رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل السادس وعشرون الجزء الاول والثاني بقلم سيلا وليد حصريه
رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل السادس وعشرون الجزء الاول والثاني بقلم سيلا وليد حصريه
الفصل السادس والعشرون ج1
"لا إله إلا انت سبحانك إني كنت من الظالمين "
لم أعرف أن الحنين قد يُغرق المرء في سكونٍ عميقٍ كهذا،
ولا أن قلبي الذي عاش غريبًا عن العاطفة، سيجد نفسه يومًا أسيرًا لوجهٍ واحد.
كلّ ما كنت أظنه صدفة، صار قدرًا يلاحق أنفاسي.
كنتُ أعيش ساكنًا، لا أعرف للقلوب طريقًا
حتى جئتِ، فأفسدتِ صمتي، وعلّمتِني كيف يُحبّ الإنسان حتى الوجع.
منذ أن مررتِ في حياتي، تغيّر كلّ شيء،
كأنني كنت أعيش على هامش الوجود،
ثم جئتِ أنتِ لتذكّريني بأن للروح وطنًا،
وبأن النور قد يأتي أحيانًا متأخرًا...
لكنه حين يأتي، يُبكينا من شدّة الجمال.
قربها لأحضانه، وانفاسه تحكي قصة عشق عجز عنها اللسان، واحتضان العيون اكثر من مليون شاهد، فكانت نظراته كفيلة أن تحكي معاناة العشق الصامت، دقيقتان فقط، كانتا كفيلتين بأن تفقد "ضي" عقلها، بعدما شعرت بلهفته، ونبض قلبه تحت كفيها، لتتولَّى مشاعرها القيادة دون وعي، فيغدو قلبها هو السيد الآمر المتحكِّم بها..رفعت ذراعيها تحاوط عنقه، بينما كانت يداه تثبِّت جسدها المرتجف..ليسحبها لعالمه للمرة الثانية يغرق بشهد ثغرها، دفعت صدره بوهنٍ بعدما فقدت أنفاسها، فابتعد عنها وأنفاسه المتلاحقة ترتطم بوجهها، حاملةً عنفوان مايشعر به.
همست بصوتٍ مرتجفٍ:
_يوسف، ابعد..ماينفعش اللي بنعمله.
اقترب منها مرة اخرى، تتنقَّل عيناه على ملامح وجهها التي غرق في عشقها، وأبعد خصلةً ناعمةً التصقت بخدِّها، ثم همس بصوتٍ يفيض بتشتُّته:
_ضِعت..لا عارف أتقدِّم، ولا قادر أرجع، ينفع اللي عملتيه فيَّا؟.
تجمَّعت دموعها في عينيها، وهمست بانكسارٍ متقطِّع:
_اعمل اللي إنتَ عايزه…أنا مبقاش فارق معايا حاجة.
رفع إصبعه ليضعه فوق شفتيها المرتجفتين، واقترب ببطءٍ يوشك أن يلامس شفتيها مرة اخرى، فأغمضت عينيها بخوفٍ وارتجافٍ وهمست برجاءٍ مبحوح:
_يوسف، ابعد بقى…
زاد قربه، يجذبها إليه أكثر فأكثر:
_ياريت أقدر مبقاش ينفع.
وضع جبينه فوق جبينها وسحب جسدها يلفُّ ذراعيه حوله:
_ إنتي مراتي دلوقتي، يعني محدش يقدر يمنعك عنِّي.
حاولت التملُّص من بين يديه وهي تضغط بيدها على فتحة روبها المائل، وهي ترى نظراته التي لأوَّل مرَّة تراه بها، دنا أكثر حتى دفن رأسه بعنقها يستنشق رائحتها، بدخول ميرال التي فزعت من ذلك المشهد، فتحرَّكت سريعًا للخارج، أغمضت ضي عينيها تشعر بانهيارها، لا تريد أن تبعده، وكذلك لا تريد اقترابه، قبلةٌ من شفتيه الساخنة على عنقها لتفزع وتدفعه بكلِّ قوَّتها ورغم ارتجاف جسدها، إلَّا أنَّه تراجع خطوةً للخلف وهدرت بصوتٍ يتهدَّج خوفًا:
_اطلع يا يوسف برّة لو سمحت..إيه اللي إحنا بنعمله دا..مش صح، ممكن طنط ميرال ترجع دلوقتي، تقول علينا إيه؟
ظلَّ يحدِّق في وجهها بعينينِ تائهتين بين الشوق والعتاب، قبل أن يهمس بغضبٍ مكتوم:
_يعني إيه مش فاهم كلامك؟
لم يكد ينهي جملته حتى انفتح الباب بعنفٍ، ليظهر إلياس واقفًا أمامهما، ملامحه مزيجًا من ذهولٍ وشررٍ متطايرٍ من عينيه..استدار يوسف سريعًا، تجمَّد جسده للحظة وهو يرى والده يقتحم المكان بتلك الهيئة؛ ألتفت سريعًا نحو ضي التي شهقت ونزلت دموعها على وجنتيها من رؤية عمِّها إليها بأحضانه، ويوسف الذي كاد يجن من رؤية والده لهيأتها تلك.
تراجع بجسده خطوةً أمامها، يحاول حمايتها من نظرات والده، ثم واجه والده بنبرةٍ حاول جاهدًا أن يُخفي ارتجافها:
_إيه يا بابا اللي حضرتك عملته دا، إزاي تدخل علينا كده، مش المفروض تخبَّط الأوَّل؟!
لم يكترث لحديثه بداية الأمر، بل ظلَّت عيناه معلَّقتين على "ضي"، نظراته تشتعل غضبًا كلَّما لاح له ارتباكها واحمرار وجهها، وهناك هواجس تضرب عقله، هدأ قليلًا بعدما وقعت نظراته على حزام روبها المغلق، وفاق على حركات يوسف الجنونية وهو يقف أمامها كدرعٍ بشري، يحاول أن يحجبها عن أعين أبيه.
لاح الخبث بعقل الياس بعدما واجه غيرة ابنه الجنونية، فاقترب منهما خطوة، لكن يوسف تراجع فورًا، يرفع يده بتحذيرٍ غاضبٍ:
_بابا..لو سمحت.
زمَّ إلياس شفتيه، وانحنى قليلًا برأسه وهو يزفر أكثر عندًا، ثم قال بصوتٍ أجشّ يقطر سخرية:
_ده إنتَ بجح يا واد…عايزني أخبَّط على أوضتي وأنا داخلها؟!
في تلك اللحظة، دخلت ميرال بخطواتٍ متوترة، محاولةً أن تسيطر على غضب إلياس، تنقَّلت عيناها بينهما بخوفٍ واضح..
ابتلع يوسف لعابه بصعوبة، محاولًا السيطرة على صوته المرتعش:
_بابا..مش قصدي والله، بس ممكن تخرج دلوقتي، نتكلِّم بعدين برَّة؟
رفع إلياس حاجبه بسخريةٍ باردة، ثم نظر إلى ضي التي مازالت تختبئ خلف يوسف وهمس بنبرةٍ حادَّةٍ عنيدة:
_ضي…
صمت لحظة، ثم أردف بصوتٍ قاطع
_اطلعي من ورا الحلوف دا، وقوليلي كنتوا بتعملوا إيه في أوضتي؟.
شهقت وارتعدت أوصالها، ممَّا ازداد غضب يوسف الذي كوَّر قبضته، سحبته ميرال للخارج:
_إلياس..تعال نشوف بابا مصطفى، ياله حبيبي..
لكنَّه لم يتحرَّك إنشًا واحدًا، وظلَّ واقفًا بمقابلة ابنه:
_هطلع، لو خرجت ومكنتش ورايا هدخل وأطلَّعها برَّة كدا، ويبقى ورَّيني هتعمل إيه، ثم رفع نظره إليها:
_بتتخبِّي من عمِّك وراه يا بنت أرسلان؟.
سحبته ميرال تكتم ضحكاتها..تدفعه بخفَّة للخارج..
خرج يمسح على خصلاته وابتسامة أنارت وجهه بعد حزنه على مصطفى.. دفنت ميرال رأسها بصدره تحاول أن تمنع ضحكاتها..دفعها بخفَّةٍ بعيدًا:
_بتضحكي على إيه إنتي كمان؟
لكزته تضحك واقتربت أكثر تحاوط خصره:
_ بس بقى كسفت العيال، إنتَ فظيع والله..
رفع حاجبه ساخرًا:
_الواد بيقولِّي مابتخبطش ليه، شوفتي بجاحة الحلوف.
رفعت ذراعيها تحاوط عنقه، وشبَّت على أطرافها تنظر لعينيه:
_جايبه من بعيد، نسيت نفسك ولَّا إيه؟
_ياريت يا ميرال هانم تعرَّفيه، أنا متأكد إنُّه كان عارف إنِّنا جوَّا، بس لو معملش شو مايبقاش إلياس باشا.. قالها يوسف الذي خرج على كلمات والدته ينظر لذراعها وهي تحيط عنق والده وقال:
_مش هتكلِّم..قالها وغادر من أمامهما، بينما ظلَّ إلياس يتابع تحرُّكه الغاضب، استدار إلى ميرال:
_ادخلي شوفي ضي، زمانها منهارة، عرَّفيها كنت بعانده مش أكتر، أنا واثق فيها.
أومأت وتحرَّكت للداخل، بينما ظلَّ مكانه للحظات ثم اتَّجه إلى غرفة مصطفى.
بغرفة يوسف:
دلف إلى الداخل كوحشٍ جريح يتخبَّط في قفصٍ ضاق على أنفاسه..يثور كمن فقد عقله، يركل مايعترض طريقه، كأنَّ في داخله إعصارًا يبحث عن مخرج.
توقَّف أخيرًا يلهث، تتناثر أنفاسه الغاضبة بكبتٍ جحيمي، إلى أن سقط على المقعد، يمرِّر كفِّه في شعره بعنفٍ كاد يقتلع معه روحه.
أغمض عينيه للحظة، لكن ملامحها اندفعت إلى ذاكرته كطعنةٍ، فهبَّ واقفًا ينزع قميصه بعنفٍ حتى تناثرت أزراره على الأرض كدموعٍ مبعثرة..
اندفع إلى الحمَّام، دلف تحت ماءٍ باردٍ يُصبُّ على جسده كالسياط..
ظلَّ واقفًا ينهج، وكتفاه يرتجفان، وداخل صدره بركانٌ لا يهدأ… كأنَّه يحترق بصمتٍ، والنار تأبى أن تخمد.
خرج ينزع روب حمامه بدخول بلال إلى غرفته، دلف بنصف جسده متوقِّفًا على باب الغرفة:
_فاضي نتكلِّم؟
أومأ بصمتٍ وهو يجفِّف خصلاته، اقترب منه ودارت عيناه بالغرفة، ثم قال:
_ انت مبهدل الدنيا ليه كدا
لم يجبه، فسحب نفسًا قائلًا
_إيه رأيك نرجع بيتنا؟ نبات ونيجي كلِّ يوم بعد مانخلص شوية ونرجع تاني، حاسس إنِّي مخنوق ومش عارف أتعايش.
استدار اليه يوسف بعدما ألقى منشفته واتَّجه إلى أحد الأدراج ينزع سجائره، مع اقتراب بلال يسحبها بعنف:
_أنا بكلِّمك على فكرة، ولمَّا سألتك قولت لي هيَّ مرَّة حد عزم عليك وماحبتش تكسفه.
تابعه برفعةِ حاجبٍ وصمت، ثم تراجع إلى المقعد وجلس قائلًا:
_بلال دماغي وجعاني، ومش ناقصك إنتَ كمان.
اقترب منه وعيناه تحاوط اضطرابه:
_مالك يايوسف، وإيه اللي حصل بينك وبين ضي؟ سمعتها بتكلِّم باباك عايزة تفسخ الخطوبة.
سحب المقعد وجلس بمقابلته يتعمَّق بملامحه وقال بنبرةٍ متَّزنة:
_يوسف إنتَ عارف غلاوتك عندي، ربِّنا أعلم إنتَ بالنسبالي مش مجرَّد ابن عم وبس، وهيَّ كمان دي روحي.. -مضحكش عليك أنا كنت رافض ارتباطكم ببعض مش عيب فيك والله، بس أنا عارف أختي وعارفك، إنتَ مش بتاع قصص الحبِّ اللي ضي بترسمها من خلال قرائتها للروايات، وطبعًا فاكر كلِّ إجازتك كانت قفشات بينكم، بس بعد الخطوبة معرفش حسيت إنَّك واحد جديد، بيحاول يبني عالم تاني غير اللي متعوِّده منَّك، أه عارف موضوع كتب الكتب جه بدون علمك، بس منكرش اليوم دا شوفت حاجة فيك مختلفة، وخصوصًا لمَّا رجعتوا بالدبل.
كان يستمع إليه بصمتٍ موجع..اقترب بلال بجسده يربت على ساقيه:
_يوسف إنتَ عايز تكمِّل مع ضي فعلًا، ولَّا ناوي على إيه، ولسة موضوع الهجرة دا في دماغك، طيب لو هتهاجر هيَّ هيكون مستقبلها إيه معاك؟..
أنا حاولت أفهم من بابا بس كلِّ اللي قاله، سيب الدنيا ماشية زي ماهيَّ..
زفرة حارقة أخرجها من لهيب أعماقه، بعدما أنهى بلال كلماته ثم قال:
_أنا استلمت الجنسية من أسبوع يابلال، وبابا عرف كلِّ حاجة، علشان كدا جوِّزوني ضي على أساس تضغط عليَّا ومسافرش.
أومأ بلال منتظرًا بقيِّة حديثه، تراجع بجسده بعدما سحب سجائره من كفِّه وقال:
_مناقشة الرسالة الأسبوع الجاي، بعدها هقرَّر، أنا كدا كدا لازم أسافر علشان أكتسب خبرات أكتر.
_طيب وضي يايوسف، مصيرها إيه؟.
نفث دخانه ينظر إليه ثم قال:
_هاخدها معايا.
ضيَّق عيناه بتساؤل:
_يعني إيه مش فاهم، هتاخدها إزاي؟
_هنتجوِّز..نتمِّم جوازنا، مش همَّا عايزين كدا.
توقَّف بلال يهزُّ رأسه بالرفض:
_ومين هيسمح لك بكدا، لا ماما ولا بابا.
-وإيه اللي يخلِّيهم يرفضو..مش هنتجوز.
_يوسف، إنتَ عايز إيه بالظبط؟
قالها بلال بصوتٍ خافت لكنَّه مشحونٌ بالتعب:
_مش عارف...
تمتم بها يوسف وهو يزفر تنهيدةً طويلة، كأنَّها خرجت من عمق صدره لا من فمه.
ثم مال برأسه للخلف قائلًا:
_عايز أنام يا بلال..قوم روح أوضتك، ونكمِّل كلامنا بعدين.
نهض بلال بتردُّد، يحدِّق فيه لحظة، ثم قال بنبرةٍ غلبها العتاب:
_يعني مش راجعين البيت؟
ردَّ يوسف دون أن يلتفت:
_أرجع إزاي وأسيب جدُّو تعبان؟ روح إنتَ لو عايز.
استدار بلال متَّجهًا للباب، وقال قبل أن يخرج:
_هشوف ضي أخدها معايا.
لكن يوسف انتفض سريعًا من مكانه:
_لأ..
اقترب منه خطوةً ونبرته أكثر حدَّة ممَّا:
_سيبها...أنا هاوصَّلها تدريبها الصبح،
عايز أتكلِّم معاها في موضوع مهم.
