القائمة الرئيسية

الصفحات

translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل الثاني والثلاثون 32بقلم سيلا وليد حصريه

 

رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل الثاني والثلاثون 32بقلم سيلا وليد  حصريه  






رواية شظايا قلوب محترقة( الجزء الثاني)((وكانها لى الحياة)) الفصل الثاني والثلاثون 32بقلم سيلا وليد  حصريه  



الفصل الثاني والثلاثون 


"لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين "


أحيانًا تلقي بنا الحياة في دهاليز غامضة،

تسحبنا إلى طرقٍ لم نخترها، وتضعنا أمام مواقف لا نفهمها،

فنقف بين الخوف والدهشة، لا نعلم أهي تمهيد لنجاةٍ قريبة،

أم اختبارٌ آخر علينا أن نعبره وحدنا.


لنقف عاجزين، نرى الحبَّ يذبل بين يدينا،

لا لذنبٍ اقترفناه، بل لأنّ القدر قرّر أن يكونا على ضفّتين.

كم حاول أن يقاوم، أن يتحدّى العالم لأجلها،

لكنّ العالم كان أقوى…


فبعض الحروب تُخاضُ بالقلب وحده،

وبعض القصص لا تكتمل... مهما حاولنا أن نكتب لها بداية.


كان آدم يتحدَّث مع إلياس ولكن  خفت صوته بمجرَّد دخول إسحاق..هنا ساد الصمت، احترامًا يليق بثقل إسحاق وحضوره، تقدَّم إسحاق بخطواتٍ هادئة، فنهض آدم سريعًا يحيِّيه بمودَّةٍ تليق بمقامه، بينما اكتفى إلياس بإيماءةٍ هادئة تُظهر تقديره، وميرال التي تبادلت معه ابتسامةً رقيقة:

_أهلًا بحضرتك.

أومأ لها برأسه، وبادلهم التحيَّة بنظرةٍ تحمل وقار السنين.


ثم انتقل إلى إلياس:

_آسف جينا من غير موعد. 

أشار إليه إلياس بالجلوس وردَّ بنبرةٍ وقورة تليق به:

_إحنا بينَّا موعد برضو، البيت بيت حضرتك يا باشا.

قالها إلياس ورفع عينيه على حمزة الذي ظلَّ واقفًا عند الباب:


_واقف كدا ليه يا حمزة، ادخل حبيبي. 

هكذا تمتم بها إلياس ينظر إلى ميرال التي علمت مقصده، رفع آدم نظراته عليه:


_دا ابن حضرتك يا إسحاق باشا؟


تجمَّد إسحاق للحظة، وعينيه تسافر لابنه الذي وقف كالطيف لا روح فيه. رأى الانكسار في عينيه، وتلك النظرة التي تشبه الغريق، غامت عيناه بصمتٍ حزين، قبل أن ينطق بصوتٍ خافت:

_أيوة ابني الكبير حمزة.

_ماشاء الله ربِّنا يباركلك فيه.


اقترب حمزة بخطواتٍ بطيئة، وكأنَّ كلَّ خطوةٍ تجرُّ خلفها وجعه من تلك القاسية، وهو يراها تقترب لآخرٍ غيره، بل يتحدَّث معها عن شخصٍ آخر، هنا شعر بأنَّ قلبه لم يعد يسكن صدره، بل كان يتخبَّط بشراسة، يريد أن يصرخ بها ويبعدها عن الجميع، ولكنَّها مازالت واقفة ثابتة في مكانه لا تشعر بانهياره الصامت. 


وصل إلى آدم يحاول أن يبدو ثابتًا، يحاول أن يجمع فتات رجولته المكسورة:


_أهلًا بحضرتك ياعمو 


نطقها بجمود، كأنَّ صوته يخرج من صدرٍ متعب.


ابتسم آدم بحنوٍّ وهو يربت على كتفه:


_أهلًا يا حبيبي.


تحرَّكت ميرال قليلًا تمسك يد ابنتها، محاولةً تهدئة نظرات حمزة المصوَّبة إليها:


_بعد إذنكم..قالتها وتحرَّكت بعض الخطوات، ولكنَّها توقَّفت على كلمات إسحاق نحو شمس بنبرةِ عتابٍ أبويٍّ بسيط:


_إيه يا عمُّو…مفيش "إزيك"؟


تجمَّدت شمس ورفعت رأسها ببطء تنظر إليه بدهشة، طأطأت رأسها بعدما رأت نظرات الجميع مسلَّطة عليها، شعرت وكأنَّها تختنق ولم تقوَ على التنفُّس، كأنَّ جدران الغرفة تطبق على صدرها،، بينما حمزة كان يحدِّق بها بعمقٍ جارح، كأنَّه يحاسبها بنظرةٍ واحدة عن مارآه وسمعه.


خطت متَّجهة إلى إسحاق ولم تستطع أن تنطق، أو أن تبتسم، لم تشعر سوى بارتجاف جسدها، رفع إلياس نظراته إليها، هنا رأى ابنته، قلبه النابض، تقف في عين العاصفة وحيدة.


فنهض من مكانه بهدوءٍ يشبه احتضانًا:


_تعالي يا بابا.


كانت الكلمة كحبل نجاةٍ امتدَّ لها وسط الغرق.

تحرَّكت شمس نحوه بخطا مرتبكة، خطواتٍ تخونها رغم محاولتها الثبات.

كانت تشعر بأنَّ كلَّ عينٍ تفضح خوفها.


لكنَّ أشدَّهم وقعًا عليها، كانت نظرة حمزة.


وقعت عيناها عليه وهو يطالعها بنظرةٍ ليست غضبًا فقط، بل وجعٌ حاد، 

كأنَّه يقول بصمتٍ موجع:


_ليه؟

سحبت نفسًا ثقيلًا، تحاول أن تسيطر على ارتعاشة قلبها وهي تمرُّ بجواره دون أن ترفع رأسها؛ ولكن زفرةٌ حارقة أخرجها من جوف الوجع بعد تلامس رداءها لجلوسه، هنا تلاقت أنفاسهما لثانيةٍ واحدة فقط…


ثانية..كانت كافية لتُعيد كلَّ شيء، وكافية لتحرق كلَّ شيء.

توقَّف فجأة، عيناه تتشبَّثان بها كالغريق حين يرى طوق نجاته.

تجمَّد الزمن، وثقلت الأنفاس، حينما تقابلت العيون بالعتاب.


اقترب خطوة..ثم أخرى، إلى أن صار أمامها تمامًا:

_إزيك يا شمس؟

جملة بسيطة..لكنَّها كالسهم اخترقت صدرها.

غامت عيناها بالدموع، وارتجفت أجفانها بارتعاش، حاولت الرد لكن خذلتها الكلمات، وشعرت بتوقُّف لسانها..

كلَّ مااستطاعت فعله أن تبتلع ريقها بصعوبة، وقبل أن تنطق جاء صوت والدها: 

_تعالي يا حبيبتي.

قالها "إلياس" وهو يسحبها من أمامه بخطوةٍ حاسمة، وعيناه تشتعلان حذرًا..ثم التفت إلى حمزة بابتسامةٍ مصطنعة:

_اتفضل يا حبيبي.


رفع حمزة حاجبه ببطء، ونظرة الغضب تلتمع في عينيه، بينما جلس إسحاق يحكُّ جبينه بصمت على أفعال ابنه المتهوِّر الممزوج بالعشق..رفع نظره بعدما استمع إلى كلمات ابنه التي جاءت كالصاعقة على الجميع:


_بعد إذنك يا عمُّو إلياس..عايز أتكلِّم مع شمس، وقبل ماترفض دا حقِّي. 

قالها بثبات رغم اضطراب أنفاسه التي كانت تفضح رجفة قلبه.


ابتسم إلياس بسخريةٍ متحفِّظة، واستدار ينظر إلى إسحاق وقال: 

_اقعد وبعدين نشوف هتقول إيه.


لكنَّه لم يجلس، ولم يتأثَّر بحديث إلياس بل ردَّ قائلًا:

_لا، معلش..هقول اللي عندي وبعدها نقرَّر.

ثم أشار إلى آدم، وسحب كفَّ شمس بيده السليمة، ضاغطًا عليها كأنَّه يثبت للجميع أنَّها ملكه وحده وأردف: 

_شوف ضيفك متخافش عليها... محدش هيخاف عليها قدِّي.


شهقت شمس بصوتٍ خافت، وحاولت سحب يدها منه، لكن قبضته كانت أقوى من إرادتها.

نظرت إلى وجهه باعتراضٍ على مايفعله، لكن كانت ملامحه تصرخ حبًّا واحتياجًا، كأنَّ هذا اللقاء فرصته الأخيرة قبل أن يُغلق الباب للأبد.


