القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية غناء الروح الفصل السادس والاربعون 46 بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)

 

رواية غناء الروح الفصل السادس والاربعون 46 بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)




رواية غناء الروح الفصل السادس والاربعون 46 بقلم زيزي محمد ( حصريه في مدونة موسوعة القصص والروايات)



الفصل السادس والاربعون 


تحركت سيرا بخطواتٍ بطيئة في ردهة المستشفى، كأنها تخشى أن تُحدث صوتًا يكشف توترها الداخلي، كانت عيناها تلتقطان ملامح الوجوه الجالسة في الانتظار؛ وجوهٌ يغمرها القلق والترقب، وكلها مشدودة إلى اللحظة الحاسمة التي تلد فيها نهى، بينما خالد الذي لم يحتمل وطأة الموقف قد سقط مغشيًا عليه من فرط التوتر في غرفة العمليات، فلم ينجح في أن يكون بجوار زوجته كما تمنت.


ترددت سيرا للحظة ثم ابتلعت ريقها محاولةً أن تطرد رهبتها من أن يكتشف أحد نيتها، فهي لم ترد أن تصبح مادةً لضحكاتٍ خفيفة بسبب سعيها المتكرر للحديث مع يزن، ذاك الذي كان منشغلاً بالجميع عداها منذ وصولهم إلى المشفى.


لكن ما إن التقت عيناها بعيني نوح حتى شعرت بأن الأمر أسهل قليلًا؛ فقد قرأ نيتها بذكاء وابتعد بخطواتٍ مقصودة ليمنحها المساحة مع يزن، فبدا كأنه يتسلل بعيدًا كي لا يفسد عليها تلك اللحظة، فيما كانت هي تستجمع شجاعتها لتقترب أكثر.


اقتربت سريعًا متفاديةً نظرات الآخرين، حتى وقفت إلى جوار يزن، تناديه بصوتٍ يكاد يذوب خجلًا:


-يزن.


التفت يزن بتظاهر وكأنه لم يسمع، ثم رمقها بغمزةٍ خفيفة:


-ايوه مين بينادي؟


ضحكت سيرا بخفة مودعة لهجتها الطفولية بالمزاح، وذراعاها متقاطعتان أمام صدرها:


-مش ناسي حاجة؟


مد يده وأشار إلى بابٍ جانبي ثم دفعها بلطف إلى الداخل، وقفا معًا عند سلم الطوارئ؛ هو بحضورٍ هادئٍ وهي بارتعاشة مختبئة في صدرها، فلم تمضِ لحظة حتى لمس أطراف أصابعه أنفها بدعابةٍ ناعمة وهمس بإغراء موزون:


-امممم احضنك.


حمحمت سيرا خجلاً وتراجعت خطوة متظاهرة بالاستنكار:


-والله؟!


ارتسمت على وجهه إشارات استغرابٍ مزيفة، ثم بعتابٍ مدلس قال: 


-لا لا يا سيرا معندكيش اخوات ولاد؟ لو سمحتي حافظي على مشاعري البريئة.


ضحكت من جديد ثم لاحت في كلامها نبرة تهديدٍ ملفوف بالمزاح وهي تشير بإصبعيها في وجهه:


-عيب على فكرة أنا ممكن ....


لم تكمل؛ فقد حاوطها يزن من خصرها فجأةً ولصقها بصدره، فارتجفت شفاهها بخجل حين همس لها على نحوٍ حنونٍ:


-إيه ممكن ترمي الدبلة في وشي؟! بس لا خلاص ده كان زمان، انتي دلوقتي بقيتي مراتي.


حاولت سيرا دفعه لكنه تمكن من التشبث، وكأن وجوده وحده كافٍ ليمنعها من الابتعاد، استغلت ذلك لتثير استفزازه قائلةً بتكرارٍ ومسرحية:


-طيب ما أنا ممكن اقولك طلقني!


تغير وجهه فجأةً من المزاح إلى الحازمية، وأجابها بسرعةٍ أدهشتها:


-اخرسي....


ثم أخذ يداعب خدها بلطف متلاعبًا بمشاعرها كما يلعب النسيم بأوراق الخريف، وبعد لحظةٍ من الحنان المفاجئ قال بغمزةٍ مازحة تتناقض مع حنوه:


-أنا راجل والرجال قليلون.


دفعته بقوةٍ ونجحت في فك ذلك الحصار الجزئي، بينما هو نجح في أن يحجم انفعالاته ونفسه التي مالت لفعل قد يندم عليه لاحقًا، فاستعاد رباطة جأشه وأخمد ثورته الداخلية، بينما تكلمت سيرا بسخريةٍ لكنها تخفي ارتعاشًا في صوتها:


-طيب بلاش غرور، ده انت ناسي أهم حاجة في يوم كتب كتابنا.


تنهد يزن ببطءٍ ثم ابتسم ابتسامةً نقية كمَن يريد أن يخفف من وقع كل الكلمات الثقيلة:


-بعيدًا عن اليوم المضروب ده، براحة عليا عشان أنا مابحبش اختبارات البنات دي.


نظرت إليه باستنكار:


-لا لا ده انت المفروض خبرة وتلقطها وهي طايرة.


رمقها بسخريةٍ قبل أن يعود إلى جديةٍ مصطنعةٍ:


-شوفي بعيدًا عن التقليح اللي نازلة بيه في نشرة الساعة تسعة، أنا مكنتش عايز اصدمك، بس الحقيقة أنا معاكي زيرو خبرة.


اقتربت خطوة وهي تهز يدها بقليلٍ من الغيظ:


-ليه بقى عملت فيك إيه عشان امسح خبرتك العظيمة؟!


اقترب هو من وجهها وحاوطه بهمسٍ رقيقٍ:


-خطفتي قلبي وعقلي، خلتيني بحس معاكي بحاجات عمري ما حسيتها مع أي بنت قبلك، ببساطة عشان أنتي لا جه قبلك ولا هيجي بعدك.


اكتمل وجهها بابتسامةٍ خجولة وصفاء في عينيها كاد يخرج قلبها من مكانه من فرط السعادة، فهمست بصوتٍ مرتعشٍ:


-يزن، هو الكلام الحلو ده بيخرج تلقائي يعني من قلبك ولا انت اصلا لسانك حلو؟


صمت للحظةٍ ثم غمزة لطيفة وبسمة عريضة:


-التانية.


-مش فاهمة!


هبطت ملامحها ولم تفهم، فهز كتفيه ببرودٍ متصنعٍ وأضاف:


-أنا أصلا لساني حلو فـ هتلاقيني بغرقك كل شوية بكلام حلو.


تراجعت بضع خطوات قائلة بغضبٍ مكتومٍ:


-تصدق بقى أنا مش عايزة اسمع كلام حلو، أنا بعشق الكلام الدبش قولهولي.


وقبل أن تبتعد أمسكها فجأة وهمس بلهجةٍ حانية بجانب وجهها:


-خدي هنا انتي اتقمصتي؟!


هزت كتفيها بدلال ثم ردت بمكر أنثوي:


-نص نص يعني، لو قولتلي كلام او كلمة عمرك ما قولتها لحد يمكن افكر ارضى عنك واسامحك.


أطرق رأسه لوهلة ثم أخرج هاتفه واقترب منها بنبرةٍ أكثر دفئًا:


-تعالي ناخد صورة مع بعض.


أبعدت يده بعيون غاضبة وهي تعترض بحنق:


-بقولك قولي كلام حلو!!


عاد هو ليضع ذراعه حول كتفها وضمها إليه ثم همس بحنو بالغ ورقة يملك أساليبها للعب فوق أوتار حنينها ومشاعرها المتلهفة:


-ما ده يا روح قلبي الكلام اللي عمري ما قولته لأي واحدة، عمري ما طلبت من بنت إننا نتصور، بس معاكي انتي ببقى عايز اتصور معاكي كل لحظة.


رمشت عيناها وهي تسأل بترقب وقلب يدق بقوة:


-بجد يا يزن الكلام ده من قلبك ليا؟


أمسك بنظرها بثبات وأجاب بصدق واضح وهو يبتسم ابتسامة ناعمة:


-أي كلمة قولتهالك وهقولهالك هتفضل تطلع من قلبي لغاية أخر لحظة في عمري.