تأمَّله بلال للحظةٍ بعينٍ تبحث عن مايخفيه، ثم أومأ في صمت، وانسحب للخارج دون كلمةٍ أخرى.
أغلق الباب خلفه، وأسند ظهره إليه، أغمض عينيه وصراعٌ مرير يعصف بداخله كعاصفةٍ لا تهدأ.
أخرج هاتفه واتَّصل بأمِّه:
_ماما، ماعنديش لبس في الدولاب.
جاءه صوتها الدافئ من الطرف الآخر:
_نسيت يا حبيبي، هكلِّمهم يطلَّعوا هدومك.
صمت لحظة، ثم سأل بصوتٍ خافتٍ كأنَّه يخشى الإجابة:
_وضي لسه عندك؟
ردَّت بعد تنهيدةٍ مسموعة:
_عيَّطت كتير لحدِّ مانامت...احمد ربِّنا إنِّ مرات عمَّك ماجتش وشافتها بالحالة دي.
سكتت ثواني ثم أضافت بصوتٍ حذرٍ:
_يوسف..أنا واثقة فيك، وعارفة إنَّك مستحيل تغلط..
ضي بتعيَّط علشان باباك شافها معاك ولَّا في حاجة تانية؟
كلماتها اخترقت صدره كسهامٍ مشتعلة، اشتعل وجهه خجلًا وغضبًا من نفسه، وصمته كان أبلغ من أي اعتراف.
ارتفع صوت ميرال بتوترٍ يخالطه الخوف:
_يوسف...إنتَ عملت في البنت إيه؟
أغلق عينيه، وزفر بحرارة وقال ببرودٍ مصطنع يخفي اضطرابه:
_أنا تعبان يا ماما، عايز أنام..
هتبعتي الهدوم ولَّا أنام بالبورنس؟
ثم أنهى المكالمة، ألقى الهاتف بعنف على الفراش، وأسند كفَّيه إلى وجهه، يلهث كمن يحاول الهروب من نفسه..
ألهذا الحد صار ضعيفًا؟
لم يقدر حتى على كبح مشاعره، ولا على مواجهة حقيقةٍ يخشاها أكثر من ذنبه.
ظلَّ صامتًا دقائق، تتردَّد أنفاسه المتقطِّعة، قبل أن ينهض متّّجهًا نحو الشرفة يبحث عن نسمةٍ تعينه على التنفس بعدما خنقته جدران الغرفة وكأنَّها تضيق عليه عمدًا.
وقف هناك يحدِّق في العتمة، وصدره يعلو ويهبط بانفعالٍ مكتوم.
طرقٌ خفيفٌ على الباب أيقظه من دوَّامة أفكاره، التفت ليراها العاملة تدخل بهدوء، وضعت ثيابه في الخزانة بنظامٍ ثم قامت بترتيب الغرفة، وانسحبت دون كلمة..
ظلَّ مكانه عيناه تتعلَّقان بالفراغ، كأنَّ داخله يُساق إلى هوَّةٍ بلا قرار.
همس لنفسه بصوتٍ أجشّ:
_هتعيد معاناة إلياس يا يوسف،
ولَّا ضي هتحبَّك أكتر من حبِّ أمك لأبوك؟
ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة أشبه بغصَّة:
_مصدَّق نفسك..معقول هتحبَّك زي حبِّ أمَّك لأبوك؟
طيب..وإنتَ هتحبَّها زي حبِّ أبوك؟
ضحك بمرارة، وصوته اختنق في حلقه:
_دول ماتوا في حبِّ بعض..وفي الآخر دبحوا بعض..
تفتكر عندك القدرة تكون قوي زيه،
تقدر تواجه..
ولَّا هتكسرك العيون اللي هتحاكمك..
ولو جالك ابن...هيعاني، هيتعاير،
هتغيَّر هويتك...ولَّا هتعيش بهوية مجهولة النسب زيك؟
انحنى على السور، ضغط بيده على صدره وكأنَّه يمنع انفجاره، وزفرةٌ حارقة خرجت منه كأنَّها جمرة تسكن أعماقه:
_آه...
آه لو خرجت، كانت تزهق أرواحًا كثيرة.
رمق السماء بعينين مثقلتين، ثم همس بصوتٍ واهنٍ كاعترافٍ أخير:
_حبتها اوي حتى ذبْتُ عشقًا لعينيها...
نظر إلى ساعته، ثم تحرَّك بخطواتٍ نحو الطابق الأعلى، حيث غرفة مصطفى.
طرق الباب بهدوء ودلف، فوجد إلياس يجلس إلى جوار مصطفى الغافي، بينما أرسلان يتابع صامتًا.
اقترب يوسف بخطواتٍ حذرة، مدَّ يده ليتفحَّص المؤشرات على الجهاز، فبادره إلياس قائلاً بنبرةٍ مطمئنَّة:
_بلال لسه كان هنا، وقال إنِّ كلِّ حاجة تمام.
أومأ يوسف برأسه دون رد، ثم رفع نظره نحو مصطفى، وعاد بنظره الى والده وقال بصوتٍ خافت:
_بابا، مفيش علاج ينفع من غير أكل.
ثم التفت يبحث بعينيه عن فريدة وتساءل:
_ فين تيتا؟
توقَّف إلياس ونظر إليه بقلق:
_فيه حاجة يا يوسف؟
هزَّ رأسه نافيًا، ثم قال :
_أنا بس عايز أقلِّل المحاليل..لازم ننشَّط الجهاز الهضمي، والقلب كمان مايتعبش من كتر السوايل.
اقترب أكثر، وقال بنبرة لينة وهو يشرح:
_جسمه دلوقتي مش قادر يستقبل سوايل كتير..نبض القلب بيضعف، ومش عايزين نوصل لمرحلة الخطر..
الكبد مرهَق جدًّا، ولو زوِّدنا المحاليل السوائل هتتجمَّع في بطنه وصدره، وهيتعب أكتر..
أنا مش بمنعها خالص، بس نقلِّلها، ونبدأ نرجَّع الأكل الطبيعي بالتدريج.
قطع حديثهم دخول ميرال، تقدَّمت بخوفٍ واضح في عينيها:
_فيه إيه، مالُه بابا مصطفى؟
التفت إليها يوسف، بدخول فريدة بخطواتٍ متوتِّرة، فبادرها قائلًا:
_عايز نبدأ نأكِّله كلِّ ساعتين أو تلاتة حاجة بسيطة.
رفعت فريدة حاجبيها اعتراضًا:
_بس الدكتور مقالش كده يا حبيبي!»
ابتسم يوسف نصفُ ابتسامةٍ، وقال بلطفٍ:
_تيتا، الدكتور بيتكلِّم عن علاج الكبد... وأنا بتكلِّم عن القلب، مش عايز عضلة القلب تضعف، فهنقلِّل المحاليل مش هنمنعها، ونعتمد على الأكل الخفيف..
مش محشي ولا لحمة، أنا قصدي عصير، زبادي، تفاحة مبشورة... الحاجات دي اللي تقويه، وأنا هكتب لك لستة بالأكلات اللي تنفعه.
في تلك اللحظة فتح مصطفى عينيه بتعبٍ، فاقترب يوسف مبتسمًا رغم توتره:
_عامل إيه يا درش، شايف الكلِّ ملموم حواليك ازاي؟
ارتسمت ابتسامةٌ باهتة على وجه مصطفى، وهمس بصوتٍ واهنٍ مفعم بالحنان:
_ربِّنا يبارك فيكم يا حبيبي...»
انحنى يوسف نحوه، حاوط جسده بذراعيه، ونظر إلى عينيه بعزمٍ حنون:
_يلَّا، لازم تفوق..شايف الكلِّ خايف عليك قدِّ إيه؟
ضحك مصطفى بخفوت، رفع كفِّه المرتجف يلمس وجنة حفيده، فقبَّل يوسف يده، ثم همس:
_إن شاء الله هتعمل العملية وهترجع أحسن من الأوَّل..
لقيت متبرِّع، وخلال أيام هينزل مصر، والدكتور اللي هيمسك العملية من أحسن الناس في المجال ده..
منقدرش على بعدك يادرش.
ساد الصمتُ لحظةً، لم يُسمع فيها سوى أنين الأجهزة وارتجاف النفس بين الرجاء والخوف،
بين حفيدٍ يُمسك بالأمل كأنَّه وعد حياة، وجدٍّ يبتسم وهو يودِّع بعينيه الحنون
انسابت دموع مصطفى وهو يحدِّق في عيني يوسف، وخرج صوته متهدِّجًا كأنَّ كلَّ نفسٍ يُقتطع من روحه:
_عايز أحضر فرح يوسف يا إلياس... ممكن تحقَّق لأبوك الأمنية دي؟
تجمَّد يوسف في مكانه، ورفع نظراته التائهة بين وجه والده وملامح جدِّه. اعتدل إلياس على مقعده، بينما اقترب أرسلان بخطواتٍ هادئة وقال بابتسامةٍ واهنة:
_إن شاء الله يا عمُّو..تقوم بالسلامة وهنعملُّهم أحلى فرح.
لكن مصطفى تمتم بصوتٍ بالكاد سُمع:
_قبل العملية...
هزَّة عنيفة اجتاحت جسد يوسف، كأنَّ الكلمة صفعةٌ أيقظت بداخله كلَّ خوفٍ دفين، تراجع خطوتين للخلف وهو يرسم ابتسامةً مرتجفة:
_هروح أنام..تعبت، تصبحوا على خير.
تبعته نظرات أرسلان بقلقٍ صامت، بينما رمقت ميرال إلياس بنظرةٍ غامرة بالحزن، ثم جلست جوار مصطفى على طرف الفراش، لامست يده المرتجفة وقالت بصوتٍ رقيق:
_حبيبي، المهمِّ صحتك دلوقتي..إزاي هنعمل فرح وإنتَ لسه تعبان؟
أومأت فريدة تؤكِّد حديثها، تبتلع غصَّة في حلقها:
_خفِّ يا مصطفى، وكلِّ اللي نفسك فيه هيتحقَّق.
صمتٌ ثقيل كأنَّ انفاسها اختنقت بوجعها..اكتفى أرسلان بنظرةٍ طويلة نحوهم، ثم استأذن وغادر..
دلف يوسف إلى غرفته بخطواتٍ متعثِّرة، كأنَّ الأرض ترفض أن تحمله..
عيناه تائهتان في الفراغ، وصدره يعلو ويهبط بأنفاسٍ متقطِّعة، كلُّ سؤالٍ ينهشه كوحشٍ جائع:
هل سيتزوج، هل سيكرِّر الألم ذاته؟
توقَّف أمام المرآة، نظر إلى انعكاسه، وكأنَّه يرى غريبًا لا يعرفه..
_هوَّ إنتَ أهبل؟
همس لنفسه وهو يحدِّق بعينيه المحمرَّتين:
_ماإنتَ عارف الخطوة الجاية..الفرح،
ولَّا كنت ناوي تهرب، هتقدر..تفتكر هتقدر تعيش بعيد عنها بعد ماحبِّيتها..
ولَّا نسيت كنت بتعمل إيه معاها من ساعتين بس؟
دا كان ناقص حاجة وجوازك يكون كمل…
هتكون واطي وتخون عمَّك،
وتقلِّل من أبوك؟
تقطَّعت أنفاسه، وارتجف جسده كمن يختنق من داخله..وقلبه ينزف، وعقله يصرخ بالهرب، ولا مفرَّ من الاثنين.
ظلَّ واقفًا للحظاتٍ بدت له دهورًا، حتى دوى طرقٌ على الباب، تبعه دخول إلياس.
تجوَّل ببصره في الغرفة ثم ثبَّت نظره عليه:
_نتكلِّم هنا ولَّا تحت؟
رفع يوسف وجهه نحوه، وقال بصوتٍ يتهدَّج بين دموعٍ محبوسة:
_حبِّتها..بس مش هقدر أتمِّم جوازنا، إنتَ اللي عملت فيَّا كده، ليه وجعتني كده يا بابا؟
بقيت واقف في نصِّ البحر…لا عارف أرجع، ولا عارف أعدِّي.
اقترب إلياس منه بخطواتٍ بطيئة، كأنَّه يخشى أن ينهار أحدهما لو اقترب أكثر.
اخترق عينا ابنه التي تحرَّرت دموعها، لم يفعل شيئًا سوى أن احتواه بين ذراعيه..
يحاول أن يُخفي ارتجافه حتى لا يظهر ضعفه أمام ابنه:
_حبيبي، ممكن تهدى علشان نعرف نتكلِّم؟
ما تخلِّنيش أحسِّ بالذنب..وتقول عليَّا أب سيِّئ.
تحرَّر يوسف من حضنه بوجعٍ غائر، ورفع عينيه المبلولتين نحوه:
_مش عايز أتجوز يا بابا..وفي نفس الوقت حبِّيتها ومش قادر أبعد، مش هقدر..أنا مش إلياس..
ميغرَّكش كلامي أنا ضعيف، مش هقدر، صدَّقني يا بابا مش هقدر.
اقترب إلياس، واحتوى وجه ابنه بين راحتيه، ينظر في عينيه كأنَّه يبحث عن ذاته القديمة داخله.
ضغط على وجنتيه بحنانٍ مؤلم وقال بصوتٍ خافت:
_يوسف، حياتك غير حياتي..وضي غير ميرال..
اسمعني كويس، الماضي امسحه من دماغك، عيش حياتك يا حبيبي،
ميرال وإلياس كانوا قصَّة، لكن يوسف وضي..قصَّة تانية خالص.
هزَّ يوسف رأسه نافيًا بعنفٍ، ودموعه تتساقط بحرارة:
_ماليش دعوة بحياتكم، اللي أعرفه إنِّ ميرال كانت بتحبِّ إلياس واتخلِّت عنُّه، وسابت طفل مايعرفش في الدنيا غير حضن أمُّه.
دار بخطواتٍ متوترة، كأنَّه يهرب من صور الماضي التي تتلاحق أمامه كمشهدٍ سينمائي قاتم:
_مهما اللي مرِّيتوا بيه مايدِّيش الحق لِأم تتخلَّى عن طفلها..
مايديش الحق لراجل يطرد مراته بقميص نومها وهيَّ تبكي!
إيه دا..دا حب.. ولَّا عذاب اقنعني..
أنا مش قوي زيك علشان أعيش العذاب دا…
تراجع يرفع ذقنه وقال:
انسى موضوع الجواز دا، أنا مش هتجوز..
سمعتني و زي ماورَّطني..خرَّجني.
تجمَّدت ملامح إلياس للحظة، لكن يوسف لم يمنحه فرصة للكلام، تابع بانفجارٍ موجوع:
_دا اللي فهمته من اللي حصل…
_أنا ماليش دعوة باللي مريتوا بيه، أنا عايز طفولتي اللي اتسرقت منِّي،
تقدر ترجَّعها لي؟
اقترب أكثر يطعن والده بعينيه المليئتينِ بالدمع والغضب:
_تقدر ترجَّع لي حياتي اللي سحبتوها منِّي..
تقدر ترجَّعني مدرستي اللي كنت بحبَّها واضطرِّيت أسيبها علشان غيَّرتوا اسمي؟..
علشان صحابي اتريقوا عليّّا وقالولي مزوّر..
قولِّي يا إلياس باشا…
أبني حياة إزاي وأنا مش عارف أحرق الماضي؟
ساد صمتٌ ثقيلٌ كقبرٍ فُتح على أسرارٍ مدفونةٍ بين أبٍ يعترف داخله بالهزيمة، وابنٍ لا يعرف سوى حقِّه الذي أُهدرَ ظلمًا..