تجمَّد إلياس، ونيران الغضب تتأجَّج في صدره من وقاحة حمزة، فتح فاهه للاعتراض، ولكن أوقفه إسحاق وهو يومئ له بهدوء، يحاول أن يُسيطر على الوضع:

_خمس دقايق بس يا إلياس.. 

_إسحاق..تمتم بها بعدم رضا، ومازاد الموقف تعقيدًا كلمات حمزة إلى آدم باعتراضه على مااستمع إليه، فقال بصوتٍ منكسر لكنَّه مملوءٌ بالصدق:

_أنا آسف يا عمُّو...بس حضرتك غلطت في العنوان، عارف كان نفسك تناسب عمُّو إلياس..هوَّ يستاهل الصراحة، لكن معندوش غير شمس واحدة، وشمس دي ملك لحمزة الجارحي. 


قالها وهو يسحبها بقوَّة، ونظراته الممزوجة بالرجاء والعتاب، وكسرة رجلٍ لم يعرف الهزيمة إلَّا أمامها..كانت كافية أن تزلزل إلياس حتى عجز عن مواجهته.


وقف إسحاق يتنفَّس بثقل، ونطق بصوتٍ خرج من صدرٍ أثقلته الهموم على فلذة كبده:

_حمزة بيحبِّ البنت يا إلياس..ومش هقولَّك كان ممكن يموت..قالها وهو ينظر إلى آدم: 

_ماتقول حاجة يادكتور.


تلفَّت آدم في حرج، ثم نهض بخطواتٍ بطيئة:

والله يا إسحاق باشا مكنتش أعرف إنِّ الموضوع كده..أنا جيت على طلب ابني.


_ردَّ إلياس ونبرته تجمع بين الكرامة والوجع:

_بنتي لسه صغيرة على الجواز ومقدَّر حال ابنك..بس مش هينفع، والله يا إسحاق لو بإيدي كنت أوصَّلها لحدِّ بيتك، بس الظروف أقوى منِّنا.


صمتٌ ساد بالغرفة للحظات؛ حتى شعر إلياس بتوقُّف تنفُّسه كأنَّ الغرفة تحوَّلت إلى ميدانِ معركة لا يُسمعُ فيها سوى صوت القلوب الموجوعة.


اقترب إسحاق خطوةً من إلياس وقال بصوتٍ أهدأ لكنَّه مليءٌ بالهدوء:

_اهدا وفكَّر..الولد متمسِّك بالبنت، وصدَّقني مكنتش أعرف إنُّها شقلبت كيانه


لكنَّه قطع كلماته بصرامةٍ ممزوجةٍ بالحزن:

_إسحاق لو سمحت بلاش شغل الضغط، البنت لسة صغيرة، وأظن سمعت آدم عايزها لابنه، أنا آسف بجد، مش بفكَّر أجوِّزها حاليًّا. 

ربت آدم على كتفه وانحنى يحمل أشيائه الخاصَّة:

_طبعًا رأيك يُحترم مقدرش ألومك، كان طلب وخلص، ومش معنى كدا علاقتنا هتتوتَّر بسبب الموضوع دا، وكلِّ شيء قسمة ونصيب.

التفت إلى إسحاق: 

_آسف جدًّا، مكنتش أعرف إنِّ الموضوع كدا. 

_مفيش موضوع أصلًا يا دكتور.. تمتم بها الياس 


بالخارج:

توقَّف أمامها بعدما نزعت كفَّها بغضب، وهمهمت بوجعٍ مكتوم ممَّا يحدث لها:

_هتفضل تتعامل بالطريقة دي لحدِّ إمتى، ليه مصرّ تحرجني بالشكل دا؟


اقترب منها خطوة، ووميض عينيه اشتعل بين لهب الشوق وجمر الغضب، كأنَّه يريد أن يخرس قلبه عن النبض بقربها، وأن يخرسها بطريقته، ورغم ذلك قال: 

_اسمعيني..علشان أنا تعبان ومش قادر أجادل، وقفت قدَّامك وقولت بحبِّك مرَّة واتنين، ومستعدِّ أقولها مليون..مش طالب ردِّك بس اللي يوجع إنِّك تدوسي على قلبي برجلك.


صمت لحظة، وتابع بصوتٍ منخفض لكنَّه كان كالسيف، وعيناه تفترسها وهو يشير إلى صدرها:

_هشيل قلبك دا من جسمك، سمِّيها زي ماتسمِّيها..أنا بحارب في كلِّ الجبهات لوحدي، وإنتي سايقة الدلال ومش حاسَّة.


اقترب حتى لامس أنفاسها، وهمس عند أذنها بنبرةٍ مبحوحةٍ من العشق الضاري:

_أنا متأكد إنِّك بتعشقيني زي مابعشقك، وبقسم لك يا شمس الجارحي..كلِّ وجع قلبي هخده منِّك، بس بطريقتي أنا.


"شمس..." تمتمت بها ميرال بصوتٍ متردِّد، فتراجع حمزة ببطء يلتقط أنفاسه، وزَّع نظراته بين الاثنتين: 

هشوف آخرته إيه عمُّو إلياس! مش حجِّته أبويا؟ أديني جبت له أبويا..ولو عايز رئيس الجمهورية هجيبه.


قالها بحدَّة، ثم دلف للداخل بخطواتٍ تشتعل غضبًا.

اقتربت ميرال من ابنتها تضمُّها إلى صدرها، بينما الحزن يعتصر وجهها:

_حبيبتي، اطلعي أوضِّتك.


_ماما..قالتها بدموعها التي خانتها وتساقطت تحرق وجنتيها.


سحبتها لأحضانها بقوَّة تخفي ارتعاشة قلبها الموجوع، وهي تمسِّد على ظهرها:


_حبِّيتيه مش كده؟

خرجت شمس من أحضان والدتها، تنظر إليها بعينٍ تتشبَّث بأملٍ يوشك أن يموت:

_بابا ليه رافضه يا ماما؟


لم تُجِب ميرال، ولكنَّها شهقت بخفوتٍ كأنَّ الماضي عاد ليطعنها. 

وقبل أن تنطق، وصل إلياس ينظر إليهم بوجهٍ جامدٍ كالصخر، لكن ملامحه تفضح حربًا داخليَّةً تمزِّقه. 

نظر إلى ابنته، وارتسمت على شفتيه شبه ابتسامة..ابتسامةُ أبٍ يُخفي وراءها جرحًا لا يندمل.. وقال بصوتٍ مبحوح:

_حبيبتي، اطلعي أوضتك..وبعد ما الضيوف يمشوا لازم نقعد مع بعض.

نظرت إليه للحظاتٍ بصمت، وعيناها تنطق بالكثير من الأسئلة وأهمَّها ليه توجعني، ورغم ذلك هزَّت رأسها وقالت: 

_حاضر يا بابا.


تمتمت بها بانكسارٍ ودموعها تُكابر، ثم انسحبت.

ظلَّ إلياس يلاحقها بعينيه حتى اختفت عن نظره، ثم أدار وجهه ببطءٍ نحو ميرال، وفي عينيه وجع رجلٍ يُعاقَبُ كلَّ يومٍ على ذنبٍ لم يقترفه:


_مش عايزك تتكلِّمي مع شمس في أي حاجة..أنا اللي هقعد معاها.


رغم أنَّه قالها بنبرةٍ هادىة، لكنَّها شعرت بأنَّها خرجت كأمرٍ جاف، ورغم ذلك أومأت في محاولةٍ يائسة للسيطرة على انكساره..تنظر إليه بعين الأمِّ الموجوعة، فمهما تماسكا بحبِّهما سيظلُّ الماضي قبرًا لدفنهم، اقتربت تحاوط نظرة الصراع وتساءلت بارتجاف شفتيها: 


_هنفضل لحدِّ إمتى كده يا إلياس، ذنبهم إيه الولاد؟ البنت شكلها حبِّته، والواد الصراحة يتحبّ.


ارتجف جفنه، فشدَّ على قبضته محاولًا أن يُخفي رعشة صوته:

_ميرال..أنا مش ناقص وجع، محتاج اللي يسندني مش اللي يهدِّني..نهدى شوية..مش عايز الماضي يوجع الولاد زيِّنا.


صرخت بصوتٍ مخنوق:

_هوَّ لسه ماأثَّرش؟! أنا قولتها لك زمان، أنا لعنة ليك وللولاد..واللي كنت خايفة منُّه حصل.


أغمض عينيه كأنَّه تلقَّى طعنة.

اقترب منها ببطء، وقال بصوتٍ خفيضٍ لكنَّه يقطر ألمًا:

_وبعدين بقى يا ميرال الناس جوَّا، اتِّصلي بابنك لازم يكون موجود، ومش عايز ضعف..لو ضعفتي قدَّام البنت هتضيَّعيها.