تجرأت للمرة الأولى وأمسكت بيده التي تمسكت بالهاتف ثم همست بخجلٍ وارتباكٍ:


-يعني لا جه قبلي ولا هيجي بعدي، ده كلام عادي ولا من قلب يزن بجد؟


اقترب وطبع على خدها فقد كانت قبلته هادئة ودافئة ثم همس بصوت مفعم بالحب:


-دي من عقل يزن، دي بتوصف يزن الغلبان اللي وقع ومحدش سمى عليه.


ارتبكت سيرا وكأنّها لدغت بعقرب، فتوسعت عيناها من أثر القبلة؛ وتحجرت كلماتها ثم جاءت بتهديدٍ متقطع وخجل:


-مـ...متـ...متعملش كده تاني.


ظل يزن يضحك في صمت وكان في عينيه ما يُشي بأن كل العالم لا يهمه إذا كانت هي معه، ترددت كلمات بسيطة على شفتيها باعترافٍ خافتٍ وهي تتجنب النظر المباشر:


-تعرف إنك طلبت مني الحاجة اللي أنا بقولك عليها أنها أهم حاجة في كتب كتابنا.


صمت يزن قليلاً ثم سألها بهدوءٍ حنون:


-قصدك نتصور مع بعض؟


هزت رأسها بابتسامة بريئة وعيناها معلقتان بإصبعها الذي ما زال يحمل أثر الحبر الأزرق من بصمتها بسبب عقد القران، فبدت وكأنها تسترجع تلك اللحظة بكل تفاصيلها ثم قالت بصوتٍ خافتٍ يتسلل من بين أنفاسها الممزوجة بالحنين:


-خوفت ننسى نوثق اليوم ده زي ما وثقنا قبل كده.


اقترب يزن منها أكثر، حتى كاد صوته يلامس قلبها قبل أذنها ثم همس بمزاحٍ لطيفٍ يكسوه دفء حقيقي:


-انتي عايزة تقطعي عرق وتسيحي دمه يا سرسورة ، أنا فاهمك، بس يعلم ربنا أنا من اليوم اللي شفتك فيه لا فاضي ابص ورايا ولا قدامي حتة، للأسف أنا مش شايف غيرك.


ارتجفت عيناها بدهشة وامتزجت بريقهما بنبضٍ لم تعرفه من قبل ثم سألت بعنادٍ رقيق:


-طيب وليه للأسف، هو في أحلى من أنك متشوفش غيري؟


ابتسم يزن ابتسامةً أنهكها الصدق وقال بصوتٍ يحمل أثر الهزيمة العذبة أمام حبها:


-دورت كتير ومالقتش عشان كده رجعتلك وأنا مهزوم وبعلن استسلامي قدام أقل ضحكة منك، أو همسه من صوتك باسمي.


هذه المرة لم تُبعد سيرا بصرها عنه كما كانت تفعل سابقًا، بل ظلت تنظر إليه بحبّ وإعجاب واضح، وكأنها تُسلم نفسها طواعيةً لأسر عينيه، فشعرت بيده تحاوط كتفها برفق، يجذبها نحوه بطمأنينةٍ تُذيب الحواجز الأخيرة بينهما، ثم رفع هاتفه يعبث في زوايا الكاميرا، وهمس بحماسٍ خافت:


-يلا نتصور ونوثق اللحظة بكابشن يليق بمرات يزن الشعراوي.


اتسعت ابتسامتها على الفور وتألقت في ملامحها براءة طفلة تنتظر مفاجأتها، فسألته بلهفة:


-ايوه هتكتب إيه بقى المرادي؟


ضغط على زر التصوير مراتٍ متتالية وفي اللقطة الأخيرة مال ليطبع قبلةً دافئة على رأسها بينما أغمضت عينيها بخجل، وكأنها تحاول أن تخبئ سعادتها التي فاضت في ملامحها، كانت الصورة نقيةً وبريئة، تحمل في طياتها كل ما لم يُقال من حبً وامتلاك؛ صورة لا توثق مجرد لحظة بل تعكس قلبين تملك أحدهما الآخر.


خفض يزن الهاتف بعد ذلك وكتب تعليقًا قصيرًا بالإنجليزية على الصورة التي نشرها في وسائل التواصل الاجتماعي، فقد كانت كلماته قليلة، لكنها حملت ثقل وعدٍ أبدي:


-my forever...my peace...my everything...Mrs.Yazn Al-shaarawi.


ولم تكن الكلمات حبرًا على شاشة، بل كانت اعترافًا صريحًا ووعدًا علنيًا بأن هذه اللحظة لن تُمحى من قلبه ما دام حيًا.

                               ***


بعد مرور وقتٍ قصير خرج الطبيب من غرفة العمليات وهو يحمل بين ذراعيه طفلًا صغيرًا بالكاد يُرى من بين ثنايا الملابس الملفوف بها، كانت يداه تتحركان بعصبية وخرج من حنجرته بكاءٌ خافتٌ كأنه احتجاجٌ على قدومه المفاجئ إلى هذا العالم، ابتسم الطبيب بابتسامةٍ رسمية وهو يمد الصغير إلى خالد قائلاً بتهنئةٍ صافية:


-الف مبروك...ولد جميل ربنا يباركلك فيه، عشر دقايق ومامته هتكون في اوضتها وتقدروا تشوفوها.


ثم التفت إلى الجمع المتراص في الردهة الطويلة، وقد بدا عليه الاستغراب من هذا العدد الكبير الذي حضر للولادة فعقب متلعثمًا بنبرةٍ يغلبها الارتباك:


-مش كلكم طبعًا..يعني القريبين بس.


غادر الطبيب تاركًا خلفه مشهدًا تتداخل فيه الدموع بالابتسامات، ظل خالد صامتًا وهو يضم طفله بين ذراعيه وعيناه مثبتتان على ملامحه الصغيرة المرتجفة، كأنهما تكتبان على صفحةٍ بيضاء قصة عمرٍ جديد، لم ينطق لكن نظراته كانت أبلغ من أي حديث، إذ عبرت عن لهفةٍ مكبوتة وسعادةٍ لا تسعها الكلمات، وضع سليم يده على كتفه برفق وقال بهدوءٍ مشفق:


-يلا أذن في ودانه يا خالد عشان مننساش.


ارتجف صوت خالد وهو يرد بنظرةٍ باهتة كأنه لم يفهم للوهلة الأولى، ثم استجمع نفسه وابتعد خطواتٍ قليلة ومال على أذن ابنه وأذن بصوتٍ متهدجٍ يملؤه الدفء والرهبة، وما إن تسللت الكلمات إلى أذن الصغير حتى هدأ بكاؤه، وفتح عينيه قليلًا كأنه يصغي باهتمامٍ بالغ لصوت والده، قبل أن يغلقهما من جديد في استسلامٍ مريح.


وعلى مقربةٍ من هذا المشهد المليء بالرهبة، كانت أبلة حكمت قد نجحت بطريقتها الفريدة في محاصرة يسر إلى زاويةٍ جانبية، فتغلغت بأسلوبها الفضولي في تفاصيل حياة يسر حتى بلغ السبب المؤلم لطلاقها، فأخذت تفتش في جراحها بكلماتٍ لا تعرف اللين، بينما يسر ما بين الضيق من تدخلها، والانسجام العابر مع تلك الجرأة الفجة التي تُلقي الكلام دون مواربة، حيث قالت حكمت بغيظٍ فاجأ يسر:


-انتي عارفة! انتي لو أختي كان زماني قعدت عليكي وفطستك.


صُدمت يسر من جرأتها لكن حكمت لم تتراجع، بل مالت عليها تهمس بحدةٍ جارحة:


-انتي لمؤاخذة دماغك تعبانة، بقى يا هبلة تسيبي جوزك لواحدة بتشتغل عنده كده عادي، أيًا كان إيه السبب!! انتي اللي تافهة ومحاولتيش تكسبي جوزك في صفك، عارفة صافي جوزي ده بيموت فيا وواثقة فيه بس بردو مخلياه ميعرفش يبص وراه مش بالنكد والعياط أبدًا!


رغم حنق يسر فقد نجحت كلمات حكمت في اجتذاب انتباهها، سألتها بتوتر متجاهلةً نظرات نوح التي لم تفارقها:


-امال بأيه؟


ردت حكمت بثقة لاذعة:


-بالشد والجذب سمعتي عنهم قبل كده ياختي؟ يعني بشد وبرخي، وكل واحدة وعارفة جوزها على إيه امتى يكون عايز شدة محترمة، وامتى يكون عايزك حنية وابقى معاه صغيرة على الحب.


