رواية اميرة البحر القرمزى الفصل التاسع عشر 19 بقلم اسماعيل موسى
رواية اميرة البحر القرمزى الفصل التاسع عشر 19 بقلم اسماعيل موسى
#اميرة_البحر_القرمزى
١٩
نهضت ليانثرا من على فراش الأعشاب البحرية، ما إن استعادت شيئًا من قوتها،
كانت لا تزال تشعر بوخزٍ خفيفٍ فى كتفها وحرقةٍ فى ذراعها، لكن ذلك لم يثنها.
نظرت إلى فم الكهف حيث يتسلل الضوء الفيروزي من الماء،
تلمع فيه أسراب صغيرة من القشريات كنجومٍ فى ليلٍ مقلوب.
تقدمت بخطواتٍ مترددة، والماء يلامس كاحليها،
وحين سمعت حفيف حركتها يختلط بصوت تنفس الغول، التفت نحوها على الفور.
كانت عيناه تومضان بوميضٍ خافت، مزيج من الحذر والإنذار.
قال بصوتٍ أجشّ يشبه حشرجة الصخور تحت ضغط الموج:
> "إلى أين تظنين نفسك ذاهبة يا بشريّة؟"
توقفت ليانثرا لحظة ثم قالت بعزمٍ مكتوم:
> "إلى الشمال… حيث أخذوا الحوت الصغير.
لن أبقى هنا بينما هو أسير بين مخالبهم."
أطرق الغول رأسه قليلًا، كأنه يسمع صدى قديمًا من كلمات نسيها منذ زمن،
ثم رفع رأسه وقال ببطءٍ، كل كلمة منه تنزل ثقيلة كالحجر فى الماء:
> "إن خرجتِ من هذا الكهف… لن أستطيع حمايتك.
البحر الخارج ليس بحرًا هادئًا، إنه بحر الدماء والعهود القديمة.
هناك قِوى لا تعرفينها، وعشائر لا ترحم."
اقترب خطوة منها، فبدت المسافة بينهما كأنها تضيق حتى لم يبقَ سوى صمت الماء بين أنفاسهما.
كانت نبرته أكثر خشونة وهو يتابع:
> "منذ أكثر من قرن، أخذت على نفسى قسمًا…
ألا أتدخل فى صراعات البحر، لا مع الغرانيق، ولا مع القروش، ولا مع الملوك.
أقسمت بتيار الأعماق أن أبقى شاهدًا لا فاعلًا.
ومن ينكث قسم الأعماق… يبتلعه البحر ذاته."
سكت قليلًا، وصوته هذه المرة حمل شيئًا من الأسى:
> "لقد جرّبتُ أن أغيّر مصير مخلوقٍ واحد…
فدفعتُ ثمنًا لم ينتهِ حتى الآن.
ابقي هنا يا ليانثرا، دعي البحر يبتلع ما يريد.
لا تتركي الأمان لأجل وهمٍ صنعته عاطفتك."
لكن ليانثرا لم تجبه،
كانت تنظر إلى الضوء القادم من الخارج وكأنه نداءٌ قديمٌ لا يمكنها تجاهله.
في عينيها انعكست صورة الموج المتلألئ،
وفى قلبها صخبٌ يشبه إصرار العاصفة التى لا تسمع تحذير أحد.
تأمل غول البحر وجه ليانثرا طويلًا،
كانت النار التى رآها فى عينيها تشبه تلك التى رآها يومًا فى عيون المقاتلين الذين قرروا مواجهة القدر،
لكنها كانت نارًا نقيّة، خالية من الطمع، مشتعلة فقط بالوفاء.
زفر الغول نفسًا طويلاً خرج معه فقاعات كثيرة، كأن الكهف نفسه يتنهد.
ثم قال بصوتٍ أجشّ يشبه خرير الصخور فى الأعماق:
> "أرى أن الحديث معك لا جدوى منه… أنتِ مصممة، كأن البحر نفسه يسيرك."
تقدّم قليلًا حتى أصبح الضوء ينعكس على شعره المتشابك،
وكانت عيناه تلمعان تحت الماء بلون الطحلب الداكن، وقال بنبرةٍ نصف ساخرة ونصف حزينة:
> "إذن فاذهبى يا بشريّة… وتمنى لك التيار سلامة الطريق.
لكن تذكّري نصيحتى، فهى أثمن من كل الأعشاب التى داويتك بها.
لا تقاتلى أكثر من غرنيقةٍ فى وقتٍ واحد،
إن كنتِ ترغبين فى البقاء… وهذا ما أشك فيه."