اقترب أكثر، حاوط وجهها بكفَّيه المرتجفتين ونظر إليها طويلًا:

_ميرال..محدش بيختار قدره، اللي حصل خلاص حصل..لكن شمس ماينفعش تفكَّر في حمزة، أنا أب واللي مرضهوش على ولادي مرضهوش على حد.


ارتجفت شفتاها وهي تهمس:

_قلبي بيوجعني يا إلياس..وجع مش عايز يخلص، هفضل لحدِّ إمتى أدفع تمن حاجة ماليش ذنب فيها؟


اقترب منها أكثر مع وصول فريدة: 

_فيه إيه مالكم؟ 

نظرت بضياعٍ إلى فريدة: 

_بنتي ذنبها إيه يا ماما، ذنبها إيه تعيش مأساة أمَّها؟ وابني..ابني اللي كبر وجوَّاه مليون لعنة من أمُّه وخلَّاه يعمل اضراب عن الجواز، الواد كره الجواز، معندوش ثقة بسبب أمُّه. 

جلست فريدة بمقابلتها:

_حبيبتى إيه اللي بتقوليه دا، ابنك إتجوِّز ولو على شمس بكرة تنساه، إنتي مش فاكرة غادة؟ 


تراجعت بجسدها تنظر اليهم بتيه:

-أنتوا مش عارفين حاجة..ولادي بيضيعوا بسببي، أنا حاولت أفهِّمكم زمان أنا عار عليكوا محدش صدَّقني، ياريتني مت، أنا لسة عايشة ليه.


اقترب إلياس: 

_ميرو..حبيبتى عايز قوِّتك، أنا كنت حاطط احتمالات هنواجه مشاكل من دي، ميرال.. راجح عمِّي أخو أبويا..فوقي إنتي مالكيش دخل. 


هزَّت رأسها بانهيار والدموع تتساقط غصبًا عنها، لاتسمع في أذنها سوى صدى صوت حمزة:

"بحبَّها..ومش هسيبها."


شهقت وهي تضرب صدرها بقبضتها:

_ولادي الاتنين بيضيعوا، البنت قالت بتحبُّه وأبويا بيعمل كدا ليه، والتاني بيهرب من مراته بسبب أمُّه، أنا لعنة عليكوا، أنا لعنة..والله لعنة. 

ظلَّت تردِّدها وعيناها تجوب بالمكان كالتي فقدت عقلها.


سارع إليها إلياس، سحبها من مكانها بقوَّة،  واحتواها بين ذراعيه وهو يهمس برجاءٍ خافتٍ ممزوجٍ بانكسار:

_كفاية بقى يا ميرال..كفاية، علشان خاطري، إنتي مالكيش ذنب. 

_ولادنا يا إلياس، قولِّي أعمل إيه علشان يرتاحوا، أموِّت نفسي، والله لو ينفع لأعملها.


احتضنها كمن يتمسَّك ببقايا حياةٍ تفرُّ من بين يديه، بينما في عينيه ألفَ دمعةٍ محبوسة، وألف "لو" تتشبَّث بالحلق ولا تخرج.


_اهدي خلاص..كلُّه هيعدِّي حبيبتي اهدي.. 

ربتت فريدة على كتف ابنها: 

_طلَّعها فوق حبيبي، وأنا هدخل عند أرسلان وإسحاق، لم تكمل جملتها، إذ وصل إليهما ارسلان :

_إلياس اتأخَّرت ليه، عملت إيه مع إسحاق شايف الدنيا متوتَّرة. 

رمقته فريدة تشير إلى ميرال بأن يصمت:

أومأ متفهِّمًا بينما انسحب إلياس وهو يحاوط جسد ميرال للأعلى..التفت أرسلان إلى والدته:

_إيه اللي حصل؟ 

تنهَّدت بألمٍ تهمهم:

_ربِّنا يتولَّاها يابني، تعال ندخل عيب نسيب الضيوف لوحدهم. 


بمنزل يزن…


دلفت رولا إلى غرفة والدها بخطواتٍ ترتجف، كأنَّ الأرض تهتزُّ تحت قدميها مع كلِّ خطوة..توقَّفت عند الباب لحظة تتأمَّل سكون جسده فوق الفراش..ذاك السكون الذي لم تعهده يومًا، رجل بحيويِّة يزن الشافعي وعقله المتوقِّد كيف انطفأ هكذا؛ كيف سقط فجأةً كمن سُحبت منه الحياة دفعةً واحدة؟!


اقتربت ببطء، كأنَّ قلبها يسحبها إليه سحبًا..جلست إلى جواره، انحنت وقبَّلت جبينه قبلةً حملت كلَّ الانكسار الذي في روحها..وماإن لامست شفتيها جلده حتى فتح عينيه..


دخلت رحيل خلفها، فهوت دموع رولا على صفحات وجهها بلا مقاومة.


_بابا..حبيبي..وحشني صوتك أوي.


ارتجفت عيناه بثقل، يحاول الرد، يحاول أن يضمَّها، أن يربت على خوفها كما اعتاد دائمًا…لكنَّه عاجز، محبوس في جسدٍ خان قوَّته، يعرف أنَّها كانت الضحية…كبش فداء لحقد أخته الذي لم تُداركه إلَّا بعد فوات الأوان.


اقتربت رحيل تضع طعامه بجواره، ورسمت ابتسامةً مُتعبة تحاول بها السيطرة أمام ابنتها:


_حبيبي..يالَّا علشان معاد دواك..طارق كلِّمني وقال إنُّه جاي في الطريق، يارب المرَّة دي تسمع كلامنا يا يزن…وتروح للدكتور اللي قال عليه بلال.


مدَّ يزن أنامله المرتعشة، فالتقطتها رحيل بسرعة ترفعها وتقبِّلها:

_يزن..علشان خاطري اسمع كلامي، لازم الدكتور، أنا محتاجاك..وولادك كمان يا حبيبي.


رفع نظره بصعوبة إلى ابنته..نظرة حزينة، عميقة، تنزف وجعًا أكبر من أي كلمات..كانت تبكي بصمت، صمتًا يُشبه الانهيار المخفي خلف روحها.


ثم عاد ببصره إلى زوجته..نظراته كانت رسالة، بل رجاءً..فهمته رحيل..


هزَّت رأسها مطمئنة:


_متقلقش هتقوم بالسلامة..وهتعرف كلِّ حاجة، بس بالله عليك ساعدني يا يزن.


أغمض يزن عينيه..لتسقط من طرفهما دمعةٌ صامتة، دمعةُ رجلٍ يُصارع عجزه أكثر ممَّا يصارع المرض.


احتضنت رولا والدها احتضانًا علَّها تسحب أمانها من أحضانه..

ربت على كفِّها بارتفاع أنفاسه ينظر إليها بألمٍ يفتك بقلبه الموجوع عليها، ابتعدت وغادرت الغرفة ودموعها تسبق  خطواتها 


جلست رحيل بجواره: 

_هيَّ متعرفش أي حاجة، خوفت تعمل في نفسها حاجة، أنا معرفش هيَّ اتعرَّضت لإيه، دماغي مشلولة ومش قادرة أفكَّر، إنتَ لازم تفوق علشان خاطري، لازم نلحق بنتنا يا يزن، لازم تعرف إيه اللي حصل، طارق حاول يتفاهم مع رؤى ويعرف حاجة بس هيَّ طلبتك إنتَ. 

أومأ بعينيه دون حديث، في تلك اللحظة دلفت الخادمة تعلن عن وصول طارق. 

بمنزل مالك: 

انتهى من ارتداء ملابسه، خرجت غادة من الحمَّام تلتفُّ بالمنشفة، استدار يغمز إليها: 

_حمَّام الهنا يا روحي. 

ابتسمت واقتربت منه حتى توقَّفت أمامه، رفعت أناملها تعدل من ربطة عنقه:

_عندك اجتماع ولَّا إيه، فيه بدل رسمية؟ 

حدجها بنظرةٍ صامتة ثم قال:

_مالك حبيبتي فيه حاجة؟ 

رفعت عيناها إليه وتردَّدت بالحديث، ولكنها اتَّخذت قرارها قائلة:

_والدتك كلِّمتني عايزة تشوف الولاد ونقعد كام يوم عندها، زعلانة منِّي بتقولِّي يعني سافرتي شهر بالولاد وقولت حقَّها لازم تكون مع باباها، بس فين أنا حقِّي. 