هزت يسر كتفيها باستياء وقالت بعنادٍ ظاهر:


-امال أنا بعمل إيه؟ ما أنا بشد اهو عشان ميفكرش في اللي بيفكر فيه!!


رفعت حكمت حاجبيها بحدة:


-يخيبك في عقلك! هو إنه يطلقك كده معناه إنك بتشدي، لا انتي بتقطعي الحبل على الآخر.


تنفست يسر بعمق وزفرت بضيقٍ، ثم لوحت بيدها وكأنها تدفع الكلام بعيدًا عنها:


-يتقطع بقى، بصي يا أبلة حكمت أنا تعبت ومحدش عاش اللي عيشته.


نظرت إليها حكمت نظرةً حادة وقالت بتحذير:


-بكرة تندمي وتقولي ياريت اللى جرى ما كان، يا حبيبتي جوزك واحنا في كتب الكتاب عينه كانت هتبظ برة من كتر ما هو بيدور عليكي، وده معناه إنه بيحبك، المفروض إنك تستغلي حبه ليكي وزي ما ساومك زمان ساوميه دلوقتي.


شعرت يسر بثقل كلماتها لكنها لم تفهم المغزى العميق بعد، غير أن اقتراب نوح منهما جعل قلبها يرتبك أكثر حين قال بهدوءٍ موجهًا بصره إليها:


-يسر، تعالي نكشف عليكي ونتطمن بالمرة طالما احنا في المستشفى.


وضعت يدها حول بطنها البارز، وهزت رأسها رفضًا لكن حكمت تدخلت بلمحةٍ جريئة، وضغطت على مرفقها وهي تبتسم بمكر:


-الله! هو إيه اللي لا يا يسر؟ روحي يلا.


ثم دفعتها برفق نحو نوح الذي أمسك مرفقها بحذر، غير أن يسر أبعدته بضيقٍ وسارت بجواره متذمرة خشية أن تجذب الأنظار:


-أنا كويسة على فكرة مش محتاجة اكشف.


رد بنبرةٍ حانية زادت من ارتباكها:


-بس أنا محتاج اتطمن عليكي.


وأشار بيده ليتحركا إلى الجهة الأخرى من الردهة الطويلة، ورغم أن صوته منهك إلا أن إصراره واضح:


-أنا سألت على دكتورة كويسة وقالولي في أخر الطرقة دي.


توقفت يسر فجأة ثم أشارت إليه بإصبعها بحدةٍ ممزوجة بالحرج:


-بس مش هتدخل معايا، عشان انت دلوقتي طليقي.


ثبت عيناه عليها طويلًا، فقد كانت نظراته تحمل عتابًا صامتًا لا يخلو من الألم، بينما هي انتظرت منه انفجارًا أو مشاجرةً كعادتهما، لكنه فاجأها حين قال بصوتٍ حزين ونبرته تشبه نبرة ابنتهما لينا حين تبكي:


-يعني مش هسمع نبضه، كان نفسي اسمعه.


كادت دموعها تسقط فقد أحست بأن قلبها يتمزق وهي ترى ضعفه الذي لم تعهده من قبل، طالما اعتادت عليه قويًا متجبرًا لا يلين ولا ينكسر، أما الآن فقد بدا لها كطفلٍ يطلب حقه الضائع، رفعت بصرها نحو الغرفة ثم قالت بصوتٍ مترددٍ يختبئ خلفه حزن:


-ادخل معايا بس متقفش وهي بتكشف عليا اقعد بعيد وأنا هخليها تسمعك نبضه.


تحركت بخطواتٍ هادئة نحو الغرفة تاركة إياه غارقًا في شروده، فزاد الهم ثقلاً فوق صدره وكأنه يحمل عبء عمرٍ كامل لم يعد بقادرٍ على احتماله.


                                  ***

في جانب آخر من المشفى كان زيدان يقف أمام نافذةٍ واسعة، نصف جسده مستند إلى الحائط، وعيناه شاردتان نحو الفراغ، ظل يستحضر في ذاكرته الأيام الماضية مع مليكة، تلك الأيام المثقلة بخلافٍ لم يجد له مخرجًا، ما زالت ترفض الإنجاب وكأن طلبه منها يعني لها حكمًا بالموت، كان الخوف يطفو جليًا في عينيها كلما حاول إقناعها، خوفٌ يزرع في قلبه غصة حتى آثر الصمت معلنًا موافقته على رفضها، رغم أن داخله كان يضج باعتراضٍ عارم.


انتبه فجأة إلى صوت سليم الرخيم يناديه من الخلف:


-زيدان باشا.


استدار زيدان سريعًا يخفي تعابير وجهه خلف قناع البرود المعتاد، لكن المفاجأة باغتته حين لمح الصغير بين يدي سليم، فتقدم الأخير نحوه وهو يبتسم بصفاءٍ أخوي:


-انت مشوفتش الباشا ده، فقولت اجبهولك تسلم عليه وتبوسه.


ارتعشت ابتسامة زيدان قليلًا ثم مد يديه بحذر ليتناول الرضيع، فأمسكه بتوترٍ واضحٍ يكشف عدم خبرته، فتدخل سليم بخبرة أبٍ عاش مع أطفاله منذ نعومة أظفارهم، يساعده على تثبيت جسد الصغير بين ذراعيه، وما إن استقرت الملامح البريئة أمامه حتى غرق زيدان في تأملٍ عميق، عينيه تتسعان بدهشة الحب وصوته يخرج مترددًا:


-حلو اوي، ربنا يباركلهم فيه.


ثم مال يطبع قبلةً حانية على جبين الطفل، قبلة أفرغ فيها من حنانه أكثر مما أفرغ في حياته كلها، بقي صامتًا متأملًا حتى قطع سليم الصمت بسؤالٍ كان يؤجله منذ زمن:


-زيدان.


أجاب أخوه بنبرةٍ واهنةٍ وهو يحرك يده بحذر لئلا يوقظ الرضيع:


-نعم.


فاجأه سليم بصوته المتوتر رغم جموده الظاهر:


-انت كويس؟!


انعقد حاجبا زيدان باستفهام، فسارع سليم لتوضيح مقصده برفقٍ يحمي مشاعر أخيه:


-يعني قصدي، أنت عملت تحاليل انت ومليكة مثلاً وفي حاجة معطلة حملها؟


ابتسم زيدان ابتسامةً باهتة تحمل استنكارًا أكثر مما تحمل رضا ورد بهدوءٍ عميق:


-لا لا احنا كويسين الحمد لله بس...


توقف لحظة ثم عاد ينظر إلى ملامح الرضيع قبل أن يتنفس بحزنٍ أثقل صدره:


-بس مليكة اللي مش عايزاه.


رفع سليم حاجبيه بدهشة، واقترب خطوة واضعًا يديه في جيبيه بملامحٍ تحمل الرفض:


-يعني إيه معلش مش عايزة تخلف؟


زفر زيدان ببطء ورفع عينيه صوب أخيه وكأن الحروف تثقل لسانه:


-يعني مش عايزة تخلف يا سليم، خايفة تخلف ولقدر الله يحصلها حاجة وتسيب ابنها ويعاني زي ما هي عانت....يعني زي ما أبوها اتوفى وبعده أمها.


ارتفعت نبرة سليم بالاستنكار كأنما يتحدث إلى شخصٍ غريب لا يعرفه:


-وانت سكت عادي كده؟!


انكمشت ملامح زيدان بضيق ورد بصوتٍ خافتٍ يفضح اضطرابه:


-امال أعمل إيه يا سليم؟ اغصبها على حاجة هي مش عايزاها، لازم تكون راضية.


لو سمع سليم هذا الضعف من غير أخيه لظنه وهمًا، لكن عيني زيدان فضحتا صدقه، ابتلع ريقه ثم قال بخشونةٍ:


-متغصبهاش بس اتكلم معاها، في مية الف طريقة تقنعها بيها، يعني هي مشاعرها ماتحركتش لما شافت ابن نهى، كنت استغل ده وكلمها.


ابتسم زيدان بمرارة يواجه أخاه بصدقٍ عارٍ:


-أنا اتكلمت بكل الطرق وفهمتها مليون مرة بكل الكلام اللي ممكن تقوله، بس كل ما اكلمها احسها خايفة ودايمًا شايفة إن ابنها هيعيش زيها.