_طيب ممكن تقعد وتسمعني، ووعد بعدها هعملَّك اللي إنتَ عايزه، ولو عايز تسافر هساعدك كمان.
_تساعد مين يا بابا؟ أنا خلَّصت كلِّ حاجة، هبعد عن كلِّ حاجة تفكَّرني بالوجع اللي مش قادر أتحمله.
نظر الياس لداخل مقلتيه وضغط عليه بنبرة موجوعة:
_هتبقى مرتاح يا يوسف، لمَّا تبعد عن أبوك وأمَّك والبنت اللي حبِّتها، هتبقى مرتاح فعلًا؟
_بابا، لو سمحت..خلِّيني مرَّة واحدة أعمل حاجة لنفسي.
اقترب منه إلياس، مدَّ ذراعيه ليحاوط ابنه برفق، يربت فوق كتفه بصوتٍ خافتٍ مبحوح:
_طيب، اقعد واسمعني، وبعد كده قرَّر اللي إنتَ عايزه.
تراجع يوسف وجلس ببطء، لكن داخله كان جمرةٌ تلتهمه ببطء.
بدأ إلياس يسرد له كلَّ شيءٍ منذ اكتشافه الحقيقة، حتى هروب ميرال وعودتها، كان يوسف يستمع بصمتٍ ثقيل، فهو يعلم بعض التفاصيل، لكنَّه لم يكن يعرف مامرَّت به والدته خلال سنواتِ ابتعادها.
رفع رأسه أخيرًا، عيناه دامعتانِ وصوته مختنق:
_يعني إيه، كانت مدمنة؟!
أومأ إلياس بتنهيدةٍ، كأنَّها تُنتزع من روحه، ثم بدأ يقصُّ له كلَّ شيء… أسباب تأخرها، مامرَّت به، وكيف تغيَّرت حياتها.
قبضةٌ قويةٌ اعتصرت صدره وهو يسمع معاناة والدته، ثم رفع نظره لوالده بعينينِ مشتعِلتين:
_وليه عملوا فيها كده! ومين دول؟!
تابع إلياس حديثه بصوتٍ يملؤه الوجع، يروي له علاقتها برؤى وراجح، وكلِّ ماجرى، كأنَّ كلَّ حرف ٍيخرج من فمه شوكةٍ تحرق جوفه.
نهض يوسف فجأة، ملامحه ترتجف بين الغضب والذهول، عيناه تائهتان:
_معقول!! فيه أم وأخت يعملوا كده؟ أنا كنت فاكر الموضوع غيرة على راجل، لكن لمّّا سألتكم عن خالتي، قولتوا إنَّها هاجرت!
هزَّ رأسه ببطء، عيناه تترقرقان:
_لا يا حبيبي خالتك محبوسة، كان المفروض تتعدم لأنَّها قتلت رانيا، بس المحامي بتاعها جاب شهادة إنَّها مجنونة، وقدر يخفِّف الحكم.
صدمات متتالية وقعت فوق رأسه كجبلٍ أثقل من احتماله، تاهت أنفاسه وقال بصوتٍ مخنوق:
_معقول فيه حد يكره حد كده؟
اقترب منه واحتوى كتفيه يحاول تهدئة ارتعاشته:
_ماما تعبت في حياتها أوي، ومنكرش أنا كنت سبب في بعض الوجع، بس أنا بقولَّك يا يوسف..أمَّك دي أقوى أم في الدنيا، محدش يتحمِّل اللي هيَّ عانته.. كلِّنا اتأذينا، بس هيَّ أكتر واحدة اتأذت
_علشان كده…ماقدرتش أحقَّق حلمي؟
رد الياس عليه بقهر:
_علشان كده حاولت أبعدك عن أي حاجة توجعك تاني
مسح على وجهه بعنف، كأنَّه يحاول يمحو الماضي من على ملامحه، وجلس يضمُّ قبضتيه في صمتٍ خانق..
اقترب إلياس وجلس بجواره، حدَّق به طويلًا فاستدار يوسف يقول بصوتٍ مبحوح:
_بحاول أقنع نفسي…والله بحاول.
قالها وأغلق عيناه بعدما تراجع بجسده للخلف.
تأمَّل وجه ابنه، صمته، ارتجافة أنامله، ثم همس بنبرةٍ متقطِّعة:
_يوسف..هوَّ أنا كنت أب فاشل كده معاك، مقدرتش أخرَّجك من اللي كان بيحصل حواليك؟
ابتسم يوسف بمرارة وأطرق رأسه:
_أبدًا يا بابا مافشلتش، على قدِّ ماقدرت ربِّيتني، بس حضرتك نسيت إنِّي كنت طفل..مالحقتش أعيش طفولتي.
سحبه إلياس برفق، ضمَّه تحت ذراعيه، وضع رأسه على كتفه، وهمس:
_آسف يا حبيبي… يمكن كنت قاسي علشان ماتكبرش ضعيف، وماحدش يكسرك.
ربت يوسف على كفِّ والده، ونظر إليه بنظرةٍ تذيب الصخر:
_مش زعلان منَّك صدَّقني..يمكن حاجات كنت بشوفها وجعتني علِّمت فيَّا، حاولت أدفن الماضي، بس كأنُّه مش راحمني، كنت دايمًا بسأل نفسي: ذنبي إيه وذنبك إيه، وذنب ماما إيه؟
بس زي ماحضرتك دايمًا بتقول..دي أقدار ولازم نرضى بيها.
ضمَّه إلياس أكثر يربت على كتفه بحنانٍ صادق، كأنَّه يحاول ضمَّ سنواتٍ ضاعت منهما معًا:
حبيبي لازم تعرف إنَّك أغلى من روحي، مفيش أغلى منَّك في الدنيا.
التفت يوسف نحوه بعينين يملؤهما وجع السنين، وقال بصوتٍ مختنق:
بتكذب يا إلياس..من إمتى وأنا أغلى من ميرال؟
ضحك إلياس بخفَّةٍ حزينة، وجذب رأس ابنه يضع جبينه فوق جبين ولده كأنَّه يحاول بثَّ الطمأنينة في قلبه:
إنتَ أغلى يا بن إلياس..أمَّك حاجة، وإنتَ وأختك حاجة تانية خالص.
تراجع يوسف قليلًا، وارتفع حاجبه بسخرية مُرَّة:
من لحظات كنت بتقول مفيش أغلى منَّك…دلوقتي أمِّي وشمس كمان؟
لكزه والده بخفَّة، ونهض من مكانه يزفر وكأنَّه تخلَّص من ثِقلٍ جاثمٍ على صدره:
المهم، شوف عايز تعمل إيه وأنا معاك.
ثم التفت إليه بنظرة خبثٍ لطيفة وقال:
_ضي أصلًا قالت لي تفسخوا الخطوبة، يعني مش هتزعل لو قرَّرت تفسخها وتسافر..بس خلِّي بالك السفر حاجة، والهجرة حاجة تانية..سفر يابنِ إلياس مش هروب، فاهم؟ دا حقِّ أمَّك وأبوك عليك.
وقف يوسف بمحاذاة والده، يرمقه بصمتٍ مطوَّل، ثم قال بنبرةٍ واهنة:
_سبني أفكر…وبعد كده أردّ عليك.
اقترب منه إلياس وربت على كتفه، ونظراته تتشبَّث بوجه ابنه كأنَّها ترجوه ألَّا يضيع:
_بس وإنتَ بتفكَّر، افتكر متظلمش بنت عمَّك، خصوصًا إنَّك بتحبَّها..وافتكر إنَّها اتكشفت عليك، أكيد فاهم قصدي، حتى لو محصلش حاجة بينكم يكفي إنَّك أمِّنتها بحضنك، مش هكمِّل لأنَّك عارف معنى كلامي، هيَّ ملهاش ذنب، واللي هتعمله أختك هتلاقيه..عيش حياتك يا يوسف، وزي ماقلتلك…لو عايز تسافر، سافر، بس متنساش أبُوك وأمَّك.
ثم أشار إلى صدره بابتسامةٍ واهنة:
وقبل ماتقول ردَّك..اسأل قلبك، شوف هيقدر يتحمل البُعد ولَّا لأ، أكيد إنتَ أكتر واحد عارف تعب القلب يا دكتور القلب.
قالها ومضى بخطواتٍ بطيئة نحو الخارج.
ظلَّ يوسف مكانه، نظراته معلَّقة بالباب، وكلمات والده تتردَّد داخله
مدَّ يده إلى صدره يتحسَّس موضع النبض، كأنَّه يختبر قلبه الذي صار شاهدًا على كلِّ وجعٍ مضى…
ثم أغمض عينيه وهمس لنفسه:
_للأسف يا بابا عرفت تضغط على ابنك في المكان اللي بيوجعه.
بقصر الجارحي:
كان جالسًا بشرفته كعادته، ينظر بسماء العشق خاصَّته، دلفت والدته تحمل فنجانين من القهوة:
_تسمح لي أشرب فنجان قهوة معاك؟
اعتدل يشير إليها بعدما توقَّف يتناول منها القهوة وقال:
_تسلم إيدك حبيبتي.
جلست بمقابلته مبتسمة وأردفت:
_عامل إيه في شغلك، اللوا بيشكر فيك أوي، بيقول إنَّك ذكي وبتتعلِّم بسرعة.
_سامعك ياماما.
استندت على كفَّيها وقالت:
_وبعدهالك ياحبيبي..بترجع من شغلك وتقفل على نفسك، حتى الأكل دايمًا شبعان.
_ماما أنا تعبان، بابا هيروح إمتى لعمُّو إلياس؟.
_للدرجة دي حبيبي بتحبَّها؟
_أوي ياماما، وحاسس هيحصلِّي حاجة لو ماحصلش نصيب.
شعرت بالألم وصرخ قلبها على مااستمعت إليه، فقالت:
_طيب إنتَ هتقدر تبعد عن وظيفتك؟
استند على الطاولة ونظر داخل أعين والدته:
_ماما مش عمُّو الياس أخو عمُّو أرسلان، إزاي كنتوا موافقين على ضي وشمس لأ؟.
تنهَّدت تسحب نفسًا ثم زفرته بهدوء وقالت:
_أوَّلًا السنِّ بينكم حبيبي، ثانيًا عمُّو أرسلان مراته أبوها مش إرهابي ولا له أخت مسجونة، وأخِّين ليهم ملفات في الأمن الوطني ولَّا جدِّتها ربِّنا يسهلَّها بلاويها كتير.
قاطعها حمزة وقال:
_بس عمِّ إلياس هوَّ عمِّ أرسلان.
_بص يا حبيبي..أبوك مكنش موافق على ضي من الأوَّل، بس سمع عمَّك أرسلان بيتكلِّم مع عمُّو فاروق عن حياتهم اللي ادمَّرت، وقالُّه حياة ولاده ادمَّرت..وخايف على مستقبل ولاده، بابا حب يخفف عنُّه، علشان كدا سألك البنت لو عجبتك هيقدِّم تاريخها اللي يثبت إنِّ راجح مات، يعني عمِّ باباها ومراته، ويثبت إنِّ أرسلان مالوش علاقة، وإنُّه متربِّي تحت رعاية إسحاق وفاروق، ودا بما إنَّك دلوقتي شغال، يعني مش لسة هتتقدِّم للكلية، فدا بحدِّ ذاته كويس، إنَّما شمس أهلها كلُّهم حبيبي فهمت؟
طيب مايحاول يا ماما مع شمس، زي ماكان هيعمل مع ضي؟
ابتسمت بحنانٍ وهي تهزُّ رأسها، تربت على كفِّه قائلةً برفق:
_حاضر، هكلِّمه..بس خلِّيك متأكد يا حمزة، شمس مع شغلك صعب زي ماقولتلك قبل كده، شمس غير ضي.. رؤى خالتها لسه عايشة ومحبوسة، وطارق غير اللي مات في السجن..إنَّما ضي، كان مجرد عمِّ أبوها ومات، يعني الماضي خلص.
تنهَّدت قليلًا ثم تابعت:
وبابا كان شايف ثغرة إنِّ أرسلان مش متربِّي معاهم، وده اللي كان هيخلِّيه يقدِّم كلِّ الإثباتات عشان يسهِّل الأمور…
قاطعها رنين الهاتف فجأة، فتوقَّفت ونظرت للشاشة:
هرد على تليفوني يا حبيبي.
أومأ بصمتٍ وهو يشيِّعها بنظرةٍ شاردة، ثم انخفض بوجهه يتمتم بحزنٍ مكتوم:
_يارب..لو فيها خير، اجمعني بيها.
سحب هاتفه ببطء، تطلَّع إلى اسمها المحفوظ تحت مسمى “الحياة”، ابتسم بحنينٍ واشتياق موجع، ثم تردَّد للحظة قبل أن يضغط زرَّ الاتصال.
عند شمس..كانت مندمجة في مذاكرتها، دوى رنين الهاتف،
نظرت للشاشة، عبست، ثم تمتمت:
-السلام عليكم؟
صمتٌ جعل قلبها يضطرب دون سبب، وكأنَّ صدى أنفاسه وصل قبل صوته.
-مين معايا؟
لم يرد…
تكرَّرت النغمة، فرفعت الهاتف ثانيةً بنفاد صبر:
_مين معايا؟
وأخيرًا جاء صوته، دافئًا، خافتًا، كأنَّه سرٌّ خرج رغمًا عنه:
_أنا…يا شمس.
تجمَّدت ملامحها، وعبست، وقالت بحدَّة:
_إنتَ مين؟
ابتسم على الطرف الآخر، ابتسامةٌ شفت جرحٍ لا يُشفى، وردَّ بصوتٍ يخفي وجعه تحت نبرة مزاح:
-زوج المستقبل.
قالها ثم أغلق المكالمة، وأسند ظهره إلى المقعد، يتراجع بجسده وزفرةٍ حارقة تخترق صدره، يدفع خصلات شعره للخلف بعصبية، يتأمل الفراغ أمامه وكأنَّها تقف فيه…
مظهرها الطفولي يراوده، وابتسامتها تومض بين عينيه كذكرى عصيَّة على النسيان.
نظرت إلى الهاتف المغلق، رفعته تبحث عن الرقم، وخطر على ذهنها اسمه:
_مين حمزة، معقول يكون هو؟! أيوة صوته..تأفَّفت تجمع خصلاتها التي تناثرت بعشوائية، لحظات ودلفت ضي
رفعت عيناها إليها..هبَّت من مكانها بعدما وجدت عيناها المتورِّمة، يبدو أنَّها كانت تبكي:
_ضي مالك حبيبتي، بتعيطي ليه؟!
أشارت إلى الفراش وقالت:
_عايزة أنام، نمت في أوضة باباكي، محستش بنفسي.
ساعدتها بنومها وجلست بجوارها تمسِّد على خصلاتها:
_إيه اللي حصل كنتي بتعيَّطي؟
هزَّت رأسها بالنفي وهمست بتقطُّع:
_عايزة أنام يا شمس لو سمحتي.
قاطعهم طرق على باب الغرفة يتابعه صوت أرسلان..أمسكت يدها وقالت بهمس:
_مش عايزة بابا يشوفني كدا، اطلعي قولي له نايمة.
أومأت ونهضت متَّجهة تفتح الباب وابتسامتها البريئة تزيِّن وجهها:
_اتفضل حضرتك يا عمُّو.
_مساء الورد على حبيبة عمُّو، عاملة إيه يا روحي؟
قالها أرسلان وهو يداعب خصلاتها.
احتضنت ذراعه وقالت بمرح:
_كويسة الحمدلله بس ناقصني حكاوي حضرتك، بقالنا زمان ماحكناش حدوتة.