حاوط خصرها وتراجع إلى الفراش،  جلس وأجلسها بجواره: 

_بالنسبة لماما أنا هعدِّي عليها وأفهِّمها الوضع، أمَّا لو بتقولي كدا علشان تعرفي سببي ليه رافض الاستقرار مع ماما..فدا علشان عمِّي رجع مصر هوَّ وبنته، والبيت دا بيت جدِّي، أه والدي له النصّ وعمِّي وعمِّتي النصِّ التاني، بس يُعتبر بيت عيلة، ماما متمسِّكة فيه علشان حياتها مع بابا كلَّها كانت هناك، رغم محاولاتي قبل جوازنا نستقرّ بعيد بس هيَّ كانت بترفض، وأنا كنت بسكت علشان كان عمِّي مسافر، لكن دلوقتي مينفعش. 

صمتت تنظر إليه ثم قالت:

_علشان بنت عمَّك مش كدا؟ 

نهض من مكانه واتَّجه إلى المرآة يرتدي ساعته، قال وهو ينظر من خلال انعاكسه:

_هتأخَّر النهاردة في الشغل، إلياس مبقاش يهتمِّ خالص بالشركة، وأرسلان كمان. 

توقَّفت مقتربةً منه لم تجادله على إنهاء الحديث: 

_هروح أبات عند بابا النهاردة.

استدار إليها سريعًا: 

_باباكي عند إلياس..إزاي تباتي هناك؟. 

_إلياس أخويا مش غريب يا مالك. 

سحب هاتفه وتحرَّك قائلًا:

_لمَّا باباكي يرجع الفيلَّا باتي عنده براحتك، لو عايزة تروحي تزوريه عند إلياس معنديش مشكلة لكن مبيت لأ. 

قالها وغادر دون أن ينتظر ردَّها.


بمنزل يوسف:

تململ على رنين هاتفه، مدَّ يده بتكاسل يسحب الجهاز، لكنَّ الرنين كان قد انقطع..وضعه جانبًا ثم عاد بنظره إلى تلك التي تستكين بأحضانه كأنَّها خُلقت لتهدئة أوجاعه كلَّها.

لأوَّل مرَّة في حياته يشعر بهذا العمق… بهذا الامتلاء، ماأجمل أن يستيقظ المرء على ملامح من يعشق، على أنفاسها الحارَّة التي تلامس صدره، على حضورها الذي يملأ المكان وكأنَّه نور.


مدَّ أصابعه يتتبَّع خصلات شعرها المبعثرة فوق الوسادة، يتفحَّص أدقَّ تفاصيلها بعشق رجلٍ وجد معشوقه انخفض بنظره إلى ماتركته الساعات الماضية فوق جسدها من آثار، آثارًا أقسم في داخله أنَّها ستظلُّ محفورةً في وجدانه لا تُمحى…كم شعر فيها بالاكتمال، ليس جسدًا لجسد، بل روحه لروحها، أنفاسه التي كانت تعانق أنفاسها، كلُّ همسةٍ نطقتها عيناها قبل شفتيها حفظها بقلبه قبل عقله، كلُّ نبضةِ قلبٍ باسمه شعر وكأنَّها تنقذه من غياهب الجبِّ..ظلَّ يمرِّر أنامله بهدوء الى أن نزل لثغرها، وآه أفلتها بكمِّ حجم مايشعر به.


ارتعش قلبه حين ابتسمت بخفوتٍ وهو يمرِّر أنامله على شفتيها، كأنَّها تحلم به…شعر أنَّه يسكن نومها كما يسكن يقظتها..حاول السيطرة على ألَّا ينجرف خلف قلبه الذي صرخ بها بين صدره.

لكن سيطرته تلاشت حين دفعَت الغطاء قليلًا فانكشف جزءٌ من جسدها مع ابتسامتها الناعمة، ليفقد جميع حواسِّه وينتصر فقط نبض قلبه لينحني عليها يقيم علاقةً منفردة مع ثغرها الشهي، يقبِّله كمن يشرب ماء الحياة..فتحت عينيها بصوتٍ مبحوح تهمس اسمه…فاشتعل القلب أكثر وأكثر، يجذبها لأحضانه بلهفة عاشقٍ لا يشبع، وغرق معها في دفء عشقها مرَّةً أخرى.


بعد فترة ابتعدت عنه قليلًا، هاربةً من نظراته التي لا ترحم، وتجعل قلبها صريعًا له.. 

قهقه بصوتٍ مرتفع، ساخرًا من خجلها الآسر:

ــ كان فيه قطَّة لسانها أطول منها… شوفتيها؟

لكمته بخجل يورِّد وجنتيها:

ــ يوسف..بس بقى.


رفع ذقنها بأصابعه، يبحر في عينيها كأنَّه يتعبَّد فيهما:

ــ حبِّيت اسم يوسف من نطقِك له.


رفعت كفَّيها تلامس وجهه بحنان:

ــ وأنا حبِّيت كلِّ حرف…وكلِّ نظرة… وكلِّ حاجة متعلَّقة بيوسف.


أغمض عينيه وقبَّل كفَّيها بامتنانِ عاشقٍ حدَّ الجنون:

ــ ربِّنا يقدَّرني وأسعدِك.


دفنت وجهها من جديد في صدره، كأنَّ حضنه وطنٌ لا يُغلق أبوابه وملاذٌ لها . ارتعشت أنفاسها وهي تهمس بصوتٍ خفيض، تقبِّل قلبه قبل شفتيه:


ــ دي سعادتي..مش عايزة غير إنَّك تحبِّني وأكون في حضنك.


أغمض عينيه يسحب نفسًا مرتبكًا.. ماذا يحدث له؟

منذ متى صار أسير نبضها؟

منذ متى يُحرِّكه قلبه بدلًا من عقله؟

إن كان هذا مافعله به القرب في ساعات معدودة…فماذا سيحدث بعد سنوات؟

أقسم بارتفاع أنفاسه وهو يدقِّق النظر في كلِّ إنشٍ بها… أنَّها أصبحت هوائه، حياته، وسكينته.


رفعت وجهها تلمس خدَّيه برقَّةٍ بعدما طال صمته، تسأل بخوفٍ:


_يوسف..مالك؟


ابتلع ارتجافته، وحاول السيطرة، يخبِّئ تحت ابتسامته الساكنة اضطرابًا لا يُخفى:


_كنتي بتقولي أهمِّ حاجة تكوني في حضني، لا انسي، الحضن دا بقى بفلوس..تدفعي تدخلي.


رفعت حاجبها بدهشةٍ:


_يعني إيه يا دكتور؟


اقترب منها ببطءٍ محسوب…ببطءِ رجولةٍ تعلم تمامًا ماتفعله، حتى كاد يسرق شهقتها قبل شفتيها..حاوط خصرها بقوَّةٍ تكشف مالا يُقال:


_يعني..كلِّ حضن غير دا يتحاسب عليه.

_الحضن دا بقى ملكية خاصة ياروحي


حاولت التملُّص بخجلٍ يلمع على خدَّيها اللذان توردا، وهي تشعر بحركة انامله، لكنَّه ضمَّها إليه كأنَّ جسده يرفض حتى فكرة ابتعادها.


_يوسف..بطَّل هزار.


مسح على خدِّها بأطراف أصابعه، وكأنَّ اللمسة وحدها اعتراف:


_هزار؟


ارتعشت أنفاسها، وهو يقترب يهمس بجوار أذنها:

_دا مش هزار ياروحي، يعني الدكتور مابيدِّيش حاجة ببلاش.

يعني دلع…وحنان…وبوسة، ومش أي بوسة يابت وبعدها بقى إنتي أدرى.

رفع كفَّيه متظاهرًا بالبعد:

_وعلشان تتأكدي، أهو…أنا محترم ومبحبِّش أتكلِّم في الحاجات العيب.


دفعت كتفه واتَّسعت عيناها:


_قليل أدب!


انفجر ضاحكًا، ضحكةُ عاشقٍ يعرف تمامًا كيف يشعل غضبها وكيف يُطفئه:


_شوفتي؟ أنا كنت مؤدب وعايش في حالي…لحدِّ مارموا قدَّامي قطَّة شرسة عايزة اللي يروَّضها، والصراحة بيعجبني الترويض.


تنهَّدت، تنظر إليه بعينين تحملان سؤالًا أكبر بكثير من مزحته:


_يعني لو القطَّة دي مااترمتش قدَّامك..كنت هتفضل في مكانك؟


_لا.


تحرَّكت عيناها بقلقٍ طفيف، تنتظر حديثه، لكنَّه نهض فجأةً وأشار لها:


_قومي خدي شاور وظبَّطي الأوضة… مينفعش تفضلي كدا.

وأنا كمان هاخد شاور وأنزل لبابا… ماما اتَّصلت، وحضرتك نسِّتيني حاجة مهمَّة.


أمسكت ذراعه قبل أن يبتعد:


_الأوَّل، قبل الشاور..ماردِّتش عليَّا..