اقترب سليم أكثر وصوته خرج جادًا يحمل ثقل التجربة ونبرة من يريد إيقاظ روح غافلة:


-زيدان مش كل حاجة ممكن مراتك تقولهالك تمشي وراها فيها، دي حياتك زي ما هي حياتها، ومن حقك يكون ليك ابن وتفرح بيه، ومش واحد، اتنين وتلاتة وخمسة، ولو كنت استخدمت معاها اللين يبقى غير طريقتك عشان تفهم.


ساد صمت ثقيل لحظة، كأن الجدران نفسها أصغت إليهما، ثم نظر زيدان باستنكار يتأرجح بين الخوف والحيرة:


-ازعقلها؟


رفع سليم حاجبه بنفاد صبر وهو يقول:


-مقولتش كده، بس تقدر تغير معاملتك معاها عشان تحس إن بردو زي ما انت بتتنازل في حاجات هي كمان المفروض تتنازل فيها.


ارتجف قلب زيدان للحظة ثم نطق بالسؤال الذي كمن طويلاً داخله:


-شمس بتتنازل عشانك؟


ارتسمت على ملامح سليم ابتسامة باهتة وهو يبوح بأسرار صغيرة من حياته الزوجية:


-كتير، وأنا في حاجات بعديها بمزاجي عشان خاطرها وبعمل اللي يرضيها، الموضوع متبادل ما بينا، وزي ما أنا بدورلها على راحتها هي كمان تدور على راحتي.


خيمت على المكان سحابة من التردد وزفر زيدان بتعبٍ مكبوت:


-خايف أخسرها لو أصريت؟


تنهد سليم وهو يتساءل بهدوء:


-هي مريضة؟ 


حرك زيدان رأسه بنفي وهو يجيب بنبرة مبحوحة:


-لا.


ظهر مدى تعمق سليم في كلماته الموزونة التي أفضى بهدوء أمام زيدان المنصت باهتمام:


-خلاص يبقى تخسرها ليه؟ اظن انتوا واخدين بعض عن حب ومريتوا بحاجات كتير، فالموضوع مش هيوصل لكده أبدًا، وبعدين ده انسب وقت تدق على الحديد وهو سخن، هي أكيد مشاعرها اتحركت لما حضرت ولادة نهى، مفيش واحدة ست ربنا خالقها مشاعرها مبتتحركش في اللحظات دي.


كلماته تسللت إلى صدر زيدان كجرعة منطق قاسية، ومع ذلك لم تزلزل ضعفه، فأطرق للحظة يحدق في الرضيع بين يديه، وكأنه يبحث في ملامحه الصغيرة عن جوابٍ يعجز البشر عن منحه.


-وإن رفضت يا سليم؟ 


رد سليم بصلابة:


-متيأسش يا زيدان وحاول مرة واتنين، متختارش السكوت والاستسلام ده مش هيغير من رأيها أبدًا.


ارتعشت شفتا زيدان وهو يبوح باعترافٍ مباغت:


-والله يا سليم أنا بقيت محتار، اوقات بشوفها بتبص لعيالك وبشوف في عينها إنها نفسها يكون لينا اطفال واوقات بحسها بتهرب من أي طفل عشان متغيرش رأيها.


ابتسم سليم ابتسامة خفيفة لكن نظراته حملت كل الحزم:


-يبقى مهزوزة يا زيدان؟ انت دورك تطمنها وتديها الأمان لغاية ما توافق وبإرادتها.


هز زيدان رأسه في صمتٍ، ثم خفض عينيه إلى الطفل النائم فابتسم له كأنما يودع خوفه بين ثنايا وجهه البريء، وهمس:


-هجرب طريقتك يمكن تنفع.


ابتسم سليم نصف ابتسامة وهو يقول بثقة:


-هتنفع طالما بتمشي وراه اخوك.


وفي لحظةٍ مفعمة بالعاطفة رفع زيدان رأسه فجأة، وألقى على كتف أخيه قبلةً صادقة خرجت من قلبٍ مثقل بالامتنان، قبل أن يهمس:


-ربنا يخليك لينا يا سليم.


تصدعت جدران الصمت التي شيدها سليم حول مشاعره، فشد زيدان إلى صدره مربتًا على ظهره بحنو غير معتاد:


-ربنا يخليكم ليا أنا من غيركم ولا حاجة، وجودك  جنبي انت واخوك بيديني الأمان دايمًا.


لكن هذه اللحظة الدافئة ما لبثت أن انكسرت بضحكة يزن الساخرة، وصوته يتسلل كخيطٍ من ضوءٍ عابس:


-إيه ده بقى؟ إيه العشق الممنوع ده؟ طيب من غيري، ان شاء الله ربنا مش هيباركلكم.


التفت الأخوان معًا ووجوههم متناقضة بين الحرج والانزعاج، فيما تقدم يزن بخطواتٍ خفيفة نحو الرضيع، وابتسامته الحنونة تكذب سخريته:


-الحمد لله مخدش حاجة من عمتك ميرفت الله يرحمها سايبة فراغ كبير في حياتنا.


ضحك زيدان رغماً عنه وامتلأت اللحظة بمزيج من الجد والمرح، فتابع يزن سؤاله بفضول:


-هما هيسموه إيه؟


رد سليم بهدوء وعيناه معلقتان بالرضيع كأنما يقرأ في ملامحه المستقبل:


-لسه تقريبًا محتارين في كذا اسم.


مال زيدان أكثر وهو يربت على رأس الصغير بحنان، كأنه يلمس قلبه بيديه ثم همس كمن يقطع عهدًا:


-لو ابني هسميه سليم.


لم يكد ينهي جملته حتى جاء صوت خالد من خلفهم، صوت بدا وكأنه يقتحم اللحظة ليعلن قدراً جديداً:


-حلو اسم سليم، هعتبرها إشارة من ربنا واسميه سليم.


ارتفعت أنظار سليم فجأة، حدقت عيناه بدهشة صادقة لم يستطع إخفاءها، فتساءل وكأنه لا يصدق ما سمع:


-هتسميه سليم بجد؟


اقترب خالد بخطواتٍ واثقة، وتناول صغيره من ذراع زيدان، قبله بلطف كمَن يخشى أن يوقظ حلماً جميلاً، ثم التفت إلى سليم بجديةٍ تُخفي بين طياتها مودة عظيمة:


-ايوه، أصلاً كنا محتارين في اسمه، بس زيدان سبحان الله ربنا حط الاسم على لسانه، واظن إن نهى مش هتمانع هي بتحبكم وهتوافق.


ضحك يزن وهو يربت على كتف خالد بمزاح لا يخلو من الحيلة:


-طيب ما تسميه يزن وأنا هجبلك في كل عيد ميلاد له عربية جديدة.


ابتسم خالد وهز رأسه بحسم:


-ان شاء الله الولد التاني، لكن ده هيبقى اسمه سليم.


ضحك يزن وهو يلوح بيده مستسلمًا:


-ياعم انت الخسران،  عرضي على أول عيل لأي حد، بعد كده عرضى اتلغى، هي الفرصة بتيجي في العمر.


كان زيدان يراقب الجدال بضحكة مكتومة، ثم ربت على ذراع خالد قائلاً بنبرةٍ تجمع بين الجد والمرح:


-معلش، أصل يزن اخويا رايق اوي.


رفع يزن حاجبيه باعتراضٍ مصطنع ورد سريعًا:


-ومكونش رايق ليه؟ حاقد عليا ليه يا عدو الفرحة؟


تبادل الأخوان نظرات حادة مشوبة بالضحك، كأنهما اعتادا هذا الصراع الأبدي بين الجد والهزل، أما خالد فقد بدا متفاجئًا من التحول المفاجئ في نبرة حديثهما، فأمسك سليم بذراعه برفق ليخرجه من الدائرة قائلاً:


-تعالى نتطمن على نهى، متقلقش هما متعودين على كده، هيخلصوا خناقة ويجوا ورانا عادي.


                             ****


غادرت عائلة سيرا بعد الاطمئنان على نهى، وقبل أن يتفرقوا تلقوا دعوة من سليم لحضور حفل سبوع سليم الصغير في منزل عائلة الشعراوي، ورغم رفض خالد في البداية، ولكن أصر سليم إصرارًا واضحًا على رأيه، فما كان من شمس إلا أن ابتسمت بخفة وهي توجه كلامها لخالد الذي بدا متفاجئًا من حزمه:


-مش انت أصريت تسميه سليم، قابل بقى ده احتمال ياخده يربيه هو.