قهقه عليها يسحب رأسها لأحضانه وهتف:
_قريب إن شاءالله، خلَّصي امتحانات والإجازة جاية أكيد هنقعد مع بعض..
ضي صاحية ولَّا نايمة؟
_لأ، نامت من شوية..لو محتاجها ضروري أصحِّيها.
_لأ حبيبتي..كنت عايز أطَّمن عليها بس، من وقت ماجينا هنا مشفتهاش.
ابتسمت بحنان وقالت:
_هنا بردو بيتها، يعني هتكون كويسة، طنط غرام جت قعدت معانا شوية بعد ماوصلنا، وبعدها هيَّ خرجت مع مامي وأنا نمت.
_تمام حبيبتي..تصبحي على خير.
قالها أرسلان وهبط للأسفل، بصعود إسلام:
_ابنك عامل إيه؟
_الحمدلله دور برد، هوَّ نايم دلوقتي، بابا صاحي ولَّا نايم؟
_لأ، صاحي والكلِّ عنده، تصبح على خير حبيبي.
_وحضرتك من أهل الخير.
صعد إسلام إلى غرفة والده، بخروج فريدة وميرال..
سحبته فريدة وهي تهمس:
_بابا نام حبيبي..ابنك عامل إيه؟
_كويس يا ماما، ملك تحت، نام وقولت لها تخلِّيها جنبه.
ربتت على كتفه وقالت:
_طيب انزل خلِّيك مع ابنك، بابا نام، وإلياس هيبات جنبه الليلة رفض ممرضة تكون معاه وأنتوا موجودين.
أومأ لها بإرهاق وقال:
_هبص عليه وهنزل، أنا فعلاً هلكان، هنام ساعتين وأطلع علشان الياس يرتاح.
قاطعته بعاطفة أموميَّة قائلة:
_لا حبيبي..خلِّيك جنب ابنك، وكلِّنا هنا حواليه، متخلِّيش مراتك لوحدها، السنِّ دا بقى مقرف، ومتنساش إنَّها حامل، وأنا الصبح هاخده منها.
قبَّل يدها وجبينها قائلًا:
_ربِّنا يخلِّيكي لينا ياستِّ الكل، حاضر هشوف بابا وأطَّمن عليه، وهنزل علشان غادة كمان تحت مع ملك، عايزة تطلع لبابا.
أومأت له فتحرَّك بينما ظلَّت عيناها تتابعه إلى أن أغلق الباب:
_ماما هتفضلي صاحية؟ ارتاحي حبيبتي شوية، وزي ماقولتي إلياس هيطلع.
صمتت تنظر إلى ميرال بعيونٍ حزينة تهمس بخفوتٍ قاطع:
_خايفة أخسره يا ميرال، متعرفيش مصطفى بالنسبالي إيه، الأيام الحلوة كلَّها لفريدة كانت في حضنه.
ضمَّتها ميرال وربتت على ظهرها:
_حبيبتي إن شاءلله يخف، يوسف بيقول عمليات النقل دي بقت سهلة، وإن شاءلله العملية تنجح ويرجع لنا.
-إن شاء الله حبيبتي..تذكَّرت يوسف فقالت:
_يوسف رافض يعمل الفرح ليه يا ميرال؟
تنهَّدت بتألُّم وقصَّت لها كيف تمَّ عقد قرانه على ابنة عمِّه..تطلَّعت إليها بذهول:
_بتجوزوا الولد غصب عنُّه، إلياس اتجنِّن يا بنتي!
هزَّت رأسها بالنفي وقالت:
_ يوسف كان عايز يهاجر يا ماما، وميرجعش أبدًا هنا، كان لازم إلياس يعمل حاجة يربطه بيها.
_يعني إيه يهاجر دي، هوَّ اتجنِّن الواد دا ولَّا إيه؟..قالتها وتحرَّكت إلى غرفته، حاولت ميرال منعها، ولكنَّها شعرت بنيرانٍ تغلي بصدر ابنها، دقيقة واحدة إلى أن اقتحمت غرفته دون استئذان..
نهض من نومه:
_فيه إيه؟!
-قوم لي كدا يا عريس.
اعتدل بفمٍ مزموم:
_آااه عريس، مادام فيه عريس لازم أصحصح، إيه جايبين العروسة تبات في حضني.
لكزته فريدة تضحك:
_أومال ليه بيقولوا إنَّك مغصوب يابنِ إلياس؟
_كذابين ماتصدِّقهمش يا تيتا، دول أعداء النجاح..وقعت عيناه على ميرال المتوقفة على باب الغرفة، أشار إليها:
_ادخلي يا أمِّ العريس ولَّا مكسوفة؟ هوَّ أنتوا خلاص أخلاقكم ضاعت في زمن الفتن.
توسَّعت أعين فريدة تلكمه بقوَّة حتى سقط على الفراش يضحك:
_والله ظلماني يا تيتا أنا قصدي جدُّو مصطفى تعبان وعايزني أتجوز، طيب ينفع، افرضي يعني جيت يوم الفرح وجدُّو وحشني وعايز أبات في حضنه، يرضيكم أزعَّل العروسة؟
قهقهت فريدة على كلماته:
_حبيبي إنتَ صحيح رافض بنت عمَّك؟
هزَّ رأسه سريعًا واعتدل بجلوسه، رفع عيناه إلى والدته التي مازالت بمكانها بملامح حزينة:
_مين قال إنِّي رافض بنت عمِّي، بالعكس يا تيتا، مش هلاقي أحسن منها، بس أنا كنت رافض الجواز في الظروف دي.
_حبيبي إنتَ حقيقي عايز تسافر، نهون عليك يا بني؟
مسح على وجهه بعنف وتراجع بجسده على الفراش:
_ممكن تسيبوني آخد قرار بنفسي، بلاش تضغطوا عليَّا، أنا لسة قايل الكلام دا لبابا...
_طيب حبيبي مش المفروض دا يكون قبل ماتكتبوا كتابكم؟
رفع عيناه لوالدته وردَّ بهدوء:
_خلاص يا تيتا، نطَّمن على جدُّو وبعد كدا نشوف إيه اللي حيحصل.
_يعني إيه يا يوسف؟
_تيتا عايز أنام، عندي شغل بكرة كتير، وكمان مناقشة الدكتوراه، كلُّه فوق دماغي وجاي تسألوني في إيه.
خرجت ميرال بعدما وجدت إصراره بالرفض في موضوع الزواج..بينما ظلَّت فريدة معه بعض الوقت.
بغرفة غادة..
دلفت إلى غرفتها بعد أن اطمأنَّت على أطفالها، أغلقت الباب خلفها، وأسندت ظهرها إليه، أطبقت جفنيها وأنفاسها تتلاحق كأنَّها تُكابر حتى لا تنهار بالبكاء، ولكن عظُم الألم بداخلها، وانسابت دموعها خافتة..
ساعات وهي تتجلَّد بعدم البكاء أمام إخوتها، تخفي رجفتها وتكتم ضعفها حتى لا تُرى مكسورة.
اعتدلت تسحب قدميها بخطواتٍ مثقلة، إلى أن بلغت الفراش، هوت عليه تُخفي وجهها بين الوسائد، تخنق شهقاتها كي لا يسمعها أحد.
فمنذ وصولها لم يهاتفها..يومان من الجفاء كعُمرٍ كامل، علاقتُهما صارت كخيطٍ واهٍ يتآكل بصمت، حتى حين علم بمرض والدها لم يأتِ، أرسلها بالسائق وكأنَّها غريبةٌ عنه، لا زوجة ولا أمِّ أبنائه..
سحبت الغطاء وذهبت بنومٍ عميق، حتى أنَّها لم تستمع إلى رنين هاتفها، ولا شعرت بدخول فريدة تطمئن عليها.
صباح اليوم التالي..
صعد إلى غرفة جدِّه، وجده مستيقظًا بجواره فريدة، ابتسم إليه وأشار بالدخول:
_صباح الخير يا حبيبي.
انحنى وطبع قبلةً فوق رأسه:
_صباح الخير يا جدُّو، عامل إيه النهاردة؟
_الحمدلله..أنا هحضر رسالتك النهاردة.
طالعه بذهولٍ موجوع:
_حضرتك تعبان، أكيد بابا هيصوَّرها لايف لحضرتك.
هزَّ مصطفى رأسه وقال بإصرار:
_قولت هحضر، أنا كويس النهاردة الحمد لله، لو مبقتش كويس النهاردة هبقى إمتى.
_حبيبي اسمع منِّي علشان ماتتعبش أرجوك..
قاطعهم دخول إلياس، يلقي تحية الصباح، ثم اقترب منهما:
_جاهز يا يوسف؟
_إن شاءلله يا بابا.
نظر إلى مصطفى ورسم ابتسامة:
_هصورلك كلِّ حاجة، المهم تكون مرتاح..تمتم بها إلياس بينما انحنى يوسف ينظر إلى ملامح جدِّه المرهقة وقال:
_ادعيلي يا جدُّو، النهاردة أهمِّ يوم في حياتي.
ربت مصطفى على ذراعه:
_واثق فيك يا حبيبي، إن شاءلله هترجع وإنتَ سعيد بنجاحك.
التفت إلى فريدة التي ابتسمت قائلة:
_صلِّيت لك طول الليل ودعت لك، إن شاءلله ترجع سعيد يا حبيبي.
_إن شاء الله يا تيتا..بعد إذنكم، ببلاوي تحت ونفخني اتِّصالات.
خرج متَّجهًا إلى الخارج مع خروج شمس من غرفتها:
_أحلى دكتور هيْنَوَّر قاعات مصر كلَّها.
ضحك يوسف بخفوت وهو يضمُّها بحنان، بينما عينيه تتسلَّلان نحو غرفةٍ بعينها..وقال:
_قاعات مصر ليه، هوَّ أنا هشتغل مهرِّج يا بت؟
_يوووه، هيرجع يقول يا بت تاني.
ضربت الأرض بقدمها في دلالٍ طفولي، فابتسم نصف ابتسامة قبل أن يسأل:
_ضي فين؟
_نايمة من إمبارح، معرفش جت معيَّطة ليه.
ربت على ذراعها وهو يشعر بانقباضٍ في صدره:
_طيب هشوفها..استنِّيني تحت.
قالها ودلف إلى الغرفة.
كانت تغطُّ في نومٍ مضطرب، أشبه بغيبوبةٍ من التعب والبكاء.
جلس على طرف الفراش، مدَّ يده يرفع خصلاتها عن وجهها الشاحب:
_ضي…
تمتم باسمها مرَّاتٍ الى أن فتحت عينيها التي لم تجف من البكاء، رمقته بتوترٍ واعتدلت سريعًا، تشدُّ الغطاء على جسدها:
_دخلت هنا إزاي؟
صمت، يراقبها بعينٍ أنهكها السهر فهتف بمرارة:
_دي صباح الخير بتاعتك؟
مدَّت يدها تسحب الدبلة من فوق الكومودينو، ثم فتحت كفِّه، وضعت الدبلة بداخله:
_دبلتك معاك، أنا مش مستعدِّة أعيش على قراراتك، خلاص مفيش نصيب بينَّا..
أنا مش هيِّنة علشان أستنَّى رضا الباشا..
أنا ضي الشافعي والغلط مش عندك، عندي أنا..اللي سلِّمت لك قلبي.
اقتربت منه بجسدها، ونظرت لعينيه نظرةً ممزوجةً بالخذلان والألم:
_سافر يا يوسف، ومتحاولش تراضي حد بالعافية..
لو شايف سعادتك في السفر، سافر… وامسحنا كلِّنا..
وأنا أوَّل واحدة امسحني..
أنا ماشتريش حدِّ بايعني.
رفع كفَّيه برفق، مرَّرهما على خصلاتها كأنَّه يحاول تهدئة وجعها منه وتمتم:
_سمعتي كلامي أنا وبابا صح، عشان كده نايمة معيَّطة؟
ارتعشت شفتاها، وتجمَّعت الدموع بعينيها، ثم أشارت نحو الباب:
_عايزة أنام، اطلع برَّة..
أنا قلت اللي عندي، ومتعملش زي ماعمّي طلب منَّك، أنا مسامحاك.
نهض ببطء، وضع الدبلة بمكانها من جديد، وهمس بصوتٍ واهن:
_معرفش فاكرة ولَّا لأ..بس النهاردة مناقشة رسالة الدكتوراه بتاعتي..
هديِّتك وصلت.
رفعت رأسها إليه بنظرةٍ قاتلةٍ وهمست:
_زي هديِّتك ماوصلت بعد ماكنت في حضنك..بعد ماأمِّنتلك يا ابن عمِّي.
تهاوت الدموع على وجنتيها، ثم استدارت، تجذب الغطاء عليها تبكي بصمتٍ خانق.
ظلَّ واقفًا للحظاتٍ يتأمَّلها، كلُّ مافيه يريد أن يقترب..لكنَّه اختار الصمت.
انحنى وطبع قبلةً على رأسها، وهمس بجوار أذنها بصوتٍ مبحوحٍ متكسِّر:
_والله حبِّيتك أوي.
قالها ثم غادر الغرفة…
بينما هي انهارت بالبكاء حتى اختنق صوتها، كان يستمع إلى بكائها، وقلبه يُكوى بجمرات النبض داخله، ركض بخطواته الواسعة، علَّ صوت بكائها ينقطع، ولكن كيف بكاء الحبيب تصمته الأذن والقلب يصرخ به.
مرّّت ساعات إلى أن وقف أمام أساتذة مناقشة رسالته، ينهي كلماته عن أبحاثه في مجال القلب:
“السادة الأساتذة أعضاء لجنة المناقشة الكرام…
أتمنى ان يشهد هذا اليوم بتتويج رحلةٍ امتدَّت لسنواتٍ من البحث والتأمُّل في أقدس مافي الإنسان ألا وهو قلبه..
فالقلب ليس مجرَّد مضخَّةٍ للدم، بل هو محراب الحياة، مركزها النابض، ومرآة مايختلج في داخلنا من خوفٍ أو حبٍّ أو رجاء.
وقد سعيتُ في هذه الرسالة إلى استكشاف العلاقة الدقيقة بين العاطفة البشرية والوظيفة القلبية، متتبِّعًا الأثر المتبادل بين الانفعال النفسي والتغيُّر الفسيولوجي، بمنهجٍ علميٍّ صارمٍ يجمع بين الدقَّة الإكلينيكيَّة والتحليل العصبي الهرموني.
وتُظهر نتائج البحث أنَّ القلب يستجيب للحالةِ الشعورية..فالحزن يُحدث اضِّطرابًا في الإيقاع الكهربائي، والخوف يُسرِّع النبض عبر تنشيط الجهاز السمبثاوي، بينما الطمأنينة تُعيد التوازن وتخفِّضُ من معدَّلات التوتُّر الهرموني.
أي أنَّ للحالة النفسية أثرًا مباشرًا على انتظام النبض، وعلى إفراز بعض الهرمونات المسؤولة عن توتُّر عضلة القلب واستقرارها.
إنَّ هذا التفاعل يُبرهن أنَّ الإنسان وحدةٌ لا تتجزَّأ، وأنَّ الطبَّ لا يكتمل إلَّا حين يُعالج الجسد والوجدان معًا.
من هنا، فإنَّ رسالتي ليست مجرَّد دراسة أكاديمية، بل هي دعوةٌ إلى طبٍّ إنسانيٍّ يرى في المريض إنسانًا قبل أن يراه حالتة.