ضحك ضحكة قصيرة جعلت الماء يهتز حوله، ثم أضاف بنبرةٍ جادّة:
> "لقد هزمتك غرنيقةٌ واحدة من قبل، فكيف لو واجهتِ اثنتين؟
لن يتقاتلن عليكِ إلا بعد أن يمزّقن جسدك نصفين،
لأن غرنيقتين لا تتشاركان فريسةً واحدة."
تراجعت ليانثرا إلى مدخل الكهف، قلبها ينبض بعنف، لكنها لم تتردد.
التفتت نحوه وقالت:
> "سأعيد الحوت الصغير، أو أموت وأنا أحاول."
هز الغول رأسه، وصوته الخافت تبعها كصدى من الأعماق:
> "كلنا نموت يا ليانثرا، لكن القليل فقط يعرفون لماذا."
ثم انطلقت.
غاصت ليانثرا من فم الكهف إلى البحر المفتوح،
كان الماء باردًا كحد السيف، شفافًا كزجاجٍ ملعون،
وأمامها امتد الطريق نحو الشمال كمتاهة من الظلال والألوان.
انحنت جسدها واتخذت وضع السباحة الطويلة،
وكانت التيارات تندفع بها وسط أخاديد من المرجان البنفسجي والطحالب المتوهجة.
كانت تمرّ بأسماكٍ غريبةٍ ذات عيونٍ لامعةٍ وجلودٍ شفافةٍ تعكس ضوء البحر،
وشعرت للحظة أنها تمرّ فى حلمٍ لا ينتمى للعالم الذى عرفته.
كانت الصخور تحتها تنبض بضوءٍ خافتٍ كأن البحر نفسه يتنفس.
كلما تقدمت شمالًا، ازدادت برودة المياه،
ورأت الشعاب تتحول إلى هياكل عظمية من المرجان الأبيض،
وفي المسافة البعيدة ظهرت أشعة خضراء باهتة تشق العتمة مثل ومضات أرواح.
اقتربت ليانثرا أكثر…
وهناك، وسط الغيوم البحرية الكثيفة،
ظهرت مملكة الغرانيق.
كانت تمتد على شكل أعمدة حجرية ضخمة تنبت من قاع البحر إلى سطحه،
عليها أعشاش من أصدافٍ متشابكةٍ وطينٍ متحجرٍ،
تتدلّى منها خيوط الطحالب كستائرٍ طويلةٍ تخفى أسرارًا مظلمة.
كانت الغرانيق ترفرف حول الأعمدة بأجنحةٍ ضخمةٍ من الفضة المائلة إلى الزرقة،
تصدر صرخاتٍ تشبه صرير المعادن،
وتحمل فى مخالبها ما تبقى من أسماكٍ أو مخلوقاتٍ بحريةٍ مشوهة.
توقفت ليانثرا خلف صخرةٍ مرجانيةٍ،
تحدّق فى تلك المملكة الوحشية،
تدرك أن كل خطوة نحوها قد تكون الأخيرة…
لكن فى أعماق صدرها،
كان صوت الحوت الرضيع لا يزال يرنّ كنداءٍ لا يُسكَت.
_________&
كان الصباح هادئًا على نحوٍ غريب، كأن الجزيرة أفاقت على أنفاسٍ غير مألوفة فيها.
جلس الأمير مونت كارلو إلى مائدة من المرجان الورديّ، يقابله وجه الأميرة المنفيّة، وقد أضاءت خصلات شعرها الطويلة كأنها تجمع في أطرافها ضوء الفجر وملح البحر.
كانت الخادمات الجنيات يتحركن حولهما بصمتٍ رشيق، يُقدّمن ثمارًا بحرية لم يرَ الأمير مثلها قط: حبات لؤلؤ شفافة تُؤكل، وأسماك صغيرة تشعّ بضوءٍ أزرق قبل أن تنطفئ لحظة ملامستها للهواء.
قالت الأميرة، وهي تراقبه بعينين ساكنتين كالموج البعيد:
> "منذ مئة عامٍ لم أجلس إلى مائدة فيها ضيف حيّ. حتى خدمى لا يتحدثون إلا إذا أمرتهم بذلك، لقد نسوا معنى الأصوات."
أجاب الأمير بهدوءٍ غامر:
> "لو علمت أن وحدتك تمتد إلى هذا الحد، لجئت قبل قرنٍ كاملٍ لأكسرها."
ابتسمت الأميرة ابتسامة خافتة، كأنها بين الحنين والسخرية.
ثم رفعت كأسًا من شراب المرجان وقالت:
> "اشرب إذًا... لعل البحر يرضى عن جرأتك."
في اليوم التالي، عند الفجر، كانت الأميرة واقفة على صخور الساحل، بثوبها الأبيض يرفرف في الريح، والأمير بجانبها يحمل رمحه القديم كأنما سيخوض معركة ضد البحر ذاته.