انفجر الجميع ضاحكين على جملتها، بينما استغلت يسر انشغالهم بالمرح والجدال لتتسلل بهدوء، متظاهرةً أنها غير موجودة، خرجت من المشفى متجهة إلى البوابة، وقفت للحظة وهي تحاول الاتصال بوالدها لتخبره بمكانها، لكن هاتفها انطفأ بعدما نفد شحنه، زفرت بضيق وحيرة فهي لا تريد العودة لطلب المساعدة من أحد، ولا تجرؤ في الوقت ذاته على استقلال سيارة أجرة بمفردها في تلك الساعة المتأخرة.


وبينما كانت تستجمع شجاعتها للبحث عن حل، فوجئت بظلٍ يقطع طريقها وصوتٍ مألوف يقترب منها بجمود يخفي وراءه ارتباكًا:


-يلا عشان اوصلك.


توقفت في مكانها تشبثت بالأرض رافضة عرضه ببرود متعمد:


-لا شكرًا، أنا هركب تاكسي.


ارتفع صوته مستنكرًا وتبدلت ملامحه فجأة إلى الضيق:


-هتركبي تاكسي وأنا موجود؟ 


عاندت بنبرتها وهي ترميه بكلمات جارحة:


-ايوه، هو أنا بيربطني بيك إيه عشان اركب معاك؟ انت مجرد طليقي.


حاول كبح غضبه لكن أعصابه خانته، فتجهمت ملامحه وتقدم منها بخطوات غاضبة، كانت قبضته تنغلق بقوة حتى برزت عروقه، وكأن شبحًا قد استيقظ في داخله، فمنذ أن خرج من غرفة الطبيبة وهو مثقل بأفكاره، وكما توقعت جاء صوته خشنًا حادًا:


-طيب ماتخلنيش اردك دلوقتي حالاً يا يسر عشان بس اوصلك، وعلى إيه أنا رديتك لعصمتي، حلو كده؟ 


حدقت به بذهول وهي ترد بانفعال مضطرب:


-يعني إيه اللي انت بتعمله ده، يعني أيه ردتني لعصمتك؟


اقترب أكثر وصوته الغليظ ارتجف بصرامة أخافتها:


-يعني اللي سمعتيه، واركبي حالاً العربية، بلاش الناس تتفرج علينا.


ترددت للحظة لكنها عرفت أنه في تلك الحالة ليس بالرجل الذي يُجدي معه الجدال، تقدمت بخطوات متثاقلة نحو سيارته واستسلمت للأمر، فالخيط بين تعقله وجنونه رفيع للغاية، وقد خبرت كيف ينقطع سريعًا كما حدث مع منير من قبل، فهمست وهي تنظر بعيدًا:


-ماشي هركب بس هتطلقني تاني.


ابتسم بسخرية وهو يغلق الباب خلفها بعنف:


-اه وماله حاضر.


جلس خلف المقود وانطلق بسرعة جنونية، كأن عجلات السيارة تحمل ثقل غضبه وتفرغه على الطريق، ارتجفت يسر في مقعدها وهمست برعب:


-نوح لو سمحت اهدى شوية.


نظر إليها فوقع بصره على يدها المرتجفة فوق بطنها البارز، كان المشهد كفيلًا بأن يهز أعماقه، وكأن صوتها وملامحها الخائفة أعاداه من حافة الظلمة، خفف سرعته شيئًا فشيئًا، وتمتم باعتذار خافت لا تدري أيقصد به تهوره في القيادة أم ما آل إليه حالهما:


-آسف.


ابتلعت يسر ريقها ونظرت عبر النافذة بشرود، لكن صوت نوح اخترق صمتها، فقد كان صوته يحمل جرحًا عميقًا لا يخفى:


-جعانة؟


-لا.


كان جوابها همسًا مقتضبًا، أعقبه صمته، فعاد يسأل بهدوء يائس:


-محتاجة حاجة من الشقة نعدي نجيبها؟


فهمت قصده وأدركت احتياجه إليها خلف كلماته المبطنة، لكنها لم تجد سوى أن تجيب بالنفي:


-لا.


قويت قبضته فوق المقود وكأنه يرفض سماع ردها، ثم أعاد السؤال بصوت ضعيف كأنما يترجاها:


-لينا محتاجة من حاجاتها نجيبها؟


-أخدنا كل حاجتنا من الشقة.


كانت إجابتها كالسهم في صدره، قصمت ظهره وأظهرت هشاشته فهز رأسه مراتٍ عدة وهو يهمس بانكسار:


-أنا هبيع الشقة.


شهقت بدهشة لم تستطع حجبها:


-هتبيع شقتنا؟


لم يتحمل وقع الكلمة فتوقفت السيارة فجأة، وأطلقت العجلات صريرًا حادًا، تشبثت بمقعدها والتفتت إليه برعب، فرأته يسند رأسه على المقود ويمسكه بضعف، ثم همس بتيه وأسى أوجع فؤادها أضعافًا:


-أنا مبقتش عارف عايز إيه، كل اللي عايزه إني أبعد وماشوفش حد ولا حاجة تفكرني باللي أنا فيه.


ألم يكن هو السبب في كل ما يحدث؟! لكن قلبها الخائن لم يطاوعها؛ أغمضت عينيها بقوة وهي تكبح يدها التي كادت تمتد لتربت على رأسه، بل إنها تمنت للحظة أن تحتضنه...شعور متناقض مؤلم مزقها.


"هل جربت يومًا أن تتمنى الشيء ونقيضه؟ أن تشتاق إلى القرب وتختار الابتعاد؟ أن يشتعل قلبك عشقًا وهو ينزف ألمًا؟"


طال الصمت ولم تجد سوى البكاء الخافت متنفسًا لوجعها، بينما هو رفع رأسه بعد أن مسح وجهه وفركه مرارًا، ثم حدق في عينيها بعينين محمرتين وقال برجاء هزها من أعماقها:


-أنا محتاج لينا معايا النهاردة.


هزت رأسها باستسلام ثم مسحت دموعها وسألته بقلق:


-هتعرف تتعامل معاها وتنيمها؟


أدار المحرك من جديد وقاد السيارة بهدوء هذه المرة مجيبًا بصوت واهن:


-ايوه متقلقيش.


وفي حقيقة الأمر، كان عاريًا من الأمان، لا يملك في دنياه سوى ابنته الوحيدة؛ ملاذه الأخير حين تضيق روحه، وموضعه الآمن الذي يخلد فيه إلى النوم بين أحضانها الصغيرة كأنه يطرح عن كتفيه كل أعباء الحياة، كان بحاجة إلى أن يتنفس رائحتها التي تحمل شيئًا من رائحة والدتها، حتى لو لليلة واحدة فإنها كفيلة أن تمنحه بعضًا مما يتوق إليه الآن.


وبعد دقائق توقفت السيارة أمام بيت والد يسر، ثم صعدا معًا وقبل أن تدير مفتاح الشقة لتفتح الباب، التفتت نحوه قبل أن تترجل وسألته:


-تحب تدخل لغاية ما أجهزها واقولها.


-لا هقف هنا، خدي وقتك.


فتحت يسر الباب بالمفتاح لكنها فوجئت بـ لينا تقفز إليها بفرحة غامرة:


-ماما وحشتيني.


انحنت لاحتضانها وقبلت رأسها:


-وانتي اكتر...شفتي مين معايا؟ بابا جاي عشان ياخدك وتنامي معاه النهاردة..


تبدلت ملامح الطفلة فجأة، وارتجفت خطواتها للخلف، وتجمدت عيناها بخوفٍ وهي تهز رأسها رافضة:


-لا مش عايزة اروح معاه.


صُدم نوح من رد فعلها وشعر بكسرة حقيقية تشطر قلبه نصفين، بينما جمدت يسر مكانها غير مصدقة، تقدم منها خطوة فتراجعت الصغيرة، فجلس على ركبتيه وصوته يتهدج برجفة بكاء محبوس:


-لينا...حبيتي، انتي خايفة مني؟ أنا...


قاطعته الصغيرة بعفوية جارحة:


-اه ممكن تضربني وتزعقلي زي ما عملت مع ماما وعمو منير.


بقي نوح جاثمًا مكانه وذراعاه مفتوحتان في فراغٍ بارد، بينما عيناه تحدقان في العدم، لقد لفظته ابنته، آخر ما تبقى له في هذه الحياة، وفي لحظةٍ شعر كأنه يهوي إلى قاع جحيم لا قرار له، يتلقى صنوف العذاب بعد أن فقد كل شيء...حتى حضن صغيرته.