فالطبيب الحقيقي لا يعالج الجسد فحسب، بل يُنصت إلى نبض الرُّوح قبل أن يضع سمَّاعته على الصدر.
وختامًا، أُهدي هذا الجهد المتواضع إلى كلِّ قلبٍ أرهقته المشاعر، وإلى كلِّ طبيبٍ يؤمن أنَّ شفاء المريض يبدأ من الإصغاء إلى نبضه، لا من قراءة رسمه فقط... ظل لفترة يتناقش برسالته الى ان انتهى
بعد انتهاء المناقشة..
ساد الصمتُ للحظاتٍ في القاعة، لم يُسمع فيها سوى صوت أنفاس يوسف المضطربة وهو ينظر إلى أعضاء اللجنة الذين تشاوروا فيما بينهم بصوتٍ خافت..التفت بنظراته الى والده الذي ابتسم له بفخر، يومئ برأسه، توقَّف ينتظر سماع النتيجة بيدانِ ترتجفان، رغم أنَّه اعتاد مواجهة العمليات الدقيقة في غرف الجراحة، لكن تلك اللحظة…كانت أشبه بعمليةٍ لقلبه هو.
_باسم جامعة ( ) كلية الطب..قسم أمراض القلب، قرَّرت اللجنة بالإجماع منحك درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى.
تجمَّد يوسف للحظة، لم يلتقط أنفاسه إلَّا حين سمع تصفيق القاعة يرتفع من حوله..نهض ببطء والدموع تعانق بريق عينيه، مدَّ العميد يده مصافحًا إياه:
_مبروك يا دكتور يوسف.
ابتسم وتوقَّف عن النطق للحظات إلى أن ردَّ بصوتٍ متهدِّج:
_شكرًا لحضراتكم…الشرف ليَّا قبل الدرجة.
وبين التصفيق والتهنئة، غافلته دمعة تساقطت على سترته البيضاء..دمعةُ نصرٍ، وحنين، ووجعٍ طويلٍ أخيرًا تُوِّج بالنجاح
استدار سريعًا إلى والده الذي ضمَّه بكلِّ قوَّته ونزلت دموعه بفخر:
"ألف مبروك يا حبيبي"
-الله يبارك فيك يا بابا.
ابتعد ينظر ألى أرسلان الذي تلقَّاه بين ذراعيه:
_مبروك يا دكتور.
_عمُّو حبيبي..الله يبارك فيك.
جذبه بلال بقوة:
_مبروك يا واد يادكتور..دعتلي يالا؟
ضحك وهو يضمُّه:
_إنتَ ليه بتحسِّسني كنت في أوضة ولادة؟
لكزه بلال بضحكاتٍ مرتفعة:
_فصلتني يخربيتك.
التفت يبحث عن والدته، التي خرجت من القاعة بعد إعلان منحه الدكتوراه:
_ماما فين؟..لم يتم حديثه بعدما وجد ضي تقف بجوار شمس على باب القاعة..انسحب من أمام والده وتوجَّه إلى وقوفهما، ولكنَّها كانت تحرَّكت مرتديةً نظَّارتها واتَّجهت إلى سيارتها دون أن تتحدَّث معه، قابلته شمس:
_مبروك يا جو، بقولَّك ماما كانت برَّة بتعيَّط، كنت عايزة أقولَّك تخرج لها.
أومأ لها وعيناه على سيارة ضي التي غادرت المكان..تحرَّك إلى جلوس ميرال..
حاوط جلوسها من الخلف:
_يعني بدل ماحضرتك تزغرطي تهربي برَّة كدا!!
أزالت دموعها واستدارت برأسها:
_مبروك يا حبيبي..جوَّا كان زحمة، قولت أستنَّاك هنا.
جلس بجوارها ينظر لعينيها الباكيتين مردفًا:
_ماما إنتي أحسن أم في الدنيا دي كلَّها، مش عايز أشوف نظرة الانكسار دي تاني، وبعدين يبقى عندك دكتور حلو وعريس كمان وتعيَّطي؟!
رفعت عيناها إليه سريعًا وهتفت بلهفة:
_يعني مش هتسافر وتكمِّل جوازك؟
نهض يسحب كفَّها وأشار إلى والده:
_يالَّه نرجع علشان جدُّو.
وصلت اليهم شمس تتساءل:
_ماما شوفتي ضي؟ بدوَّر عليها مش لقياها.
اتَّجهت ببصرها نحو ابنها وقالت:
_مشيت، تعبانة وقالت عايزة ترتاح.
حاوط أكتافها يقول:
_خلِّيها ترتاح.
قاطعهم وصول غادة:
_حبيب عمِّتو بقى دكتور وهيكشف على قلبي.
_حبيبتي ياعمِّتو، بلاش أكشف عليه ممكن يوقف خالص.
ضحكت تلكزه.
استدار على كلمات مالك:
_مبروك يادكتور.
_الله يبارك فيك يا حضرة الظابط.
بمنزل يزن
دلفت رحيل الى غرفة ابنتها، تبحث بين اشيائها الخاصة، فتحت احدى ادراج خزانتها، وجدت احد الهواتف، فتحته بيد مرتعشة لتجد اسم مدون عليه، برقت عيناها بذهول، وانسابت دموعها، مررت اناملها بين اشيائها، ليتوقف قلبها وهي ترفع تلك الصورة الصغيرة، تنظر اليها بذعر
_لا لا مستحيل بنتي مش كدا، قالتها ببكاء مرتفع، ليدلف اسر على صوت بكاء والدته
_ماما في ايه؟!
ألقت مابيدها في الدرج سريعًا، وقامت باغلاقه.. وحاولت النهوض، ولكن جسدها لم يساعدها لتشعر بغمامة سوداء تدور بها، وتهوى فوق الارضية يرتطم جسدها بقوة في الأرضية
بمنزل ارسلان
عادت إلى منزل والدها، بعدما اطمئنت على منحه الدكتوراه، دلفت تلقي حقيبتها وتنزع حذائها تهاتف والدتها
_ماما انا رجعت على بيتنا، هبات هنا الليلة مع بلال، فيه حاجات على اللاب عايزة اعملها
اجابتها غرام على الجهة الاخرى
_حاضر حبيبتي.. خلي بالك من نفسك
طالعتها ميرال بقلق
_فيه ايه ياغرام
_ضي بتقولي رجعت على البيت عندها حاجات على اللاب ونسيت تاخده
استمع الى حديث غرام، فاتجه إلى سيارته بعدما وصل الجميع الى فيلا السيوفي وتوجه اليها وهو يرفع هاتفه يحاول الاتصال بها..
وكأنها لي الحياة..الجزء الثاني من شظايا قلوب محترقة
السادس والعشرون 2
"بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيئًا في الارض ولا في السماء وهو السميع العليم "
في هذا اليوم... كان قلبي يعرف أنّه هناك، بين الضحكات والزغاريد، يراقبني كما كنتُ أراقبه دومًا، صامتًا، كأنّ بيننا حديثًا لا يُقال
عيناه قالتا كلّ ما خاف لسانه أن يعترف به… نظراته كانت ترتجف كلما اقتربتُ منه، وكأنّ بيننا وعدًا لم يُكتب، واعترافًا تاه بين الكبرياء والخوف.
تمنّيتُ لو أنه اقترب، همس لي بكلمةٍ واحدةٍ فقط، تبرر هذا الرجفان في صدري، كلمةٌ تُعيد للحياة معناها…
لكنّه صمت، وكأنّ الصمت صار لغته الأخيرة معي.
اولا الاهداء
إهداء....
إلى فانزي الحبيب وخاصة واتباد الغالين 🩷
شكرًا من قلبي على كل دعم وتشجيع منكم، على كل تعليق، وكل كلمة بتوصلني وتديني طاقة أكمّل.
وجودكم جنبي في كل فصل بيخلّيني أحس إن التعب ليه معنى، وإن كل حرف بكتبه بيتقري بقلب حقيقي.
أنتم السبب في إن الحلم دا يكبر يوم بعد يوم، فـ شكرًا لأنكم دايمًا السند والضهر والفرحة اللي بتكبر معايا.
ثانيا عايزة اوضح حاجة مهمة
اي معلومة طبيبة او قانونية دا اجتهاد مني، ببحث في جوجل، بقعد بالساعات علشان اوصل لحاجة تخص الرواية، يعني مرافعة راكان، شوفت فوق 11 فيديو لمحامي علشان اعرف اصيغ المرافعة، كمان مرض ميرال النفسي، بحثت كتير، وكان لازم اجمع طبيب نفسي مع ادمان، علشان اعرف اطلع بثغرة اعتذار لميرال، المعلومات الطبية عن القلب والاعصاب برضو بحث، اه بالنسبة للاعصاب فدا من دكتوري المخ والاعصاب قالي المعلومات دي بسبب عصب ايدي، فاسفة لو فيه حاجة مش مظبوطة كلها اجتهادات مش من جهة مختصة
ثالثا
انا عارفة ابطال الرواية كتيرة
انا من النوع اللي بيحب تعدد الابطال، بكذا فكرة، مبحبش الاحداث تلف تلاتين فصل مثلا على بطلين، والله هيكون ملل دي حاجة
الحاجة التانية البنات اللي بتقول ليه في صراع بين الابطال دايما
طيب حبيباتي لو مفيش صراع هتحسوا بالمتعة ازاي، مش لازم نتناول مشكلات للتوعية.. اتمنى نكون فاهمين صراع الابطال دا بيكون مشاكل بنتناولها وبنحاول نقول اراىنا فيها
رحل الليلُ بزغاريده، وبقيتُ أنا أرقصُ أمام الجميع وقلبِي يودّعه في صمتٍ موجع.
كم كان جميلاً لو قالها... "بحبّك"، قبل أن يُقنعني الصمت بعكسها.
يا وجعي من حبٍ اختارَ الصمتَ حين كان الكلامُ خلاصًا…
أسبوعٌ آخر مرَّ، والحياة في فيلَّا السيوفي تمضي بين الحزن والعتاب، بين وجعٍ يختبئ خلف الصبر، وقلوبٍ تحاول التماسك رغم ماتسمع.
كان الطبيب قد أقرَّ بضرورة إجراء العملية خلال شهرٍ على الأكثر، قبل أن يخرج المرض عن حدود الكبد…
كلمات الطبيب أصبحت ثقيلة كأنَّها حكمٌ مؤجَّل.
_المرض لو خرج نطاق الكبد، للاسف هيكون صعب العملية
في مساءٍ هادئ، دلف يوسف إلى غرفة جدِّه مصطفى:
_عامل إيه يا جدُّو النهاردة؟
ابتسم مصطفى بخفوتٍ يشي بالإرهاق وقال:
_الحمدلله يا حبيبي، كويس إنَّك جيت، اقعد، عايز أتكلِّم معاك شوية.
اتَّجه ببصره نحو ميرال وقال بنبرةٍ حانية:
_سبيني مع حفيدي يا ميرال إنتي وغادة، روحوا ارتاحوا شوية.
غادرتا الغرفة بعد دقائق، فالتفت مصطفى نحو يوسف وأشار له أن يقترب.
جلس يوسف على طرف الفراش، وعيناه تتأملان ملامح جدِّه المتعبة:
_عامل إيه في شغلك؟
باباك قالِّي إنِّ عندك فرص حلوة، بس إنتَ لسه في مستشفى الجامعة؟
_أيوه، المستشفى اليومين دول فيها عمليات دقيقة وأنا باخد خبرة..مش عايز أستعجل.
تردَّد قليلًا ثم أضاف بصوتٍ منخفض:
_وكمان لسه ماقرَّرتش هسافر ولَّا هستقرّ هنا.
مدَّ مصطفى يديه واحتضن كفه، ربت على كفَّيه بحنانٍ أبويٍّ يقطر خوفًا:
_بلاش توجع قلب أبوك وأمَّك عليك يا حبيبي…عايز تسافر، سافر، واعمل اللي نفسك فيه..
بس فرَّحهم بيك، بلاش تحرمهم من الفرحة..
أبوك مابيشتكيش، بس أنا حاسُّه تعبان وخايف عليك..
علشان خاطر جدَّك العجوز، متوجعهمش تاني يا ابني.
ارتسمت على وجه يوسف ابتسامةٌ هادئة، لكنَّها ممزوجةٌ بشيءٍ من الحزن.
ربت على كفِّ جده وقال بلطفٍ خافت:
_حاضر يا جدُّو…نطمِّن عليك الأوَّل، وبعد كده نشوف موضوع الفرح ده.
_لا يا يوسف، عايز أحضر فرحك بنفسي.
نظر إليه بعينين دامعتين وهو يهمس:
_إنتَ دكتور وعارف…يمكن ماقومش من العملية..
بلاش تحرمني أشوفك عريس يا بني.
صمت يوسف للحظاتٍ، شعر وكأنَّ الكلمات تُثقل صدره.
خفض رأسه وقال بصوتٍ متكسِّر:
_ومنين هيجينا الفرح يا جدُّو، وحضرتك تعبان؟
ضحك مصطفى بخفَّةٍ مصطنعة وقال:
_لا يا ابني، أنا كويس..
الكيماوي بيتعب، بس من بعد آخر جرعة حسِّيت نفسي أحسن.
نهض يوسف، وقال وهو يهمُّ بالمغادرة:
_ربِّنا يشفيك يا جدُّو يا رب..
هكلِّم بابا ونشوف هنعمل إيه.
غادر الغرفة، فيما ظلَّ مصطفى ينظر خلفه، يبتسم ابتسامةً باهتةً.
نزل يبحث عنها بعد غياب اسبوع لم يرَ فيها وجهها.
قابلته غادة تلاعب أطفالها، فابتسم رغم تعبه وسألها:
_عمِّتو، شوفتي ماما؟
_آه حبيبي، في الجنينة ورا مع البنات.
تحرَّك بخطواتٍ متردِّدة نحوهم..وجد شمس تجلس على طاولةٍ دائريةٍ تتصفَّح بعض الأوراق، تردِّدُ كلماتٍ بلغاتٍ مختلفة، بينما كانت ضي تستلقي برأسها على ساقَي والدته، تهمس لها بشيءٍ يجعل ميرال تضحك بخفَّةٍ ناعمة.
مرَّ بجانب شمس دون أن يلتفت، واتَّجه مباشرةً نحو والدته:
_ماما.
اعتدلت ضي سريعًا، ترفع حجابها فوق خصلاتها المبعثرة، لتلتقي نظراته العتابية قبل أن يجلس بينهما:
_إزيك يا ضي؟
_الحمد لله..أنا هطلع بقى يا طنط، الجوّ شكله هيمطَّر..عايزة أكلِّم بابا علشان هرجع البيت، بلال لوحده.
وقعت عين ميرال على أصابعها الخالية، فهتفت بدهشةٍ:
_ضي، فين دبلتك حبيبتي؟
فتحت فمها لترد، لكن يوسف سبقها وهو يخرج شيئًا من جيبه بابتسامةٍ خفيفة:
_كانت بتقع منها، أخدتها أضيَّقها، المرَّة دي مظبوطة..ومستحيل تقع.
توقَّف لحظة، ونظر لعينيها ثم أضاف وهو يرفع حاجبه بخفَّةٍ مصطنعة:
_ويمكن أحسن نحطَّها في الإيد التانية، مش كده يا ماما؟
ابتسمت ميرال وقالت بلطفٍ محب:
_يا ريت يا حبيبي.
نزعت ضي كفَّها من بين يديه برفقٍ وقالت بصوتٍ خافت لكنَّه حاد:
_مش واثقة فيها..الألماس بيبرق بس بيوجع أوي.