_ليه غيرت رأيك، وكنت هتعمل إيه لو عمُّو ما…


وضع إصبعه فوق شفتيها بحنانٍ صامت، ثم حدَّق في عينيها بنظرةٍ هادئة:


_ضي…عارف انك قلقانة، تأكَّدي من حاجة واحدة، أنا عمري ماكنت هقرَّب منِّك، غير بعد ماسيطرتي على كياني.


ظلَّت تحدِّق به، تنظر في أعماق عينيه بحثًا عن إجابة..فهمست بضعفٍ:


_يوسف لازم نتكلِّم في كل حاجة، عايزة رد صريح، مش قولت إنِّنا روح واحدة، 

وإنَّك هتكون لي وطني الدافي؟


اقترب منها وجلس بجوارها، سحبها إلى حضنه بقوَّة:


_إنتي عارفة أنا كنت ناوي على حاجات كتيرة، لكن طبعًا بابا ضغط عليكي بسببي كتير..وعارف إنِّك حاربتي نفسك، وجيتي على نفسك علشاني.


رفعت وجهها إليه: 

_بس أنا حبيتك والله 

مرَّر أنامله على خدِّها ببطء، ثم انحنى إليها وهمس بنبرةٍ خافتة لا يسمعها إلَّا قلبها:


_إنتي مش جزء من روحي، إنتي الروح كلَّها..لو سمحتي مش عايز نضيَّع حياتنا في حاجة انتهت. 

_كنت هتسافر صح؟ 

تنهَّد بعد اصرارها، فأومأ لها قائلًا: 

_بلا رجعة، مكنتش ناوي أرجع هنا تاني. 

دمعة تدحرجت على وجنتيها وكلمات مذكَّراته تصدح بأذنها: 

_إزاي كنت هتبعد عن عمُّو ومرات عمُّو وشمس، أنا كنت السبب يا يوسف صح؟.

قطَّب جبينه للحظات: 

_تقصدي إيه؟! 

وضعت كفَّها موضع نبضه:

_دا حسِّيت إنُّه بيدقِّ لي من زمان، قول صح،  كنت بتهرب منِّي صح، عايز تبعد علشان ضي أصبحت خطر على قلب يوسف اللي رافض الجواز؟

سحب رأسها الى صدره: 

_مش فاهم عايزة توصلي لإيه، لكن خلاص إنتي بقيتي عندي كلِّ حاجة، ليه بتقلِّبي في حاجات ممكن تبعدنا؟


اعتدلت بعدما كانت تتَّكئ على صدره، وتحدَّثت بصوتٍ مُرتجف، كأنَّها تبوح بما حُبس طويلًا:


ــ غصب عنِّي يا يوسف..اقنعني يوسف اللي مش عايز يتجوز فجأة هيكون جوزك..خايفة في يوم ترجع تندم، وأنا كمان خايفة وقتها ألوم نفسي في الضغط عليك. 

حاوط وجهها وداعب وجنتيها:

_ضي فيه حاجات كتيرة إنتي متعرفهاش، وفعلًا فكرة الجواز كنت رافضها للأبد، بس خلاص أنا معاكي، انسي كلِّ حاجة حصلت.

_يوسف أنا كان ممكن أتجوز حدِّ غيرك، يعني وقتها برضو كنت هتقول كدا؟


حاول ألَّا ينفعل عليها، فابتسم بخفَّة ساخرة وهو يحيطها أكثر:


_ماتتلمِّي يابت..دا إنتي في حضني ومن غير هدوم، عايزة أكتر من كدا إيه؟


أفلتت منها ضحكة، تخبِّئ وجهها في ذراعه كطفلةٍ تحتمي من إحراجها:


ــ دايمًا بتخرج من الكلام بالتريقة دي.


رفع ذقنها بين أصابعه يجبرها بلطف على مواجهته، وعيناه تحملان جديَّة تخترق قلبها:


عايز كلِّ اللي عدَّى ننساه..الحلو قبل الوحش..

إحنا مش هنرجع كلِّ مرَّة نفس الكلام، 

إنتي دلوقتي مراتي..ومبقاش ينفع نرجع ورا خطوة..

لازم نفكَّر في استقرار حياتنا… والاستقرار مش حضن وحبِّ وبس، 

حاجات كتير..أوَّلها الثقة.

لو الثقة اتكسرت يبقى النهاية اتكتبت.


صمت لحظة، يمرِّر إبهامه على خدِّها وكأنَّه يمسح عنها كلَّ خوف:


ضي..أنا وثقت فيكي وسلِّمتك يوسف كلُّه، وبتمنَّى ماتخونيش الثقة دي.

أنا اتنازلت عن أهمِّ حاجة كنت ببنيها سنين علشانك.

فعشان كدا…بلاش تسأليني تاني، كنت ناوي على إيه لأنِّي دفنته.


انحنت تقبِّل جانب شفتيه قبلةً خفيفة تحمل امتنانًا أكثر ممَّا تحمل إغراءً:


ــ قوم بقى شوف وراك إيه..أنا عايزة أكمِّل نوم، ملحقتش أشبع.


رفع حاجبه بسخرية محبَّة:


_تكمِّلي نوم، والله؟


قهقهت بصوتٍ عالٍ عندما فهمت النظرة في عينيه، تسحب الغطاء وتتراجع للخلف، لكنَّ قبضته كانت أسرع، أحاطها بذراعيه يكبِّل يديها ويقترب من جسدها بنظرةٍ لا تعرف البراءة طريقًا إليها:


كنت ناوي أخرج..بس حاسس عايز أنام..حتى الشاور…الجوِّ برد.


ارتفعت ضحكاتها وهي تحاول الفكاك، لكن دلالها أشعل فيه رغبةً شرسة، فبادلها المراوغة حتى بدأ يغرق معها في دوَّامة الجنَّة التي لا يعرف منها خلاصًا.


لكنَّ رنين هاتفه قطع اللحظة، مرَّة ثم مرَّتين، كأنَّه يدقُّ أبواب الواقع بعنف.


تنهَّد بضيق، مسح وجهه، وردَّ بصوتٍ حاول ضبطه:


أيوة يا ماما؟


كنت نايم يا حبيبي؟


يعني، فيه حاجة؟


تجمَّد جسده على الفور حين سمع صوت بكاء شمس.


ابتعد سريعًا، جلس مستقيمًا:


_شمس بتعيَّط ليه، فيه إيه؟


_لو فاضي..تعال ضروري.


حاضر.


قالها ونهض من الفراش بعجلة.


اعتدلت ضي، والقلق يتسلَّل إلى ملامحها:


ــ في إيه يا يوسف؟


معرفش..شمس بتعيَّط.. بابا كان قالِّي إنِّ دكتور آدم جاي…بس معرفش إيه اللي حصل.


نهضت ترتدي روبها على عجَل:


ــ طيب حبيبي إهدى..

انزل إنتَ، وأنا هالحقك.


بعد قليل…

دلف يوسف إلى منزل والده، والهدوء الحزين يخيِّم فوق الوجوه كغمامةٍ ثقيلة..ألقى السلام بصوتٍ متردِّد، وعيناه تعبران سريعًا بين إسحاق وحمزة قبل أن يسلِّم عليهما ويجلس جوارهم، منصتًا للحديث المحتدم.


قال إسحاق، محاولًا تلطيف حدَّة الجوّ:

ــ يا إلياس صدَّقني شرف ليَّا طبعًا تكون شمس من عيلة الجارحي…


أجاب إلياس، وصوته يحمل ذاك الوجع المختبئ خلف هيبة الأب:

ــ جيِّتك على راسي من فوق يا إسحاق…وقدرك عندي كبير…بس كلِّ شيء قسمة ونصيب..وإنتَ عارف أسبابي.


ثم التفت إلى حمزة، الذي كان يجلس كبركانٍ على وشك الانفجار:

ــ يا بني، أنا مقدَّر تعلُّقك بشمس… والله مقدَّره، بس مينفعش..شمس لسه صغيرة، وأنا مش مستعجل على بنتي.


رفع حمزة رأسه بحدَّة، وعيناه تلمعان بحبٍّ يائس:

ــ وأنا مش مقتنع بكلامك يا عمُّو…أنا عارف كلِّ حاجة، فبلاش تزويق الكلام .. أنا بحبِّ بنتك…ومستعدّ أعمل اللي تطلبه، هوَّ ليه حضرتك مُصرِّ تكسر قلوبنا؟


تنفَّس إلياس بعمق، وكأنَّه يحاول أن يخرج كلَّ مايعجز عنه قلبه:

ــ مين اللي قال كده يابني؟! أنا آخر واحد يحبِّ يوجعك، بس إنتَ عارف بينك وبينها قدِّ إيه؟

كان يريد أن يكمل، لكنَّه ابتلع حديثه حينما هزَّ حمزة رأسه بقوَّة، وقال بصوتٍ مرتجف:

ــ أنا معرفش غير حاجة واحدة، إنِّي بحبَّها والباقي مش فارق.