نهض نوح بهدوء، شارد الملامح، ومضى نحو الباب كمَن يسير مثقلاً بجبال من الخيبة، تحركت خلفه يسر بخطوات مضطربة، تمد يدها نحوه وتستنجد بصوت مرتجف:


-نوح استنى متزعلش، أنا هفهمها، طيب استنى عشان خاطري، نوح.


لكنه لم يلتفت ولم يسمح لأذنه أن تلتقط شيئًا من توسلاتها، استقل سيارته بعنادٍ يائس، وأدار المحرك ليمضي، تاركًا خلفه محاولاتها المستميتة تتهاوى في الفراغ، بقيت يسر واقفة تتجرع مرارة الفشل، ثم عادت أدراجها مهزومة، لتجد والدتها بانتظارها، تنظر إليها بعتاب صامت بينما والدها وقف إلى جوارها حائرًا، ملتزمًا الصمت بعد أن طلبت منه زوجته ألا يتدخل.


قبل أن تدخل غرفتها توقفت واستجمعت ما تبقى من قوتها لتقول بهدوء، كمَن يلقي حجرًا في ماء راكد:


-نوح ردني.


ثم أغلقت الباب خلفها، تاركة ابتسامة نصرٍ ترتسم على وجه والدتها، وصدمة صامتة على ملامح والدها، الذي كتم اعتراضه على مضض، رغم أن قلبه لم يخلُ من تعاطفٍ مع نوح بعد ما رآه من كسرةٍ بين عينيه.


أما في الداخل فجلست يسر إلى جوار صغيرتها، تنعم برأسها فوق حجرها، تمرر يدها بحنان فوق خصلاتها الناعمة وصوتها يخرج هادئًا:


-بابا زعل اوي ومشي كان نفسه تبقي معاه يا لينا.


رفعت الطفلة عينيها بخجل لتبرر موقفها بصوت متردد:


-أنا خوفت منه.


ابتسمت يسر بحنو وهي تطمئنها:


-يا حبيبتي هو بابا عمره ضربك ولا زعقلك، بالعكس ده انتي اكتر واحدة بيحبها في الدنيا يا لينا، مكنش ينفع أبدًا تكسفي بابا بالشكل ده.


رمشت لينا بأهدابها الصغيرة ثم قالت بحزنٍ طفولي:


-بس أنا زعلانة منه عشان مبيسألش فيا خالص.


ارتبكت يسر وابتلعت ريقها، ثم تداركت الموقف وهي تضرب جبينها بتصنع:


-يا نهار أبيض دي غلطتي، أنا ازاي نسيت اقولك أنه كل يوم كان بيتصل ويسألني عليكي معلش حقك عليا، أنا اللي غلطانة.


اتسعت عينا الصغيرة محاولةً تصديق كلمات والدتها، فاستغلت يسر ارتباكها وهمست لها بحنان:


-إيه رأيك بكرة نروح له العيادة ونجيب له هدية ونصالحه.


أومأت لينا برأسها وارتسم بداخلها بريق حماسة طفولية، ثم قالت برجاء خاص:


-ونقضي اليوم أنا وانتي وبابا مع بعض ونتفسح ماشي؟


ترددت يسر للحظة لكن نظرة ابنتها المليئة بالشوق كسرت ترددها، فأجابت برقةٍ يغلفها الحزن:


-ماشي، وماله نقضي اليوم مع بعض، بس أنا عايزاكي بقى تقعدي تفكري هتصالحي بابا ازاي وتجيبي له هدية إيه؟


تنهدت الصغيرة بعمق، وغاصت في ذكرياتها القصيرة تبحث عما يحبه والدها، فلم تجد أثمن من أحضانها التي طالما أخبرها أنها تمنحه دفئًا لا يشبه شيئًا آخر، رفعت رأسها وقالت بحماس طفولي صادق:


-اول حاجة هحضنه جامد عشان هو بيحبني لما أحضنه جامد، هو قالي كده.


ابتسمت يسر وعانقتها بقوة، ثم قالت وهي تحاول زرع الحماسة في قلبها:


-حلو اوي...تعالي بقى نفكر هنجيب له إيه؟


                             ***

في اليوم التالي..


وصلت يسر ولينا إلى عتبة عيادة نوح، قبل أن تخطو ضغطت كفيها على بطنها مرارًا، محاولةً ضبط أعصابها وعدم الانفجار أمام تلك الحرباء التي تجلس خلف المكتب بغياب ذهني، ولم تلتفت لوجود يسر إلا حين سألتها هذه الأخيرة بنبرة جافة:


-دكتور نوح موجود جوه؟


انتفضت حسناء كما لو تلقت صدمة كهربائية، ونظرت باستنكار لوجود يسر في العيادة، هل أعادها إلى عصمته بهذه السرعة؟!


ظلت حسناء صامتة تنظر إلى يسر بحقد، فجاهلتها يسر وانطلقت مع ابنتها تفتحان باب الغرفة، وجدن نوح جالسًا صامتًا ويرتدي نظارته الطبية ويطالع شاشة حاسوبه، وما إن رآهم حتى بدت عليه علامات الدهشة، تقدمت هي وابنتها ثم أغلقا الباب وقالت بابتسامة هادئة:


-لما لينا عرفت إنك زعلان منها قالتلي لازم تيجي وتصالحك.


نظر نوح إلى ابنته الصغيرة المحمرة خجلاً، فتقدمت بخطواتٍ بطيئة، وما أن فتح ذراعاه حتى ارتمت داخله؛ احتضنها نوح بقوة كأنه يريد إدماجها في كيانه وهمس إليها:


-بحبك..بحبك اوي، مقدرش ازعل منك.


مدت يدها الصغيرة تداعب ظهره برقة، فأغلق عينيه واستسلم لوتيرة تلك اللحظة، بينما كانت يسر تنظر إليهما وتعتلي محياها ابتسامة هادئة، ولما أشارت لينا إليها حتى تقدمت ووقفت أمامهما، ثم قالت لنوح بهدوء:


-لينا كمان جابتلك هدية على ذوقها.


أجلس نوح ابنته على ركبته، والتقط صندوق الهدايا بتأمل محب، فتفحص محتواه...قميص، عطر رجالي، ساعة يد وعلبة حلويات، فهمس مدهوشًا:


-أول مرة حد يجبلي هدية، تسلم ايدك يا حبيبتي.


قبل يدها بقبلات حانية وأشارت الطفلة ببراءة نحو والدتها:


-ومامي دفعت فلوسها.


ابتسم نوح لعفويتها ثم مد يده نحو يسر والتقط يدها وقبل كفها بلهفة:


-تسلم ايدك يا حياتي.


ارتجفت يسر من قبلته المفاجئة وكأنها ليست زوجته لكن لينا فاجأتها بفتح ذراعيها قائلة:


-أنا عايزة احضنكم انتوا الاتنين.


-بس كده، أنا تحت أمرك، أمري وأنا انفذ.


قالها نوح ضاحكًا ثم جذب يسر فجأة لتجلس على ساقه الأخرى، فشهقت خجلاً ورعبًا، وفي لحظة صار يحتضن الاثنين معًا، ولكنه دفن وجهه في رقبتها يستنشق عبيرها كما لو أنه سيودع أنفاسه في أي لحظة ثم همس بوله:


-وحشتيني اوي.


بدت يسر كتمثال بين ذراعيه، تخفق دقاتها بجنون، وتشتد رغبتها في إبعاد ابنته عنه بعدما ملأها حضنه بقوته، لكن لينا قطعت أفكارها بحماس:


-دادي أنا عايزة نخرج النهاردة أنا وانت ومامي ونتفسح طول اليوم مع بعض ويبقى أنا كده صالحتك وأنت كده صالحتني.


ابتعد نوح عنها بصعوبة ثم تمتم بصوت متهدج:


-حاضر يا حبيبتي، هتقعدوا معايا هنا اخلص كم الكشف ده ونروح مع بعض؟


وقفت يسر وهي تتظاهر بترتيب ثيابها ثم قالت بخجل:


-لا....هننزل نستناك تحت، بس متتأخرش.


قبل نوح ابنته التي نزلت من فوق ركبته وقال:


-حاضر ساعة بالكتير وهتلاقوني عندكم.


أمسكت يسر بيد ابنتها وغادرت الغرفة، وظلت نظراته تتلاحق بها بتلهف وجنون، وما إن خرجت حتى دخلت حسناء وتبدو عليها علامات الضيق:


-حضرتك رنيت الجرس يا دكتور.