قالتها ومضت بخطواتٍ سريعة، وتركته يلاحقها بعينيه حتى تلاشت.
أمسكت ميرال بذراعه برفق:
_يوسف، أنتوا زعلانين؟
هزَّ رأسه نافيًا، يخفي وراء ابتسامته خيبةً مريرة:
_متشغليش بالك يا ماما، شدّ بسيط… عندي شغل وهتأخَّر، خلِّي بابا يكلِّم عمُّو أرسلان يشوف موضوع الفرح، جدُّو مصرّ عليه قبل العملية.
هبَّت ميرال من مكانها بعينين تتلألآن فرحًا:
_يعني هتتجوز؟
ضحك يوسف بخفَّةٍ مصطنعة وقال:
_هتجوز، أومال البِت اللي كانت هنا دي إيه؟
ضحكت ميرال تلاعبه، مازحها قبل أن يسحبها إلى صدره:
_عايزك تفضلي تضحكي على طول… بزعل لمَّا بشوفك حزينة.
رفعت عيناها إليه بحنانٍ عميق:
_أوعى تكون ناوي تتجوز علشان تسعدنا؟
التفت إليها يوسف، يبتسم ابتسامةً باهتة وهو يقول:
_إيه يا ميرال…عارف عنِّك إنِّك ذكية.
توسَّعت عيناها بعتابٍ حنون، وقالت بصوتٍ متهدِّج:
_بتشتم أمَّك يا يوسف؟
ضحك بخفَّة، واقترب منها يقبِّل رأسها بحنان مفعم بالحب:
_لا طبعًا يا حبيبتي..بس حضرتك بتقولي تتجوز، وأنا متجوز يا ماما.
ثم تنهد وأكمل بهدوءٍ مثقلٍ بالمعنى:
_متخافيش ولا تزعلي من موضوع ضي، هيَّ كويسة وأنا بحبَّها..على الأقل هيَّ الوحيدة اللي بتتحمِّلني.
تألَّقت ابتسامة راضية على وجهها:
_حبيبي فرَّحتني…يعني مقتنع بيها؟
أومأ برأسه، لكنَّه أدار وجهه بعيدًا كأنّّه يهرب من نظرتها:
_للأسف يا ماما…حبِّيتها، ومبقاش ينفع أرجع ورا.
لمست يده بحنانٍ دافئ وقالت:
_ربِّنا يسعدك يا حبيبي.
_يارب..بس متنسيش، خلِّي بابا يكلِّم عمُّو أرسلان يشوف موضوع الفرح.
تردَّد قليلًا، ثم أضاف بنبرةٍ خافتةٍ فيها ندمٌ دفين:
_ومتخليهاش ترجع بيتهم…بالليل هرجع وأصالحها.
نظرت إليه ميرال بعطفٍ أموميٍّ يقطر حنانًا:
_إنتَ مزعَّلها قوي؟
أطرق برأسه، وارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ موجوعة:
_للأسف وجعتها…بس هوَّ الحبِّ إيه غير وجع يا ماما؟
_بعد الشرِّ عليك من الوجع يا حبيبي.
رفع عينيه إليها مبتسمًا، ابتسامةً حزينةً تشي بما يخفيه صدره من نزفٍ مكتوم:
_للأسف يا ستِّ الكلّ..اتوجعت، واللي حصل حصل.
تنفَّس بعمق وهو يتمتم قبل أن يدير ظهره ويرحل:
_مش بقولِّك..الحبِّ وجع.
ابتسمت ميرال بحنانٍ تراقب تحرُّكه، ثم اتَّجهت إلى غرفة ضي.
باليوم التالي
_خرجت من كليَّتها تتحدَّث بهاتفها مع ابنة عمِّها:
_كنت في المحاضرة يا قلبي، ولسه خارجة دلوقتي.
توقَّفت فجأة، اتَّسعت عيناها بدهشة:
_قولي والله، يعني إنتي مع يوسف دلوقتي، آه يا ندلة! بعتيني وروحتي من غيري؟
ردَّت قائلة:
_يا بنتي لمَّا تيجي هتفهمي، بقولِّك ارجعي على الفيلَّا.
تمام، قولي له مخصماه.
_عندك حق كلِّنا مش إنتي بس.
قالتها وهي تنظر إلى غادة التي تبتسم عليهما..
ضحكت على كلمات ابنة عمِّها، ثم أغلقت شمس الهاتف وهي تهزُّ رأسها بسخريَّةٍ خفيفة..ثم تحرَّكت بخطواتها نحو سيارتها، لكنَّها تجمَّدت في مكانها حين وجدته متَّكئًا على مقدِّمة سيارتها، نظارته الشمسية فوق خصلاته، ونظراته تتوه فيها بعشقٍ صريح:
_أهلًا كابتن حمزة، هوَّ حضرتك بتعمل إيه هنا؟
حمحم بخفَّة واقترب منها مشيرًا إلى سيارته المركونة على الجانب الآخر:
_كاوتش عربيتي فرقع، فقولت تاخديني في طريقك، ممكن؟
رفعت حاجبيها بدهشةٍ ساخرة:
_لا والله..وكاوتش عربيتك طول الطريق كان سليم، جِه يفرقع عند كليِّتنا بالذات؟
ابتسم بمكر:
_أهو من كتر مادمِّي اتحرق.
كتمت ضحكتها بصعوبة وأبعدت نظراتها عنه محاولةً التماسك:
_وبعدين بقى معاك يا كابتن، مبحبش أسلوب قطَّاع الطرق دا..
ضحك بخفَّة:
_ده مسلسل تحفة على فكرة، هتلاقي كلِّ الحبايب فيه.
رمقته بفضول:
_هوَّ إيه دا بقى؟
اقترب أكثر، يتأمَّل عينيها ولون عسلها المائل إلى القهوة بشغفٍ ظاهر، ثم قال بصوتٍ منخفض:
_المسلسل...
لكن انقطع صوته فجأةً حين دوى صوتٌ مألوفٌ خلفهما، جعلها تلتفت بفزع، وملامحها تتبدَّل تمامًا..
_عمُّو إسحاق!
ابتسم إسحاق مقتربًا منهما وأشار إليها بالتقدُّم:
_إزيك يا عمُّو؟
_الحمد لله.
_حظِّي حلو شوفتك، أصلي جاي أنا وحمزة نقابل عمران..هوَّ هنا برضو، بس سياسة واقتصاد.
هزَّت رأسها بتوتر ثم قالت بنبرةٍ مهذَّبة:
_طيب بعد إذنكم، علشان اتأخَّرت.
قالتها وتحرَّكت سريعًا بينما اقترب إسحاق منه:
_إنتَ اتجنِّنت؟! مش كفاية إنَّك ماشي تراقبها، يابني أبوها لو عرف هيبقى شكلنا وحش.
ارتدى نظارته وتحرَّك قائلًا:
_اتصرَّف، أنا مش هفضل ساكت كتير، بحاول أصبر لحدِّ ماأشوفك هتعمل إيه.
بسيارة يوسف..
كان متَّجهًا مع فريدة وغادة وضي إلى المشفى لوجودهم مع مصطفى الذي يقوم بفحصه الكامل تحت إشرافٍ طبيٍّ ألماني.
ترجَّلت فريدة أوَّلًا..ولحقتها غادة بينما اتَّجه بنظره إلى ضي:
_هنطمِّن على جدُّو ونخرج، عايز أتكلِّم معاكي.
ترجَّلت من السيارة:
_مفيش بينَّا كلام، ومش معنى إنَّك أجبرتني بطريقة شيك قدَّام مامتك ألبس الدبلة يبقى بتحطِّني تحت الأمر الواقع، أنا قولت لك سافر، ومحدش هيسألك على حاجة، وهتكلِّم مع بابا وعمُّو النهاردة.
سحب ذراعها وتمتم:
_عارفة لو فتحتي بوقِّك بكلمة هعمل فيكي إيه؟
أغلقت الباب بعنف وهدرت به:
_ولا تقدر تعمل حاجة، لأنَّك خلاص مالكش حكم عليَّا.
_والله ياضي، خلاص حكمتي وأصدرتي حكمك..تمام اطلعي ياله.
استدارت وتحرَّكت سريعًا من أمامه.
يومان آخران والعلاقة وصلت الى أقصى مراحل التوتُّر، ليتجنب الاختلاط بها
ذات يومًا عصرًا، كانت تجلس تشاهد صورهما مع بعضهما، طرقت الخادمة ودلفت تحمل باقة من الزهور الحمراء
_استاذة ضي، البيه باعت لك دا
اومأت تتلاقاه منها، نظرت اليه فرقعت البطاقة التي عليه
_معرفش هترميه ولا لا، شايف مصر كلها شايلة منه، بيقولو عيد الحب
_كل سنة وانتي حبيبتي
ارتفعت دقاتها بعنفوان، حتى تمنت ان يكون امامها، نظرت بساعة يدها، تحسب عدد الساعات لرجوعه و قرَّرت الحديث معه.
اتى المساء ملبَّدٍ بالغيوم، وقفت تنتظره في الشرفة.
عيناها تتنقلان بين الطريق والساعة كلِّ بضع دقائق؛ فلقد تجاوز الوقت الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل.
_شكله مش جاي، ضغطت على شفتيها
_لو مجاش هروح له..
لم تمضِ دقائق حتى لمحت أضواء سيارته تخترق البوابة.
ظلَّت تراقبه حتى توقَّف أمام الباب، يترجَّل بخطواتٍ متثاقلة،
وجهه شاحبًا من الإرهاق، كأنَّ النوم يهرب منه منذ أيام.
دلف إلى الداخل، فوجد إسلام مازال مستيقظًا، يعمل أمام حاسوبه:
_مساء الخير يا عمُّو..بتعمل إيه متأخَّر كدا؟
رفع إسلام رأسه بابتسامةٍ باهتةٍ وهو يمسِّد عنقه المتصلِّبة:
_مساء الخير حبيبي شوية شغل كده وهطلع أنام، عندي محاضرة الصبح محتاج حاجة؟
_لا يا حبيبي، روح ارتاح، الكلِّ نام ولَّا إيه؟
_آه، مفيش غير باباك فوق عند جدَّك..وعمَّك إسحاق اتَّصل بعمَّك أرسلان وراح له.
_تمام، تصبح على خير.
_وإنتَ من أهله.
بقي يوسف مكانه بعد أن صعد اسلام، أسند رأسه إلى ظهر المقعد
وغلبه النوم.
في الأعلى، كانت ماتزال تنتظره.
نظرت إلى الساعة للمرَّة الأخيرة، ثم إلى شمس الغارقة في نومها.
سحبت وشاحها حول كتفيها، وسارت بخفوتٍ حتى لا توقظ أحدًا.
نزلت إلى الطابق السفلي،
وجدته غافيًا فوق الأريكة.
اقتربت منه ببطء، تنظر إلى وجهه المنهك.
أحزنها منظره، كالذي يخفي وجعه تحت قناع الابتسامة.
انحنت تنزع حذاءه برفق، وعدَّلت رأسه كي لا يتألَّم عنقه.
فتح عينيه بتثاقلٍ يظنُّها والده، لكنَّه وجدها، من أرهقت قلبه عشقًا وندمًا.
جلست على طرف الأريكة وهمست:
_اعدل راسك علشان متتعبش..نايم هنا ليه؟
حاول بقاء عيناه مفتوحتان، ولكن غلبه النعاس مجدَّدًا.
مدَّت يدها تتحسَّس خصلاته، تلامس جبينه؛ ثم مرَّت بأناملها على ملامحه الشاحبة تتنهَّد وانحنت تطبع قبلةً على وجنته.
فاجأها أن قبض على كفِّها برفقٍ،
ثم مدَّ ذراعه في غفوةٍ حانيةٍ دون أن يفتح عينيه.
ابتسمت، ثم نزعت وشاحها بهدوء،
وتسلَّلت لتستقرَّ بجواره،
تبحث عن دفءٍ يُطفئ برد الروح.
ضمَّها لا شعوريًا يحتويها بين ذراعيه.
دفنت وجهها في عنقه وهمست بخفوتٍ مرتجف:
_آسفة..ماتزعلش منِّي.
لم يردّ في البداية، ثم خرج صوته الخافت:
_لو زعلان..ماكنتيش زمانك في حضني.
ابتسمت وسط دموعها وقالت:
_بس أنا زعلانة منَّك أوي.
ضمَّها أكثر، حتى شعرت كأنَّ ضلوعها تذوب في صدره.
اقترب حتى لامس جبينها وقال بصوتٍ مبحوحٍ صادق:
_أنا بحبِّك..ومش قادر أعيش من غيرك..
_عايزة إيه أكتر من كده؟
رفعت رأسها قليلًا، عيناها تلمعان تحت ضوء الليل:
هل اعترف..أم خُيِّل لها؟..كرَّر حديثه مرَّةً أخرى وهو يداعب خصلاتها بأنامله:
_معرفش إيه اللي حصل بينَّا، بس اللي أعرفه إنِّك بقيتي مهمَّة أوي.
_أومال ليه قلت لعمُّو إنَّك مش عايز فرح؟
مسَّد على خصلاتها:
_دا اللي كنت عايز أقوله لك يوم المستشفى..
_طيب قول أنا سمعاك، بلاش قلبي يوجعني.
تنهَّد ثم قال:
_حبيبتي، ممكن نتكلِّم الصبح؟ مش قادر دلوقتي، عايز أقولِّك على موضوع مهم.
رفعت عينيها إليه، وقالت بصوتٍ متهدِّجٍ ممزوج بالوجع :
_مرَّتين النهاردة تقولِّي حبيبتي..أنا مش عارفة إنتَ عايز إيه يا يوسف.
أدار وجهه عنها يغالب الإرهاق:
_عايز أنام..وبس.
ثم أضاف بنبرةٍ منخفضةٍ وهو يغمض عينيه:
_علشان لو صحصحت، صدَّقيني هزعَّلك.
ابتسمت رغم وجعها على كلماته، وظلَّت تداعب خصلاته برفقٍ حتى أغرقها النوم إلى جواره.
مرّت فترةٌ من السكون، لا يُسمع فيها إلَّا أنفاسهما المتناغمة..
حتى دلف أرسلان من الخارج،
فتجمَّدت عيناه على المشهد..
ابنته بين أحضان ابن عمِّها، في سكونٍ يثير الغضب قبل الدهشة.
ارتفع صدره بانفعالٍ مكتوم، ثم رفع هاتفه واتَّصل:
_انزل تحت دلوقتي، قبل ماأوَلّع في ابنك اللي محدش قادر عليه ده!
كان إلياس، يغلق مصحفه بعد أن أنهى وِرده بجوار نوم والده مصطفى،
رفع رأسه بهدوء وقال:
_فيه إيه يا أرسلان؟
_انزل وإنتَ تعرف.
بعد لحظات كان إلياس يقف بجواره،
نظر أمامه فشاهد يوسف نائمًا، يحتضن ضي الغافية بين ذراعيه.
تبادل النظرات مع أرسلان، ثم قال بهدوءٍ شديدٍ يُغضب :
_عايزني أعمل إيه يعني؟
اقترب أرسلان منهما، ورفع صوته:
_إنتَ يا حضرة الدكتور المحترم!
فتح يوسف عينيه بتثاقل، رمش قليلًا حتى استوعب عمِّه ووالده..
ابتعد برفقٍ بعدما وضع رأس ضي على الوسادة وقال:
_فيه إيه؟
ابتسم إلياس لبرودِ ابنه ، ثم قال ساخرًا:
_فيه إنِّ عندك أوضة فوق يا حبيبي… عيب كده قدَّامنا... قالها الياس بغمزة
توسَّعت عينا أرسلان غضبًا، وزمجر:
_والله العظيم…
ثم اقترب من ابنته يصيح:
_ضي.