تدخَّل أرسلان بصوتٍ خافت، محاولةً منه لتهدئة العاصفة:

ــ حمزة…اهدى مش كدا.


لكن حمزة كان قد تجاوز مرحلة الهدوء:

_أنا مش عيِّل يا عمُّو أرسلان علشان ينضحك عليَّا بكلمتين، أنا عارف خوف عمُّو إلياس،بس أنا بقولُّه يثق فيَّا، ثم   التفت إلى يوسف يستنجد به:

ــ يوسف، قول حاجة! قول لعمُّو إنِّي مستعدِّ أضحي بحياتي علشانها!


نظر يوسف بدهشة غير مستوعبٍ مايقال:

ــ أيوه يا حمزة، اللي فهمته إنتَ عايز تتجوز شمس؟


صرخ حمزة بصوتٍ خرج من صدرٍ يتشقَّق:


ــ إيه! حرام؟


ردَّ يوسف بسرعة، كأنَّه يخاف من شرارة الغضب التي اشتعلت:


ــ مش قصدي..بس هيَّ لسه صغيرة… صغيرة جدًّا على الجواز يا حمزة..وأنا مع بابا.

_الموضوع مش رافضينك، الموضوع لسة بدري على كدا، وصدقني ياحمزة لو شمس كبيرة كنا وصلناها لعندك


سقط الصمت بينهم ثقيلاً، صمتًا يخنق الأنفاس، ويضرب قلب حمزة الذي شعر وكأنَّه يُدفع بعيدًا عن حلمه بقبضةٍ من حديد.


رفع رأسه بصوتٍ مبحوح، أقرب لرجاءٍ يختبئ خلف غضبٍ موجوع:


ــ دا مش سبب للرافض،  اقنعني..ليه رافض؟


تبادل إلياس النظر بين يوسف و أرسلان..قبل أن يسحب شهيقًا مُتعَبًا:


ــ حبيبي…فيه أسباب كتير مينفعش إنَّك تتجوز شمس.


طالعه بنظرةٍ شبه متحدِّية:


ــ عايز سبب واحد من الأسباب الكتيرة دي يا عمُّو.


ابتلع إلياس غصَّةً ظلَّت عالقةً في حلقه سنوات..ثم قال:


ــ ماضي شمس يا حمزة..مينفعش مع وظيفتك.


ــ وإيه يعني؟

قالها حمزة بحدَّةٍ حاول بها إخفاء ارتجافة قلبه.


سحب إلياس نفسًا عميقًا، كأنَّه ينبش قبرًا قديمًا بداخله:


ــ تعرف..أنا كنت ظابط أمن دولة.


شهق حمزة، وحدَّقت عيناه في إلياس بذهولٍ لا يُصدَّق.

تابع إلياس بصوتٍ منخفض..لكنَّه موجعُ حدَّ الألم:


ــ الاختلاف بينَّا إنَّك مُخَيَّر…مش مُجبر يا ابني.

بلاش تضيَّع مستقبلك علشان حاجة..

ممكن تتعوَّض..

مش كدا يا إسحاق باشا؟


تنفَّس إسحاق بمرارةِ الأب:


ــ قولت له يا إلياس…


هنا ارتجف جسد إلياس، وشعر بأنَّ قلبه انشقَّ لنصفين، يهزُّ رأسه محاربًا دموعٌ أبت أن تتراجع:


ــ بالظبط…زي ماوالدك قال.


هنا هبَّ حمزة من مكانه، و حدَّق فيهم بعينين تتَّقدان عنادًا وحبًّا:


ــ دا في قانونكم أنتوا.

لو على الوظيفة اللي خايفين عليها… مش عايزها.

أنا دلوقتي قدَّمت لك كلِّ الحلول… ومستني منَّك الردِّ النهائي يا عمُّو.

مش وظيفة اللي أتحارب عليها وأبعد عن حبيبتي.


اقترب خطوة، وصوته ينفجر بثقةِ رجلٍ يعرف مايريد:


ــ أنا حبِّيت بنتك بجد، وأنا مش صغيَّر..وحضرتك عارف.

مش مراهق علشان أدرس شعوري.

وبوعدك..زي ماوعدتها، بنتك هتكون مراتي..وياريت تتصرَّف على الأساس دا.. بنتك دلوقتي ملكي


قالها..ودار حول نفسه مغادرًا دون كلمةٍ أخرى.


رفع إلياس رأسه نحو إسحاق، والإنهاك ينهش ملامحه:


ــ إسحاق، متزعلش منِّي، أنا تعبت، وإنتَ عارف.

دي بنتي…ومش هستحمل دمعة تنزل من عنيها..وأنا كأب كان نفسي في راجل زي حمزة…بس مش بإيدي حاجة.


نهض إسحاق ببطء، يهزُّ رأسه بامتنانِ رجلٍ يعرف قيمة الصدق في حديث إلياس:


ــ ربِّنا يباركلك فيها..وأنا كان يشرَّفني تكون جزء من عيلتنا..

أنا قدَّمت مذكِّرة يا إلياس، وهيَّ تحت الاختبار، وبدعي تكون في صالحنا.


لمعت ابتسامةٌ حزينةٌ على وجه إلياس، ابتسامة يحملها رجلٌ هزمه الماضي أكثر ممَّا هزمته المعارك:


ــ ماتتعبش نفسك…

حاولت أيَّام كليِّة يوسف، واترفضت للأسف.


التفت يوسف سريعًا إلى والده، وشعورٌ بالضآلة ضربه كصفعة..

هل كان والده يحارب لأجله!! يحاول أن يصنع له طريقًا ممهَّدًا لمستقبله؟

أحسَّ للحظةٍ بالأنانية..


اقترب إسحاق وربت على كتف إلياس :


ــ عندي أمل في ربِّنا كبير..

ومتنساش، اللي قدَّامك إسحاق الجارحي.


خفض إلياس بصره وهمس:


ــ ربِّنا يقدِّم اللي فيه الخير.


ــ اللهمَّ آمين ياربَّ العالمين.


بالمشفى بغرفة بلال:


كان  منكبًّا فوق شاشة جهازه، يتفحَّص صورًا شعاعيَّة بعينٍ خبيرة، في تلك اللحظة اندفع الباب فجأةً كأنَّ ريحًا مذعورة دفعته..رفع رأسه ببطء، ثم جحظت عيناه حين لمحها..

نهض سريعًا، يمدُّ قامته نحوها:


ـ مدام كارما؟


وضعت كفَّاها ملتصقتين بصدرها، وأنفاسها تتلاحق كمن جرى حافيًا فوق نار؛ رفعت يدها المرتعشة تشير إليه بالصمت..ضيَّق بلال عينيه واقترب بخطواتٍ محسوبة:


ـ في إيه، مالك؟


لكنَّها لم تجب؛ فجأةً وضعت كفَّها فوق فمه..وعيناهما تلاقت لحظةً قبل أن يقطعهما صوتٌ مفزعٌ بالخارج:


ـ اقلبوا لي المستشفى عليها!

طلَّعوها من تحت الأرض، حتى لو في تلَّاجة الموتى!!


كان صوت طليقها، صداه يمزِّق أرجاء المشفى، مع تحذيرات أمن المشفى:

_لو سمحت متخلِّناش نتعامل معاك بطريقة مش هتعجبك..لكنَّه لم يلتفت اليهم بل صرخ:


ـ سامعاني يا كارما؟! هاجيبِك، حتى لو في القبر.


انتفض جسدها كريشةٍ وقعت في عاصفة..اقتربت بخطوةٍ من الباب الزجاجيّ، وقفت تنظر عبر الشقِّ الضيِّق، والدموع تتساقط بلا انقطاع، مع ارتجاف جسدها بشكلٍ ملحوظ. التقطته عينا بلال حتى سحبها من كتفها قبل أن تنهار أرضًا:


ـ خلاص..خلاص، مشي..اهدي.


لكنَّها لم تستطع الوقوف..فهوى جسدها بين يديه كأنَّ قوَّتها سُلبت فجأة:


ـ مش..مش قادرة..أقف.


حاوط جسدها، وسحب كرسيًّا بيدٍ مرتعشة من العجلة وأجلسها بلطف، ثم أسرع وقدَّم لها كوب ماء:


ـ اشربي..خدي نفس، يلَّا.


ارتشفت رشفةً صغيرة، كأنَّ حلقها يشتعل:


ـ قلبي دقَّاته سريعة مش قادرة أتنفِّس.