تنهد بعمق وانقلبت ملامحه من حزن وغضب إلى ارتياح واضح، أخرج حقيبة سوداء وقال:


-الفلوس دي، روحي وديها البيت عندي يا حسناء، والمفاتيح اهي.


رمقت حسناء الحقيبة نظرة طويلة ثم سألت بهدوءٍ محسوب:


-احطها فين؟


أجاب بنبرة عادية: 


-في الخزنة رقمها هبعتهولك واتس، وبعد كده روحي بيتك عادي أنا هخلص الكام كشف دول، وهروح مع يسر ولينا مشوار.


قبضت على الحقيبة بقوة وهي تكتم غضبها، ثم همست:


-هو انتوا رجعتوا؟


رفع بصره إليها لوهلة وقال بعد صمتٍ قصير:


-اكيد مقدرش ابعد عنها.


أوقدت هذه الكلمات شياطين الغضب في قلب حسناء، تقدمت بخطوات ثابتة وحملت الحقيبة بهدوءٍ شديد، ثم ابتسمت ابتسامةٍ مدفوعة بالحدة:


-الف مبروك..


غادرت وهي تسب في سرها وتتوعد بتدمير حياته، وما إن وصلت أسفل البرج حتى رأت يسر تقف مع لينا أمام المحل؛ تقدمت نحوهما وقالت بسخرية:


-الف مبروك رجوعكم لبعض.


حدقت بها يسر من أعلاها إلى أسفلها، ثم قالت:


-الله يبارك فيكي، معلش أنا عارفة الخبر أكيد كام صدمك.


تمايلت حسناء بدلال مبتذل وقالت بابتسامةٍ ساخرة:


-يصدمني ليه؟ أنا عندي استعداد اعمل أي حاجة لنوح ان شالله اكون تحت رجليه.


أغمضت يسر عينيها بقسوة وردت بصوت يحمل تهديدًا:


-انتي واحدة قليلة الادب ومش مظبوطة ومش هناولك اللي في بالك، فاهدي بقى شوية، وقريب اوي هخليه يطردك.


قاطعها حسناء بازدراء:


-يطردني؟! مدام يسر انتي ماتعرفيش أنا ونوح علاقتنا عاملة ازاي، ومدى الثقة اللي ما بينا.


ثم أخرجت مفاتيح شقته وأشارت بها يمينًا ويسارًا:


-ده حتى مديني مفتاح شقتكم عايزني اروح هناك، ومش اول مرة على فكرة، عشان بس تعرفي أنا إيه عند نوح.


ثم ضحكت ضحكاتٍ طويلة وغادرت، تسير بخطواتٍ مستفزةٍ توقظ غيظ يسر التي تمنت في تلك اللحظة لو أنها تصعد وتقتص من نوح بسبب نيران الغيرة التي كادت تعميها.


                            ****


تحرك فايق في غرفته ببطء وهو يحمل هاتفه، يتحدث بصوت خافت ثم وقف خلف نافذته يتأكد من أمرٍ ما، لكن ملامحه سرعان ما اشتعلت غضبًا:


-يا عم اقف شوية هو أنا مش مديك فلوس على وقفتك دي، يبقى متجادلش بروح أمك.


جاءه صوت الآخر متذمرًا من الطرف الآخر:


-فايق بلاش تهلفط كتير، يا عم أنا من صبحية ربنا واقف الوقفة المهببة دي، وبعدين السنيورة هتنزل امتى؟


زفر فايق بغيظ وهو يقبض بيده على حافة النافذة كمَن يكتم بركانًا داخله:


-تنزل وقت ما تنزل، المهم إنها تركب معاك وزي ما فهمتك مجرد بس تهويشه خوفها وارميها على أي طريق.


ضحك الآخر بخبث وأجاب:


-اه وماله من عنيا كان يوم أسود يوم ما سمعت كلام واخدت التاكسي من اخو المدام.


زفر فايق بعنف ثم ألقى نظرة نحو نافذة سيرا المقابلة له وهمس بغل مكتوم:


-انزلي بقى، انزلي عشان كتب كتابك اللي عملتيه امبارح ده أنا مش هعديه بالساهل كده.


ظل يراقب النافذة حتى دخلت والدته وما إن رأته على حاله حتى صاحت بعصبية:


-يالهوي يا فايق بردو بتبص على بيتهم، يا بني كفايك فضايح ووجع قلب، البت خلاص اتكتب كتابها، وعيلة خطيبها واصلين، انت شوفت بعينك اخوه ازاي واصل وظابط كبير.


التفت نحوها بعينين تقدحان شررًا، ورد بغيظ:


-ميهمنيش، وابعدي عني الساعة دي، أنا مش طايق نفسي.


غادرت والدته غاضبة بينما عاد هو يثبت عينيه على النافذة، وما لبث حتى رآها تخرج بالفعل من بنايتها، تحمل حقيبة متوسطة بعناية، أسرع يتصل بصديقه وقال:


-اهي خارجة هتلاقيها شايلة شنطها وطالعة على أول الشارع، اعمل إنك بتعدي من الشارع عشان متشكش ولما تخلص رن لي وأنا هكمل.


في الجانب الآخر...


كانت سيرا تحمل حافظة الطعام بداخلها طاجن البامية الذي أعدته بيديها، والسعادة تغمر قلبها لأنها صنعت شيئًا يحبه يزن، صحيح أن الوصفة كانت تحت إشراف "أبلة حكمت"، لكنها رفضت أن يدخل أحد يده فيه، فأصرت أن يُصنع بالحب وحده.


خرجت من البناية بخطوات متلهفة، وقررت أن تستقل سيارة أجرة حتى لا يفسد الطعام، كانت تدرك أن يزن أوصاها مرارًا بألا تغادر المنزل إلا بعلمه، لكنها رغبت أن تكتمل المفاجأة...وأن يصل إليه الطاجن دون أن يشك في شيء.


أوقفت سيارة أجرة على جانب الطريق، وصعدت بخفة وهي تحتضن الحافظة بحرص، ثم أعطت السائق العنوان وجلست تعبث في هاتفها، ترسل رسائل متفرقة لفاطمة وأحيانًا ليسر، لم تلتفت إلى الطريق في البداية، لكن حين رفعت رأسها بعد دقائق، وجدت أن السيارة تسلك طريقًا غريبًا عليها، فعقدت حاجبيها وقالت بلهجة متوجسة:


-لو سمحت أنا عمري ما مشيت من الطريق ده!


لم يجيبها السائق، فاكتفت بنظرة جانبية ثم لاحظت أنه يضغط على دواسة الوقود ويزيد من سرعته، انتابها القلق وقالت بصوت أكثر حدة، تحاول أن تخفي رعشتها:


-اقف على جنب، اقف احسنلك.


توقف فجأة فارتطمت للأمام، ورفعت رأسها بخوف، لتكتشف أن الطريق خالٍ لا يسلكه أحد، وبناياته ما زالت قيد الإنشاء، مدت يدها لتفتح الباب فإذا به مغلق بإحكام، التفتت إليه بذهول فإذا به يستدير نحوها، يخلع قميصه ببطء،

وصوته متهدج:


-إيه يا حلوة مالك متوترة كده ليه؟!


صرخت سيرا وهي تحاول دفعه بعيدًا:


-آآ ابعد عني....


مدت يدها الأخرى إلى هاتفها محاولة إجراء اتصال بيزن، لكن السائق لمح ذلك بسرعة، فأمسك بيدها بعنف وانتزع الهاتف منها وألقاه بعيدًا في السيارة، ازدادت ضرباتها على زجاج النافذة وهي تصرخ بعلو صوتها:


-الحقوني...!


حاول السائق كتم صوتها وهو يمد يده إلى سرواله ليفتحه، فازدادت مقاومتها بعشوائية وهي تردد بلا وعي


-لا لا لا...لا لا..ابعد


ورغم تحذيرات فايق له أن يكتفي بتخويفها، إلا أن شهوته قادته إلى خيانته، فقد أعجبته سيرا منذ اللحظة الأولى وقرر أن يمتلكها بالقوة، حاول تقبيلها فغرزت أظافرها في وجهه حتى سال الدم، ثم ركلته بقوة في بطنه فتراجع إلى الخلف، لكنه عاد وأمسكها بقسوة، وانهال على وجهها بصفعة عنيفة تركت أثرًا دامياً بجانب شفتيها وسالت على إثرها الدماء.