فتحَت عينيها بخضَّةٍ، تنتفض من نومها لتجد الجميع واقفين.
تسارعت أنفاسها، فاندفع يوسف واقفًا، وارظف بنبرةٌ حادَّة لكنَّها متماسكة:
_فيه إيه يا عمُّو، هوَّ حضرتك شايفنا في وضع مشين؟
نايمين في الليفينج، وبهدومنا..ليه الزعيق ده؟
صرخ أرسلان:
_إلياس، سكِّت الواد ده!
لكن إلياس ظلَّ صامتًا، يراقب.
مدَّ أرسلان يده يسحب ابنته، لكن
وقف يوسف أمامه يمدُّ ذراعه يمنعه:
_إنتَ مش شايفها كانت نايمة، هتاخدها كده إزاي؟
وبعدين أنا جوزها..واخد بال حضرتك، جوزها.
قالها بنبرةٍ حاسمةٍ، ثم انحنى يحملها بين ذراعيه وهي تهمس بخجلٍ محتجّ:
_يوسف نزِّلني!
غمز لها بخفَّةٍ رغم الموقف وقال:
_باقي عمُّو إسلام يقفشنا بس.
_يوسف، نزِّلني بقى!
ضحك إلياس أخيرًا، ضحكةً نادرة منذ خطوبة ابنه، بينما أرسلان احمرَّ وجهه من الغضب، يشير إليه صارخًا:
_شُفت الواد بيقول إيه؟ وصاح على ابنته
_ضيّ إياكي تسمعي كلامه!
اختبأت بصدر يوسف، وجهها يشتعل خجلًا.
لكنَّه أكمل طريقه بخطواتٍ ثابتةٍ نحو غرفته، وأغلق الباب بقدمه خلفه.
ألقى بها على الفراش، فنهضت قائلة بغضبٍ مكتوم:
_اتجنِّنت، إيه اللي عملته ده قدَّامهم، هيقولوا علينا إيه دلوقتي؟
اقترب منها بخطواتٍ هادئةٍ، بينما هي تتراجع بجسدها حتى التصق ظهرها بالجدار.
رفع يده، أسندها إلى الجدار خلف رأسها، ونبرته خافتة لكن حارقة:
_هيقولوا إيه؟
واحد ومراته..إحنا متجوِّزين.
شهقت وارتجفت الكلمات على شفتيها:
_يوسف، أنا مش مراتك..
متستهبلش، أنا خطيبتك، مراتك لمَّا أكون في بيتك.
اقترب أكثر، وقال بصوتٍ صار همسًا:
_وإحنا فين دلوقتي؟
تأفَّفت بضجر وقالت:
_في أوضتك.
_طيب، اعتبريها بيتي.
دفعته بشراسة وهي تشير إليه بتهديد:
_إياك تقرَّب منِّي! أنا اللي غلطانة أصلًا علشان نزلت لك.
سحبها بقوَّة حتى اصطدمت بصدره، فتأوَّهت بألم:
_آه!.بتعمل إيه يا مجنون؟
طالعها بنظرات يفترس ملامحها باشتياقٍ كأنَّه يراها بعد غياب عمرٍ كامل:
_عارفة.. هعلِّمك درس عمرك ماتنسيه تاني، علشان بعد كده لمَّا نزعل من بعض ماتتجنِّبينيش تاني..بس الدرس ده مش وقته، لأنِّك وحشتيني أوي.
رفعت نظرها إليه بعينين يملؤهما الارتباك والضعف معًا:
_أنا تعبانة منَّك ومش عارفة أعمل إيه..مش عايزة علاقتنا تبقى مرهقة، علاقة الحبيبين لو كانت مرهقة يبقى الأفضل الانسحاب.
لم يدعها تكمل حديثها، لينقضَّ على شفتيها، يعاقبها بما تفوَّهت به. لحظاتٌ كانت كالنار، يسحب أنفاسها بين خاصَّتيه، ورغم مقاومتها الخجولة إلَّا أنَّه بدا كالأسد الجريح ممَّا سمع.
ابتعد عنها أخيرًا رغمًا عنه، ومازال يحتضنها بذراعيه، كانت أنفاسها متلاحقة تحاول أن تنظِّمها، بينما ضمّّها هو إلى صدره وأغمض عينيه.
ظلَّا لدقيقتين حتى هدأ تنفُّسها، فأطبقت على جفنيها وهي بين ذراعيه تستمع إلى همسه:
_ضي..بتحبِّيني؟
خرجت من أحضانه تنظر في عينيه بعمقٍ ودفء:
_لسَّه بتسأل؟
وضع جبينه على جبينها، يمرِّر أنامله على وجهها بحنانٍ خافت:
_يعني مهما يحصل بينَّا مش هتزعلي... مش هتسبيني، وتروحي تشتكيني لعمِّي، وتطلَّقي وتبعدي؟
شعرت بخوفه يسكن نبرته، فابتسمت بحبٍّ يسكِّن وجعه:
_يوسف، أنا بحبَّك أوي..مستحيل أبعد عنَّك وعد منِّي، طول ماإنتَ بتحبِّني مستحيل أسيبك.
ساد الصمت لحظة، قبل أن يهمس كمن يحدِّث نفسه:
_هيَّ كمان كانت بتحبُّه..وسابته.
حاولت أن تشتَّت أفكاره، فاحتضنت وجهه وقبَّلته بخفَّةٍ هامسة:
_لسَّه طعمها وحش يا دكتور؟
ابتسم يداعب خصلات شعرها بأنامله:
_قلبك اسود يابت لسة فاكرة، دي اللي هزت يوسف
_يعني كانت مش وحشة
حاوطها بذراعيه ينظر لعيناها
_هقولِّك بس مش دلوقتي..يوم الفرح.
ثم أشار نحو الباب وهو يهمس مازحًا:
_يلَّا روحي أوضتك، شوية وعمِّي أرسلان هيموِّتنا.
هزَّت رأسها بخجلٍ وغادرت بهدوء، بينما بقي هو يراقبها بابتسامةٍ نصفها حب، ونصفها خوف لا يريد الاعتراف به.
مرَّت الأيام سريعًا، حتى جاء اليوم المتمِّم للحنَّة، بعد الاتفاق على إتمام الزفاف قبل عملية مصطفى، وشرط يوسف ألَّا يسافر إلَّا بعدها.
دلف إلى غرفتها يحمل فستانًا من اللون الأحمر، وضعه فوق فراشها وهو يبحث عنها، فالتقته شمس بابتسامةٍ خبيثة:
_تحت يا حبيبي، بنرسم حنَّة.
ثم اقتربت تهمس له مازحة:
_ضي عملت تاتو باسمك...
قالتها بغمزةٍ وتحرَّكت للأسفل، فتوقَّف هو مبتسمًا، قبل أن يتَّجه لغرفته مع ارتفاع رنين هاتفه:
_أيوه يا ببلاوي؟
_إيه رأيك نعمل الحفلة في بيتنا؟
_لا، خلِّيها بكرة، النهاردة مينفعش بس هرجع على البيت متأخر
_ليه بقى إن شاء الله؟
ابتسم وردّ:
_بعمل مفاجأة لأختك.
_أممم..كدا ماشي.
صمت لحظة، ثم أضاف:
_يوسف، أنا فرحان أوي علشانك..ربِّنا يسعدكم يا رب.
_عقبالك يا حبيبي.
تنهَّد، ثم أغلق الهاتف متَّجهًا إلى غرفة والده.
بعد أكثر من ساعتين ومع محاولات اتِّصالٍ منه إليها بلا رد، نزل بعدما استمع لحديث والدته:
_حفل الحنَّة هيبدأ على تسعة..الجوّ برد الليلة، مش عايزين نتأخَّر.
دخل غرفة والده بعدما علم أنَّها ستتجهَّز هناك، خرجت من الحمَّام، بعد تعطير جسدها ووضع بعض الكريمات قبل ارتداء ثيابها، استدارت تلتفت حولها ظنًّا بأنَّ شمس هي التي دخلت، ولكنَّها شهقت :
_إنتَ إزاي دخلت؟!
_برجلي..مشيت كدا وفتحت الباب المكتوب عليه: "غرفة عروستي القمر".
جزَّت على أسنانها:
_طيب اطلع برَّة، عيب يا دكتور..لو حد شافك يقول إيه؟
اقترب بخطواتٍ هادئة جعلت قلبها يعزف، وأشارت بإصبعها:
_ابعد يا يوسف…كلّ مانلتَّم على بعض بنطلع بفضيحة، شكلي بقى وحش.
_متخافيش، هردمه دلوقتي جردل ألوان وهيبقى عسل.
_هوَّ إيه ده؟
_وشِّك.
أنا بتاع جردل ألوان يا يوسف. طيِّب يلَّا اطلع برَّة يا محترم.
لم يكترث، واقترب وعيناه تتمرَّدان على جسدها وهو يتمتم:
_شموسة قالت لي رسمتي اسمي بالحنَّة…عايز أشوفه، هشوفه وأطلع… بس لو مش زي مافي خيالي…
توسَّعت عيناها بذهولٍ ونطقت:
_وقح.
تقدَّم إليها خطوةً وجذبها من خصرها:
_مين اللي وقح يا بت؟
تمتمت بنبرةٍ خجلةٍ في محاولةٍ للتهدئة:
_يوسف حبيبي، أكيد إنتَ محترم، مش وقح..هتطلع ومش هتعمل حاجة.
رفع حاجبه ساخرًا:
_أنا والاحترام في خانة واحدة؟ دا أبوكي ضحك عليكي علشان توافقي عليَّا.
صرخت:
_إنتَ عايز إيه دلوقتي؟
أشار إلى مكانٍ ما وقال بنبرةٍ مقصودة:
_أشوف رسمة الحنَّة…مش هضيَّع ليلة الدخلة أدوَّر عليها.
توسَّعت عيناها تلكزه بقوة..إلَّا أنَّه أمسك كفَّيها لخلف ظهرها واقترب يستنشق رائحتها:
_إنتي واخدة شاور بالبيرفيوم؟
ضربت أقدامها بالأرض كالطفلة:
_ابعد يا بني بقى، هصوَّت وأفضحك.
كان يتابع غضبها المحبَّب بابتسامة، سحب رأسها الى أحضانه وهمس بجوار أذنها:
_لو أعرف هحبِّك كدا، كنت اتجوِّزتك من زمان.
رفعت عيناها التي تلألأت بالدموع:
_أنا كمان بحبَّك أوي.
_طيب اثبتي.
ضيَّقت عيناها بتساؤل:
_يعني إيه؟
رفع أنامله إلى عنقها يمرِّرها إلى أن وصل إلى فتحة روبها وغمز بخبث:
_عرفت انك رسمتي تلاتة، شوفت اتنين عايز التالتة، أشوف اسمي منوَّر عليها وهبوسك وامشي
صرخت تدفعه:
_أه يا قليل الأدب قالتها تدفعه بقوَّةٍ إلى الخارج وهي تصرخ به، فتحت الباب لدفعه، لكن فجأةً توقَّفا؛ بعدما وجدا الياس يتحدَّث بالهاتف متحرِّكًا من أمام الغرفة فأشار عليها:
_هيَّ اللي اتَّصلت بيَّا.
اختبأت خلفه تضربه على ظهره:
هيَّ مين دي؟!
اقترب الياس منهما..فابتعد بظهره يخفيها خلفه:
_هوَّ أنا كلِّ شوية هقولَّك اطلع برَّة يابابا
جزَّ إلياس على أسنانه وهدر بنبرةٍ حادَّة:
_أومال لو مش مجوِّزينكم غصب عنُّكم كنتوا هتعملوا إيه؟
_كنت زمانك بتدفن أحفادك في السر.
هزَّ رأسه من وقاحة ابنه وتحرَّك قائلًا:
_امشي بدل ماأطلَّقكم يابن إلياس.
_طيب اعملها ياابويا، بس شوف مين هيربي حفيدك
توقف الياس يلتفت اليه
_جدو هيربيه
_ياحبيبي يابني، كدا عرفت مستقبلك
رمقه الياس بغضب، رغم ضحكته التي يحاول ان يمنعها
بينما لكزته ضي بجنبه
_ماتتلم يادكتور، اومال لو مش دكتور كنت عملت ايه
_يوووه كنت عملت كتير، احمدي ربنا بقى، المهم انا هروح على بيتنا، لو محتاجة مني حاجة، بما انكم هنا سيدات وانسات
ابتسمت وقالت
_هتوحشني.. اقترب منها غامزًا:
_هو لازم الفرح دا، ماتيجي نهرب
دفعته واغلقت الباب خلفها وابتسامتها تنير وجهها
عند عمران
خرج من منزله، ينظر بساعته متأففًا، ثم رفع هاتفه
_ايوة ياجيلان انتي فين
امشي قدام شوية، انا شيفاك..
تحرك الى ان وصل إلى وقوفها
_ايه فيه ايه، خضتيني، لازم نتقابل دلوقتي
اقتربت منه بدلال انثوي مدروس، حتى توقفت امامه وقالت بنبرة مغوية
_عمران أنا فكرت في موضوعنا، ولقيت حل
صمت ينتظر حديثها فقالت
_نتجوز عرفي، وبكدا نكون مع بعض على طول
_ايه نتجوز عرفي
اقتربت اكثر، واستخدمت دلالها ترفع اناملها على فتحة قميصه، تداعب عنقه
_اه المهم نكون مع بعض، مادام بابايا وباباك مش متفقين، عايز تضيع حبنا ياميرو
عند بلال:
خرج من المشفى ينظر بساعته..ارتفع رنين هاتفه:
_أيوة يا دكتور، لا أنا خرجت من المستشفى لسة ماركبتش العربية
استمع إلى الجانب الآخر فردّ:
_حاضر..خمس دقايق وأكون عند حضرتك..قالها وصعد إلى الأعلى..
دلف للداخل وجد أستاذه يقف أمام جهاز الأشعة، أشار إليه:
_تعال علشان الكلام اللي كنَّا بنقوله من شوية..
تقدَّم منه ينظر إلى تلك الصور التي تتحرَّك على الجهاز، وحديث الطبيب عن بعض الأشياء التي تخصُّ الأعصاب.
أومأ بلال يهزُّ رأسه وقال:
_أيوة كنت متأكد بعد ماشوفت الصورة، مالوش علاقة خالص بالغضروف..
خرجت المريضة من الغرفة..توقف بلال ينظر اليها بذهول يحدث نفسه
_هي نفس البنت..قاطعهم صوت حركاتها متجهة إلى المقعد، جلست تنتظر حديث الطبيب..مع نظرات بلال إلى الصور التي بين يدي أستاذه، ثم اتَّجه بنظره إليها مرة اخرى :
_هوَّ الوجع فين بالظبط؟
أجابته بنبرةٍ متألِّمة وهي تشير إلى رقبتها:
في الرقبة يا دكتور، بس مش بيخفّ، خصوصًا لمَّا أرفع راسي فجأة.
نظر بلال الى أستاذه:
الوجع ده ممكن يكون من العضلات.
صمت وانتظر، يستعلم من المريضة، استدار إليها:
_ بتحسِّي بيه مع الحركة أو بعد مجهود ذهني؟
أومأت وأجابته:
_شغلي على الكمبيوتر، وطبعًا ممكن أقعد ساعات طويلة.
مازالت نظرات بلال في الصورة التي بين يديه فقال:
كدا احتمالية يكون في شدِّ عصبي أو ضغط على أحد الأعصاب العنقية.
