تتحرك أجسادهم بخفة الذئاب، وقوتهم الخارقة تبث الرعب في أرجاء المكان…


بفيلا السيوفي 

عاد اسلام من عمله وصعد الى غرفته، فتح الباب ودلف للداخل ولكنه توقف متجمدًا مما رأى 

تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا




تعليقات

التنقل السريع
    close