صرخت بكل قوتها وظلت تضربه بيديها وهي تبكي:


-لا بالله عليك ابعد...


ثم تعود لسبه بعنف وهي تجذب خصلات شعره الخشنة في يدها بقوة:


-يا حيوان يا كلب...هقتلك لو لمستني.


جذبها من شعرها بعنف حتى انخلع حجابها بعيدًا فزفر بغضب:


-طيرتي الحباية منك لله، اهمدي بقى يا بت.


لكنها لم تستسلم بل حاولت خطف حجابها من يده وهي تضربه بجنون، وفي لحظة خاطفة وقعت عيناها على طاجن البامية بجانبها. قبضت عليه بكل قوتها ورفعت يديها لترتطم به على رأسه بقوة هائلة.


تهشم الطاجن فوق رأسه، وتناثرت البامية على جسده ووجهه وتناثرت شظاياها داخل السيارة، ارتخت يداه فجأة وسقط فاقدًا للوعي، والدماء تنزف بغزارة من جرح غائر في رأسه.


ظلت سيرا تحدق فيه برعب والهواء يضيق في رئتيها، حتى تمالكت نفسها بصعوبة وبدأت تبحث بجنون عن مفتاح الأبواب، ضغطت على كل الأزرار بعشوائية حتى انفتح الباب أخيرًا، التقطت هاتفها وحجابها، وخرجت تركض بأقصى ما تملك من قوة، تترنح خطواتها في الشارع المهجور.


ولكنها توقفت فجأة والتفتت إلى السيارة التي تركتها خلفها، وعيناها ترتعشان بالخوف، وحدسها يخبرها بالحقيقة...لقد قتلته.

هل ستستطيع إثبات براءتها؟ هل سيصدقها الجميع أنها كانت تحاول الدفاع عن شرفها؟!


ولكنها شعرت بالخوف وقررت أن تستكمل ركضها المتعثر وتستنحد بمنقذها الاول...يزن.


                              ****


لم تستطع سيرا الاستمرار في الركض؛ ساقاها قد خانتاها، وأنفاسها تتلاحق كمَن يوشك أن يغرق في هواء ثقيل، توقفت في مكانها وهي تلف برأسها يمينًا ويسارًا في رعب، تبحث عن ملجأ أو عن أي مأوى يحجب عنها وحشية اللحظة التي أفلتت منها، لم تجد أمامها سوى "سوبر ماركت" صغير، دلفت إليه وهي تكاد تسقط وعيناها المتسعتان تحملان رجاءً غارقًا في الاستغاثة.


رفعت السيدة الجالسة خلف الطاولة بصرها إليها، وما إن وقعت عيناها على وجه سيرا الملطخ بالكدمات حتى شهقت برعب وصرخت بصوتٍ عالٍ:


-يالهوي مالك يا بنتي اصمالله عليكي.


أجهشت سيرا في بكاءٍ مبحوح تتوسل بصوتٍ مرتعش:


-تليفون اعمل منه مكالمة، تلفوني باظ ومش راضي يفتح.


بادرت السيدة وقد غلبت عليها الشفقة، فأعطتها الهاتف دون تردد، ارتجفت أنامل سيرا وهي تكتب الرقم الوحيد الذي خطر ببالها، الرقم الذي لا يمكن أن يخيب ظنها فيه، وما هي إلا لحظات حتى جاءها صوته عبر السماعة:


-الو.


صمتت للحظة عندما طاردها التردد، كأنها تحارب جدارًا داخليًا يمنعها من الحديث، ثم انهارت همسًا والدموع تسبق الكلمات:


-يزن.


خيم الصمت من طرفه ثوانٍ معدودة، لكنها كانت دهورًا في قلبها المرتجف، ثم أتى صوته متهدجًا وممتزجًا بالقلق:


-سيرا؟ مالك يا حبيبي بتعيطي ليه؟


شهقت بضعفٍ تام وهمست برجاء مخنوق:


-الحقني أنا في ********.


لم تكمل؛ انقطع الاتصال فجأة لكن ارتياحًا غريبًا اجتاح صدرها، كأنها ألقت بنفسها في يد طوق النجاة، أعادت الهاتف للسيدة التي مدت إليها زجاجة ماء، لكنها لم تستطع أن تشرب رغم عطشها الذي كاد يحرق حلقها، فقد كان خوفها المستعر يمنعها من أي فعل سوى ترقب باب المحل بعينين متوسلتين كأنهما تنتظران المنقذ.


مرت الدقائق عليها ببطء قاتل، كل ثانية كأنها قرن، حتى سمعت صرير عجلات سيارة تتوقف بعنف أمام المتجر، هبط يزن منها مسرعا وعينيه كاللهيب وهو يبحث عنها بجنون، أشارت السيدة بيدها نحوه:


-جوه بس يا حبة عيني قلبها هيقف من الخوف.


اندفع بخطوات سريعة حتى وجدها جالسة على مقعد بلاستيكي، شعرها مبعثر على وجهها وحجابها ملتف حول رأسها بإهمال، ووجهها مثخن بالصفعات، وإلى جانب شفتيها جرح صغير ينزف، تحاول إخفاءه بمنديل ورقي مرتجف، أما عن ثيابها فكانت ممزقة بعض الشيء، تكاد تنطق بما مرت به.


تجمد قلبه للحظة ثم تحرك ببطء وكأن قدميه أثقل من أن تحملاه، انحنى بجذعه العلوي حتى جلس على ركبتيه أمامها، وضع كفيه حول وجهها المرتعش وصوته يخرج مبحوحًا، مكدودًا من شدة الغضب والحزن:


-مين عمل فيكي كده؟


لم تستطع أن تجيب بل انقضت بجسدها الصغير لتحتضنه بقوة، وكأنها تتشبث بالحياة نفسها، انفجرت باكية وأطلقت كل ما كبتته، فظل يزن يطوقها بذراعيه، يهدهدها كأب يحتضن طفلته، يربت على ظهرها برفق، هامسًا بكلمات بسيطة ولكنها كانت كالبلسم:


-اهدي، أنا معاكي ومش هسيبك..


تعلقت به أكثر وأظافرها تكاد تنغرس في قميصه، كأنها تهرب من وحشٍ لا يزال يطاردها في الظلام، فواصل همسه الدافئ:


-متخافيش يا روحي أنا معاكي.


لم يحتمل انكسارها أكثر؛ انحنى يقبل وجنتيها المبللتين بالدموع وجبهتها المرتجفة، حتى يديها التي ارتعشت بين أصابعه قبلها بحنو بالغ، شيئًا فشيئًا بدأت أنفاسها تنتظم تحت دفء صوته، وتستكين إلى حنانه، حين لاحظ هدوءها ابتعد قليلًا، ثم بدأ بلطف في ترتيب خصلات شعرها المبعثرة، وأعاد لف حجابها بدقة كأنها أمانة بين يديه، لكن ملامح وجهها حفرت فيه الصفعات أثرها، وأيقظت نيران الغضب في صدره، فلمس الجرح عند شفتيها بطرف إصبعه، وعيناه تغليان ثم قال بصوت مكبوت:


-مين يا سيرا عمل كده؟ فايق؟ 


أسرعت تهز رأسها نفيًا والدموع تتساقط، عيناها زائغتان بين الخوف والارتباك، بالكاد استطاعت أن تهمس:


-لا...سواق تاكسي معرفوش، ركبت معاه وكان عايز....عايز....


تقطعت أنفاسها وهي تتذكر المشهد، يده وهي تفك أزرار قميصه، ومحاولاته المقيتة لفك سرواله، وضعت كفها على وجهها وانهارت تبكي بحرقة لا توصف.


احتواها يزن من جديد وضمها بقوة أكبر وكأنه يريد أن يحجب عنها العالم، ثم همس بصوتٍ يمزج بين الحنان وغيظٍ يشتعل في صدره:


-خلاص…خلاص اهدي ماتتكلميش.


لكن كلماتها التالية جمدت أوصاله، كأنما انقلب الكون من حوله وحبست أنفاسه:


-أنا…أنا قتلته وهربت.


سقطت الجملة من شفتيها همسًا، لكنها كانت كالصاعقة فوق رأسه، تجمد مكانه وعيناه متسعتان، وذراعاه لا تزالان تطوقانها، لكن روحه بأسرها قد انكمشت بين صدمة وذهول.

تكملة الرواية من هنااااااا

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااا


تعليقات

التنقل السريع
    close