قطَّبت جبينها:
يعني حضرتك شايف المشكلة عصبية مش عضلية؟
أجابها بثقة:
ممكن يكون الاتنين مرتبطين، بس خلِّيني أسألك، بتحسِّي بتنميل أو وخز في الكتف أو الذراع؟
أجابته:
أيوه ساعات، خصوصًا في الإيد اليمين، كأنّ في كهربا خفيفة ماشية فيها.
نظر إلى أستاذه وقال:
_ ده مؤشر إنِّ في ضغط بسيط على جذر عصبي في الفقرات العنقية، غالبًا من وضعية جلوسها.
تسألت بقلق:
يعني دا حاجة خطيرة؟
ردَّ بهدوء:
هنعمل فحص بسيط للأعصاب والحركة، ولو لقيت إنِّ الألم ممتد أو التنميل بيزيد، ساعتها نطلب رنين مغناطيسي على الفقرات العنقية.
-طيب هوَّ ممكن أتعالج من غير عمليات وكده؟
أجابها بابتسامة:
_أكيد، تسعين في المية من الحالات دي بتتحسِّن بالعلاج التحفُّظي زي جلسات علاج طبيعي، تعديل وضع الجلوس، وتمارين للرقبة، وأحيانًا مسكِّن بسيط أو باسط عضلات..الأهم إنِّك تريَّحي أعصابك، لأن التوتر بيزوِّد الألم العصبي أكتر من أي حاجة.
ابتسمت بخجل:
واضح إنِّ أعصابي فعلًا محتاجة دكتور قبل رقبتي.
ردَّ ضاحكًا:
يبقى ابدئي، خفِّفي الضغط النفسي، وخدي بالك من وضعيِّتك، الأعصاب بتتعب من اللي بنفكَّر فيه قبل اللي بنحسِّ بيه..
أومأت بحزن:
_شكرًا، ثم رفعت عيناها الى الطبيب:
_تلميذك شكله شاطر أوي يا عمُّو.
ابتسم إليها يومئ برأسه:
_مش قولت لك متقلقيش.
قطَّب بلال حاجبيه:
_عمُّو!.هيَّ المريضة تقرب لك؟
_أيوة بنت صديق..
_تمام..طيب اللي قولته صح ولَّا فيه تعقيب لحضرتك.
_لا يادكتور، برافو عليك..قالها واتَّجه بنظراته إلى تلك التي تجلس وقال:
_وإنتي يا كارما، اعملي زي ماالدكتور قالِّك..حرق الأعصاب بيوجع جسمنا كلُّه يا بنتي.
توقَّفت تسحب حقيبتها وقالت:
_شكرًا لحضرتك يا دكتور، ممكن تكتب لي على المسكن اللي قال عليه، أوقات الألم بيكون شديد.
أشار إلى بلال الذي دوَّن اسم دواءٍ إليها، مع ذكر كيفيِّة استخدامه.
بعد دقائق خرج من المشفى متَّجهًا إلى سيارته، ولكنَّه توقَّف على صوتٍ مرتفعٍ جانب سيارته، التفت إلى الجانب الآخر، وجد تلك المريضة التي كانت قبل قليل يسحبها شخصٌ ما بعنف..في محاولةٍ الفكاك منه، اقترب دون تفكير:
_فيه حاجة أستاذة كارما؟
التفت ذاك الرجل ينظر إلى بلال، وأجابه ساخرًا:
_ودا عشقيك وجاية تقابليه هنا علشان فضايحك.
اقترب بلال كالمجنون:
_إنتَ مجنون يابني ولَّا إيه؟!.
توقَّفت كارما بينهما:
_خلاص ياأسامة بطَّل فضايح، ثم استدارت إلى بلال:
_شكرًا لحضرتك يادكتور.
سحبها ذاك الذي يُدعى أسامة بعيدًا عنه:
_إنتي بتعتذري لمين، وتعرفيه منين؟.
أثار غضب بلال فاقترب يلكمه بعنف:
_إنتَ شكلك مش محترم.
دارت معركة عنيفة بينهما مع اقتراب أمن المشفى، حتى سيطر عليهما.. أشار أسامة إلى بلال:
_أنا هعرَّفك يا حيوان إزاي تتكلِّم مع أسيادك.
سحبه أستاذه الذي كان مغادرًا هو الآخر:
_بلال ابعد عنُّه، دا إنسان مش طبيعي، وإنتَ مش قدُّه.
أعاد خصلاته للخلف وهدر بغضب:
_الحيوان بيقولَّها جاية تقابلي عشيقك، مين المتخلِّف دا؟
_جوزها.
تجمَّد بمكانه وفشل بالنطق يستدير إلى تحرُّكها وهو يسحبها بعنفٍ تجاه سيارته:
_دي متجوزة الحلوف دا؟!
تنهَّد الطبيب وتحرَّك إلى سيارته يشير إليه:
_روح يابني، وبطَّل تندفع على أي حاجة تشوفها.
بمنزل طارق..
أنهت زينتها وتحرَّكت إلى مكتبه:
_ياله ياطارق هنتأخَّر على حفلة الحنَّة، عايزة أشوفها من الأوَّل.
توقَّف يجمع أشيائه وقال:
_هوصَّلك حبيبتي..وأرجع لحدِّ ماتخلَّصوا.
_أوكيه..المهمِّ نروح الأوَّل.
فتح الباب متَّجهًا للخروج ولكنَّه توقَّف فجأة بعدما وجد تلك التي تقف أمامهما:
_إزيك يا طارق؟
_إنتي!..بتعملي إيه هنا، وجاية ليه؟
ابتعدت إلى سيارتها تفتح الباب لينزل طفلًا يبلغ من العمر سبع سنوات:
_ليك أمانة عندي.
بغرفة غادة بمنزل والدها..
انتهت من زينتها، سحبت عقدها لترتديه، ولكن فُتح الباب ودلف للداخل، التفتت تنظر للذي دلف، ولكنَّها توقَّفت ليسقط العقد من بين أناملها، ودمعةٌ شريدة عبرت وجنتيها، أزالتها سريعًا، ثم استدارت تنظر إلى المرآة تسحب حجابها بأنامل مرتعشة، اقترب وانخفض يسحب عقدها، ثم توقَّف خلفها يرفعه حول عنقها، كلِّ هذا وهي تنظر الى انعكاس صورتهما بالمرآة..
انحنى يطبع قبلةً على عنقها..لتنساب دموعها تغمض عيناها، سحبها إلى صدره:
_آسف..عارف إنِّك زعلانة وغضبانة منِّي، بس إنتي متعرفيش حاجة، وعد بعد فرح يوسف هقولِّك كلِّ حاجة، أدارها إليه واحتضن وجهها يزيل دموعها:
_وحشتيني أوي.
قالها وانحنى يحتضن ثغرها باشتياقِ عاشقٍ يصفعه القدر بكلِّ قوَّته.
في غرفة ضي..
انتهت من ارتداء فستان حنَّتها..
كان فستانًا أحمر قانيًا، بلونٍ يشبه الغروب..ضيِّقًا من الخصر، ينسدل بعده بانسيابيةٍ تُغري النظر،
نسيجه من حريرٍ ثقيلٍ يلتصق بالجسد برهافةٍ تثير الحياء..
بلا أكمامٍ، مكشوف الظهر تمامًا حتى أسفل الكتفين، تُعانق حوافِّه بشرتها كقبلةٍ حذرة..أمَّا الصدر فقَصَّته مربَّعة تُبرز عظام الترقوة كأنَّها تحفةٌ نُحتت بعناية.
تتدلَّى من خصرها شرائط خفيفة من الشيفون الشفَّاف، تتحرَّك مع كلِّ نفسٍ تأخذه، كأنَّ الفستان نفسه يتنفَّس معها..وطبقة شيفون من فوق الخصر والبطن، ليظهر خصرها النحيف برشاقة الانثى
التفتت أمام المرآة، بدا وكأنَّ اللون الأحمر استعان بأنوثتها ليصير أكثر جرأة، وأكثر حياة..
وقفت أمام المرآة تتأمَّل انعكاسها، تبتسم بخفَّةٍ لا تدري أهي رضا أم خوف إذا رآها، وقعت عيناها على الفستان الذي أحضره لها، ثم حاولت تهدئة أنفاسها:
_الحفلة كلَّها ستَّات، اهدي مش هيقول حاجة..دلفت شمس إليها.. أطلقت صفيرًا:
_أوووه..تحفة يا ضي، الفستان روعة حبيبتي.
أومأت تنظر لنفسها بدقَّاتٍ عنيفة:
_خايفة من يوسف، يقلبها غم.
اقتربت تناولها عقدها:
_لا حبيبتي..كلِّنا بنات عادي يعني، ياله علشان صحباتك جم تحت، ويوسف أصلًا هيروح على البيت، بابا أمره بكدا، قالُّه مايرجعش غير ليلة الفرح.
زمَّت شفتيها وقالت:
_يوسف..يبقى قابليني، دا عايز أي حاجة علشان يفرسني وخلاص، فستان الفرح رجَّعه أربع مَّرات.
ضحكت شمس عليهما، رفعت خصلاتها تنظر إلى جمالها:
_معذور برضو يا دودو، الصراحة أنا بنت وغيرانة عليكي.
أبعدتها بخفَّة:
_هتقولي إيه مش أخته.
وضعت مجوهراتها، ثم رفعت احمر الشفاة القاني بلون فستانها، لتزين شفتيها.. طالعتها شمس بانبهار، ثم سحبت كفَّيها وتحرَّكت للخارج..
_عايزين سيشن كثير اه، وعايزة حاجة محتشمة انزلها على الاستوري
نزلت بعض درجات السلَّم بصعوده وهو يتحدَّث بهاتفه:
_مين دا، وإزاي يمدِّ إيده عليك، إنتَ مجنون، إزاي تسمح له، إنتَ فين أصلًا؟
أجابه بلال على الجانب الآخر:
_وصلت الكمبوند خلاص، المهمّ إنتَ هتيجي إمتى؟
عشر دقايق، هجيب حاجة من أوضتي وأجي لك، البيت هنا قلب سوق البط والفراخ...والوان الهند الحمراء، عايز اصولك تيتا قلبت الفيلا، حديقة دماء
ضحك بلال متأوِّهًا:
_يخربيتك بقولَّك مضروب..
رفع عيناه على الدرج بعدما استنشق رائحتها، فتوقَّف قائلًا:
_ماشي يا ببلاوي، اتِّصل بآسر لحدِّ ماأرجع.
قالها ووصل إليهما بعدما توقَّفت تنتظر صعوده، لحظاتٌ فقط ينظر إليها، حتى شعر بتوقُّف أنفاسه من هيأتها التي خطفت قلبه..نزلت عيناه على فستانها، وكلُّ نظرةٍ كأنَّها طعنةٌ تفتِّت ضلوعه من أنوثتها التي أبرزها الفستان بشكلٍ ملفت، رغم أنَّه متَّسع وطويل، إلَّا أنَّها أنثى طاغية أظهرت مفاتنها بقوَّة لتغري أعتى الرجال. هدرت أنفاسه مقتربًا منها، مع ارتجافٍ بجسدها من نظراته الصامتة.
حمحمت شمس قائلة:
_أهلًا جو..ممكن تعدِّينا، الناس تحت وهنتأخر.
انحنى يسحب كفَّ ضي وأردف وهو ينظر لعينيها:
_ماشي حبيبتي..بس عايز ضي خمس دقايق..قالها وتحرَّك بها، توقَّفت قائلة:
_يوسف بتعمل إيه، هتأخَّر على الناس تحت.
_حبيبتي كمِّ الفستان مش مظبوط، واحد مرفوع وواحد نازل، قالها وعيناه تخترق فتحة صدرها.
تحرَّكت معه بعدما نظرت إلى شمس:
_روحي وأنا جاية وراكي.
أومأت شمس بينما تحرَّكت ضي خلفه..
دلف للغرفة ودفع الباب بقدمه بقوَّة بعد دخولها تقف أمام المرآة تتساءل:
_الفستان مظبوط، وبعدين مالوش أكمام..
دقيقة يفتح النافذة وقام بإلقاء المفتاح..
واتَّجه ينزع جاكيته ينظر إليها بصمتٍ مرعب، وكلُّ نبضةٍ من قلبه تثور بمشاعر، أقسم لو خرجت ليجعلها لقمةً سائغة، استدارت إليه بعد صمته:
_جبتني ليه؟
دار بعينيه على الغرفة إلى أن وقعت عيناه على الفستان الذي أرسله إليها، اقتربت بعد صمته:
_يوسف مابتردش عليَّا ليه؟
تأفَّفت متراجعة متَّجهةً إلى الباب وهي تقول:
_كنت عارفة، بس أنا اللي غبية وصدَّقتك، قالتها تفتح باب الغرفة، ولكنَّها وقفت تنظر إلى غلق الباب بذهول، اتَّجهت إليه:
_إنتَ قفلت الباب!! يوسف مابتردش ليه؟
ألقى حذائه بعيدًا ونصب عوده متوقِّفًا، واقترب منها، تراجعت للخلف بذعرٍ من نظراته:
_أكيد بتهزَّر، يوسف افتح الباب، الليلة حنِّتي، يرضيك تزعَّلني في أحسن ليلة.
سحبها بقوَّة من خصرها، وعيناه تخترق جسدها بوقاحة:
_هوَّ أنا مش بعت لك فستان، إيه لازمة العند، نازلة بتعرضي جسمك تحت ليه؟.
_يوسف حبيبي..علشان خاطري سيبني براحتي، دا فرحي، مش هتجوز كلِّ يوم.
-أنا لسة بكلِّمك بعقل الراجل المحترم ياضي..جبت لك فستان ليه غيَّرتيه؟
_مش عجبني.
تراجع يهزُّ رأسه:
_يبقى مفيش نزول، ومتخلنيش أحلف مفيش فرح، والله أعملها.
ثارت بغضبٍ وصاحت:
_طيب اعملها، أنا مش هحضر غير بالفستان دا، وهنزل يا يوسف وشوف هتعمل إيه.
استدار إليها سريعًا، وتحولَّت ملامحه لغضبٍ جحيمي، وكأنَّها أخرجت شياطينه، طرقٌ على الباب وصوت ميرال بالخارج:
_يوسف افتح الباب عيب كدا..ولكنَّه لم يستمع سوى لنبرة تحدِّيها وطعنه، تراجعت مع تقدُّمه، حتى هوت على الفراش:
_يوسف، طنط ميرال برَّة، افتح لها عيب كدا.
حاوط جسدها وعيناه تتنقل عليه بالكامل الى ان نزل لشفتيها التي شعر بأنها قطعة من الجنة، اغمض عيناه محاولًا السيطرة على ألا يصفعها
_يوسف افتح الباب، انا مش هغير الفستان، عايزة البس اللي يعجبني، وبعدين لسة بكرة يبقى ألبس فستانك
كان يتابع حديثها وارتجاف شفتيها، ورغم ذلك كانت تنظر اليه بتحدي، كأنه لا يعنيها، صمت وعيناه تخترقها
_رميت المفتاح تحت يا ضي، ورِّيني هتنزلي إزاي.. ومفيش لا حنة ولا فرح، ومش هتخرجي من الباب دا غير وانتي مراتي فعلًا، ويبقى اتحديني
صرخت تدفعه بغضب:
_إنتَ أكيد مجنون..صرخت باسم ميرال..فكانت آخر كلماتٍ نطقتها شفتيها.
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا
الرواية كامله الجزء الثاني من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات
إرسال تعليق