ركبا قاربًا صنعته الأميرة من أخشاب لم يعرفها الأمير، ملساء كأنها من عظم الحوت، وغنيا معًا نشيد الرحيل القديم الذي كانت تحفظه منذ نفيها.
لكن ما إن اقتربا من حدود الجزيرة حتى تغيّر لون البحر.
تحوّل صفاؤه الأزرق إلى عتامة حجرية، وتعالت الأمواج كأنها تبني جدارًا من الصخور.
صرخت الأميرة وهي تلوّح بيديها في الهواء، محاولةً تهدئة البحر بلغته القديمة، لغة الموج التي لا يعرفها إلا الملوك المنفيّون من سلالات الجان.
غير أن البحر لم يُجب.
بل أخذ يعلو ويعلو حتى انقسمت مياهه إلى صفائح متحجرة، وانكسر القارب قبل أن يبلغ عمق الماء.
أُعيد الاثنان إلى الشاطئ، على الرمال ذاتها، والبحر خلفهما ساكن كأنه لم يتحرك قط.
جلست الأميرة على ركبتيها، شعرها المبلل يلتصق بعنقها، وهمست بصوتٍ مرتجف:
> "لم تنتهِ اللعنة بعد... البحر لا ينسى عهوده، ولن يسمح لأحدٍ بمغادرة هذه الجزيرة.
نظر إليها الأمير مذهولًا، ثم إلى الأفق حيث كانت المياه تتحجر شيئًا فشيئًا تحت شمس الصباح.
ولأول مرة منذ جاء إلى الجزيرة، أحس أن البحر الأزرق ليس ماءً، بل ذاكرةٌ حية تحرس سجنها الأبدي.
كانت الأميرة جالسة عند حافة الصخور، وأمواج البحر العائد من هيجانه تلامس أطراف ثوبها المبلل، كأنها تسخر من محاولتها.
لم تتحدث، لم تنظر إلى الأمير، فقط ظلت تحدّق في الأفق الذي أُغلق في وجهها، الأفق الذي صار جدارًا من صخرٍ وماءٍ متجمد.
كان الصمت يثقل على المكان، حتى إن الريح ذاتها كفّت عن المرور فوق الرمال.
اقترب مونت كارلو منها بخطواتٍ حذرة، كأنما يخشى أن يكسر شيئًا هشًّا في روحها.
لكنها سبقت صوته، وقالت بصوتٍ متكسّر:
> "إنه والدي..."
التفتت إليه بعينين زجاجيتين، لا دموع فيهما ولا بريق.
> "هو من نفاني إلى هذه الجزيرة، وأغلق حولي البحر بتعويذة لا تُكسر. كنتُ ابنته الوحيدة، وكنتُ خطأه الأكبر."
تنهّدت، فاهتز الهواء حولها كأن الموج استجاب لأنينها.
> "كنتُ أرفض أن يُساق الجان إلى الحروب باسم الممالك القديمة، كنت أقول إن البحر أوسع من عروشهم، وإن الدماء لا تُقيم ملكًا... فقال لي إنني خُنت النسب.
في الليلة الأخيرة، وقف أمامي وأمر البحر أن يبتلعني.
لكنه لم يقتلني، بل نفاني إلى هنا، فى جزيرة لا تطؤها قدم ولا طير، لأتعلّم معنى الصمت."
مدّت كفها نحو الماء، فلمست السطح كأنها تتحسس سجنها الشفاف.
> "كل فجرٍ يظنّ البحر أني سامحته، فيهدأ.
لكن حين يحاول أحد إخراجي، يتذكّر العهد الذى قطعه مع والدي.
البحر لا يغدر... لكنه لا يرحم أيضًا."
جلس الأمير إلى جوارها صامتًا، عاجزًا عن قول شيء، فقد شعر أن الكلمات كلها ضئيلة أمام وجعها.
كانت الأميرة تنظر إلى المدى، والبحر أمامها يتحرك بخمولٍ ثقيل، كأنه كائن حيّ يراقبها في صبرٍ قديم.
ثم قالت، بصوتٍ خافتٍ كأنه يأتي من أعماقها:
> "لو كنتُ أعلم أن المنفى يخلق هذا الكمّ من الصمت... لطلبتُ الموت بدلًا من العزلة."
مدّت يدها إلى صدرها، كأنها تتحسس ندبة غير مرئية، وقالت:
> "التعويذة لم تُحبس جسدي فحسب، بل حبست صوتي عن العالم.
لذلك، حين تتحدث معي الآن، أشعر أنني أرتكب خيانة صغيرة ضد ما قرّره أبي."