ـ تمام اهدي، ركِّزي معايا.


ساعدها على التمدُّد فوق فراش المرضى، وماإن استلقت حتى ازداد ارتجاف جسدها، وعلت شهقاتها حتى انقطع صوتها تمامًا..حاولت الكلام فخرج الهواء بلا حروف.


ـ نبضِك سريع قوي..كارما ركِّزي، خدي نفس ببطء.


لكنَّها لم تسمع…لم تعد قادرة، كان الهلع يبتلعها.


فكَّ بلال حجابها دون تردُّد وهو يلاحظ انقباض كتفها وتشنج عضلاتها..اقترب حتى لامس صوته أذنيها:


ـ كارما..اسمعيني لو سمحتي اتنفِّسي بالراحة، اهدي..أنا هنا.


كانت عيناها زائغتين، لا ترى سوى صدى تهديد طليقها يتردَّد في أرجاء عقلها.


أمسك يدها المرتعشة، ثبَّتها بيده الأخرى، ثم غرز الإبرة المهدِّئة بلطفٍ محسوب.

بعد ثوانٍ، بدأ ارتجاف جسدها يخفت..وصوت شهقتها يهدأ..حتى استسلمت جفونها، وغفَت كمن نجت لتوِّها من موتٍ محقَّق.


تنفَّس بلال أخيرًا بعد أن هدأت أنفاسها، وجلس على المقعد المجاور للفراش..راح يتأمَّل ملامحها الشاحبة بنظرةٍ امتزج فيها القلق والحزن، مدَّ يده إلى هاتفه، وهمَّ بطلب رقم أستاذه، لكن تذكُّر سفره للمؤتمر الطبِّي أعاد الهاتف إلى كفِّه ساكنًا.


نهض بعد برهة وخرج إلى الممرّ، يتابع مايدور حوله من همسات..أصغى رغمًا عنه:


«هيَّ هربت من جوزها وعاملة علاقة مع واحد!»

«لا، هوَّ اللي مريض نفسي وبيعذِّبها!»

«أنا أعرفها..كانت أيامها سودة معاه.»


كلمات الممرِّضات كانت كالسكاكين، بعضها يشوِّه الحقيقة، وبعضها يلامسها، لكنَّه كلُّه كان يزيد غضبه اشتعالًا.


عاد باتِّجاه الغرفة، لكنَّه توقَّف فجأةً حين اصطدم بجسدٍ صلبٍ أمامه..رفع بلال رأسه، وصوتُ أنفاس الآخر كانت كزئير.


ـ نعم؟

سألها بلال ببرودٍ مصطنع رغم التيبُّس الذي غزا ظهره.


ـ فين كارما؟

جاء صوت أسامة أجشًّا، كمن ابتلع جمرًا.


رفع بلال حاجبه بسخريَّة لم يستطع كبحها:

ـ كنَّا بنتـمشَّى أنا وهيَّ على الكورنيش…


ولم يكمل الجملة حتى انقضَّ عليه أسامة فجأة، وقبضةٌ تطبق على عنق بلال..تحوَّلت عيناه إلى شررٍ متطاير، والغضب يتقافز كالوحش في صدره:


ـ أدفنكو.،إنتَ وهيَّ يا حقــير!


اختنقت أنفاس بلال، واتَّسعت عيناه، ويده تحاول عبثًا فكَّ القبضة الحديديَّة..ركضت الممرِّضات وعلت صرخاتهنَّ تستدعي الأمن.


دفعه أسامة فجأةً بقوَّة، فارتطم بلال بالجدار، يسعل بانهيارٍ وهو يحاول سحب الهواء من صدرٍ يكاد يختنق..لم ينتظر أسامة أن يلتقط أنفاسه، بل زأر:


ـ هموِّتَك..لو قرَّبت من مراتي!


تنفَّس بلال أخيرًا بعمقٍ متقطِّع، ومسح على عنقه بتأوُّهٍ خافت، قبل أن يصرخ في وجه الأمن الراكض:


الراجل دا..لو دخل المستشفى تاني… كلُّكم هتتقدِّموا للتحقيق!


كانت نبرته حادَّة، حاسمة، كأنَّ خنقة أسامة أشعلت داخله شيئًا لم يكن موجودًا قبل دقائق.

بمنزل أدم قبل قليل:

دلفت تحمل كوب قهوته، نظرت إليه للحظات، كان  غارقًا في عمله، محاصرًا بأوراقٍ مبعثرة فوق مكتبه، يطارد تركيزه على تصميمٍ بين يديه.

اقتربت تضع الفنجان أمامه: 


_عملت لك قهوة يا حبيبي.


رفع رأسه ببطء و نهض قليلًا، تناول الفنجان، وقال بابتسامةٍ دافئةٍ:


_تسلم إيدِك يا حبيبتي.


جلست أمامه تتأمَّله بعين أمٍّ ترى مالا يراه الآخرون؛ ترى التوتُّر يثقل كتفيه، ترى الانتظار يضغط على صدره، وترى الخوف الذي يحاول إخفائه خلف هدوءٍ مصطنع.

تنفَّست بعمق، كأنَّها تجمع شجاعتها:


_بابا راح بيت الشافعي علشان موضوعك…


أومأ لها بابتسامة وقال: 

_عارف.

-بس فيه حاجة لازم تعرفها.


تردَّدت لحظة، ثم تركت الكلمات تتساقط ببطءٍ عليه:


_حمزة الجارحي..ابن إسحاق الجارحي، أكيد ماتعرفوش..بس دا راجل مهمِّ جدًّا، كان في المخابرات وليه وزنه…وابنه طيران حربي، وعرفت إنُّه بيحبِّ شمس وبيطاردها، بس أبوها رافض.


ارتعشت ملامح رائد للحظة لا تكاد تُرى، لكن التقطتها إيلين؛ فالأمُّ لا تخطئ اهتزاز القلب في عيون ابنها.

شدَّ على فنجانه حتى ارتعشت مفاصله، لكنَّه تماسك وقال بصوتٍ يخفي تحت هدوئه عاصفة:


_المهمِّ هيَّ يا ماما، شمس..وبعدين على كلامِك إنِّ إسحاق دا راجل كبير… طيب ليه عمُّو إلياس رافض؟


هزَّت رأسها بأسى، وكأنَّها تخشى أن تكون الحقيقة موجعة أكثر ممَّا يظن:


_معرفش يا حبيبي..كلِّ اللي أعرفه قولته، بس أهمِّ حاجة لو محصلش نصيب، مايبقاش دا عيب فيك..يمكن ربِّنا كاتبلك قدَر تاني..حد تاني.


سقطت كلماتها على قلبه كحجرٍ ثقيل.

خفض عينيه قليلًا، كأنَّه يهرب من فكرة أن تُنتزع منه الفتاة التي أحبَّها قبل أن يملكها.

ثم قال بصوتٍ متماسك، رغم أنَّ نبضه كان يكذِّب ذلك:


سيبي الموضوع، نستنَّى ونشوف بابا هيقول إيه.


كانت إيلين تراقب ملامح ابنها التي رأت كلَّ شيء:

القلق…الرغبة…الخوف…

وتلك الشرارة التي تشتعل في صدر الرجل حين يشعر بأنَّ قلبه عاشقٌ حدَّ الثمالة.

بغرفة مصطفى: 


جلس إسلام إلى جوار والده، يقصُّ عليه ماجرى في الأسفل، ونبرة الحزن تتسلَّل من بين كلماته:


_يعني الواد قال مستعدِّ يضحِّي بوظيفته؟


أومأ إسلام، وعيناه تحملان من الأسى مايفوق ماينطق به لسانه:


صعبان عليَّا كسرة إلياس يا بابا… هيفضل يخسر بسبب عمُّه لحدِّ إمتى؟


تنهَّد مصطفى، وصوته خرج واهنًا، يعكس تعب الجسد وحكمة العمر:


_نصيبه يا إسلام…الحياة أقدار يابني، متوزَّعة علينا بالعدل اللي إحنا مش شايفينه.


قاطعهم دخول ملك، تحمل ابتسامةً جميلة:


_مين جه لجدُّو؟


ركض الطفل إلى فراش مصطفى، يعتلي السرير بحماس:


_جدُّو…حبيب إلياس.


ابتسم مصطفى رغم الإرهاق، يشير له بيده المرتعشة:


_حبيب جدُّو تعال هنا.


وفي تلك اللحظة، ظهرت فريدة عند باب الغرفة، وجهها لوحةٌ كاملةٌ من الحزن المكبوت.

تبع مصطفى خطواتها بعينٍ تعرف التعب، كأنَّه يحاول أن يخفِّف عنها قبل أن تتكلَّم:


_ساعتين يا فريدة..تنسي فيهم مصطفى.


رسمت ابتسامةً مكسورة، أشبه بضحكةٍ تحمل وجعًا أكثر ممَّا تحمل سعادة:


_معلش يا حضرة اللوا…قولت يمكن زهقت منِّي.


أشار لها لتجلس إلى جواره، ثم التفت إلى إسلام وملك:


_قوموا روَّحوا. مش كنتوا عايزين تمشوا؟


نهض إسلام ضاحكًا بمحاولةٍ منه ليهوِّن صعوبة الموقف:


_بتطردنا دلوقتي يا درش؟


لكن أسرع الطفل ورفع ذراعيه يتشبَّث بجسد جدِّه:


جدُّو…جدُّو…هترجع البيت إمتى؟


رفع مصطفى كفَّيه يتحسَّس خصلات الطفل، يضمُّه بحنانٍ يُكابِد أوجاعه:


_قريب يا حبيب جدُّو…خلِّي بالك من أختك ومن ماما لحدِّ ماجدُّو يرجع.


قبَّل الصغير وجنة جدِّه:


_حاضر..أنا هكون ظابط وأحميهم كلُّهم.


ابتسم مصطفى، والحنان يغلب الإرهاق:


_إن شاء الله يا حبيب جدُّو.


كانت فريدة تتابعهم، ودموعها تلمع  على وشك السقوط.

مدَّت ذراعيها للصغير بصوتٍ متحشرج:


_ومش هتحمي تيتا يا الياس؟


توقَّف الطفل وفكَّر قليلاً، ثم وضع إصبعه على ذقنه كما يفعل الكبار:


-طبعًا يا تيتا، أنا قولت لعمُّو إلياس… عايز مسدس زيُّه، علشان لمَّا أكبر أبقى ظابط وأحرسكم كلُّكم.


ضحكت فريدة رغم دموعها، تقبِّله وهي تمسِّد على خصلات شعره:


إن شاء الله يا حبيبي، إن شاء الله.


بغرفة شمس:

دلف إلى الداخل بعد طرقاتٍ خفيفة، وقف عند العتبة لحظة، وابتسم بخفَّة وهو يرى زوجته تجلس على يمين شمس، ووالدته على يسارها.


فقال بنبرةٍ رخيمة:

ـ مساء الخير يا سيِّدات الشافعي.


تمتمها وهو يقترب، فنهضت ميرال تستقبله بعينيها أوَّلًا:

ـ الضيوف مشيوا؟


أومأ لها دون أن يزيح بصره عن شمس، ثم قال:

ـ إلياس تحت بيدوَّر عليكي، شوفيه عايز إيه.


أفلتت ميرال ضحكةً صغيرةً مصدومةً من طريقته، وردَّت:

ـ طيب يابن إلياس، ماتروحش، أنا عايزة أتكلِّم معاك.


هزَّ كتفيه:

ـ أنا مش فاضي، لمَّا أشوف التايم تابل بتاعي.


ثم أدار رأسه نحو ضي التي تتابع المشهد بابتسامة:

ـ ضي، شوفي لها ميعاد كده..شكلي هضطَّر أتنازل وأقعد معاها.


لكزته ميرال بكتفه بغيظٍ تحاول أن تخفي ضحكتها، بينما قهقهت شمس على كلمات أخيها.


اقترب منها، جلس بجوارها ثم مدَّ يده لأخته:

ـ يلَّا يا ميرال، مش فاضيين..عايز أشوف الشمس مالها غايبة عنِّي ليه؟


تجمَّدت شمس لوهلة، ثم تهاوت عليه بلا وعي، ترمي نفسها في حضنه كأنَّها تختبئ في صدره من العالم كلِّه.  سالت دموعها فجأة..بلا استئذان.


شدَّها إليه بقوَّة، يطوِّق كتفيها كأنَّ ذراعيه حصنٌ يحجب عنها الألم..

رمق والدته بنظرةٍ مطمئنة خفيفة، يخبرها بصمت أن تطمئن.

خرجت ميرال، بينما جلس وأجلسها بأحضانه:

_كدا وقَّعتي قلبي، كنتي بتعيَّطي ليه؟

اختبأت بأحضانه، تحاوط جسده:

_تعبانة أوي يا يوسف، معرفش إيه اللي بيحصل.

احتوى وجهها بين كفوفه، وأزال دموعها:

_طيب ممكن أعرف سبب الدموع دي إيه، إنتي فعلًا على علاقة بحمزة الجارحي يا شمس؟

هزَّت رأسها بانهيار:

_أبدًا والله، أنا بس عايزة أعرف إيه السبب في الرفض؟

_طيب ليه إنتي موافقة عليه، شايفة ينفع إنِّك ترتبطي دلوقتي؟ إنتي لسة صغيرة.

نهضت تفرك كفَّيها وابتعدت بنظراتها عنه:

_مين قال إنِّي عايزة أرتبط، أنا أصلًا مش موافقة، هوَّ بس صعبان عليَّا.

_صعبان عليكي إزاي يعني حبيبتي؟ممكن نهتمِّ بمذاكرتنا ونخلَّص كليِّتنا الأوَّل.

أشار إلى ضي وتابع حديثه:

_شوفتي ضي ارتبطت قبل ماتخلص؟

_أنا تعبانة وعايزة أنام، ممكن تاخد مراتك وتطلعوا.

_إنتي شايفة كدا؟

صمتت ولم تردّ عليه، أومأ لها ثم قبَّل رأسها ونهض يسحب كفَّ ضي وخرج بهدوء:

_تفتكر بتحبُّه؟

_معرفش، شمس صغيرة يا ضي، وممكن مشاعرها تكون متقلِّبة، المهمِّ انزلي تحت هشوف ماما وألحقك.

_هعدِّي على بابا لحدِّ ماتخلص.

أومأ لها ثم اتَّجه إلى غرفة والدته، 

دلف بعد السماح:

_فاضية يا ميرال ولَّا أرجع؟

ابتسم قلبها قبل عينيها تشير إليه بعدما نزعت حجابها..جلست وأشارت إلى ساقيها:

_تعال من زمان معملتش مساج.

_بس أنا مش مصدَّع.

جذبته بقوَّة..فجلس متأوِّهًا:

_بالراحة، هوَّ إلياس مظبَّط اللياقة؟

ارتفعت ضحكاتها تمسِّد على خصلاته بحنانٍ أموميّ:

_عامل إيه حبيبي؟ من وقت فرحك والمصايب فوق دماغنا.

_على فكرة أنتوا اللي بتوع مصايب، أنا فرحي ابن ناس.

قهقهت حتى دمعت عيناها..رفع عيناه ومازال متمدِّدًا أمامها:

_بتكوني قمر وحياة إلياس، اضحكي على طول.

تنهَّدت ونظرت لداخل عينيه:

_عايزة أتكلِّم معاك في موضوع مهمّ.

أنصت يستمع إليها باهتمام بعدما اعتدل..تردَّدت للحظات ثم نظرت في عينيه:

_ليه ماتمِّمتش جوازك من مراتك حبيبي؟

شعر بأنَّ الارض تدور حتى فقد أنفاسه، مع دخول إلياس على كلمات ميرال، توقَّف للحظاتٍ وكأنَّ صاعقة هزَّت كيانه، هل يُعقل أنَّ ابنه لم يتمِّم زواجه بعد أكثر من شهرين؟!

عند بلال:

خرج من المشفى متَّجهًا إلى سيارته، استقلَّها مع رنين هاتفه:

_حمد الله على السلامة يا حضرة المحامي النابغة.

_وحشتني يا ببلاوي، لسة نازل من العربية، قولت أكلِّمك قبل ماأدخل بيتنا، شوفت أنا صديق جدع إزاي؟

قاد السيارة متَّجهًا إلى منزله وهو يتحدَّث بهاتفه، فجأةً توقَّفت سيارة بها بعض الشباب أمامه..

عند حمزة:

خرج من منزله ورفع هاتفه:

_قدَّامي خمس دقايق وأكون قدَّام البوَّابة، انزلي لازم نتكلِّم.

_لو سمحت يا كابتن، مينفعش اللي بتعمله دا.

_شمس لو مانزلتيش هطلع لك بطريقتي.

نظرت للهاتف الذي أُغلق، ارتجف قلبها بعدما توقَّف عقلها عن التفكير، لحظات و ارتدت ثيابها وخرجت من البوَّابة الرئيسيَّة للكمبوند، تحرَّكت إلى سيارته وصعدتها:

_ممكن أعرف إنتَ عايز توصل لإيه؟

قاد السيارة ولم يردّ عليها، مع نظرات الرعب التي تجلَّت بملامحها.

تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا




تعليقات

تعليق واحد
إرسال تعليق

إرسال تعليق

التنقل السريع
    close