ثم نهضت، ببطء، وخطاها فوق الرمال كانت كأصواتٍ بعيدة في حلمٍ غارق في البحر.
وبقي الأمير يراقبها، عاجزًا بين أن يلمس كتفها أو أن يتركها، حتى بدت كظلٍّ أبيض يذوب في ضباب الصباح.
جلس الأمير مونت كارلو في البهو الرخامي للقصر، يحدّق في الضوء الشاحب المنعكس على جدرانه الموشّاة بظلال البحر. كان كل شيء من حوله ساكنًا، لكن في داخله كان العصف لا يهدأ. منذ أن أطبقت أمواج البحر الصخرية عليهم، لم يبارحه السؤال: كيف يُكسر سحرٌ صنعه ملك من ملوك الجان؟
ظلّ يعيد ما قالته الأميرة مرارًا في ذهنه: "والدي هو من أمر البحر بحبسي، والعهد لا يُنقض إلا إذا مات من عقده أو كُسر على يد من لا يخضع لسلطانه."
رفع رأسه ببطء، وعيناه تتسعان كمن التقط فكرة خطيرة.
ذلك الاستثناء الأخير... من لا يخضع لسلطان ملك الجان... من يمكنه أن يكون؟
لم يعرف في حياته من يقف خارج سلطة الملوك سوى كائنٍ واحد.
القزم فانتر.
ذلك الماكر، الخارج على أعراف الجان وقوانينهم، الذي كان يجوب العوالم دون أن يهاب أحدًا، لا ملكًا ولا ساحرًا ولا ظلًّا منسيًا.
إنه الوحيد القادر على كسر تعويذة أطلقها ملك، لأنه ببساطة لا يعترف بملوك.
رفع الأمير يده إلى جبينه وأغلق عينيه، محاولًا استحضار آخر مرة رآه فيها.
كان في الميناء الشرقي، فوق سطح سفينة صغيرة تشق البحر القرمزي، بصحبة الفتاة ليانثرا... ثم تلاشى أثره.
هل ما زال حيًّا؟
هل سقط في البحر؟
أم ضاع في طريقٍ آخر من طرق القدر؟
تناهى إلى مسامعه صوت الأميرة من بعيد، كانت واقفة عند الشرفة المطلة على البحر، شعرها الفضي ينعكس عليه كخيوط القمر.
تقدّم نحوها، وفى صوته تلك الرصانة التي تخفي اضطرابه الداخلي:
> "أيتها الأميرة... لقد فكرت طويلًا.
السحر الذي قيدك لا يُحلّ إلا بمن يقف خارج سلطان أبيك.
هناك قزمٌ... ربما كان مجنونًا، لكنه الوحيد الذي يستطيع."
استدارت نحوه ببطء، وعلى وجهها ظلّ من الخوف واليأس:
> "لن تصل إليه. هذه الجزيرة لا تترك أحدًا يعود منها. حتى البحر ينسى من غادره."
اقترب منها أكثر، وقال بحزمٍ هادئ:
> "سأجرب."
تراجعت خطوة إلى الوراء، كأنها تتشبث بصوتها الأخير:
> "وإذا لم تعد؟"
ابتسم ابتسامة قصيرة، فيها من المرارة بقدر ما فيها من الإيمان:
> "حين تُكسر اللعنة، سيعرف البحر أني أوفيت بالعهد."
لم تقل شيئًا. فقط نظرت إليه طويلًا، نظرةً تشبه وداعًا منسيًا في زمنٍ آخر.
ثم مدت يدها ولمسته بأطراف أصابعها، كأنها تحاول أن تحفظ ملامحه في ذاكرتها.
> "كل الذين وعدوني بالعودة... لم يعودوا، يا مونت كارلو."
قالها بصوتٍ خافتٍ متعب:
> "إذن، دَعيني أكون أول من يفعل."
ومع أول خيوط الفجر، حمل سيفه الصدئ وسار نحو الساحل، حيث كان البحر الأزرق ينتظره بهدوءٍ غامض.
خطا أول خطوة في الماء، فارتعشت الأمواج من حوله، كأنها تهمس له بشيء لا يريد أن يسمعه.
وعندما ابتعد القارب عن الشاطئ، ظلت الأميرة واقفة مكانها، تراقبه حتى صار نقطة في الأفق.
لم تلوّح له، لم تبكِ... فقط همست للبحر:
> "أعده لي حيًّا، أيها البحر... مرة واحدة فقط."
لكن البحر ظلّ صامتًا، كأنه يعرف أن الوعود لا تُكسر إلا بثمنٍ أعظم من العودة.
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقى الرواية زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كاملة من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هناااااا
تعليقات
إرسال تعليق